الفصل الثانى : تطبيق فريضة الشورى في عهد النبى عليه السلام

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٣٠ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً


الفصل الثانى : تطبيق فريضة الشورى في عهد النبى عليه السلام
اولا – المسجد للصلاة والشورى :
1 ـ الآيات السابقة عن فريضة الشورى نزلت في مكة ، ثم أتيح لها التطبيق العملى فريضة اسلامية في المدينة . والاسم السابق للمدينة" يثرب" فلما انتقل اليها النبى والمهاجرون واقيمت فيها اول دولة اسلامية حملت اسم "المدينة " لتكون عنوانا لدولة جديدة ومجتمع مدنى متحضر ، وكانت الشورى من ابرز ملامح ذلك المجتمع المدنى المتحضر خصوصا في عصور سيطرت عليها الجهالة والاستبداد والظلم . وذلك المجتمع المدنى في " المدينة" عرف تطبيق كل الأوامر السامية التى نزل بها وحى القرآن . ولأن الشورى نزلت في مكة مقترنة بالصلاة فقد مارسها المسلمون مع النبي في المسجد باعتبارها فريضة كفريضة الصلاة تماما . والدليل على ذلك ان الصلاة والشورى معا كان لهما مكان واحد هو المسجد ، وأنه كان حين يجد أمر جديد يستلزم عقد الشورى كان المؤذن في المسجد ينادي في الناس " الصلاة جامعة " فيسرع الجميع الى المسجد ، تمام كما يحدث في الصلاة ، والفارق ان مواعيد الصلاة المنتظمة خمس مرات في اليوم ، اما عقد مجلس الشورى فكان يتم عندما يستدعى أمر يستوجب عقد المجلس فيؤذن المؤذن . وكان أعضاء مجلس الشورى هم كل أفراد المجتمع المسلم كشان الصلاة وهم يهبون سراعا الى المسجد اذا قال لهم المؤذن " حى على الصلاة " للصلاة ، أو " الصلاة جامعة " للشورى .
2 ـ وكان المنافقون يتكاسلون عن الذهاب للمسجد في أوقات الصلاة ، وكان بعض المؤمنين يتكاسلون عن الذهاب للمسجد حين يدعى الى الشورى . وقد عاب رب العزة على المنافقين تكاسلهم عن النهوض للصلاة في المسجد فقال تعالى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) النساء ) . وعاب رب العزة أيضا على بعض المؤمنين حين كانوا يتكاسلون عن حضور الشورى في المسجد ، وكان ذلك في بداية عهد المؤمنين في المدينة ، وبداية توطيد الدولة المدنية فيها ، ولم يكونوا قد تعودوا تلك النظم ، ونزلت هذه الآيات في سورة النور ، وهى من أوائل ما نزل من السور المدنية ، وهى السورة التى حفلت بالتشريعات الاجتماعية والقانونية للمسلمين مثل الاستئذان والزي وعقاب جريمتي الزنا والقذف وزواج الفقراء والأرامل والنظام القضائي ، ثم الوعد لهم وقتها بالتمكين في الأرض وان يبدلهم الله بعد خوفهم امنا اذا سمعوا واستجابوا ، وفي خلال هذه التشريعات نزل قوله تعالى يعيب على بعض المؤمنين تكاسلهم عن حضور مجالس الشورى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)) النور ). الآيات نزلت تعيب على بعض الذين يستأذنون النبى في عدم حضور الشورى والذين يتسللون بعد حضورهم ، ومعنى ذلك ان النبي كان ينفذ الشورى قبل نزول الآيات ، وحدثت تلك التجاوزات فنزلت الآيات تصحح وتوضح ، واذا عرفنا ان سورة النور من اوائل ما نزل في المدينة فمعناه ان ممارسة الشورى بدأت مبكرة في الأيام الأولى لقيام الدولة المدنية في المدينة ، وانه كانت الشورى جذور في مجتمعات المسلمين السرية في مكة ، ومعلوم ان سورة الشورى نزلت في مكة .
3 ـ ونتابع التأمل في آيات سورة النور الخاصة بممارسة الشورى :
فالآيات تبدأ بتحديد الذي يؤمن بالله ورسوله هو الذي لا يتكاسل عن موضوع الشورى ، وتنتهى الآيات بتقرير ان لله ما فى المسوات والأرض وانه يعلم ما يفعلون . واعتبار الشورى فريضة ملزمة لكل مؤمن يظهر في الآيات من خلال عدة أمور منها: وجوب الحضور على كل مؤمن في المسجد بمجرد ان يؤذن للشورى ويعلن ان ( الصلاة جامعة ، وتشريع الأعذار في حدود ضيقة في ضوء ذلك العذر بالتغيب ، ثم يستغفر له الله لأن عذره قهره ، والتحذير من التكاسل عن الحضور بقوله تعالى ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً )، والتحذير من التسلل بعد الحضور، (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً ) . ثم ايراد التحذير بصورة قاسية مما يؤكد ان فريضة الشورى لازمة لا مجال فيها للتهاون والتكاسل ، يقول تعالى " ( فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .وقد كان الذين يتكاسلون عن الشورى مجرد أفراد ، وكان من الممكن ان يتجاهلهم القرآن ، ولكن لأنها فريضة على كل فرد وسيكون مسئولا فردية يوم القيامة شأن الشورة فقد نزل التوضيح وذلك التحذير. وطالما هي فرض على كل مسلم فلا يصح فيها الاستنابة ، وبالتالى فان ما يعرف بالنظام النيابي أو أهل الحل والعقد لا مجال له في الشورى الاسلامية .

ثانيا – متاعب ممارسة الشورى :
1 ـ وبعد هذا التهديد والوعيد عرف المسلمون قيمة الشورى فكانوا لا يتخلفون عن حضور مجالسها بدليل ان الآيات المدنية التالية فيما بعد لم يأت فيها عتاب او تهديد يخص ذلك الموضوع . وقد كان يحدث ان ينزل أمر فلا يتم تنفيذه كما ينبغى فتنزل آيات تنبه وتحذر ، وعلى سبيل المثال فقد نزلت آيات تحذر المؤمنين من الجلوس مع المنافقين الذين يتحدثون في الاستهزاء بالقرآن والخوض فيه ، ولم يلتزم بعض المؤمنين بتلك الأوامر فنزل قوله تعالى يذكرهم ويحذرهم : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) النساء ) . لم ينزل بعد سورة النور ما يفيد ان المؤمنين تكاسلوا بعدها عن الشورى او تسللوا لواذا من مجالسها ، ولم يقع التحذير الذي قال عنه رب العزة " ( فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
2 ـ بل ان الآيات المدنية التالية تؤكد على ان العكس هو الذي حدث . فقد مارس المؤمنون من خلال الشورى كامل حريتهم في القول والفعل السياسي . وتحمل النبى ذلك بصبر استوجب ان تنزل آيات فيما بعد تلوم المؤمنون على انهم وقعوا في المزايدة على النبي نفسه ، وانهم تناسوا آداب الخطاب معه بحيث كانوا في مجالسهم معه يرفعون اصواتهم فوق صوته ويجهرون له بالقول كشأنهم في الاسواق وفي الشوارع .فقال تعالى يحذرهم من أن تحبط وتضيع أعمالهم الصالحة بسبب ذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) الحجرات ) وهذا نهى عن المزايدات واختيار التطرف فوق ما يريده الله ورسوله ، وهى من طبيعة الدولة الدينية التى يزايد أربابها بعضهم على بعض ، ولأن الاسلام يناقض الدولة الدينية بنظام الشورى ( الديمقراطية المباشرة ) فإن المزايدة فيه مرفوضة ، خصوصا إذا كانت مزايدة على الله جل وعلا ورسوله ، وكانت تستحق ( حبط العمل ) وهو عقاب الذى يموت مشركا .
