كتاب الحج ب 2 ف 4 : التواتر والعالمية فى تشريع الحج قبل الفتوحات العربية

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٢ - فبراير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل الرابع  :تواتر العالمية فى تشريع الحج قبل الفتوحات العربية

أولا : عالمية الحج للبيت الحرام قبل ابراهيم عليه السلام

1 ـ منذ البداية ارتبطت العالمية بالبيت الحرام والحج اليه ، فهو أول بيت وضعه رب العزة للناس مذ كان على هذا الكوكب بشر وناس:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96)آل عمران). وحيث أن كل الرسالات السماوية تتضمن أسس الدين الالهى من عبادة وإخلاص الايمان بالله جل وعلا  فإن الحج الى البيت الحرام كان ضمن العبادات فى كل الرسالات السماوية لكل الناس.

2 ـ ونحن لا نعرف كل رسل الله جلّ وعلا ، فلم يذكرهم القرآن الكريم جميعا:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (164) النساء)، ولكن نعرف أنه ما من أمة إلّا جاءهم نذير:( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) فاطر ). و( النذير) قد يكون مرسلا من الله جل وعلا:(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)(سبأ )،وقد يكون  النذير متبعا للرسول :(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي )(108)( يوسف) ومن النذر ذلك الرجل الصالح فى سورة ( يس ) (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِاتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)( يس ). وبالتالى فإن العلم بالبيت الحرام والحج اليه جاء فى كل الرسالات ، وقال به كل المنذرين فى كل الأمم .

3 ـ والبشرية كانت فى البداية أمما وتجمعات متفرقة فى شتى أنحاء الكرة الأرضية ،من المناطق المأهولة المعروفة فى ( العالم القديم ) فى آسيا وأفريقيا وأوربا الى سكان الأمريكيتين ونيوزلندة واستراليا وجزر المحيط الهادى الشرقية فى أقصى العالم. ومع قلة عدد السكان فى العصور السحيقة إلّا إن البشر انتشروا فى كل الكرة الأرضية ، وخلفوا آثارا تنطق بحضارات قديمة فى الزمن السحيق تم إكتشاف بعضها حديثا. والذى يؤمن بالقرآن يؤمن أيضا بأن فى كل هذه التجمعات السكانية القديمة جاء منذرون:( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24)فاطر ). وبهذا فإن العلم بالبيت الحرام شمل كل الناس حيث كان أول بيت وضعه الله جل وعلا للناس .

4 ـ  ولا تزال هناك ملامح مشتركة وألفاظ مشتركة لدى البشر فيما يخصّ تراثهم الدينى بما يؤكّد وجود وحى الاهى وكتب سماوية أى تواتر حق لكم ما لبث أن حرّفه وأضاع ملامحه تواتر باطل.

5 ـ والبشرية فى تاريخها مع الرسالات السماوية تنقسم قسمين : أمم بائدة أهلكها الله جل وعلا ، وذكر رب العزة منهم أقواما عاشوا فى الجزيرة العربية والشام ومصر، مثل قوم نوح وعاد وثمود ومدين وقوم لوط وقوم فرعون . ومنهم من إستمر بقاؤه بلا تدمير كامل . وبالتالى فإن قوم نوح ومن جاء بعدهم من الأمم البائدة كانت تعلم الحج الى البيت الحرام . وأن الحج للبيت الحرام عرف نوعين من التواتر ؛ تواتر بالحق وتواتر بالباطل .

ثانيا : ابراهيم عليه السلام وعالمية الحج للبيت الحرام

1 ـ بدأ فى عصر ابراهيم عليه السلام دخول جماعات وأمم البشرية فى التعارف والتواصل . ونفهم هذا من سيرة ابراهيم عليه السلام نفسه ، فقد تنقل من العراق الى الشام والى مصر والى الجزيرة العربية ، وترك قبائل من نسله هنا وهناك . من الطبيعى أنه عليه السلام لم يخترع هذا التواصل ولم يبتدعه ولم يبدأ به ، ولكنه كان يتحرك وسط ثقافة موجودة تعرف التواصل بين جماعات البشر الساكنة بين العراق والشام ومصر بلا حاجز صارم من اللغات ، والحدود السياسية . بهذا يحتل ابراهيم عليه السلام مرحلة هامة فى تاريخ الأنبياء وفى تاريخ المسجد الحرام ، إذ دخلت به عالمية الحج الى البيت الحرام الى مرحلة مميّزة .

2 ـ ونفهم تقسيم تاريخ البيت الحرام الى مرحلتين من قوله جلّ وعلا:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ )(97)آل عمران ). فالبيت الحرام قبل ابراهيم عليه السلام هو أول بيت وضعه الله جل وعلا للناس فى مكة التى كان إسمها ( بكّة )، ثم هو بابراهيم أصبح فيه آيات بينات مقام ابراهيم.

