عبثاً يطالب نظام الإخوان في مصر بأن ترفع المعارضة ممثلة في "جبهة الإنقاذ" الغطاء السياسي عن أعمال العنف، فالغطاء السياسي لهذه الأعمال المدانة من كل ذي عقل هو ما يقوم النظام بتوفيره عبر ارتكابه لجرائمه السياسية والقانونية والدستورية، وذلك بامتداد مسيرته لتحقيق هدفه في التمكين وسحق مؤسسات الدولة المصرية، وعلى النظام إذن أن يكف عن صب الوقود على نيران العنف العبثي الذي يختلط بالغضب الشعبي من الفشل الإخواني وبغضبة الثوار على ثورتهم المختطفة، وليكف سادتنا الجدد الخارجون حديثاً من السجون عن ارتكاب الجرائم في حق الدولة المصرية، حتى يكف الحرافيش والصبية عن عبثهم غير المسؤول، وليكفوا أيضاً عن التعامل مع مصر وكأنها جارية تم سبيها أثناء غزوتهم لنظام مبارك، وبالتالي فعرضها وجسدها ملك خالص لهم يفعلون بها ما يشاءون.
في المقابل فليحذر الثوار الذين يعتبر بعضهم وزارة الداخلية عدواً لهم وأداة في يد النظام من انهيار الداخلية، فهذا لو حدث سيصب ليس في صالح مصر المدنية، ولكن في مصلحة الثعالب والذئاب وطيور الظلام، الذين يتمنون بالطبع السيطرة على البلاد وهمود كل مظاهر الحراك الشعبي، ومع ذلك هم المستفيدين من انهيار مؤسسات الدولة السيادية، فعندها سوف يوظفون ميليشياتهم وكوادرهم المستشرية كالسرطان في كل مرافق الدولة، علينا جميعاً إذن أن نحافظ على سلامة الجيش المصري وقوات الشرطة والقضاء، فهي الأعمدة الثلاثة التي إذا انهار أحدها تصدعت الدولة المصرية وسقطت بين فكي رسل الظلام والجهالة.
كم كنت أتمنى أن أدعو في هذه الظروف العصيبة إلى الحوار بين فرقاء الوطن تجنباً للصدام الذي قد ندفع ثمنه غالياً من مقومات حياتنا التي نعيشها الآن بالكاد، لكن الحوار بين فرقاء الوطن يصلح فقط عندما يكون للجميع هدف واحد هو صالح الوطن وتختلف رؤاهم في كيفية تحقيق هذا الهدف، أما الحالة المصرية فلدينا في جانب فرقاء يتفقون على الهدف ويختلفون على الوسيلة بالفعل، في مواجهة طرف له هدفه الخاص وهو التمكين لجماعته والهيمنة على كل آخر باعتباره كافراً لا حق له سوى أن يخضع صاغراً لما يمليه عليه المؤمنون، فهكذا تكون الدعوة للحوار إما مجرد مضيعة للوقت، أو تكون دعوة للخنوع والانقياد لطيور الظلام، هؤلاء الذين لسان حالهم الآن يقول: الأخونة مستمرة، والوزارة مستمرة، والنائب العام مستمر، وانتهاكات سيادة واستقلال القضاء مستمر، من لا يعجبه هذا فليبحث لنفسه عن وطن آخر و"الباب يُفَوِّت جمل"!!
كان "اليقين" دوماً هو القوة الدافعة للإنسان للبحث سعياً للوصول إليه، كما كان الصخرة التي تتعثر بها مسيرته، فمسيرة الشعوب تتعثر متى سقطت في شرك توهم الوصول إلى "اليقين"، وأن كل ما عليها بعد ذلك هو أن تتمسك به وتحافظ عليه من الضياع، فهنا يكون للاستبداد مرجعية وأرضية تمكنه من تملك القلوب والعقول قبل تكبيل الأيادي وتكميم الأفواه، في بيئة كهذه من العبث أن تلجأ لآليات الديموقراطية بوهم التحول عن طريقها إلى نظام حكم ديموقراطي، فبدون توفير بيئة ليبرالية سياسية واقتصادية واجتماعية يصبح اللجوء لصناديق الاقتراع كالتجديف في أوحال مستنقع، ففي هذه الحالة سنشهد ما رأيناه من ارتكاب الشعب المصري في حق نفسه ذات ما ارتكبه السادات في حق نفسه، إذ استحضر من يغتاله بدم بارد وضمير ميت، وإذا كنا قد عرفنا منذ الصغر أن الطرق ثلاثة: "طريق السلامة" و"طريق الندامة" و"طريق اللي يروح ما يرجعش"، فإننا قد دخلنا بالفعل في "طريق الندامة"، ونوشك أن نكون على مشارف "طريق اللي يروح ما يرجعش"!!