وبعضهم في مزايداته كان يسرف في الوعود والمواقف الكلامية ، ثم اذا جاء أوان الجد تضاءل وتنصل من تصريحاته واقواله ، فقال تعالى يلومهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) الصف ) . وبعضهم اعطته الشورى حرية القول والفعل الى درجة ايذاء النبي واتهامها فقال تعالى يحذرهم من الوقوع فيما وقع فيه اليهود حين أذوا موسى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) الأحزاب ) .
وبعضهم خلط بين مكان الشورى وهي المسجد وبيت النبي ، او خلط بين العام والخاص ، وبين ( محمد ) قائدا سياسيا يستشير وبين الرسول النبى محمد ) ، لذا كان بعضهم بعد ان تنتهى جلسات الشورى في المسجد يذهب الي بيوت النبي وفيها نساؤه وهي تقع بجوار المسجد فيظل يواصل الحديث فيها ، بعد ان يدخل بدون استئذان كما لو كانت جزءا من المسجد ، وكما لو كانت تؤدى نفس الدور في فريضتي الصلاة والشورى ، فاذا حل موعد الغذاء او العشاءء تناولوه مع النبي دون ان يعطوه حقه في الراحة ودون ان يراعوا خصوصياته في بيته ، بل ان بعضهم كان يتجرأ فيقتحم حجرات نساء النبي يطلب منهم طعاما او شيئا من الأوانى والأمتعة ، والنبي بما وهبه الله تعالى من حياء ولين وتسامح كان يستحى من الاعتراض على ذك الذي يحدث ويجافي الذوق والأداب ، كما أن مفهوم الشورى الذى يساوى بين النبى وغيره أطمع آخرين فى إمكانية أن يتزوج من تزوجها النبى بعد موت النبى أو بعد طلاقها من النبى ــ لو حدث ــــ ، ولذلك نزل قوله تعالى ينبه المؤمنين:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) الاحزاب ) .
وهذه التوجيهات تدخل في نطاق ما يسمى بنقطة النظام، او التوجيه الأمثل للممارسة الديمقراطية ، فالمعروق ان ممارسة الشورى او الديمقراطية تستلزم الكثير من المعاناة والصبر والتحمل ، واذا كانت تلك الممارسة في القرون الوسطى ــ قرون الاستبداد ــ وإذا كانت فى مجتمع بدوي عاش قرونا من الجاهلية ، فالمشكلة اصعب .

ثالثا : المنافقون والمعارضة الحزبية :
1 ـ واذا تجاوزنا هذه التربية القبلية الجاهلية واثرها السئ في القاء المتاريس في شارع الممارسة الديمقراطية او الشورى فاننا نواجه ما هو أخطر وان كان متصلا بنفس العامل الأول الخاص بالطبيعة القبلية الجاهلية ، ونعنى به دور المنافقين في محاولة افشال العملية الديمقراطية او الشورى ، ضمن مساعيهم في الكيد للدولة الجديدة . فاولئك المنافقون كانوا من ذوى النفوذ القبلي السابق في يثرب قبل ان تتحول الى المدينة وتصبح اول دولة اسلامية . والثابت تاريخيا ان زعامة الخزرج كانت في يد عبد الله بن سبأ ، وقد كاد ان يصبح حاكما رسميا ليثرب لولا ان دخلت بالاسلام عصرا جديدا اطاح به وبأحلامه فدخل فغي الاسلام ظاهريا ودفن احقاده في قلبه ، وكان معه على نفس الوتيرة طائفة من الاغنياء واصحاب العصبيات الذين ساوى الاسلام بينهم وبين الفقراء والضعاف من الناس . ومن خلال حديث القرآن الكريم عن المنافقين نعرف كثرة أموالهم وأولادهم وضخامة اجسامهم ( التوبة 55،85،75،78 ، المنافقون 4 ) وذلك دليل علمى على مكانتهم الاجتماعية الاقتصادية . ولذلك كان الاستعلاء ابرز ما يبدو في سلوكهم نحو المسلمين بل ونحو النبي ، ويظهر من دعوة اقاربهم لهم بالرجوع الى الحق في استكبار ويتهمون المؤمنين بالسفاهة : ( " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) (13) البقرة ) ، واذا دعوهم الى التوبة وتصحيح الخطأ امام النبى والاستغفار ، استكبروا واستنكروا : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5 )المنافقون ) . انهم قد فقدوا بالاسلام جاههم القديم ، اذ انمحت عصبية القرابة والقبلية وحل محلها الولاء لله ورسوله . ولأن ثرواتهم وقرابتهم في المدينة اجبرتهم على مسايرة الوضع الجديد واظهار الايمان الا ان الحرية السياسية التى اتاحتها الدولة الجديدة مكنتهم من ممارسة الكيد بالقول والفعل وايذاء النبي ما استطاعوا . والآيات في ذلك كثيرة ، ولكننا نتوقف مع موقف المنافقين مع قضية الشورى بالذات باعتبار انهم كانوا المعارضة الدينية والسياسية للدولة الجديدة .
