قهوة متاتيا المصرية - شهيدة الجهل:
كان يوجد فى مصر مقهى تسمى بـ "قهوة متاتيا". تلك المقهى كانت بحق أحد أهم المقاهى المصرية إن لم تكن أهمها على الإطلاق. متاتيا تم بناؤها فى عهد الخديوى إسماعيل بعد أن أصدر أوامره بتحديث الأماكن المحيطة بميدان العتبة. وكانت تلك المقهى تجاور مبنى الأوبرا (الذى تحول إلى جراج الآن!!) والذى بنى أيضا كنتيجة لخطة التحديث التى أشرنا إليه فى عهد إسماعيل. وتأسست المقهى حوالى عام 1870 فى عمارة "متاتيا" المهندس الإيطالى الشهير حينها والذى أوكل له تحديث المنطقة.
"متاتيا" لم يكن ما يربطها بالتاريخ عام بناءها فقط، وإنما ما كان يجعل لها مكانة رفيعة هو علاقتها الوثيقة بالرياح المتعاقبة عليها من تغيرات إجتماعية وثقافية، والسياسية فوق هذه وتلك. وزاد من أهميتها التاريخية أن روادها لم يكونوا بالشخصيات العادية كالشيخ محمد عبده، سعد باشا زغلول، أول نقيب للمحاميين براهيم بك الهلباوي، الشاعر حافظ ابراهيم,، عبدالقادر المازني,، محمود عباس العقاد، الحبيب بورقيبة (والذى لم يكن حينها قد أصبح رئيسا لتونس بعد). وآخرون وآخرون. ويأتى على رأس كل هؤلاء السيد جمال الدين الأفغانى الذى حمل أول مشعل نور فى مصر بعد أن كانت مصر تعيش فى ظلمات العهد العثمانى "اللى ضلم مصر وجاب ضرفها". وشهدت "متاتيا" أشهر خطبة سياسية وثورية لجمال الدين الأفغانى والتى قال فيها:
"إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنـزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط. وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والعلويين كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت. انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبه بالرشيد فلاح. عيشوا كباقي الامم احرارا .. أو موتوا شهداء مأجورين"
وهناك كانت شرارة نشأة أول تجمع سياسى فى مصر وسمى بـ "الوطنى الحر" على يد الأفغانى (ويصنف عند البعض كأول حزب سياسى أيضا قبل حزب مصطفى كامل 1907). وهناك فى تلك المقهى، وعلى أحد جدرانها، كانت توجد صورة كبيرة للأفغانى. وكانت الجدران الأخرى قد بالمرايات الكبيرة التى كانت إحدى معالم المقهى الشهيرة حينها.
سقوط متاتيا:
وبحلول عام 1960، وقد كان نظام آخر قد رفع قواعده فى مصر حينها، بدأت أول معالم التفريط فى تلك المقهى التاريخية بتقسيمها إلى محلات صغيرة، فتوقفت المقهى فعليا وبقى منها ذكرى صغيرة سميت بـ "مقهى وبار الخديوية" نسبة إلى دار الأوبرا الخديوية "التى تحولت إلى جراج كما أشرنا". ولكن مع هذا لم تكن إسم المقهى قد زال من ذاكرة المصريين "الضعيفة" بعد. فظل المصريون يشيرون إلى بار الخديوية بإسم "مقهى متاتيا" حتى عام 1999 الذى كان قد سبقه عام 1992 بهدم أدوار عمارة متاتيا الأثرية إثر التصدع من الزلزال فبقيت المقاهى والحانات الصغيرة ومنها المقهى. وفى عام 1999 وبامر من المحافظ "ويقال برشوة للمحليات الفاسدة" تم هدم كل شئ بما فيه ما بقى من متاتيا لصالح مشروع نفق الأزهر.
فكانت تلك نهاية أحد أشهر المقاهى فى مصر والتى كانت شاهدة على حروب عالمية وصولات وجولات سياسية ومعارك فكرية وأدبية وثورات وقامات، فإنتهت على يد نظام جاهل.