 3 ـ ونفهم نوعي التواتر فى قوله جل وعلا ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)الحج )، أى جاء ابراهيم عليه السلام من الشام الى الجزيرة العربية بأمر الاهى ، وبهذا الوحى الالهى عرف ابراهيم طريقه الى مكة والبيت الحرام ـ أول بيت وضعه الله جل وعلا للناس ، وكان البيت الحرام تطغى عليه الأوثان برجسها طبقا للتواتر السيىّء ، فقام ابراهيم عليه السلام بتطهيره منها مطبقا التواتر الصحيح ، وأعاد مع ابنه اسماعيل بناء الكعبة . جاء ابراهيم فأعاد التواتر الشريف الصحيح وقام بتطهير البيت الحرام للطائفين والعابدين. وبعد تطهير البيت الحرام من رجس الأوثان أمر الله جل وعلا ابراهيم عليه السلام أن يطوف العالم المعروف وقتها يدعو الناس الى الحج ، يأتون الى مكة من أقصى البلاد ومن كل فجّ عميق، يقطعون الطريق الطويل يركبون الابل فتصبح   بطول المسافة الى إبل ضامرة نحيفة :( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج ). وفود الحجاج من كل ( فج عميق ) أكبر دليل على عالمية الحج ، ودور ابراهيم فى هذه العالمية .

4 ـ  كما نفهم إن مناسك الحج الحقيقية كان التواتر الشرير قد أضاعها، لذا دعا ابراهيم عليه السلام ربه جل وعلا  وهو يرفع قواعد الكعبة أن يعرف مناسك الحج الصحيحة ، يقول جل وعلا:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا )(128)البقرة). وأراه رب العزّة المناسك الحقيقية ، وهى المعروفة بملة ابراهيم فى الحج .

5 ـ ومن قوله جل وعلا :( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )(28) الحج ) نفهم أن البيت الحرام فى عهد ابراهيم عليه السلام قد أصبح ملتقى عالميا للناس على اختلاف أوطانهم وعناصرهم ، حيث يتوافدون فى موسم الحج والعمرة يشهدون منافع لهم، يتبادلون التجارة والمعارف والخبرات والأدوات والسلع والبيع والشراء.

6 ـ وساعد على عالمية الحج فى حياة ابراهيم عليه السلام عدّة عوامل :

6/ 1 : إن الله جل وعلا كافأه على نجاحه فى الاختبارات والابتلاءات بأن جعله إماما للناس فى عهده ، أى إماما لكل الناس الذين يستطيع الوصول اليهم والتواصل معهم:( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) البقرة ). وارتبطت هذه الإمامة بالبيت الحرام ومسئولية ابراهيم واسماعيل عن إعداده لاستقبال الحجيج ، لذا يقول جل وعلا فى الآية التالية :(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)البقرة ) . كانت هذه الامامة بعد   نضال ابراهيم ومعاناته من أبيه وقومه الى وصلت الى محاولة حرقه بالنار ، ثم بعد الهجرة من العراق الى الشام تعرض لاختبار أقسى ونجح فيه ، وهو أمره بذبح ابنه الوحيد وقتها ( اسماعيل ) . أى كانت هذه الامامة تتويجا لنضال سابق استغرق شباب ابراهيم وكهولته . ثم أصبحت هذه الامامة وسيلة للدعوة للحج وعالمية البيت الحرام فيما تبقى له من عُمر . وكان عمرا طويلا .

6/ 2 : ولقد عاش وعمّر طويلا ، أى ظل إماما مدة طويلة يدعو للحج ويعلم الناس المناسك ، أوالتواتر الصحيح الذى تسمى فيما بعد بملة ابراهيم بعد موت ابراهيم . ظل ابراهيم بلا ولد من زوجه سارة ، فتزوج وأنجب اسماعيل من السيدة هاجر . ثم أقامهما فى مكة حول الحرم ، وعاد لزوجته سارة . وعندما كبر اسماعيل وأصبح فتيا شابا شارك مع أبيه فى إعادة بناء الكعبة . وبالتالى كان ابراهيم يزور ابنه يقطع المسافة من الشام الى مكة ، وعندما بلغ من الكبر عتيا جاءته البشرى بأنّ زوجه سارة ستلد له إسحاق ـ وهى عجوز عقيم ، بل وجاءت البشرى بيعقوب الحفيد بعد اسحاق الابن ،أى سيعيش ابراهيم ليرى حفيده يعقوب وقد أصبح نبيا :(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)هود).