2 ـ لقد كان المنافقون هم اصحاب الأمر والنهى قبل الاسلام ، ولذلك كرهوا ان يكون الأمر شورى ومشاعا بين جميع المسلمين ، ومن الطبيعي ان يكونوا ـ فى البداية ـ القادة في مجالس الشورى التى كان النبي يعقدها في المسجد ، ومن الطبيعي ايضا ان يوجهوها حسب اغراضهم ومكائدهم ، خصوصا وهم اكثر تمرّسا بالسياسة وفنون القول من عوام المسلمين الذين لم يسبق لهم الاسهام في الشورى والحياة العامة ، وتعودوا تنفيذ الأوامر وطاعتها ، بنفس ما اعتاد المنافقون من قبل اصدار الأوامر لهم والزامهم بها . ولأن النبي كان هينا لينا متسامحا ولأنه لا يستبد بالأمر وانما ينفذ قرارات مجالس الشورى ، فقد تحولت تلك القرارات الى طاعة للمنافقين واغراضهم ، لذلك نزلت سورة الأحزاب المدنية وفي اولى آية منها يقول تعالى للنبي عليه السلام : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1 ) . ومن الطبيعي ان تكون تلك المجالس الشورية في بدايتها مظهر قوة للمنافقين جعلتهم يجرءون على ايذاء النبي في شخصه ، ربما بتسفيه رأيه والتقول عليه ، لذلك فإن سورة الاحزاب تكرر النهى للنبي ألا يطيع الكافرين وان يعرض عن ايذائهم له: (وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) .
3 ـ الا ان ممارسة الشورى نفسها اقامت للمسلمين دورات تدريبية رفعت من مستواهم السياسي وفى نفس الوقت اظهرت استغلال المنافقين للمواقف وكيدهم وتآمرهم ، وتأكد هذا بدخول المسلمين في عمليات قتالية دفاعية ، كانت هى الفيصل في تحديد الولاء للدولة ، اذ ان المنافقين تكاسلوا عن الدفاع عن الوطن والعشيرة في مواقف فاصلة كغزوة الأحزاب بل وظهر تآمرهم مع العدو ، ونزل القرآن يحكى ذلك كله بالتفصيل مما اضطر المنافقين الى سياسة جديدة ، فبعد ان كانوا يتعاملون مع المؤمنين بالاستكبار والتعالى ، كما يظهر في السور المدنية الأولى ، اصبحوا يؤكدون للمؤمنين بالايمان المغلظة والحلف الكاذب بالله انهم مؤمنون مخلصون ، لذلك تقول سورة التوبة مثلا ، وهى من أواخر السور المدنية عن المنافقين " :( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) أي يحلفون بالله انهم من المؤمنين وماهم من المؤمنين ، ولكن الحقيقة انهم يخافون "يفرقون" ولو استطاعوا الهرب الى ملاجئ ومغارات لهربوا اليها من فرط خوفهم . وفي آية اخرى فى نفس السورة يقول تعالى عنهم : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ) (96) . ومعناه ان المعارك الحربية ارست وضعا جديدا في مجتمع المدينة السياسي إرتفع بالمؤمنين العوام المجاهدين وهبط بالملأ المنافق ، اذ ان الخلق العربي يحتقر الجبناء الذين يرضون لأنفسهم البقاء في البيوت مع المتخلفين من النساء والصبيان، او بتعبير القرآن الكريم عن المنافقين :( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ) (87). أى انهم بقعودهم عن القتال فقدوا اعتبارهم ومكانتهم في المجتمع ، واحتل مكانهم من هو أكثر منهم شجاعة واخلاصا وتفانيا من المسلمين الفقراء ، وبالتالى انعكس الوضع الجديد على مجالس الشورى ، فأصبح المنافقون فيها أكثر تأثيرا وأخفض صوتا . بينما علت اصوات المؤمنين من العوام ، ومنهم من كان ينقصهم التهذيب ( والبروتوكول ) حتى كانت تعلو فوق اصوات النبى وتجهر له بالقول ، كما سبقت الاشارة اليه .
4 ـ والمنافقون في تآمرهم القولى وتناجيهم بالأثم والعدوان اتهموا النبي في ذلك الوضع الجديد بأنه يعطي أذنه للمؤمنين الذين وصلت بهم الاحداث الى مرتبة التاثير والصدارة بحكم بلائهم وفاعليتهم في السلم والحرب ، ولم يدافع النبى عن نفسه ، ونزلت آية قرآنية تدافع عن النبي ، يقول تعالى : (وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) التوبة ).قالوا عنه انه "أذن" أي يعطي أذنه الى من هب ودب ، ودافع الله تعالى عن النبى بأنه أذن خير للمؤمنين ، أي يسمع لمنا فيه خيرهم ، وهو " يؤمن للمؤمنين " أي يثق فيهم ويطمئن اليهم ، وذلك تعريض بالمنافقين الذين تعودوا ايذاء النبي بالاتهامات والافتراءات .

رابعا : الشورى والمعارك الحربية : 

1 ـ كانت الشورى من ممارسة القوة لذا تحولت بقوة المسلمين في الجهاد الى شورى يتمتع بها المؤمنون دون المنافقين ، وتم ذلك بالتدريج خصوصا وان الوحى كان ينزل يوضح الطريق ويفضح المنافقين وتآمرهم ، وكان ذلك الوحى قرآنا يتلى في الصلاة وفي المسجد مما ادى في النهاية الى انعزال المنافقين وانعدام نفوذهم السياسي . وكانت ظروف الحرب مناسبات تفضح حقيقة المنافقين وتظهر عداءهم للدولة والمجتمع الذي يعيشون في اطاره ، وبتوالى انتصارات الدولة تضاءلت معارضة المنافقين وانكمشوا على انفسهم ، وبنفس القدر اصبحت لهجة القرآن عالية في تأنيبهم في أواخر السور المدنية كما غي سورة التوبة او سورة براءة .ألا ان ظروف الحرب كانت مناسبات هامة لعملية الشورى ، وقد اوردت كتب السيرة بعض الروايات ، ولكن ما ورد في القرآن أروع وأصدق .
2 ـ وفي غزوة بدر خرج النبي بطائفة قليلة ليأخذ حقوق المسلمين من تجارة لقريش ، وفوجئ الجيش القليل بأن عليه ان يواجه جيشا يفوقه ثلاث مرات . وتحكى روايات السيرة ان النبي شاور اصحابه فاندفعوا في تأييده في حماسة بالغة ، ولكن القرآن يؤكد ان طائفة منهم عارضت النبي في قرار الحرب كراهية في الحرب وجادلوا النبي في الحق الذي تبين ، وبعد ان اقتضت المصلحة والأغلبية حتمية الحرب والمواجهة كانت تلك الطائفة من المؤمنين ( كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) الأنفال 6 ). وفيما يخص الشورى فان الآيات تشير الى حرص النبى على الشورى وانه عرض عليهم وعد الله تعالى له بالنصر اذا لم يحصل على القافلة ، ومع ذلك كان الاحتجاج والجدال في الحق الذي تبين ، ثم كان الانصياع للحق في النهاية حيث تحتم المصلحة السياسية والحرية ضرورة الصمود والتصدي والا فقد ضاع مستقبل الدولة ، والقرآن يقول في هذا الموقف : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) الانفال ) . اى كانت الشورى حتى ظروف الحرب الاستثنائية وقت المواجهة تسمح لهم بالجدال مع النبي – وحتى في الحق الظاهر الذى لا مراء فيه . وبعد غزوة بدر نزلت سورة الانفال تحذر من وقوع الشقاق والخلاف أثناء المعركة وألا تتحول الشورى وقت الحرب الى تنازع ، وان تكون الشورى في الطاعة الكاملة لله ورسوله ليتم الثبات في القتال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) الانفال ).