قبل ثورة 25 يناير كانت مؤسسات الدولة قد بدأت تبدو كما لو أسد يهرم وتتحلل قواه، ثم تجرأت عليه الجماهير أثناء الثورة، واستمرت بعدها في صب نقمتها وتنفيس كبت القرون على تلك المؤسسات، كل هذا سياق طبيعي للأحداث كان يفترض أن يتواجد على رأس الدولة المصرية من هو قادر على وقفه، لنبدأ من جديد حلقة جديدة من حلقات تطور الدولة المصرية العريقة، لكن ما حدث أن من أوكل إليهم هذا الأمر يفتقدون للقدرة والرغبة في إنجاز هذه المهمة، وبذلك أعطوا زخماً جديداً متجدداً لطوفان الفوضى والتمرد والتخريب الذي بدأت تباشيره هينة ضئيلة في عهد مبارك. . الآن وقف هذا الطوفان لن يتأتى بمنعه عند "مصبه"، أي بقمع الجماهير وإعادة ثوارها ومتمرديها وبلطجيتها إلى الشقوق خوفاً ورعباً من الأسد وقد عاد لشبابه وقوته فجأة ملوحاً بمخالبه مسفراً عن أنيابه، وإنما الحل تجفيف "منابعه" بواسطة نظام حكم جديد بحق، وجدير بالاحترام بحق، فما دام الخوف قد انتزع من قلوب الناس، فليس غير الاحترام الذي يأتي بناء على مقومات حقيقية يمتلكها من نحترمه. . ليس إذن غير إرسال كل من يجلسون على كراسي السلطة الآن إلى منازلهم أو زنازينهم، لنأتي بالقادرين على الفعل الذي يجلب الاحترام، ودون هذا سيتمر الطوفان ليدفعنا أمامه حتى تتحول سفينتنا إلى مجرد حطام.
الدستور الإخواني الحقيقي ليس ذلك الذي تم إصداره بمنهج أبعد ما يكون عن الشرعية، فلقد مزقوا بأيدولوجيتهم المضمرة العقد الاجتماعي المصري، وتقرأ الجماهير دستورهم الحقيقي الآن في تصرفاتهم وتحركاتهم، سواء في مسيرة الأخونة لمؤسسات الدولة أو التفريط في السيادة المصرية على سيناء وفي أرواح جنودنا، أو في سفك دم الشباب الثائر، وعدم الاكتراث بكل ما يجري بالبلاد من فوضى وخراب، إذ هو في الحقيقة أمر لا يعنيهم، فرسالتهم وهدفهم الأسمى هو أنفسهم وجماعتهم وإحكام سيطرتهم، ولا يهمهم كثيراً إن تمت هذه السيطرة على دولة أو على "الأرض اليباب"، بل وربما كانت "الأرض اليباب" أيسر عليهم وهم يعيدون تشكيلها وفق نموذجهم البدوي الذي يرجع لأربعة عشر قرناً مضت. . لقد انتقلنا من حالة "ثورة مستمرة" إلى حالة "فوضى مستمرة"، ففاعليات الثورة تشق طريقاً صاعداً نحو مستقبل أفضل، أما الفوضى فهي سقوط إلى هاوية.
kghobrial@yahoo.com
المصدر ايلاف
في المقابل فليحذر الثوار الذين يعتبر بعضهم وزارة الداخلية عدواً لهم وأداة في يد النظام من انهيار الداخلية، فهذا لو حدث سيصب ليس في صالح مصر المدنية، ولكن في مصلحة الثعالب والذئاب وطيور الظلام، الذين يتمنون بالطبع السيطرة على البلاد وهمود كل مظاهر الحراك الشعبي، ومع ذلك هم المستفيدين من انهيار مؤسسات الدولة السيادية، فعندها سوف يوظفون ميليشياتهم وكوادرهم المستشرية كالسرطان في كل مرافق الدولة، علينا جميعاً إذن أن نحافظ على سلامة الجيش المصري وقوات الشرطة والقضاء، فهي الأعمدة الثلاثة التي إذا انهار أحدها تصدعت الدولة المصرية وسقطت بين فكي رسل الظلام والجهالة.
كم كنت أتمنى أن أدعو في هذه الظروف العصيبة إلى الحوار بين فرقاء الوطن تجنباً للصدام الذي قد ندفع ثمنه غالياً من مقومات حياتنا التي نعيشها الآن بالكاد، لكن الحوار بين فرقاء الوطن يصلح فقط عندما يكون للجميع هدف واحد هو صالح الوطن وتختلف رؤاهم في كيفية تحقيق هذا الهدف، أما الحالة المصرية فلدينا في جانب فرقاء يتفقون على الهدف ويختلفون على الوسيلة بالفعل، في مواجهة طرف له هدفه الخاص وهو التمكين لجماعته والهيمنة على كل آخر باعتباره كافراً لا حق له سوى أن يخضع صاغراً لما يمليه عليه المؤمنون، فهكذا تكون الدعوة للحوار إما مجرد مضيعة للوقت، أو تكون دعوة للخنوع والانقياد لطيور الظلام، هؤلاء الذين لسان حالهم الآن يقول: الأخونة مستمرة، والوزارة مستمرة، والنائب العام مستمر، وانتهاكات سيادة واستقلال القضاء مستمر، من لا يعجبه هذا فليبحث لنفسه عن وطن آخر و"الباب يُفَوِّت جمل"!!
