الإسماعيليون والإخوان..مقاربة سلوكية(2:2)

سامح عسكر في الخميس ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

الفكر الإسماعيلي متأثر بالرؤية الثورية لآل البيت عموماً، وفي هذه لا يختلف عن بقية الشيعة الذين يقدسون ثورتي الإمامين الحسين وابن الحنفية في القرن السابع الميلادي، ولا يظهر من بواكير تلك الثورات إلا ظهور بعض غُلاة الشيعة كنتيجة للقمع السياسي في تلك الفترة، فكان من الطبيعي أن يظهر بعض غُلاة الإسماعيلية ويقولون بالتناسخ وتأليه الأئمة وبقية صنوف الإلحاد، غير أن هذا الغلو لم يستمر إلا في النصف الأول من القرن الثامن، بعدها ظهرت آراء شيعية عامة معتدلة ..تحارب هذا الغلو العقدي الذي أصاب الكثير ممن ينتسبون لآل البيت.

في تلك الفترة كان يعيش الإمام جعفر الصادق إمام أهل السنة والشيعة معاً، وقد كان لحضوره الأثر في نزع قيم التطرف إلى بواكير العمل الاجتماعي والسياسي المعتدل، وكذلك نشر أتباعه آراؤه الفقهية التي شكلت بعد ذلك فقه أكبر فرقة شيعية في التاريخ وهي فرقة الإمامية، ولكن بعد وفاة الإمام دب الخلاف بين الشيعة حول الإمامة، فاتجهت الأقلية إلى تنصيب إسماعيل وهو الابن الأكبر للإمام الصادق وسموا بالإسماعيليين، واتجهت الأكثرية إلى تنصيب موسى الكاظم وهو الابن الأصغر للإمام الصادق وسموا بالإماميين.

من هنا بدأ الافتراق يحذو حذوه مرة أخرى ولم يعترف كل فريق بإمامة الآخر، غير أن برنارد لويس يرى أن تنصيب الأكثرية لموسى الكاظم ربما كان لتطرف إسماعيل، وهذا يعني أن الإماميين كانوا أكثر اعتدالاً في الرأي من الإسماعيلية وفي ذلك شئُ من الصحة، فغالب الجماعات والفرق الشيعية المتطرفة خرجت من رحم الإسماعيلية...نتج عن ذلك أن اشتهر الإسماعيليون بالعمل السري خشية أن ينتقم منهم أتباع موسى الكاظم أو السنيون الذين يملكون أراضٍ وسلطاتٍ واسعة ، أي أن الإمامية لم تكن بحاجة إلى العمل السري نسبةً إلى اتجاه معظم الشيعة إلى هذا المسلك، يعني أنه وكلما أقصى البعض أفكاراً سنراها تعود خلسةً تحت الأرض، وبإدمان هذا المنهج يُصبح من العسير أن تتغير تلك الأساليب السرية إلى أخرى علنية.

اتجه الإسماعيليون بعد ذلك إلى العمل السري كما سلف، وطبيعة هذا العمل قائمة على المظلومية بالأساس، فلو لم يشعر الأتباع بالظُلم والحَنَق ما كان لهم أن يحشدوا الجماهير، فمن وِجهة نظرهم أن أتباع موسى الكاظم قد اغتصبوا منهم الإمامة، وأن الدين يفرض عليهم عودة الإمام الشرعي لسيادة الحق والفضيلة، ذلك أن الإمام لدى الشيعة بالعموم هو بالنص، وجميعهم اتفقوا أن هذا الإمام الشرعي هو من نسل سيدنا عليّ ابن أبي طالب، ولكنهم اختلفوا بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق...ومما صاحب ثورة الإسماعيلية هو لجوئهم إلى العقل والعاطفة معاً.. في إشارة إلى أن الثوريون قديماً وحديثاً كانوا يُلهبون حماس الجماهير بالعواطف ،ومع ذلك ترى أغلبهم فقراء معرفياً ولديهم أفكار ساذجة وسطحية عن شكل الدولة وإدارتها، ربما كان لتميز الإسماعيلية في العلوم العقلية هو السبب في نجاحهم في المغرب العربي وتكوين أكبر وأشهر دولة إسماعيلية في التاريخ وهي الدولة الفاطمية.

لم تكن الدولة الفاطمية مجرد دولة ذات حدود سياسية وسلطة تبسط نفوذها داخل تلك الحدود، بل كانت مشروعاً دينياً وسياسياً ممتزجاً تدعمه أكبر خلفية معرفية في تلك الحقبة، فقد كان أشهر فلاسفة المسلمين ينتسبون إلى الإسماعيلية، وربما أدخلوا رؤيتهم للإمام في صُلب تنظيرهم لعقائدهم، فقد كانوا يرون الإمام هو الناطق باسم الله أو بتعبير آخر هو نبي مرسل يُرسله الله في كل حقبة زمنية، أي أن الإسماعيليين يعتقدون أن الإمامة لم تنقطع من نسل إسماعيل ابن جعفر الصادق، بل هي باقية معهم إلى اليوم، وذلك على خلاف الإمامية التي ترى أن الإمامة قد انقطعت باختفاء الإمام الثاني عشر .

