كتاب الحج ب3 ف 6 (الدعوة الصوفية لإهمال فريضة الحج الإسلامية : )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١١ - مارس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثالث : الحج فى الدين الصوفى

الفصل السادس :  الدعوة الصوفية لإهمال فريضة الحج الإسلامية :

 1- مرّ بنا ما قاله الجنيد فى أسطورته المزعومة التى اعتبر فيها الكعبة وطائفيها أحجاراً( خلقة كالأحجار يطوفون بالأحجار )[1]. والجنيد كان إستاذ الصوفية فى إستخدام تأليف القصص والمنامات فى ترسيخ التشريع الصوفى بطريق غير مباشر. وهو هنا يقرر عبثية الحج للكعبة ويرى أن الناس لو أصلحوا باطنهم لزال الحجاب عنهم وتحققوا بالحق وأصبحوا آلهة ، فلا داع حينئذ للحج ومشاقه ..

وما ألغز إليه الجنيدى صرّح به الحلاج وكان فيه هلاكه . إذ أن ما حُفظ عن الحلاج من شطحات كانت شفوية ، وكان ينكرها فى جلسات التحقيق معه ، وما كتبه منها كانت ألغازا ورموزا يمكن تأويلها . لذا لم يفلح الوزير العباسى الذى كان يحقق معه فى إثبات الكفر عليه ، الى أن عثر هذا الوزير ( حامد ) على سطور مكتوبة للحلاج  عن الحج ، فاستخدمها الوزير دليلا على كفره والحكم بقتله . وكان طبيعياً أن يسارع الجنيد المشهور بالتقية إلى التلميح برأيه السابق  حتى لا يلقى مصير الحلاج . يقول ابن الأثير فى سبب صلب الحلاج : ( وكان حامد يُخرج الحلاج إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه مالا تكرهه الشريعة المطهرة، وطال الأمر على ذلك ، وحامد الوزير مُجدّ فى أمره ، وجرى له معه قصص يطول شرحها، وفى آخرها أن الوزير رأى له ( أى للحلاج ) كتاباً حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه، أفرد من داره بيتاً لا يلحقه شىء من النجاسات ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحاج بمكة..فإذا فعل ذلك كان كمن حج، فما قرىء هذا على الوزير قال القاضى أبو عمرو للحلاج :كذبت يا حلال الدم ..)[2].  على هذا ، فقد جاءت نهاية الحلاج قتلا وصلبا بسبب إعلانه رأيه فى الدعوة لاهمال فريضة الحج ، وعدم الذهاب للبيت الحرام . ونسى الحلاج فى أنه الحج ليس فرضا إلا على المستطيع فقط ، وغير المستطيع لا شىء عليه أصلا .

وفى هذا العصر الأول لروّاد التصوف بدأ تأويل الرواد الصوفية لمناسك الحج صدّا منهم عن البيت الحرام ، فقيل إنه ( كان ذون النون المصرى يتأول مناسك الحج ويحولها لرموز وإشارات[3]. )

وهكذا وجد رواد التصوف فى الحج ميداناً خصباً يمارسون فيه الرمزيه – كما فعل الحلاج – (لذا فقد قال بعضهم بترجيح الباطن على الظاهر أو الحقيقة على الشريعة أوالإستغناء بالمحتوى الكامن للرمز عن المحتوى الظاهر له تحت اسم إسقاط التكاليف)[4].

واختلف الأمر فى عصر إزدهار التصوف والايمان بكرامات الأولياء الصوفية وتقديسهم وتأليههم .

2- ففى العصر المملوكى حيث ازدهار التصوف والاعتقاد في الكرامات اكتفى مشاهير الصوفية بادعاء الحج بخطوة أو طى المكان، أو ادعاء أنه يحج فى مكة وهو لا يزال بمصر، إلى غير ذلك من أساطير حظيت بالتصديق فى العصر ،وتأسيساً على ذلك كان المرسى يقول ( لو فاتنى الوقوف بعرفة سنة ما عددت نفسى من المسلمين )[5]. أى كان المرسى بزعمه يطير للكعبة ويقف فى عرفات كل عام فى لحظة ويعود .!

وزعم كاتب مناقب المنوفى أن بعضهم رأى المنوفى واقفاً بعرفات وكان فى نفس الوقت فى القاهرة[6]. ،

 أى رأوه فى نفس الوقت فى عرفات وفى القاهرة . وهذه الفرية الصوفية تجمع بين اسطورتين من كرامات الأولياء التى كان يؤمن بها العصر المملوكى : أسطورة الطىّ ( طىّ المكان ) واسطورة ( التطور ) أن الولى الصوفى له أجساد كثيرة تقوم نفسه بتدبيرها والسيطرة عليها ، وبالتالى يمكن رؤيته فى عدة أماكن فى وقت واحد . ومن مؤلفات السيوطى ( القول الجلى فى تطور الولى ) وفيها يحاول إثبات هذه الاسطورة على أنها من كرامات الأولياء ، وكان انتشار الاعتقاد بكرامتى ( الطى والتطور ) من أساليب الصوفية فى العصر المملوكى فى تبرير عدم صلاتهم وعدم قيامهم بالحج .

وعرض أبو الحسن الشاذلى فى أسطورة صوفية على الشيخ الفقيه عز الدين بن عبد السلام أن يخطو به  وبالناس جميعاً إلى عرفات . وهو كرم فى سرد الكرامات ، وكان أولى به أن يتوجه بتلك الكرامات المزعومة إلى التتار- وكانوا حسب الأسطورة – يمنعون الناس من الحج فلم يحج منهم إلا الشاذلى بخطوته المباركة[7]. حسب زعمهم .!!

