كتاب الحج ب 4 ف 2 : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين وليسوا من أهل اليمين

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٩ - مارس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الرابع : إنتهاك المسلمين للبيت الحرام والشهر الحرام

الفصل الثانى  : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين وليسوا من أهل اليمين      

أولا : نوعيات الصحابة بين القرآن والتاريخ 

1 ـ قبيل موت النبى عليه السلام أنزل الله جل وعلا فى سورة التوبة عرضا لدرجات الصحابة من حيث الايمان والعمل ؛ منهم السابقون فى العمل والايمان من المهاجرين والانصار ، ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، ومنهم من أرجأ الله جل وعلا الحكم عليهم إنتظارا لتوبتهم فإما يعذبهم إن ماتوا على عصيانهم دون توبة مقبولة وإما أن يتوب عليهم إن تابوا توبة نصوحا ، ومنهم المنافقون ، وهم نوعان ؛ منهم من فضحهم نفاقهم ، ومنهم من مرد على النفاق وكتم عواطفه ، وقد توعدهم رب العزة بالعذاب مرتين فى الدنيا ، علاوة على عذاب عظيم ينتظرهم يوم القيامة. وبدأت السورة بالبراءة من كافرى قريش الذين نقضوا العهد وهموا بإخراج الرسول من مكة ، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر تبدأ بافتتاح موسم الحج والأشهر الحرام ، ثم حث للمؤمنين على القتال الدفاعى واتهام لبعضهم بالتحالف مع ذويهم من قريش المعتدين.

2 ـ رب العزة تكلم عن صفات للصحابة دون ذكر لشخصياتهم بالاسم. وهذا عكس التاريخ الذى يحدد الأسماء والزمان والمكان . رءوس الصحابة فى التاريخ هم الخلفاء الراشدون وغيرهم ممّن نطلق عليهم ( صحابة الفتوحات ) .

3 ـ ونحتكم للقرآن الكريم فيما قام به صحابة الفتوحات طبقا لتاريخهم المسجل فى أوثق المصادر السّنية . وهذا فى محاولة لفهم هذا الانقلاب السريع المفاجىء الذى وقع فيه صحابة الفتوحات بعد موت النبى محمد عليه السلام ، وكان من مظاهره انتهاك الأشهر الحرم بأبشع مما عرفه العرب فى الجاهلية فى النسىء الذى كان زيادة فى الكفر . هذه الفتوحات اقامت امبراطوريات قرشية، وجعلت قريش أشهر  قبيلة فى التاريخ العالمى، ومع ذلك فهى أكبر ردّة عن الاسلام ، وبها أدخل صحابة الفتوحات  المسلمين فى نفق شيطانى لم يخرجوا منه حتى الآن ، إذ تأسست بالفتوحات أديان أرضية للمسلمين قامت بتشريع شيطانى ، بتقديس البشر والحجر وانتهاك الشهر الحرام والبيت الحرام . ولهذا ظل صحابة الفتوحات محل تقديس فى تلك الأديان الأرضية ، بدليل رعب القارىء عندما يقرأ هذه السطور ، إذ تجذّر فى القلوب رهبة وقداسة لأولئك الصحابة حتى أصبح نقدهم كفرا. ونبدأ فى التعرف على موقع صحابة الفتوحات بين نوعيات الصحابة المذكورين فى القرآن الكريم .

ثانيا : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار : 

1 ـ يقول جل وعلا :( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة). السبق هنا لا يعنى السبق زمنيا فى دخول الاسلام ، بدليل ذكر الأنصار وهم قد تأخر اسلامهم بعد المهاجرين ، وبدليل قوله جل وعلا (  وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ).

إنّه سبق فى الايمان والعمل الصالح تفوق به أولئك الصحابة المتّقون على غيرهم ، وحافظوا على هذا التميز بالايمان والعمل الصالح حتى مماتهم فلم يرتكبوا كفرا سلوكيا ولا كفرا عقيديا ، ولم يقعوا فى  كبيرة من الكبائر ، بل ماتوا متقين ، ينطبق عليهم قوله جل وعلا ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ( الذاريات ).