3 ـ وتناسى المؤمنون تلك الدروس التى جاءت بها سورة الانفال بعد انتصار "بدر" فكانت الهزيمة في غزوة أحد ، فبعد ان انتصر المسلمون في البداية نسوا امر النبي وتنازعوا في الغنائم فأصابتهم الهزيمة ، ونزل القرآن يحدد سبب الهزيمة بأنه التنازع وعصيان النبي وتفضيل الدنيا وغنائمها على الآخرة : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) آل عمران ) . وبعد هزيمة أحد عقد النبي مجالس الشورى للتحقيق في الهزيمة وضرورة الاستفادة من الدروس ، وفي ذلك الوقت كان المنافقون يتمتعون بالنفوذ والهيبة فأتيح لهم ان يحملوا النبي مسئولية الهزيمة لأنه- كالعادة- استشار قبل الخروج لغزة أحد ، هل ينتظر جيش المشركين الى ان يأتى للمدينة ام يزحف للقائه في الطريق ، وكانت الأغلبية تؤيد الرأي الاخير وأخذ النبي برأيهم ليس فقط لأنهم الأغلبية ولكن ايضا لأنهم في معظمهم شباب متحمس يريد ان ينال شرف الانتصار الذي سبقه اليه آخرون في بدر .. لذا انطلق الرسول بالجيش الى أحد وانسحب المنافقون من الجيش بزعامة عبد الله بن أبى ، ثم كانت الهزيمة بسبب عصيان الرماة لأوامر النبي وليست لأنه نفذ الأغلبية المتحمسة وزحف بهم الى خارج المدينة ، وتناسى هذا المنافقون في المدينة ، وأخذوا يتحسرون على ضياع نفوذهم قائلين" هل لنا من الأمر شئ" ،" لو كان لنا من الأمر مشئ ما قتلنا هاهنا " ، ووصف القرآن هذه المعارضة بأنها معارضه أنانية من طائفة لا ترى الا نفسها ولا ترى الصالح العام ، او بتعبير القرآن " وطائفة قد اهمتهم انفسهم ": ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) ) آل عمران ) .
والملفت للنظر ان اولئك الذين تعالت اصواتهم في مجالس الشورىة في تأنيب النبي والمؤمنين المقاتلين ، اولئك المنافقون القائلون " لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا هاهنا " تخلفوا عن القتال وقعدوا في المدينة ، وبعد الهزيمة وجدوا فرصتهم في لوم النبي ، مع انهم لو كانوا في مجتمع ديمقراطي في عصرنا وتخلفوا عن المعركة قبل الألتحام لحوكموا بتهمة الخيانة العظمى او بالهروب وقت المعركة . الا ان القرآن اكتفى بالرد عليهم بتأكيد تلك الحقيقة التى تخزيهم فقال : ( الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168 ) آل عمران) . اى أنهم قالوا وقعدوا عن القتال ، واكتفوا باللوم وهم قاعدون عن القتال، وحين طلبهم المؤمنون للقتال قبل نشوب الحرب رفضوا المشاركة في القتال دفاعا عن المدينة وأهلها ، فقال تعالى عنهم : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) آل عمران ) . قالوا لهم " تعالوا قاتلوا في سبيل الله" اى اذا كنتم مؤمنين ، " او ادفعوا " أي دافعوا عن وطنكم وأحسابكم فقط اذا لم تكونوا مؤمنين ، الا انهم رفضوا قائلين " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " .. والمهم انهم بعد هذا الموقف المخزي فقد كان لهم متسع في مجالس الشورى واتيح لهم ان يتهموا النبى بالباطل وان يتهموا المقاتلين معه ، ولم يرد النبي على اتهاماتهم ، لذلك نزل القرآن يدافع عن النبي ويرد عنه اتهاماهم .
وعلى أى حال ، فإن معارضة المنافقين للنبى فى مجالس الشورى فى موضوع معركة أحد يؤكد لنا أن ( المساءلة ) كانت من وظائف مجالس الشورى ، وأن هذه المساءلة كانت تتضمن مساءلة النبى نفسه كقائد ، وأن المنافقين كان لهم هذا الحق ، مع نزول القرآن بكفرهم العقيدى بالاسلام وفضح تآمرهم ضد الدولة وتحالفهم مع أعدائها . وهذه ديمقراطية لا مثيل لها فى عصرنا ، فكيف بها فى العصور الوسطى ؛ عصور الاستبداد والفساد ؟
4 ـ وفي غزوة الأحزاب حدث موقف جديد وشديد ، اذ حوصرت المدينة بأكبر جيش لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل ، وحين وردت انباء الزحف المعادى للمدينة عقدت مجالس الشورى ، وفيها تمت البيعة والعهد على الدفاع عن المدينة ، واّلا يتخلف عن ذلك أحد . وشارك المنافقون فى هذه المجالس وتلك الالتزامات . وفي مجالس أخرى تم الاتفاق فيها على كيفية المواجهة الحربية للجيوش المعادية ، وحفر خندق يحمى المدينة . ولكن المنافقين نسوا العهد بالدفاع عن المدينة حين حوصرت المدينة فأخذوا في التسلل من مواقعهم الحربية قائلين "ان بيوتنا عورة" ، وأخذوا فى تثبيط همم المدافعين عن المدينة : (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً (13) الاحزاب ) ، لذلك قال تعالى يذكّرهم بالعهد : ( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً (15) الاحزاب ) . والقرآن يخبر ان اولئك الجبناء عند الحرب يكاد يُغشى عليهم من الخوف ، ولكن يكونون أطول الناس ألسنة في مجالس الشورى : ( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) (19) الاحزاب ). أي انهم يكررون مواقفهم في الغزوة السابقة (غزوة أحد) ، وهى دعوة ضمنية لعدم الاعتداد باتهاماتهم المغرضة ، صحيح ان لهم الحق في اعلان الرأي وهم يمارسونه بلا كلل والى درجة الافتراء والاتهامات بالباطل ، ولكن من حق المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والفاعلين بجهدهم وعرقهم ودمائهم ان يكونوا أعلى صوتا لأنهم في الوضع الجديد ادرى وأعلم وأفضل من غيرهم ، ثم هم الذين ينفذون قرارات الشورى وهم الذين يلتزمون بها ، أما الأخرون فلا عمل لهم الا الأفتراء بالباطل .