وقيل فى ترجمة أبى الحسن الفران (كان من أرباب الطى – أى الذين تطوى لهم الأرض فيتنقلون حيث شاءوا – وكان إذا بقى للوقوف –أى الوقوف بعرفة – يوم ، يمضى ويحج ويأتى ، وقد شاع أنه أوصل رغيفين من امرأة عجوز إلى ولدها بالحجاز وكانا ساخنين )[8]. أى إن هذا الشيخ الفرّان كان يحج ويقف بعرفات ويعود الى مصر فى نفس اليوم . بل إنه أوصل رغيفين ساخنين من أم عجوز تعيش فى القاهرة لابنها فى الحجاز . وواضح أن هذا الشيخ ( الفرّان ) كان يعمل فرّانا من قبل ، ثم إستقال من حرفته ، واحترف المشيخة الصوفية ، ووجد من يؤمن به ويصدّقه ، وجاءت كراماته المزعومة تحمل آثار حرفته القديمة . وحمل كثير من شيوخ التصوف لقب حرفتهم القديمة ، من الحلاج والمزين فى بداية التصوف الى ( الخواص ) فى العصر المملوكى.

وفى عصر تشيع فيه  مثل هذه الأساطير وتحظى بالتصديق كان لابد لصوفيته أن ينعموا بالكسل فى بيوتهم لتشيع عنهم مثل هذه الكرامات التى تذكرنا بالصوفية المنقطعين عن الصلاة بحجة أنهم يصلون فى بيت المقدس أو الكعبة أو جبل قاف كل يوم ..

3- وفى نفس الوقت لم يغفل الصوفية عن الدعوه لكى يحج إليه مريدوهم .. أو يكتفى بهم المريدون عن الذهاب للحج بزعم أن الكعبة نفسها تأتى وتسعى لتطوف بالأشياخ ، فهم أولى منها بالطواف حول الشيخ وتقديسه، وسبق توضيح ذلك ، وكيف أن بعض المريدين صرح بأنه : ( والله ما اغتسلت وطُفت الأسبوع إلا وقد رأيت الكعبة طايفة به ) . وتلك دعوة معلنة للطواف بالشيخ وإهمال الحج الإسلامى كما فعل عبد الرحيم القنائى وشمس الدين الحنفى وقد أمر كل منهما مريده بأن يطوف به – حسب الأسطورة – ويكتفى بذلك عن الحج[9].

4- على أن أحد الصوفية ارتقى من التشريع بطريق ضمنى بسبك حكايات الكرامات إلى درجة الأمر المباشر بدون حاجة إلى أساطير وكرامات .. فيروى الشعرانى فى ترجمة الصوفى المشهور فى القرن العاشر (على وفا الشاذلى ) أنه : ( سئل رضى الله عنه عن مريد ادعى أنه شهد كمال أستاذه ( أى آمن بقلبه بألوهية شيخه الصوفى ) ثم آراد السفر عن حضرته لزيارة مكة.. فقال رضى الله عنه : المريد الصادق أول ما يشهد فى شيخه الكمال يجده حضرة الحق التى بها أرواح أئمة الهدى أجمعين بالنسبة له. فكيف مع هذا يفارق تلك الحضرة لمواضع آثار الأنبياء التى هى دون الحضرة التى شهد أستاذه فيها ؟ وكيف يشتغل عن بيت وضعه الحق لنفسه ببيت وضعه للناس)[10]. .

أى أن هذا الشيخ الصوفى ( على وفا ) الذى يحظى بقول الشعرانى عنه ( رضى الله عنه )  يرى  أن الولى الصوفى هو البيت الذى وضعه رب العزّة لنفسه ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً،  أى حلّ رب العزة فى ذلك الشيخ  فيه، فهو أحق بالحج إليه والعكوف عليه من البيت العتيق الذى وضعه للناس .. !!

5 ـ وهكذا فالصوفية شككوا فى الكعبة كقبلة لأنهم يتمنون لو توجه الناس بالصلاة إلى ناحية القطب الغوث .. وشككوا بالكعبة كمقصد للحج ، وادعوا أنها تطوف بهم هم أحق منها بطواف الناس حولهم ، وأعلنوا ذلك بصراحة..

6 ـ وفى الوقت الذى اعتبروا الكعبة فيه وثناً فإنهم لم يتحرجوا من الدعوة للحج إلى أنصابهم وأضرحتهم وأوليائهم الأحياء . 



[1]
روض الرياحين 40.

[2]تاريخ ابن الأثير جـ8 /47. المطبعة الأزهرية سنة 1301 .

[3]دائرة المعارف الإسلامية جـ9/426 فضلا عن حلية الأولياءجـ9/170.

[4]أحمد محمود صبحى. التصوف إيجابياته وسلبياته. عالم الفكر مجلد 6عدد2 ص347: 348.

[5]تعطير الأنفاس مخطوط 224 .لطائف المنن لإبن عطاء 98.

[6]مناقب المنوفي .مخطوط 41 .

[7]الإلمام للنويري مخطوط جـ2/ 78.

[8]الكواكب السيارة 149.

[9]مناقب الوفائية مخطوط 39 .مناقب الحنفى مخطوط 369: 370 .مناقب عبد الرحيم مخطوط 12 .

[10]الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 /25.

اجمالي القراءات 13048