2 ـ هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من البشر سيكونون يوم القيامة ضمن فئة السابقين المقربين من عموم البشر . إذ سينقسم البشر حسب الايمان والعمل يوم القيامة الى ثلاثة أنواع : السابقون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وهذا ما جاء فى سورة الواقعة : (وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ ). العبرة هنا بأن يموت الفرد وقد أمضى حياته سابقا فى الايمان وفى العمل الصالح ، بحيث تبشره ملائكة الموت عند الاحتضار بروح وريحان وجنة نعيم ، يقول جل وعلا فى خاتمة سورة الواقعة ( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) الواقعة ) .

 3 ـ نفس التقسيم الثلاثى للصحابة ( سابقون مقتصدون ، ظالمون )هو للمؤمنين الذين ورثوا القرآن الكريم  ، يقول جل وعلا : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)( فاطر ). وبالتالى سيكون من الأجيال التالية  سابقون بالخيرات، وقد وصف رب العزة النعيم الذى ينتظرهم فقال فى الآية التالية:( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) فاطر ).  ثم قال جل وعلا عن الظالمين الذين يسيرون على سنّة صحابة الفتوحات:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) فاطر ) جاءهم القرآن نذيرا ، وعاشوا عُمرا فلم يستغلوه فى التذكر والهداية ..!!

4 ـ يستحيل قرآنيا أن يكون أولئك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من ( الملأ ) ، ممّن يريد الدنيا وحطامها بحيث يستهلك حياته طلبا للعلوّ فى الأرض مستخدما السياسة وفسادها لكى يكون قائدا أو حاكما ، هذا الصنف لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ولا مكان له فى الجنة ، يقول جل وعلا :( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ).

5 ـ هناك عظماء بمقياس التاريخ ، فالتاريخ يسعى بين يدى الحكام والقادة والزعماء يسجّل أعمالهم وفتوحاتهم ، ناسيا ضحايا تلك الفتوحات من ملايين الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال . يسجّل التاريخ فتوحات الاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وجنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونابليون وهتلر وستالين .الخ .. ولكنه يتناسى ضحاياهم من ملايين البشر الذين داستهم سنابك الخيل ، والذين وقعوا فى الأسر والاسترقاق . هذه العظمة التاريخية مكانها القرآنى فى الجحيم ، ولا تتفق مع عدل الاسلام وقيمه فى الرحمة والسلام ، إذ كيف يجوز فى ميزان العظمة الحقيقية القرآنية أن يكون من حق فرد من البشر أن يقيم صرح عظمته فوق أهرامات من جماجم آلاف البشر.؟!! ثم تكون الفاجعة حين يقيم  بعضهم مئات الأهرامات من جماجم البشر الأبرياء باسم الله جل وعلا ورسوله الكريم الذى بعثه الله جل وعلا رحمة للعالمين ولليس لظلم وقتل العالمين .

6 ـ يستحيل أن يسعى التاريخ لتسجيل هذه النوعية ( المغمورة ) من الصحابة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، فالتاريخ متخصص فى التأريخ للمشاهير من أصحاب السوابق الاجرامية ؛أهل الاستبداد  الساعين الى العلو فى الأرض والفساد . وفى عصرنا قد يوجد مسلمون مؤمنون يتبعون طريق السابقين من المهاجرين والأنصار ، لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا ، ولكن  لا يأبه بهم الاعلام ثم التاريخ ، كلاهما (الاعلام ثم التاريخ ) يسعى خلف المشاهير من الحكّام وشيوخ الضلال ونجمات ونجوم السينما والرياضة واللهو واللعب والحرامية من أصحاب البلايين . ومثلا ، حين كان محمد مرسى العيّاط طالبا بسيطا مجتهدا فى قريته وفى أفضل حالاته ، لم يهتم به أحد ، فلما صار فى أسوأ حالاته رئيس مصر باسم الاخوان وبانتهاك إسم الاسلام أصبح الآن نجما فى الاعلام، وهنيئا له بدخول التاريخ .!!