5 ـ ويذكر ابن هشام في سيرته انه لما علم الابتلاء في حصار الأحزاب ارسل النبي الى زعماء غطفان المشاركين في الحصار يدعوهم للصلح والانفصال عن الأحزاب مقابل ان يعطيهم ثلث ثمار المدينة ، ووافق زعيما غطفاء عيينه بن حصان والحارث بن عوف ، واستشار النبى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فرفضا فلم يتم عقد الصلح .وعلى فرض صحة هذه الروايات التاريخية فانها تؤكد على ان المشورة التى انتهت الى عدم تنفيذ رأى النبى ، والأحداث التالية تثبت ان هذه المشورة كانت صائبة في عدم التسليم ، وان كان الوحى لم يشر الى تلك الواقعة.
6 ـ على ان بعض مجالس الشورى كانت تأتى برأى غير صائب فينزل الوحى فينبه على الخطأ ، كما حدث في قضية أسرى بدر وماذا يفعل النبى معه ، يقول تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) الأنفال ). ويلاحظ ان الآية وجّهت الحديث للنبي وما ينبغى عليه ان يفعل :( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ )، وبعدها توجه الخطاب للمؤمنين جميعا بالتأنيب:( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) (لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) فالخطاب بالجمع أي لجموع المؤمنين ، اى ان المسئولية هنا جماعية لأنهم رأوا رأيا جماعيا عن طريق الشورى ، وتحملوا المسئولية . ويختلف الحال فى أمور النبى الخاصة والشخصية العائلية الى لا مشاورة فيها مع المؤمنين ، وهنا يأتى اللوم للنبى خاصة ، كما حدث في قوله جل وعلا له : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) التحريم )، فالكلام هنا عن أمر شخصى وقع فيه النبى واستحق التأنيب عليه .

خامسا : آلية الشورى :
1 ـ بعض الاشارات الى آلية الشورى تناثرت بين السطور السابقة ومنها ان القرار يكون للأغلبية ، وان الشورى الاسلامية لا تعرف النظام النيابي او تعبير أهل الحل والعقد .ان المنافقين لم يكونوا أغلبية عديدة ، صحيح انهم كانوا في بداية الدولة اصحاب سيطرة ونفوذ ، ولكن بمرور الزمن فقدوا ذلك حين تعلم المؤمنون المشاركة السياسية وحين تقاعس المنافقون عن القتال والجهاد ونزل القرآن يعيب عليهم تخاذلهم ومكائدهم ، وبالتالى فقدوا وجاهتهم الاجتماعية ومكانتهم السياسية وأصبحوا أقلية عددية منبوذة ، لها حق المشاركة في الشورى ولكن يتمتعون بالشك فيهم والارتياب في نواياهم . ولذلك كانت القرارات في مجالس الشورى تأتى معبرة عن الأغلبية الفاعلة المتحركة .
2 ـ الا ان المنافقين لم يسكتوا على ضياع نفوذهم ، فحولوا جهدهم الى جلسات غير رسمية يعقدونها سرا ويتناجون فيها بالأثم والعدوان والتآمر على النبي والمسلمين ، وانتشرت تلك الجلسات وانخدع بها بعض المؤمنين ، وصارت المدينة خلية نحل تدوى بالهمسات والمناجيات ، وأحس النبي بأن تلك الجلسات غير الرسمية تهدد مجلس الشورى وتغذى الاشاعات وتنشر الدسائس فنهاهم عنها ودعاهم الى ان تطرح كل الموضوعات علنا وبشفافية في مجلس الشورى التى يحضرها الجميع ، وان تتم مناقشتها بصورة علنية ، ولكن المنافقين رفضوا ، بل وشجعتهم تلك الخطوة في تحدي النبي فكانوا يدخلونا عليه يلقون اليه بالتحية في استهزاء وبغير تحية الاسلام . ولذلك نزلت آيات القرآن الكريم تفضح المنافقين ومجالسهم المشبوهة ، وتقول : (أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) المجادلة ) . فالأية تتحدث عن المنافقين الذين نهاهم النبي عن مجالس النجوى فعصوه واستمروا في مجالسهم يتناجون بالأصم والعدوان ، ثم يؤذون النبى ويحيونه بغير تحية الاسلام . ولأن المؤمنين انخدعوا بتلك المجالس واشتركوا فيها ، ولأنهم قد تعودوا سماع الرأى والرأى الآخر فأنهم لم يجدوا من الغريب ان يسمعوا في تلك المجالس السرية الهجوم على النبي ، واعطوا آذانهم لآشاعات المنافقين ، أي اصبحوا شركاءهم بالصمت وترديد الاشاعات ، لذلك قال تعالى ينهاهم لا عن حضور تلك المجالس ولكن عن تحويلها الى دسائس ومناجاة بالاثم والعدوان والكيد والتآمر ، يقول تعالى لهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (10) المجادلة ) . أى ان هدف المنافقين من النجوى هو الاضرار بالمؤمنين ومصادرة نظامهم الشورىّ والالتفاف حول مجلس الشورى وتعويض افتقارهم للأغلبية فيه بالسيطرة على الرأى العام من خلال مجالسهم السرية واشاعاتهم .
3 ـ ومجرد النهى عن تلك المجالس السرية لا يكفي في اعادة المنافقين وأعوانهم الى مجالس الشورى ولكن لابد من اجراء بعض التصحيحات في مجالس الشورى نفسها ، فالمؤمنون الفاعلون الذين صعدت بهم الأحداث الى موقع الصدارة والقيادة في المجلس كانت تقع منهم بعض التجاوزات في المجالس أشرنا الى بعضها في طريقة المزايدة على النبى ورفع اصواتهم فوق صوته ، واذا كانوا يفعلون ذلك مع النبي نفسه فالمنتظر ان يكونوا اكثر حدة مع غيره ، واذا كان النبي يتسامح واذا كان بعض المؤمنين يتسامحون فان المنافقين ليسوا كذلك ، وقد اعتاد المنافقون في البداية تصدر مجالس الشورى ، وحتى اذا كانت الأغلبية قد ضاعت منهم فان الشكل المظهرى يرضيهم ، ولكن المتحمسين من المؤمنين افقدوهم هذه الصدارة ايضا ، وكان عليهم ان يدركوا ان من الأفضل سياسيا ان يتركوا تلك الصدارة الظاهرية في المجالس للمنافقين ، فالمهم هو الرفعة الحقيقية واعمال الجوارح ، لذلك كان النبي يأمر اولئك المؤمنين بأن يفسحوا الصدارة في المجلس لأولئك المتعاظمين من المنافقين ، او اذا كانوا في المقدمة فليتركوها لهم ، ولم تكن الاستجابة كاملة من المؤمنين لهذا التوجيه النبوى ، لذا نزل قوله تعالى للمؤمنين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) المجادلة ).