كان "اليقين" دوماً هو القوة الدافعة للإنسان للبحث سعياً للوصول إليه، كما كان الصخرة التي تتعثر بها مسيرته، فمسيرة الشعوب تتعثر متى سقطت في شرك توهم الوصول إلى "اليقين"، وأن كل ما عليها بعد ذلك هو أن تتمسك به وتحافظ عليه من الضياع، فهنا يكون للاستبداد مرجعية وأرضية تمكنه من تملك القلوب والعقول قبل تكبيل الأيادي وتكميم الأفواه، في بيئة كهذه من العبث أن تلجأ لآليات الديموقراطية بوهم التحول عن طريقها إلى نظام حكم ديموقراطي، فبدون توفير بيئة ليبرالية سياسية واقتصادية واجتماعية يصبح اللجوء لصناديق الاقتراع كالتجديف في أوحال مستنقع، ففي هذه الحالة سنشهد ما رأيناه من ارتكاب الشعب المصري في حق نفسه ذات ما ارتكبه السادات في حق نفسه، إذ استحضر من يغتاله بدم بارد وضمير ميت، وإذا كنا قد عرفنا منذ الصغر أن الطرق ثلاثة: "طريق السلامة" و"طريق الندامة" و"طريق اللي يروح ما يرجعش"، فإننا قد دخلنا بالفعل في "طريق الندامة"، ونوشك أن نكون على مشارف "طريق اللي يروح ما يرجعش"!!
قبل ثورة 25 يناير كانت مؤسسات الدولة قد بدأت تبدو كما لو أسد يهرم وتتحلل قواه، ثم تجرأت عليه الجماهير أثناء الثورة، واستمرت بعدها في صب نقمتها وتنفيس كبت القرون على تلك المؤسسات، كل هذا سياق طبيعي للأحداث كان يفترض أن يتواجد على رأس الدولة المصرية من هو قادر على وقفه، لنبدأ من جديد حلقة جديدة من حلقات تطور الدولة المصرية العريقة، لكن ما حدث أن من أوكل إليهم هذا الأمر يفتقدون للقدرة والرغبة في إنجاز هذه المهمة، وبذلك أعطوا زخماً جديداً متجدداً لطوفان الفوضى والتمرد والتخريب الذي بدأت تباشيره هينة ضئيلة في عهد مبارك. . الآن وقف هذا الطوفان لن يتأتى بمنعه عند "مصبه"، أي بقمع الجماهير وإعادة ثوارها ومتمرديها وبلطجيتها إلى الشقوق خوفاً ورعباً من الأسد وقد عاد لشبابه وقوته فجأة ملوحاً بمخالبه مسفراً عن أنيابه، وإنما الحل تجفيف "منابعه" بواسطة نظام حكم جديد بحق، وجدير بالاحترام بحق، فما دام الخوف قد انتزع من قلوب الناس، فليس غير الاحترام الذي يأتي بناء على مقومات حقيقية يمتلكها من نحترمه. . ليس إذن غير إرسال كل من يجلسون على كراسي السلطة الآن إلى منازلهم أو زنازينهم، لنأتي بالقادرين على الفعل الذي يجلب الاحترام، ودون هذا سيتمر الطوفان ليدفعنا أمامه حتى تتحول سفينتنا إلى مجرد حطام.
الدستور الإخواني الحقيقي ليس ذلك الذي تم إصداره بمنهج أبعد ما يكون عن الشرعية، فلقد مزقوا بأيدولوجيتهم المضمرة العقد الاجتماعي المصري، وتقرأ الجماهير دستورهم الحقيقي الآن في تصرفاتهم وتحركاتهم، سواء في مسيرة الأخونة لمؤسسات الدولة أو التفريط في السيادة المصرية على سيناء وفي أرواح جنودنا، أو في سفك دم الشباب الثائر، وعدم الاكتراث بكل ما يجري بالبلاد من فوضى وخراب، إذ هو في الحقيقة أمر لا يعنيهم، فرسالتهم وهدفهم الأسمى هو أنفسهم وجماعتهم وإحكام سيطرتهم، ولا يهمهم كثيراً إن تمت هذه السيطرة على دولة أو على "الأرض اليباب"، بل وربما كانت "الأرض اليباب" أيسر عليهم وهم يعيدون تشكيلها وفق نموذجهم البدوي الذي يرجع لأربعة عشر قرناً مضت. . لقد انتقلنا من حالة "ثورة مستمرة" إلى حالة "فوضى مستمرة"، ففاعليات الثورة تشق طريقاً صاعداً نحو مستقبل أفضل، أما الفوضى فهي سقوط إلى هاوية.
kghobrial@yahoo.com
المصدر ايلاف