7 ـ لا يهتم الاعلام أو التاريخ بالفرد العادى إلّا إذا ارتكب جريمة أو وقع ضحية لجريمة ، فتذكره صفحة الحوادث أو الجرائم ، عندها فقط قد يضطر الاعلام ـ ثم التاريخ ـ لأن يلتفت اليه . تخيّل فردا مؤمنا مسالما يتقى الله جل وعلا ويعمل صالحا إبتغاء مرضاته دون رياء أو سعى الى شهرة هل يمكن ان يكون له مكان فى ( سيرك ) الاعلام ؟ هذا هو وضع من يتقى الله جل وعلا الى لحظة الاحتضار . ينشغل بعمله الصالح وخشية ربه الى أن يلقى الموت ، ولا يأبه بمواكب الدنيا ومهرجاناتها ، وهكذا كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، كانوا مغمورين وجنودا للحق مجهولين ، لا يأبهون بمراءاة الخلق لأنهم مخلصون لله جل وعلا ( الحق ّ) ، وهذا يكون من يتبعهم بإحسان الى يوم الدين .

8 ـ وقد أسرف صحابة الفتوحات فى جرائم القتل والسلب والسبى والظلم لمئات الآلاف من الأبرياء وباسم الاسلام مخالفة لشرع الله جل وعلا فلا يمكن أن يتمتعوا يوم القيامة برضى الله جل وعلا عنهم وبالخلود فى الجنة كالسابقين من المهاجرين والأنصار الذين قال عنهم رب العزّة :( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة)، فالله جل وعلا لا يحبّ المعتدين:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ) وصحابة الفتوحات معتدون ظالمون ، والذى لا يحبه الله لا يمكن أن يرضى عنه الله .!!

ثالثا : صحابة الفتوحاتليسوا من أصحاب اليمين :

1 ـ أصحاب اليمين هم المقتصدون أو المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم تابوا توبة مقبولة عند الله جلّ وعلا . وقد وصف رب العزة طائفة من الصحابة بهذا، فقال جل وعلا :( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) التوبة). قال الله جل وعلا (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِم )، فلم ينزل التأكيد لهم بالغفران لأنه حين وصفهم جل وعلا بهذا الوصف كانوا أحياء يسعون فى الأرض ، أى كانت لديهم فرصة للتوبة والتطهّر من الذنوب لو أرادوا . لذا جاءت الآية التالية تدعوهم للتطهر بأن يقدموا الصدقات : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) التوبة ) ، وبالتالى فعسى أن يغفر الله جل وعلا ذنوبهم إذا تابوا وحافظوا على التوبة الى الرمق الأخير من الحياة . ولو فعلوا ستلقى عليهم ملائكة الموت السلام عند الاحتضار ، فقد أصبحوا من أهل اليمين:( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) الواقعة). ويوم القيامة سيكون كل أصحاب اليمين فى الدرجة الثانية من الجنة : (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ (40) الواقعة ) .

2 ـ وطبقا لما جاء فى تاريخ صحابة الفتوحات من جرائم قتل وسلب وسبى وظلم لمئات الآلاف من الأبرياء وباسم الاسلام مخالفة لشرع الله جل وعلا فلا يمكن أن يكون صحابة الفتوحات ضمن أصحاب اليمين ، لافتقاد شرط التوبة ، فأولئك الصحابة ظلوا فى غيّهم وظلمهم عاشوا به وماتوا به .

رابعا : فضل ألسابقين على أصحاب اليمين

1 ـ (السابقون) أعلا درجة من أصحاب درجة من ( أصحاب اليمين ) . يقول جل وعلا عن أولى الألباب الذين يتفكرون فى خلق السماوات والأرض ويدعون ربهم أن ينجيهم من النار : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) آل عمران ). وتأتى الإجابة من الله جل وعلا بأنه لا يضيع عمل صالحا ، ولكن فى قمة أصحاب الأعمال الصالحة يأتى أولئك الذين وهبوا حياتهم فى سبيل الله جل وعلا تمسكا بالحق ، فتعرضوا للأذى والاضطهاد ، واضطروا للهجرة ، ثم للقتال الدفاعى ، ثم قُتلوا فى سبيل الله جل وعلا : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) آل عمران ).