أشير إلى أن الخلاف الذي دبّ بين الشيعة وأنتج تفرقهم لأكثر من فرقة هو الذي حدث مع جماعة الإخوان وأنتج تفرقهم إلى قطبيين وبناويين وتكفير وهجرة وجماعة إسلامية وسائر تلك الجماعات، وهي التي تفرعت بعد ذلك إلى عشرات الاتجاهات، فإذا حدث هذا الافتراق فلابد له من مصدر يجتمع عليه الكافة، فالشيعة ورغم تفرقهم إلا أنهم يجتمعون في الولاية للإمام علي ونسله، وكذلك تحقير الصحابة الذين نافسوا الإمام علىّ على السلطة، والإخوان كذلك ..فرغم تفرقهم إلا أنهم يجتمعون في الدعوة للخلافة الإسلامية ولتطبيق الشريعة وإلى سيادة مذهب السنة والجماعة على سائر المذاهب...فالخيط الذي يجمع الشيعة والإخوان هو الاعتقاد بنجاة الذات وعذاب الآخر،فكل فرقة وجماعة ترى في نفسها أنها الفرقة الناجية، وأنها التي تستحق الجنة على ما سواها، فالتراث السني لا يختلف عن الشيعي في ذلك، وكلاهما-أي الشيعة والإخوان-بالعموم هي فِرق وجماعات تراثية تؤمن بالرواية وتضعها حاكمة على آيات القرآن، وكم من المصلحين والتنويريون الذين أسهموا في علاج تلك الآفة ولكن بدت جهودهم كسراب في ظل مطامع السياسة، فجهود ألف عالِم قد تضيع تحت أقدام متعصبٍ واحد.

يرى برنارد لويس أن أئمة الإسماعيلية بعد وفاة إسماعيل بن جعفر الصادق ظلوا مختفين عن الأعين لمدة قرن ونصف، والسبب- كما بدا لي- هو قوة الدولة العباسية في القرن الثامن الميلادي- وهو زمن وفاة إسماعيل- ولكن ما إن بدأ الضعف يدب في أوصال العباسيين حتى بدأ أئمة الإسماعيلية في الظهور، وتلك هي المداولة التي كشفت بعد ذلك عن ظهور الجماعات الدينية في الشرق الأوسط ظهوراً بعد الضعف الواضح التي مرت به دولة العلويين في القاهرة...فنهاية الملكية العلوية وآخر ملوكها "الملك فاروق" في مصر سمحت بظهور أفكار تدعو للعودة إلى جادة الصواب ولعودة الثقة من جديد، ولكن اختلف الحال هذه المرة ..فتلك الأفكار كانت على خلفية دينية متعصبة للمذهب السني، وجميعها كانت سبباً في إرساء خطاباً دعوياً جديداً يُعلي من شأن الصحابة ويُصرّ على فضائلهم وفي نفس الوقت يتغافلون عن آل البيت ودورهم في نُصرة الدين، بل أجزم بأنه -وبفضل تلك الجماعات- جَهَلَت مُعظم شعوب المنطقة أسماء آل البيت، فإذا ذُكِرَ موسى الكاظم أو جعفر الصادق في مكان إلا وذُكِرَ الشيعة.

رغم أن الإمامين معدودين ضمن أئمة السنة في التراث، ولكن التعصب المذهبي حال دون معرفة الأتباع قيمة ومنازل الآخرين، نفس الحال كان يحدث مع الإسماعيلية ومع ثوراتهم المتعددة- ولا أعفي الشيعة بالعموم من هذا المسلك-كانوا يُعلون من شأن آل البيت ويُصرّون على فضائلهم في صورة عكسية لسلوك تلك الجماعات التي أرست خطاباً مذهبياً شبيه بخطاب الشيعة المذهبي...وطبيعة تلك الدعوات المذهبية لا تظهر سوى في المجتمعات المُفككة، فهي الوحيدة القادرة على احتضان تلك الأفكار، والأسباب متعددة لكن الأصل السياسي واحد، فلو لم تكن المجتمعات العربية مفككة في النصف الثاني من القرن العشرين ما كان لها أن تؤوي الإخوان والجماعات، حتى الانتفاضات المجتمعية القومية التي أعقبت سلطة العلويين في القاهرة لم تسهم إلا في حالة إفاقة جزئية لوعي العرب والمسلمين، ثم عادت الشعوب بعد ذلك إلى ما يُشبه رفع الضوء الأخضر لاستقبال أي أفكار عنصرية أو مذهبية بظنها الملجأ الوحيد إلى الله بعد تعدد الأزمات.