ونفهم أن ابراهيم عاش طويلا من قوله جل وعلا : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)( ابراهيم ) نفهم : أنّ ابراهيم عليه السلام رأى فى حياته ذريته وقد تكاثرت من ولديه اسماعيل واسحق ، وهو يدعو الله جل وعلا أن يتطهّر هو وبنوه من عبادة الأصنام ، وأن يجعله وذريته ممّن يقيم الصلاة ، وأن يتقبّل دعاءهم ، ونفهم أن جزءا من ذريته ( اسماعيل وابناؤه ) يعيشون عند البيت الحرام وقد أصبحوا جماعة من الناس ، ويدعو ابراهيم أن يعيش معهم أناس آخرون لتعمير المنطقة ، وأنه يحمد الله جلّ وعلا أن وهبه ـ على الكبر وفى الشيخوخة ـ اسماعيل واسحاق .

6/ 3 ـ كما تمتع ابراهيم وقتها بالثروة والجاه ، ونفهم هذا مما جاء فى التوراة  فى سفر التكوين ، ومن  إشارت قرآنية . فعندما جاءته الملائكة فى هيئة بشر تبشّره باسحاق ويعقوب ـ بادر بأن قدّم لهم عجلا مشويا ، أى لديه زرع وضرع وخدم ، برغم انه كان يعيش وقتها بعيدا عن ابنه الوحيد اسماعيل : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)هود). وفى الجزء الأخير من حياته عاش ابراهيم سعيدا برفقة إبنه اسحاق ثم أحفاده من يعقوب وذريتهم حوله، وتمتع أيضا بمزيد من الثروة والجاه أجرا من الله جل وعلا على جهاده :(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (27)) ( العنكبوت )، ويقول رب العزة عن نعيم ابراهيم فى دنياه قبل الآخرة ( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122) ( النحل ). أى كان إماما للناس وقد إجتمع له النبوة والثروة والجاه والذرية الصالحة وعاش ليرى منهم اسماعيل واسحاق ويعقوب أنبياء . وهؤلاء الأنبياء كانوا مبعوثين فى حياة ابراهيم لمن حولهم من الأمم. وكان الحج للبيت الحرام من معالم الرسالات السماوية لابراهيم واسملعيل واسحاق ويعقوب . وبهم صار الحج عالميا لكل الناس تطبيقا للأمر الالهى :( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج ). 

 ثالثا : عالمية الحج فى ذرية ابراهيم عليهم السلام ( أهل الكتاب والعرب وقريش )

1 ـ عاش ابراهيم عليه السلام ليرى بوادر تكوين أمم من ذريته ، فقد تكاثر ابناء اسماعيل حول البيت الحرام ، وتكاثر ابناء اسحاق وأحفادهم ، كما تكاثر أحفاد اسحاق من ابنه يعقوب ( اسرائيل ) فأصبحوا 12 قبيلة فى مصر بعد أن هاجروا اليها فى ظل تمكين يوسف بن يعقوب عليهما السلام فى مصر . وبالتالى أصبح ابناء ابراهيم قوة هائلة وقائدة ورائدة فيما بين العراق والشام والجزيرة العربية ، ولانتمائهم الى أصل واحد هو ابراهيم ولأنهم يحملون نفس الرسالة وهى ( ملة ابراهيم ) فقد إزدهرت عالمية الحج فى ظلّ هذا الجاه وذلك المُلك لآل ابراهيم ، يقول جل وعلا عنهم : (..فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)النساء ).

2 ـ. ولقد كان البحر الأحمر ـ ولا يزال ـ وسيلة تواصل بين مكة وصعيد مصر ، وشهد عبور قبائل عربية الى الصعيد ، وشهد إزدهارا للحج عن هذا الطريق . ومذكور فى الروايات أن مهندسا قبطيا قام ببناء الكعبة لقريش فى العصر الجاهلى ، وهذا يعزّز التواصل بين مكة القرشية والمصريين الأقباط قبل البعثة . وقد كان صعيد مصر محور الحضارة المصرية قديما وموطن الديانة المصرية . ومنه إنتقلت عبادة ( ايزيس ) الى قريش (ايزيس هى عزى ، أى العزّى ) والمرجح أن بنى اسرائيل وهم فى مصر كانوا من نقل هذه العقائد الفرعونية الى بنى عمومتهم القرشيين ، بدليل إن اليهود كانوا يعبدون ( عزير ) وهو نفسه ( أوزير) . أوزير بالمصرية هو (عزير) اله الموت فى الفرعونية ، ثم أصبح فى أساطير الدين السّنى المتأثر بالاسرائيليات ( عزرائيل ) ملك الموت . ولقد كان تأثر بنى اسرائيل بالديانة الفرعونية عميقا ، من عبادة العجل الى غيرها .