2 ـ ولأن التبرع بالمال او الجهاد بالمال وسيلة فى الجهاد الاسلامى فإنه لا يستوى الصحابة المؤمنون جميعا فى هذا ، منهم من له سابقة واستمرارية فى الجهاد بالمال والنفس ومنهم من جاء متأخرا ، ولا يستوى هذا وذاك ، مع استحقاق الفريقين للجنة ، ولكنه الفارق بين السابقين وأصحاب اليمين فى الجنة ، يقول جل وعلا: ( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد ) ، ثم بعدها فى الحث على التبرع فى سبيل الله جل وعلا يقول جل وعلا بعدها (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) ( الحديد ).أى يجعل التبرع بالمال فى سبيل الجهاد إقراضا لله جل وعلا ، ويتعهّد رب العزة بمضاعفة الجزاء ، وهى صياغة مؤثرة.!!.

3 ـ ومن الناحية الواقعية أيضا فإن الله جل وعلا أكّد للصحابة فى المدينة بأنه لا يستوى المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله مع القاعدين أصحاب الأعذار من المؤمنين ، مع إن مصير الفريقين الجنة ، ولكنه الفارق بين السابقين وأصحاب اليمين ، يقول جل وعلا:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)( النساء )

خامسا :الصحابة السابقون واصحاب اليمين كانوا مغمورين وليسوا من سادة القوم كصحابة الفتوحات

1 ـ ثقافتنا الذكورية تجعلنا نتخيل السابقين الأولين من الصحابة ذكورا فقط . وننسى أن رب العزة قد ذكر   صفاتهم ذكورا وإناثا فقال جل وعلا :(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) الاحزاب ). ونتساءل : هل يصلح للسياسة وطلب ( العلوّ) فى الأرض من يتّصف بالايمان والقنوت والصدق والتصدق والصوم والعفة والذى لا يفتر لسانه عن ذكر الله جل وعلا ؟  وهل بهذه الصفات يستطيع خداع الجماهير ، وقيادتهم الى حروب دينية تقتل وتنهب وتسترق وتسبى ؟

2 ـ أوّل ملامح السابقين فى الميزان القرآنى هو الجهاد بالمال وبالنفس فى سبيل الله جل وعلا وإبتغاء مرضاة الله جل وعلا ، وليس لهدف دنيوى بالسلب والنهب والطغيان . فى معركة ( أُحُد ) حين إنهزم المسلمون بسبب الغنائم قال جل وعلا فى معرض نقدهم ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ  (152) آل عمران ) أى كان المؤمنون فى هذه المعركة نوعين ، أحدهما من السابقين يريد الآخرة ، والآخر من غيرهم يريد الدنيا وقاتل فى سبيلها .

3 ـ وعموما فالقتال هنا إما أن يكون دفاعيا وفى سبيل الله جل وعلا ، وإمّا أن يكون فى سبيل الدنيا إعتدءا وظلما فهذا يكون فى سبيل الشيطان ، ولا توسط هنا ، إما قتال دفاعى فى سبيل الله ضد معتد ظالم ، وإما قتال فى سبيل الشيطان بالاعتداء على من لم يقم بالاعتداء . يقول جل وعلا : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) النساء). هؤلاء المقاتلون فى سبيل الله باعوا الدنيا واشتروا بها الجنة فى الآخرة . والآية التالية تتحدث عن سبب لجوئهم للقتال الدفاعى لمواجهة القرية الظالمة المتعدية :( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) النساء ) لذا فلا توسط هنا فى موضوع القتال ، إما قتال فى سبيل الله طلبا للحق والعدل وحرية الدين ، وإما قتال البغى والعدوان فى سبيل الشيطان،يقول جل وعلا فى الآية التالية:(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) ( النساء ).ومن هنا نحكم على جهاد صحابة الفتوحات ومن سار على سنّتهم حتى عصرنا الراهن من السلفيين بأنه جهاد فى سبيل السلطة والثروة والتحكم والطغيان ، أى جهاد فى سبيل الشيطان ، بدأ به صحابة الفتوحات وصاروا به أئمة الطغيان لمن أتى بعدهم .

