منذ أن كنت في جماعة الإخوان كنا نسمع دعاوى المجتمع الإسلامي الفاضل، وأن هذا المجتمع هو لُباب النهضة والحضارة، فكان الإخوان يسعون إلى إفهامنا بأن هذا المجتمع هو ضرورة تفرضها تحديات الواقع، وأن عليهم تحقيقه مهما كان الثمن، فعُقِدت اللقاءات والندوات-الداخلية-وتمت طباعة الكتب والرسائل التي تناقش هذه المسألة وتُعطي للعقل فُسحة بأن يتخيل هذا المجتمع الفاضل، فكان لذلك العمل أثراً تكوينياً على وعينا بأن اعتقدنا أن المخالف يرفض هذه الصورة التي ابتنيناها في أذهاننا!..وأن من واجبنا نحوه أن ندعوه إما بكسب عاطفته وإما بكسب عقله، فهو في كل الحالات مُقصّر في تحقيق هذا المجتمع، سواء كان تقصيره عن جهل أو عن علم ..هو في المحصلة لا يصلح لقيادة المركبة، وأن الضرورة لا تسمح إلا بارتقائنا-نحن الإخوان-سُلّم المسئولية.
كنا حينها لا ننتبه لأمر خطير لم يشغل بالنا ولو للحظة، وهو أن بناء هذا المجتمع الفاضل يتطلب أولاً قيادة راشدة وفاضلة تقوم على إبراز تلك الفضيلة في أذهان وقلوب الناس، فالمجتمع هو مرآة السُلطة والعكس، أو كما قيل في وعي المسلمين.."أيما تكونوا يُولّ عليكم"..ويعني أن المجتمع الإسلامي الفاضل لن يتحقق -ولن يكون فاعلاً- إلا بفضيلة من يقومون على أمره..والفضيلة ليست فقط هي الأخلاق إنما تكون بسد الذرائع والثقوب في النفس الإنسانية والتي تسمح بمرور الشك، أعني بذلك أن الإخوان هي جماعة ذات طبيعة سرية، ولكن العمل السري يقضي على الشفافية والوضوح، والإنسان لا يرى الحق في أغوار الكلام إلا حين يكون عالماً مُطلعاً.. فالأغلبية العُظمى لا يرون الحق في أي سلوكيات مدفونة وغائبة عن أعين وأفهام الناس، لأنهم بحاجة دائمة لإبراز العمل لهم كما هو، وأن التفسيرات المصاحبة للعمل ضرورية للفهم، ولكن من أين ستأتي هذه التفسيرات والعمل نفسه غامض ويجري الكتمان على كثيرٍ من جُزئياته؟!
إذن هناك خلل في جماعة الإخوان يتحقق وينمو بدوام طبيعتها السرية، فالقائد يكتم أكثر مما يُبدي لجنوده، وفي كثيرٍ من الأحيان يضطر هذا القائد للكذب أو للتقليد أو للتقديس إذا ما رأى أن مصلحة الجماعة"المؤمنة"تقتضي ذلك..هذا لأن من أكثر العلوم الفقهية الشرعية التي يعمل بها القادة هو..فقه "الأولويات والموازنات"..والذي يتم تدريسه للمراحل المتقدمة في الجماعة ولكن بمعزلٍ عن الأخلاق، رغم أن الأخلاق هي أداتهم المُعلنة بالدعاية بين البُسطاء وفي أواسط المثقفين، ولكن فهم الأولويات يخرج بهذه الصورة لديهم كونهم ضِعاف الفكر فيُقدمون على فهم الأولويات بأفهام السابقين، فلا توجد لديهم القُدرة على التجديد أو توجيه النصوص لفهم الواقع، ومن هذا المُنطلق تخرج أفعالهم السلبية والمُنكرة للكافة فيراها الناس فيُنكروها، بينما هم في غفلةٍ عن هذا..كونهم يرون أن هذه السلوكيات هي سلوكيات وأفهام السلف والخلف..وهي سلوكيات معصومة في طبيعتها ولا يجوز مناقشتها ..
هذا لأن الوعي الجمعي للإخوان لا يزال متأثراً بخديعة القرون المُفضّلة، فهم يعتقدون أن عصور السلف هي أفضل عند الله من عصرنا هذا، وأن السابقين هم أفضل عند الله من اللاحقين..وهذه خُدعة كبيرة أنتجتها أنظمة الفكر السلفية التقليدية وحشوها بأحاديث باطلة جعلت مُجرمي وظالمي هذه العصور السابقة هم أفضل عند الله من المُحسنين والعاقلين في العصور اللاحقة، وتناسوا أن لكل عصرٍ عُقلاء وحمقى..ظالمين وعادلين..علماء وجُهال..والأخيرة هي فكرة طافحة في القرآن الكريم لم يُفرّق الله فيها بين الناس بمجرد الزمان ولا المكان..فيشرعون على ترجمة مفهوم السلف على أنفسهم كونهم من يحملون أفكاره وبالتالي يكونوا هم أنفسهم أصحاب الحق ومن لهم الأفضلية عند الله.