بقي العلم بأن الإسماعيلية لم تشتهر فقط بهذا الاسم كمذهب ديني، بل صنفها البعض كحركة سياسية أنتجت لنا ألواناً شتى من السياسية تجمع ما بين الإيمان والإلحاد ما بين العُنف والسلام، وقد كانت فرقتي القرامطة والحشاشين هما أشهر فرق الإسماعيلية عُنفاً وضراوة، وربما كسر عُنف القرامطة حاجز الدين، فيروي المؤرخون أحداثاُ عنهم لا يُبالون فيها بالأديان، ولكن هذا كله في حال التمكين، فمجرد أن تنداح لهم السلطة إلا ويقعوا في الناس بكافة صنوف المحرمات، سواء من القذف واللعن مروراً بالعدوان حتى القتل والتحريق...وسلوكهم في ذلك يُشبه سلوك الجماعات الدينية المعاصرة، فتجاربهم في السلطة أثبتت أنه وبمجرد التمكين تأتي مرحلة الانتقام من كل إنسان، فيشرعون في توظيف الكل لمصالحهم وإلا فالطرد والقتل، كل ذلك كان يحدث حسب ما يطرحونه تصوراً عن الدين، يختلفون عن القرامطة في أن القتل لديهم يكون بالتأويل.. بينما القرامطة كانوا يقتلون بالسياسة، حتى في هذه فالانتقام لديهم سياسة والسبب أنهم ينتقمون ممن يقفون ضد مشروعهم الديني المقدس.

أما قبل ذلك فيشرعون في تحصيل مطالبهم بالحِيَل والخِداع، فيقول الباحث الهولندي" دي خويه" أن القرامطة كانوا يعتمدون على مواطن ضعف الإنسان فيُظهرون التقوى والورع للصالحين، ويرفعون شعارات الحرية للمتحررين ويُظهِرون الاستهتار لغير المُبالين، ويتكلمون في الفلسفة لأصحاب العقول، وفي الآمال والرغبات للمتصوفة ويحكون العجائب للعامة، فيكسبون بهذا السلوك شرائح المجتمع الفكرية حتى يُصدقونهم ويسمعون كلام القادة، ليس هذا فحسب ففي تقديري أن الحشاشين كانوا يتميزون بهذا السلوك أيضاً حتى قال عنهم برنارد لويس أنهم أصحاب أٌقوى تنظيم شيعي عرفه المسلمون.

بمقاربة بدهية نرى أن ما اتصف به القرامطة والحشاشون -من غُلاة الإسماعيلية -يتطابق بشكلٍ كبير مع أحوال جماعة الإخوان، فهم يمتهنون الخُلق والتلوّن مع العامة، ويتكيفون بشكلٍ عجيب مع أي بيئة، ويرفعون الشعارات ويُلهبون حماس الجماهير بالعواطف، حتى تجاربهم في السلطة تحكي عن تشابه عجيب في أنماط المعاملة مع الآخر، فلا يألون بالاً لنفسٍ تُحرق وهم على استعداد لقتل أنفسهم للدفاع عن مشروعهم بأي ثمن، وإذا تحدثنا معهم عن ضرورة مراجعة هذا المشروع كي لا تتحمل أخطائهم وِزر الدماء التي سالت ..يردون بأنهم يستعدون لتقديم المزيد...تفسيري الوحيد لذلك هو أن التضحية من أجل الفكرة تتطلب اليقين التام الذي لا تشوبه شائبة، والعمل الثوري بالعموم هو عمل يقيني لا لبس فيه، فإذا اجتمعت الفكرة مع الثورة في حضور اليقين نشبت الصراعات وسالت الدماء حتى لا تبقى حُرمة لنفس، وأعتقد أن جماعة الإخوان لو كانت تعيش في زمان القرامطة والحشاشين ما كان لأحد أن يستطيع التفرقة بينهم للتشابه الكبير، أما اليوم ونَظَراَ للتقدم العلمي وسيادة عصر الصورة وسرعة الاتصالات وتعدد مصادر المعلومات وسهولة الحصول عليها أصبح بالإمكان أن يصنع خصوم الإخوان يقيناً آخر يُجابهون به سطوتهم على الجماهير.

بل وبقوة الفكرة الأخرى في دول الغرب الرائدة عَجَز الإخوان عن تقديم البديل، فأصبحوا يُصارعون مجتمعاتهم الفقيرة والأمية بدلاً من أن يُصارعوا أمريكا والغرب، وفي المقابل أعتقد أنه لو كان للقرامطة وجود في هذا الزمان لتبدل سلوكهم وتطور بشكلٍ كبير، والسبب هو أن اتجاههم العقلي والفلسفي الذي اشتهر به دعاة الإسماعيلية كان سيُجبرهم على إعادة النظر في معارفهم وسلوكياتهم، فلو عجز شباب الإخوان عن تقديم مراجعة أنفسهم أو تقديم البديل الصالح والقوي فلن يعجز شباب القرامطة في ذلك، ولو لم يغفر المجتمع للإخوان أخطائهم وجرائمهم سيغفر للقرامطة جرائمهم بمجرد وقوف شبابهم على الحياد في أوقات الأزمات.

اجمالي القراءات 8980