4 ـ  وبرغم ما كتبه المؤرخون فى ظل الامبراطوريات القرشية العربية، فقد كانت كل حروب النبى عليه السلام دفاعية ، ومن يقول غير هذا فهو كافر بالقرآن وعدو للنبى محمد عليه السلام ، لأنه عليه السلام لو حارب معتديا لكان عدوا لله رب العالمين ، فالله جل وعلا يقول :(  وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ). ولو حارب معتديا لنزل الوحى يتبرأ منه . كانت حروبه عليه السلام دفاعية فقط ، بذل فيها جهده وماله ومعه جنود مؤمنون مغمورون ولكن كانوا سابقون بالايمان والعمل الصالح . لم يسع أحدهم أن يكون قائدا أو زعيما بل رضوا بالجهاد خلف النبى بالمال والنفس وبقدر المستطاع .

5 ـ ونؤكّد على دور المال الذى يحتلّ موقعا فارقا فى موضوع القتال . يكون التطوع بالمال وسيلة هامة فى دعم القتال فى سبيل الله دفاعا عن الوطن وسكانه المسالمين وحريتهم ضد عدو يهاجمهم معتديا ، لذا يأتى النسق القرآن يأمر بالجهاد بالمال مقدما على النفس : ( وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (41) التوبة )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)( الصف )،  فالتبرع بالمال وسيلة فى الجهاد فى سبيل الله ، سواء كان هذا الجهاد دعوة سلمية ، أو قتالا دفاعيا . أما فى القتال الهجومى المعتدى فى سبيل الشيطان فالمال هو الغاية ، فأولياء الشيطان يقاتلون شعوبا لم تعتد عليهم للسيطرة على مواردها وأموالها ، كما حدث من صحابة الفتوحات ومن سبقهم ومن جاء بعدهم من المستعمرين والمستبدين.

6 ـ ونعيد التأكيد أيضا على أنّ الفيصل فى الجهاد للسابقين عملا وإيمانا هو أن يكون فى سبيل الله عهدا قلبيا بين المجاهد وربه جل وعلا . وفى موقعة الأحزاب التى حوصر فيها المسلمون فى المدينة برز دور الجنود المؤمنين المخلصين الذين عاهدوا الله جل وعلا بقلوبهم على الفداء فى سبيله جل وعلا بينما ارتعب المنافقون وتقهقروا ، يقول الله جل وعلا يصف هذه الحالة الواقعية :( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) الأحزاب ) لم يكونوا ( كل المؤمنين ) بل ( من المؤمنين ) أى بعضهم من الذين عاهدوا الله جل وعلا وصدقوا فى عهدهم ، منهم من قضى نحبه ومنهم من كان لا يزال حيا ، ولكنهم جميعا تمسكوا بالتقوى والسبق فى الايمان والاحسان حتى الموت ، وما بدلوا تبديلا . هؤلاء نقول : رضى الله عنهم.!.  كان هذا فى غزوة الأحزاب .

7 ـ وقد ظلّ هذا ساريا بين أولئك المؤمنين المجاهدين حتى وقت نزول سورة التوبة ، وهى من أواخر ما نزل ، يقول جل وعلا عن نفس العهد من أولئك السابقين من المجاهدين الذين بايعوا ربهم جل وعلا على التضحية بأنفسهم واموالهم فى سبيل الدفاع عن الحق : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )، ثم يأتى وصفهم فى الآية التالية بأروع الصفات:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (112) ( التوبة ). جاهد أولئك الجنود المغمورون مع خاتم المرسلين يبتغون مرضاة الله جل وعلا بقلوبهم، فقال عنهم رب العزّة فى تعريض بمن تقاعد عن الجهاد :( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)التوبة ) .  