وأصبحت تلك المقهى شاهدة أيضا على المصريين وتفريطهم فى تراثهم التاريخى وإستحقت أن يطلق عليها: أثر بناه نظام واع ليقضى عليها نظام جاهل.
*********************
فى واشنطن العاصمة الأمريكية يوجد عدد من الحانات والكافيتيريات التى تصنف بـ "التاريخية"، بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر والبعض الآخر لم يتعدى عمره السبعين عاما. تلك الأماكن تعتبر من مناطق الجذب السياحى التى يأتيها الناس من ولايات مختلفة واضعون إياها على رأس قوائم الزيارات. ويصل تأثير تلك الحانات والكافيتيريات إلى حد أن الفنادق المحيطة بها "وهى ثلاثة نجوم فى الغالب أو أقل" أسعار الإقامة بها عالية جدا لمجرد أنها -أى تلك الفنادق- تتفاخر بالجوار إلى تلك الأماكن. ويصل الإزدحام بها، خصوصا فى العطلات الأسبوعية، إلى أنها تفرض رسوما لمجرد الدخول إليها وتكون شديدة الإزدحام لدرجة فوق الوصف. وهذا كله برغم أن كل علاقتها بالتاريخ لا يتعدى عدد سنوات وجودها، لا أكثر ولا أقل. ولكن درجة الإهتمام بها والتسويق لها جعلها مزارات سياحية فى المقام الاول ومدرارا لدخل لا نبالغ إن قلنا أن دخل الواحدة سنويا منها تتعدى دخل خمس مدن ليست بالقليلة فى مصر.
وهذا هو الفرق بين دولة كأمريكا تقدر تاريخها حتى لو لحانات عمرها خمسون عاما وتجعلها مزارات سياحية شهيرة وعلامات فى تاريخها، وبين دولة كمصر تلفظ شخصيتها وتراثها وتاريخها من اجل الفساد.
كان يوجد فى مصر مقهى تسمى بـ "قهوة متاتيا". تلك المقهى كانت بحق أحد أهم المقاهى المصرية إن لم تكن أهمها على الإطلاق. متاتيا تم بناؤها فى عهد الخديوى إسماعيل بعد أن أصدر أوامره بتحديث الأماكن المحيطة بميدان العتبة. وكانت تلك المقهى تجاور مبنى الأوبرا (الذى تحول إلى جراج الآن!!) والذى بنى أيضا كنتيجة لخطة التحديث التى أشرنا إليه فى عهد إسماعيل. وتأسست المقهى حوالى عام 1870 فى عمارة "متاتيا" المهندس الإيطالى الشهير حينها والذى أوكل له تحديث المنطقة.
"متاتيا" لم يكن ما يربطها بالتاريخ عام بناءها فقط، وإنما ما كان يجعل لها مكانة رفيعة هو علاقتها الوثيقة بالرياح المتعاقبة عليها من تغيرات إجتماعية وثقافية، والسياسية فوق هذه وتلك. وزاد من أهميتها التاريخية أن روادها لم يكونوا بالشخصيات العادية كالشيخ محمد عبده، سعد باشا زغلول، أول نقيب للمحاميين براهيم بك الهلباوي، الشاعر حافظ ابراهيم,، عبدالقادر المازني,، محمود عباس العقاد، الحبيب بورقيبة (والذى لم يكن حينها قد أصبح رئيسا لتونس بعد). وآخرون وآخرون. ويأتى على رأس كل هؤلاء السيد جمال الدين الأفغانى الذى حمل أول مشعل نور فى مصر بعد أن كانت مصر تعيش فى ظلمات العهد العثمانى "اللى ضلم مصر وجاب ضرفها". وشهدت "متاتيا" أشهر خطبة سياسية وثورية لجمال الدين الأفغانى والتى قال فيها:
"إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنـزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط. وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والعلويين كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت. انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبه بالرشيد فلاح. عيشوا كباقي الامم احرارا .. أو موتوا شهداء مأجورين"
وهناك كانت شرارة نشأة أول تجمع سياسى فى مصر وسمى بـ "الوطنى الحر" على يد الأفغانى (ويصنف عند البعض كأول حزب سياسى أيضا قبل حزب مصطفى كامل 1907). وهناك فى تلك المقهى، وعلى أحد جدرانها، كانت توجد صورة كبيرة للأفغانى. وكانت الجدران الأخرى قد بالمرايات الكبيرة التى كانت إحدى معالم المقهى الشهيرة حينها.