وكان ذلك علاجا لتأليف قلوب المنافقين وارضائهم ، وبقى علاج آخر لاتباع المنافقين من المؤمنين ممن كانوا يحضرون مجالس النجوى والدسائس ، والعلاج بألا تكون النجوى بعيدة عن النبي ، بل تكون موجهة له ، وان تكون في الخير والطاعة وبدليل علمى ظاهرى هو تقديم صدقة لبيت المال ، صدقة تطوعية لاثبات حسن النوايا، ومن لا يجد فالله تعالى يغفر له ، ولكن عليه ان يتمسك بالصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله ، يقول تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) المجادلة ). ثم تحذر الآيات التالية اولئك المؤمنين ممن كانوا تابعين للمنافقين في مجالسهم المتآمرة : ( أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (22) )
4 ـ لقد كان المنافقون يطمعون في ان يكونوا أهل الحلّ والعقد في الدولة وعصر الرسول في المدينة . ولكن لم يعرف عصر الرسول عليه السلام هذا المصطلح" أهل الحل والعقد" لأن الشورى حينئذ كانت فرضا لازما لكل فرد ذكرا كان أو إنثى شأن الصلاة ، وكل فرد وكل مسلم ومسلمة كان من اهل الحل والعقد . وسبق توضيح ان الشورى الاسلامية لا تعرف الاستنابة او النظام النيابي او التمثيل النيابي ، او ان يقوم بعض الناس بالتفكير نيابة عن الشعب ، فالشورى جاءت بين اقامة الصلاة والزكاة ، أي ان الشورى فرض لازم كالصلاة ، وتؤدي مثلها في المسجد ، فاذا كانت الصلاة واجبة على كل فرد فكذلك الشورى ، واذا كانت الصلاة واجبة في كل الأحوال في السفر والحضر والصحة والمرض والسلم والحرب فكذلك الشورى . واذا كانت الصلاة لا تصح فيها الاستنابة ، اى لا يصح ان يصلى أحد عنك فكذلك المشورة ، لا يصح ان يقوم أحد عنك بالشورى .
5 ــ وسبق ان توقفنا مع آيات سورة النور التى عابت على بعض المسلمين تسللهم لواذا من المسجد حين يدعى لمجلس الشورى في كل أمر جامع ، وقال تعالى لهم : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) النور ) . ولو لم تكن فريضة الشورى الزامية على كل مسلم ما نزل هذا الانذار وذلك التحذير . وهذا يعني ان مجلس الشورى ينعقد بأعضاء هم كل المسلمين ، ولا يسمح النبى بالتخلف عنه الا لعذر قهرى ، وان المسلمين اذا سمعوا النداء " بالصلاة جامعة " عرفوا ان هناك مجلسا للشورى يدعوهم فيسرعون بالنهوض للمسجد ، وما كان القرآن ليسمح بوجود " ملأ" حول النبي يتحكم في الأمور ، لسبب بسيط ان القصص القرآنى حفل بما كان يفعله الملأ من ارساء الظلم والاستبداد . ولكن قيام الحكم الأموى أكّد الأستبداد وتحكم الملأ تحت مصطلح أهل الحل والعقد . وفي العصر العباسي تم تقعيد هذا المصطلح وتأصيله دينيا بدعوى طاعة " اولى الأمر" ، وذلك يستدعى منا التوقف حول مدلول " اولى الأمر" في القرآن وصلته بالشورى .
أولو الأمر
1 ــ ان القرآن الكريم يعلى من شأن اولى الخبرة والاختصاص ، ومع ان القرآن الكريم هو القول الفصل في أمور العقيدة الا انه احتكم الى " أهل الذكر" من علماء أهل الكتاب، فقال : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) النحل ). بل ان القرآن امر النبى نفسه أن يسأل علماء أهل الكتاب اذا جاءه شك في القرآن ، لأن أهل الكتاب العلماء يعلمون القرآن او الكتاب كما يعرفون ابناءهم ، فقال تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ (94) يونس ) .
2 ــ واذا كان هذا في أمور العقيدة والدين فهو في أمور السياسة والدنيا اولى أو اكثر ضرورة ، وقد كان المنافقون متخصصين في ترويج الاشاعات واذاعتها خصوصا في اوقات الحرب ، او فيما يخص موضوع الأمن ، والعادة ان تنتشر تلك الاشاعات في مجتمع تحيطه الأخطار ، وكان هناك متخصصون حول النبى في موضوع التخطيط الحربى وادارة فن الصراع مع العرب المشركين حين كانت المدينة جزيرة ايمانية يحيط بها المشركون المعتدون من كل جانب ، والى جانبها تعيش قبائل اليهود وعلى مشارفها قبائل البدو الأعراب الذين هم أشد كفرا ونفاقا ، وفى داخلهم المنافقون ، ومع ذلك فان المدينة تفتح ابوابها لكل من يأتى اليها يدعى انه مسلم ، ومن الطبيعي ان احتمال التجسس قائم ، والمنافقون في الداخل "طابو خامس" مستعد للتآمر ولا يقل اليهود عنهم حماسا ، ودولة مفتوحة ديمقراطية يحيطها العدو من الداخل والخارج لا يمكن ان تصمد ( بل أن تنتصر) الا بجهاز أمنى دفاعى متيقظ ، ومن أسف اننا لا نعرف شيئا عن ذلك الجهد السري في تأمين الدولة وتأمين حياة النبي وسط كل تلك الظروف . والاشارة الوحيدة الى وجود ذلك الجهاز الأمنى المتيقظ جاءت في قوله تعالى : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) النساء ). فالكلام هنا عن المنافقين واشاعاتهم ، والقرآن يدعو الى تبليغ الأمر الى المتخصصين أو اولى الأمر الذين هم الأقدر على الاستنباط .
3 ــ وكلمة " اولى الأمر" جاءت مرتين في القرآن ، وكلمة" الأمر" فيها تعنى الشأن والموضوع ، اى اصحاب الشأن والاختصاص ، وفي الأية السابقة تعنى تحديدا المتخصصين في موضوع الأمن والخوف ، اى اصحاب الحرب وحماية الجبهة الداخلية والخارجية . وجاءت كلمة " أولى الأمر " أيضا في قوله تعالى فى نفس السورة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) ). فى قوله جل وعلا (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) فإن المُطاع واحد ، هو الله تعالى في كتابه الذى نزل على رسوله ، وبعد موت النبى فالمتخصصون كل في شأن او أمر لهم حق الطاعة في اطار طاعة الله ورسوله ، اى القرآن . وقد سبق التنبيه على دعوة القرآن لسؤال أهل الذكر ، واذا أفتى أولو الأمر او أهل الذكر بما يستوجب النزاع فلنحتكم الى الكتاب لأن الكتاب هو الرسالة وهو الرسول .