النظام الكهنوتي يبدأ من اعتقاد الحق في الذات والباطل في الآخر..هكذا دون مناقشة أو احتكاك أو تجربة، وهو ليس قاصراً على الأنظمة الثيوقراطية التي تجعل من العقائد الدينية عملية سياسية، بل يمتد ليشمل تلك الأنظمة الدونية سواء العِرقية أو الأيدلوجية الحزبية، فأي اعتقاد بامتلاك الحقائق وجعلها مُطلقة يجعل من النظام الإداري مُقدساً، وبالتالي لا يجوز نقده أو أيٍ من سلوكياته، لذلك أنا أتفهم ضيق الإخوان -والزُمرة الحاكمة في مصر- من أي نقد يُوجه إليهم، ويعملون على شخصنة الأمور بحصار الناقد أو من يعمل على إظهار السلبيات أو الأخطاء أو الجرائم التي بُنيَ عليها النقد، والأخيرة هي سر هجومهم الدائم على الإعلام، ووصمهم له .."بسَحرة فرعون"..رغم أن وظيفة الإعلام الأولى هي نقل الحقائق والأحداث وإظهار الواقع كما هو، ومن هنا سُميَ إعلاما، ولكن بما أن الإخوان يريدون العمل دون ضجيج فيعتقدون بأن المعارضة والنقد هو في ذاته ضجيج.. يُعيقهم عن استكمال أدوارهم ومشاريعهم .
ومع ذلك فتبقى الإشكالية الأكبر التي يواجهها الإخوان وتيارات الإسلام السياسي كافة، وهي أنهم مُطالَبون ببناء مجتمع جديد يقوم على أسس أخلاقية، ومع هذا المطلب فهم لا ينتبهون إلى أن المجتمع الجديد قد لا يكون أخلاقياً، أو أن يكون مجتمعاً أخلاقياً ولكنه ليس مجتمعاً جديدا...وتحصيل هذا المطلب لديهم يكفي باتباع أفهام السابقين الذين يعتقدون أنهم الأفضل، ولكن كيف تكون أفهام السابقين كافية لبناء المجتمع الجديد؟..هذا لديهم مبررات له، ولكن هي مبررات غير واقعية تتصور المجتمع -وأفهام السابقين- بصورة طوباوية مثالية منزوعة عن أي مؤثرات عصرية كالحداثة والإعلام والاتصالات..وبالتالي لم يعد أمامهم سوى المجتمع الأخلاقي..وهنا أيضاً توجد لديهم مُشكلة ، وهي أنهم يربطون بين صلاح الإنسان وبين معرفته، فيعتقدون بأن الإنسان الصالح-لديهم-هو بالضرورة من العلماء يجب الاحتكام لرأيه، وهذا الاعتقاد غير صحيح، فالمعرفة قد تكمن في أنفس الطالحين، وقد يكون الإنسانُ صالحاً ولكنه جاهل..هذا إذا سلمنا بصحة تعريفهم وإيمانهم بالمعرفة فالكثير من تيارات الإسلام السياسي لا يزال في عداء مُعلن ومُبطن مع بعض أنواع المعارف والعلوم.
في الأخير أعتقد بأن الأزمة في مصر هي الاعتقاد بعلو النموذج، بمعنى أن هناك من يرفع نماذج فكرية وسياسية عِدة كالعلمانية أو الشيوعية أو الليبرالية أو الاشتراكية أو الرأسمالية أو القومية، كل هذه النماذج صارعت بعضها البعض سواء في ميادين الفكر أو في ميادين السياسة والتجارب..والإنسان المتدين بعقله لا يفهم طبيعة هذه الصراعات، لأن تدينه عنى به في المقام الأول صراع الحق والباطل بين الأديان، ذلك كون الأديان لديه هي المُنظمة لحياة البشر، وأن العمل على تحقيق مكنوناتها وضروراتها يعني تحقيق المجتمع الفاضل..وبالتالي نشأ لدى المتدينين نموذج مختلف يطالب بالعودة للدين في مقابل هذه النماذج المتصارعة السابقة..ساعد على ذلك فصاحة وبلاغة القوم الداعين إلى هذه العودة "المقدسة"...ولكن مع تدنى كفاءة تيارات الإسلام السياسي في مصر وفشلهم في التواصل مع واجهات العمل المجتمعي والنقابي والسياسي، تسبب ذلك في انهيار الدولة عبر انهيار القانون التنظيمي وعدم احترامه، فشاعت في مصر ظواهر حدود الحِرابة على المجرمين واللصوص وما يتبعها من انفلات أمني، وأزمات متعددة كحصار المحاكم والتعدي على الشُرطة وغيرها من الأزمات التي هي في ذاتها مُرشحة للنمو والتطوير أو أن نُفاجأ بغيرها كالعادة.