8 ـ واصحاب الأعذار المؤمنون يمكنهم تعويض عجزهم وقعودهم عن القتال بأن يبذلوا النُصح المخلص : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) التوبة ). ليس عليهم حرج . والآية واضحة فى أن الحديث هنا ليس عن المشاهير من الصحابة الذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات) بل عن الفقراء الضعفاء والمُعاقين .

9 ـ كما إنه ليس هناك حرج على الفقراء المؤمنين المخلصين الذين لا يجدون ما ينفقون وجاءوا للنبى للجهاد أملا أن يعطيهم خيلا أو ناقة يستعينون بها على القتال ، فاعتذر لهم النبى ، فرجعوا تفيض أعينهم من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما يستعينون به على الجهاد فى سبيل الله :( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) التوبة ). الحديث هنا ليس عن الكبار والمشاهير من الصحابة ، والذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات) ولكن عن جنود مغمورين مؤمنين فقراء مخلصين ممّن نطلق عليهم ( العوام ) وآحاد الناس.

10 ـ وهذا يسرى حتى على الأعراب ، فأغلبية الأعراب فى عهد النبوة كانوا الأشد كفرا ونفاقا (التوبة 97 : 98 ) ، ولكنّ منهم أقلية من السابقين وأصحاب اليمين ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة 99 ). وحين تكون الأغلبية من الأعراب أشد الناس كفرا ونفاقا ووجود أقلية بينهم سابقة فى الايمان والعمل فالمنتظر أن تكون هذه الأقلية من ( عوام الأعراب ) وفقرائهم.

11ـ وفى الوقت الذى كان فيه المنافقون يبخلون عن الانفاق فى سبيل الله كان فقراء المدينة المؤمنين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وفى أول ما نزل من القرآن فى المدينة مدحهم رب العزّة بمحبة الفقراء المهاجرين وإستضافتهم ، يقول جل وعلا يصف ( عوام ) أو فقراء المهاجرين وقتئذ : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) الحشر ) ، ثم يقول عن فقراء الأنصار وكرمهم الزائد عن الحدّ : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر ) . أيضا الكلام هنا عن عوام المؤمنين وفقرائهم فى ذلك الوقت من المهاجرين والأنصار، وليس عن الكبار والمشاهير من الصحابة ، والذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات).

12 ـ الطريف أنه فى أواخر ما نزل من القرآن ، وفى سورة التوبة كان أولئك المؤمنون الفقراء يتبرعون للجهاد مع وجود خصاصة وفقر لديهم ، يتبرعون بما يملكون ، فيسخر منهم الأغنياء المنافقون : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) التوبة ). وتوعد رب العزة أولئك المنافقين الساخرين بألّا يغفر لهم مهما إستغفر لهم النبى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)التوبة ).أولئك المنافقون الساخرون كانوا من ( الملأ ) والمشاهير والقادة وأثرى أهل المدينة ، والحديث هنا عن الفقراء المؤمنين الذين يسخر بهم الذين أجرموا . هؤلاء الفقراء الؤمنون الصالحون لا يأبه بهم التاريخ ، ولكن ذكرهم القرآن الكريم . ويكفيهم فخرا وشرفا أن ينالوا رضا الله جل وعلا فى جنة نعيم : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة).

أخيرا

1 ـ تناقض هائل بين المغمورين من الصحابة السابقين وأصحاب اليمين من المهاجرين والأنصار وبين المشهورين من صحابة الفتوحات ، هو نفس التناقض بين القمة والحضيض. هو نفس التناقض بين سمو الخلق للمؤمنين كما جاء فى القرآن والعظمة المزورة التى يمنحها التاريخ للطغاة والمستبدين وسفاكى دماء الشعوب .

2 ـ ولكن طالما لا يوجد مكان لصحابة الفتوحات بين السابقين وأصحاب اليمين ، فلا يتبقى لهم سوى حضيض أصحاب الشمال ، وهذا ما نفهمه من القرآن .. إنتظرونا .

اجمالي القراءات 14156