والنبى في حياته كان يحكم بالكتاب او بما أنزل الله : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) ) " المائدة )". وأمره الله تعالى ان يقول : ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) (114 الأنعام ) . اى الاحتكام لله تعالى وحده في القرآن .. ويقول تعالى ايضا في الاحتكام الى الله عند الاختلاف والتنازع : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) الشورى ) . وقد استشهدنا بالآيات السابقة لنؤكد ان الأحتكام للرسول يعنى فقط الاحتكام للرسالة او القرآن ولا تعنى تلك الأحاديث المفتراة التى نسبوها للنبى في عصور الاستبداد والظلم. والمهم انه في الأمور التى تستدعى التخصص فالمرجع فيها لأولى الأمر أو أولى الأختصاص ، اما في الامور العامة فهى مطروحة امام المسلمين جميعا في مجالس الشورى .
4 ـ يبقى الـتأكيد على أن ( أولى الأمر ) هو وصف للمتخصّص صاحب الخبرة فى ( الأمر ) أو ( الشأن ) المطروح ، وهذا الوصف يشمل الرجل والمرأة . ويستلزم هذا أيضا التذكير بأن الشورى الاسلامية تساوى بين الرجل والمرأة فالخطاب القرآنى بالذين آمنوا هو للرجل والمرأة ، وكل الأوامر التشريعية القرآنية لهما معا ما لم يرد تخصيص لأحدهما ، وهذا كان يحدث فى الأحوال الشخصية من زواج وطلاق .. أما ما عداها من اوامر تعبدية وإجتماعية وسياسية فكانت للجميع البالغين ، خصوصا وأن الدولة الاسلامية كيان تعاقدى قانونى بين الأفراد ، جاء التعبير القرآنى عنه بالبيعة ، ونزل فى القرآن أمر عن بيعة النساء باعتبارهن جزءا من هذه الدولة :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) الممتحنة ). وسبق هذا هجرة المرأة المسلمة وسفرها سفرا شاقا بسبب عقيدتها ، مرتين الى الحبشة ومرة أخيرة الى المدينة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) الممتحنة ) .

سادسا : أثر نظام الشورى في تمكين المسلمين :
1 ـ في البداية نتوقف مع التحديات التى واجهها المجتمع المدنى في عصر الرسول لنتعرف على حجم الأنجاز الذى تحقق للمسلمين بالتمكين في الأرض مع عدم المساس بالحريات الأساسية للمواطنين داخل الدولة حتى لو كانوا من اعدائها المتربصين بها الدوائر . قبل الهجرة للمدينة تعرض المسلمون لإضطهاد شديد اجبرهم على الهجرة مرتين للحبشة ، ثم كانت هجرتهم النهائية للمدينة حيث أقاموا فيها دولة كانت جزيرة للحرية يتهددها الخطر الداخلى والخارجي ، على ان ذلك الخطر المحيط بالدولة المدنية لم يجعل السلطة فيها تلجأ لأجراء استثنائى واحد ضد المنافقين الذين وصلت مكائدهم ضد الدولة الى درجة التحالف السرى مع العدو في أوقات الحرب والقتال " النساء 141، الحشر 11،12" . . ولكن ذلك التحالف السرى كان في النطاق المسموح به في العمل السياسي . أما اذا تعدى ذلك الى محاولة حمل السلاح والقتال ضد الدولة هنا تتحرك الدولة للضرب على ايديهم ، بدليل ذلك التحذير القوى الذي وجهه القرآن للمنافقين حين فكروا في حمل السلاح ضد المؤمنين اثناء حصار الأحزاب للمدينة " الأحزاب 60،61 " وكان ذلك التحذير او الأنذار هو كل الأجراء الموجه للمنافقين ، مع ان الديمقراطيات الحديثة – التى نحلم بالوصول اليها – لا تتسامح مع الطابور الخامس في وقت الحروب وتسارع بالقضاء على عناصره بمجرد الاشتباه وتتهمهم بالخيانة العظمى .
2 ـ ونترك المنافقين الذين ادعوا الاسلام وعاشوا ضمن عناصر المجتمع المدنى في المدينة ، ونتوجه الى القبائل اليهودية التى عاشت على اطراف المدينة وارتبطت بها بمعاهدات ما لبثوا ان نقضوها ، وهنا نقرر ان العلاقة بين الدولة المدنية وتلك القبائل كانت في اطار التعامل بين دولتين او مجتمعين ، بدليل ان القرآن الكريم لم يرحب برغبتهم في الاحتكام للنبي وقال تعالى للرسول " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " المائدة 43 . اذن لهم نظامهم وشريعتهم ، وللمسلمين نظامهم وشريعتهم والعلاقة بين النظامين يحكمها العهد او المعاهدة الموقعة بينهما ، وحدث ان شاركوا المنافقين في التآمر على الدولة ، وحكى القرآن الكثير من تآمر اليهود على النبي والمؤمنين ، واكتفى القرآن بمجرد التوبيخ ، الا انه عندما وصل الأمر الى حمل السلاح والحرب ونقض العهد السلمي كان الاحتكام للسيف ، وهنا خسر اليهود الجولات الثلاث وأجلاهم النبي عن المدينة ، واتسعت رقعة الدولة المدنية بعد التخلص منهم .ونحن لا نأخذ بالروايات التاريخية عن عصر النبوة اذا تعارضت مع حقائق القرآن الكريم ، اولئك الذين يؤمنون بالروايات التاريخية يعترفون بوجود الإسرائيليات في الأحاديث والتفسير والسيرة . اى ان علماء اليهود دسّوا أكذايبهم في تلك الروايات ، ومن ابرز علماء اليهود في ذلك الشأن عبد الله بن سلام ووهب بن منبه وكعب الأحبار .. وتم تسجيل رواياتهم تسجيلا منظما في العصر العباسي الأول على يد ابن اسحق وابن هشام والواقدى وابن سعد كاتب الواقدى ، واصبح من المعلوم في السيرة النبوية ان النبى طرد يهود المدينة من بنى قينقاع وبنى النضير لأسباب واهية ، وان قتل يهود بنى قريظة لتآمرهم مع الأحزاب ، والقارئ لهذه الروايات – اذ صدقها – لابد ان يتصور الدولة المدنية للرسول دولة حربية تتوسع على حساب جيرانها وتعاملهم بالسيف والعدوان .