سقوط متاتيا:
وبحلول عام 1960، وقد كان نظام آخر قد رفع قواعده فى مصر حينها، بدأت أول معالم التفريط فى تلك المقهى التاريخية بتقسيمها إلى محلات صغيرة، فتوقفت المقهى فعليا وبقى منها ذكرى صغيرة سميت بـ "مقهى وبار الخديوية" نسبة إلى دار الأوبرا الخديوية "التى تحولت إلى جراج كما أشرنا". ولكن مع هذا لم تكن إسم المقهى قد زال من ذاكرة المصريين "الضعيفة" بعد. فظل المصريون يشيرون إلى بار الخديوية بإسم "مقهى متاتيا" حتى عام 1999 الذى كان قد سبقه عام 1992 بهدم أدوار عمارة متاتيا الأثرية إثر التصدع من الزلزال فبقيت المقاهى والحانات الصغيرة ومنها المقهى. وفى عام 1999 وبامر من المحافظ "ويقال برشوة للمحليات الفاسدة" تم هدم كل شئ بما فيه ما بقى من متاتيا لصالح مشروع نفق الأزهر.
فكانت تلك نهاية أحد أشهر المقاهى فى مصر والتى كانت شاهدة على حروب عالمية وصولات وجولات سياسية ومعارك فكرية وأدبية وثورات وقامات، فإنتهت على يد نظام جاهل.
وأصبحت تلك المقهى شاهدة أيضا على المصريين وتفريطهم فى تراثهم التاريخى وإستحقت أن يطلق عليها: أثر بناه نظام واع ليقضى عليها نظام جاهل.
*********************
فى واشنطن العاصمة الأمريكية يوجد عدد من الحانات والكافيتيريات التى تصنف بـ "التاريخية"، بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر والبعض الآخر لم يتعدى عمره السبعين عاما. تلك الأماكن تعتبر من مناطق الجذب السياحى التى يأتيها الناس من ولايات مختلفة واضعون إياها على رأس قوائم الزيارات. ويصل تأثير تلك الحانات والكافيتيريات إلى حد أن الفنادق المحيطة بها "وهى ثلاثة نجوم فى الغالب أو أقل" أسعار الإقامة بها عالية جدا لمجرد أنها -أى تلك الفنادق- تتفاخر بالجوار إلى تلك الأماكن. ويصل الإزدحام بها، خصوصا فى العطلات الأسبوعية، إلى أنها تفرض رسوما لمجرد الدخول إليها وتكون شديدة الإزدحام لدرجة فوق الوصف. وهذا كله برغم أن كل علاقتها بالتاريخ لا يتعدى عدد سنوات وجودها، لا أكثر ولا أقل. ولكن درجة الإهتمام بها والتسويق لها جعلها مزارات سياحية فى المقام الاول ومدرارا لدخل لا نبالغ إن قلنا أن دخل الواحدة سنويا منها تتعدى دخل خمس مدن ليست بالقليلة فى مصر.
وهذا هو الفرق بين دولة كأمريكا تقدر تاريخها حتى لو لحانات عمرها خمسون عاما وتجعلها مزارات سياحية شهيرة وعلامات فى تاريخها، وبين دولة كمصر تلفظ شخصيتها وتراثها وتاريخها من اجل الفساد.