3 ـ وهذا يتناقض مع حقائق القرآن ، وهو يعيدنا الى التأكيد على الطبيعة السلمية و تشريع الجهاد الدفاعى في الدولة الاسلامية المدنية ، وهو موضوع يعطينا ضوءا على التحديات التى واجهت الدولة الاسلامية في عهد النبى عليه السلام ، فالمشركون واصلوا اضطهاد الدولة الاسلامية والمؤمنين بهدف فتنتهم واعادتهم الى الكفر ، وفي ذلك يقول تعالى عن ذلك الاضطهاد أو الفتنة في الدين ، وقد اعتبر القرآن أكبر من القتل ، يقول تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) البقرة ) . اى انهم استمروا في اضطهاد المؤمنين بعد هجرتهم الى المدينة وتطور هذا الاضطهاد لهم بهدف ارجاعهم قسرا الى دين الآباء والأجداد . ولذلك فأن أول آية بتشريع الأذن للمسلمين بالقتال جاءت فيها حيثيات التشريع ، يقول تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) أي ان المشركين أخرجوهم من ديارهم بغير حق لمجرد انهم يقولون ربنا الله. وتستمر الآية الكريمة فتقول : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج ) . اى انه لولا ان فرض الله الجهاد بهدف تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين لتهدمت بيوت العبادة من كنائس وبيع ومساجد . ومعناه حرص الاسلام على كل بيوت العبادة للنصارى واليهود والمسلمين على السواء ، اى ان هدف الجهاد هو تقرير الحرية الدينية لكل الناس دون اكراه الدين . ان أوامر القتال في القرآن تحكمها قاعدة تشريعية تؤكد ان القتال للدفاع ورد الاعتداء بمثله : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194 ) البقرة ). والقواعد التشريعية للقتال لها مقصد تشريعي ، هو ان يكون هدف القتال هو ضمان الحرية الدينية ومنع الأكراه في الدين ، اى ان يكون الدين كله لله يحكم في يوم الدين بين الناس فيما هم فيه مختلفون ، يقول تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) البقرة )( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) الانفال ) . اى ان هدف القتال في الاسلام هو " حتى لا تكون فتنة " والفتنة هى الاضطهاد الدينى ، او تقرير حرية العبادة فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، والا يكون اكراه في الدين " البقرة 256، الكهف 29 . وبأيجاز فان القتال هو لتأكيد حق الانسان في حرية الاعتقاد وتأمين بيوت العبادة ..
4 ـ ومن خلال هذا الهدف الأسمى كان اقتناع المسلمين وقتها بجدوى القتال في سبيل الله ، وبنفس القدر كان حرص المشركين على ملاحقة الدولة الاسلامية الوليدة التى جاءت بمفاهيم جديدة تنذر بتقويض النظام الجاهلى السائد في العالم كله والقائم على الاستبداد واحتكار السلطة والثروة في داخل الجزيرة العربية وخارجها . وكان ضغط القوى المشركة شديدا على الدولة الاسلامية المدنية في بداية عهدها . والمنتظر في بداية توطيد الدولة ان يصادر الحاكم الحريات ليتفرغ لمواجهة الأخطار التى تحيق بالدولة والوطن .الا ان الحال اختلف مع الدولة الاسلامية المدنية حيث يعطينا القرآن الكريم مثلا فريدا ووحيدا في التاريخ الانساني ، حين ارتبط تأسيس الدولة وتوطيدها وصراعها ضد القوى الداخلية والخارجية بتأسيس المجتمع المدنى وضمان الحرية الدينية والسياسية واقامة نظام الشورى ، ومن خلال هذا الخيار الديمقراطي نجح المسلمون والنبى في الاختبار وخرجوا من حالة الضعف الداخلى الى مراحلة الانتصار على الاعداء في الداخل والخارج . وهو على كل حال ( مثل أعلى ) لكل مجتمع يتحسس طريقه نحو الديمقراطية ويحاول ان يوازن بين متاعب الديمقراطية واعاصير الأخطار الداخلية والخارجية .
5 ـ ونعود الى سورة النور اولى ما نزلت من السور في المدنية ، وهى السورة التى ارست دعائم المجتمع المدنى وعلمت العرب المسلمين اصول الاستئذان ووضعت لهم بعض التشريعات الجديدة في الزواج وصيانة الاعراض والأخلاق والزي .. وهى السورة التى نزلت فيها آياتها الأخيرة تحتج على بعض المسلمين سلبيتهم وتكاسلهم عن حضور مجالس الشورى وتحذرهم من تكرار التخلف عن حضور تلك المجالس . وقد اشرنا فيما سبق الى تلك الآيات. ويهمنا هنا ان نؤكد على ما سبق بيانه من التحذير من الوقوع في نفس الخطأ في قوله تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب أليم" ، وان ذلك العقاب الذي حذرهم الله تعالى منه لم يقع ، اى انهم التزموا منذ بداية استقرارهم في المدينة بالإيجابية في حضور مجالس الشورى فلم يقع العقاب الذي حذر الله منه . بل على العكس حدث لهم الوعد الالهى الذي جاء في نفس السورة سورة النور ، وهو الوعد الخاص بموضوعنا . يقول تعالى في وعده للمسلمين في بداية عهدهم بالمدينة : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55) النور ) . كانوا وقت نزول سورة النور دولة ناشئة تخاف جيرانها من اليهود والمشركين الذين يحيطون بهم من كل جانب ، ثم يخافون المنافقين الذين يعيشون في داخل الدولة ، وكان للمنافقين اتباع من ضعاف الايمان والذين في قلوبهم مرض " الأحزاب 60 . كان المؤمنون فى المدينة كما قال تعالى فيما بعد يذكّرهم بضعفهم وخوفهم من الأعداء المحيطين بهم من كل جانب : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) الانفال ) .

وقت نزول سورة النور كانوا أقلية مستضعفة تخاف ان يقضى عليها اعداؤهم ويتخطفونهم فى الارض ، او بتعبير سورة النور في الوعد بتغيير أحوالهم من الخوف الى الأمن :( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) ، وواضح ان الوعد هنا جاء بصيغة التأكيد بالاستخلاف في الأرض وبالتمكين وبتبديل الخوف الى أمن و، كان الشرط في تحقيق الوعد :( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) ، أى كانت الشورى ضمن شروط الوعد ، فالشورى ذات صلة وثيقة بعقيدة الاسلام ونظام العبادة فيه ، ولذلك كان الحث على الالتزام بها بصورة شديدة في الآيات الأخيرة من سورة النور ، نفس السورة التى جاء فيها الوعد بالتمكين في الأرض ، ليكون ذلك دليلا على ان التمكين في الأرض قرين بتقوية اسس المجتمع المدنى والنظام الشورى وتحقيق لهم الوعد بصورة سريعة ، فبعد نزول سورة النور بعشر سنوات تقريبا كانوا يهزمون اعداءهم في الجزيرة العربية ونزل قوله جل وعلا فى سورة الفتح : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) ). 
 

اجمالي القراءات 12091