3 ـ وفى الشمال تأكّد هذا التواصل أكثر بين ابناء ابراهيم فى الشام والجزيرة العربية حيث الصحراء الممتدة بلا عوائق والتى تخترقها طرق القوافل . وتأكّد هذا التواصل أيضا فى الجنوب حيث نشاط أهل اليمن البحرى واتصالاتهم البحرية بفارس والخليج والبحر الاحمر ، وهجرات أهل اليمن المستمرة خصوصا بعد انهيار سد مأرب الى يثرب والشام و الخليج فأقاموا إمارات الغساسنة على تخوم الدولة الرومانية فى الشام و دولة المناذرة جنوب الدولة الفارسية وتحكمت قبائل ( كلب ) اليمنية المسيحية فى طرق القوافل فى الشام . وأسفر هذا التلاقى والتواصل عن نشر اليهودية ثم النصرانية فى اليمن نفسه . مما أوجد طوائف من أهل الكتاب فى جنوب الجزيرة العربية كان لهم تأثير ملموس فى تاريخ المسلمين المبكّر .

4 ـ ومنذ عصر يوسف عليه السلام استقر بنو اسرائيل فى مصر خصوصا فى الدلتا البعيدة عن البحر الأحمر ، إلا أن البحر الأحمر لم يكن عائقا بين بنى اسماعيل فى مكة وبنى اسرائيل فى مصر. والدليل إن بنى إسرائيل فى عهد موسى عندما عوقبوا بالتيه فى صحراء سيناء أربعين عاما وجدوا ضالتهم فى السير جنوبا الى مكة ، فجاء موسى بقومه الى البيت الحرام وقت أن كانت قريش تتحكم فى مكة والحج . وفى مكة دعا موسى وهارون عليهما السلام قريش الى اصلاح التواتر الباطل الذى أحدثوه فى ملة ابيهم ابراهيم ، فرفضت قريش واتهمت موسى وهارون بالسحر . وفيما بعد كرّرت قريش نفس الاتهام لخاتم النبيين عليهم السلام لنفس السبب.  وكانت قريش تتمنى مبعث رسول منهم بمثل ما تواترت به الرسل والمعجزات فى بنى عمومتهم بنى اسرائيل ، فلما بعث الله جل وعلا خاتم النبيين بالقرآن كفروا وطلبوا معجزة حسية مثل التى كانت لموسى ، وجاء الردّ من رب العزّة عليهم بذكّرهم بأنهم من قبل كفروا بدعوة موسى واتهموه وأخاه هارون بالسحر :( فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) القصص ).

5 ـ على إن الجزيرة العربية كانت فى عصر سلطة قريش كانت تموج بحضور قوى ومؤثر من أبناء ابراهيم ممّن اطلق عليهم ( أهل الكتاب )، كانوا عنصرا مؤثرا فى الحياة الدينية للناس وقتها ، وبالتالى كانوا من حجاج البيت الحرام تبعا لملة ابيهم ابراهيم ـ حتى مع التحريف فيها. ومن مظاهر هذا الحضور :

5/ 1 : تقسيم سكان الجزيرة العربية الى قسمين : ( أهل الكتاب ) من بنى اسرائيل ومعتنقى الانجيل و ( الأميين ) أى العرب من ذرية اسماعيل الذين لم يأتهم رسول .

5/ 2 ،وبسبب تميّز أهل الكتاب فقد كانت قريش والعرب المستعربة تتمنى مبعث رسول منهم أسوة ببنى اسرائيل ، بل كانوا يقسمون بالله جل وعلا جهد أيمانهم لو جاءهم رسول لاتبعوه وكانوا خيرا من بنى اسرائيل ، فلما جاءهم خاتم النبيين بالقرآن الكريم كفروا به : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) فاطر ) لماذا كفروا ؟، يقول جل وعلا فى الآية التالية :( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ )(43) ( فاطر ). وما هو مبعث الاستكبار فى الأرض ؟ هو تحكمهم فى البيت الحرام وفى الحجاج وتزعمهم قبائل العرب .

5/ 3 : وبينما ساد الضلال أهل الكتاب خارج الجزيرة العربية حتى لقد أخفت كنيسة روما الانجيل الحقيقى وقامت بتحريمه وفرضت كتابات متى ولوقا ..على أنها الاناجيل المعتمدة فإن الجزيرة العربية عرفت الانجيل الحقيقى الذى نزل على عيسى ، لذا قال جل وعلا عن عيسى وأتباع عيسى فى الجزيرة العربية حيث كان معهم الانجيل الحقيقى (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)( المائدة). ويقول جل وعلا عن التوراة وأتباعها من النبيين والمؤمنين:(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ )(44)المائدة ) ويقول جل وعلا عن القرآن الذى نزل مصدّقا للتوراة والانجيل : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ)(4) آل عمران ). وعندما طلب بعضهم الاحتكام للرسول قال جل وعلا : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ) (43)المائدة ).

5/ 4 : كثرة الحديث عن أهل الكتاب وبنى اسرائيل وقصصهم فى القرآن الكريم المماثل لمعظم ما جاء فى العهد القديم، والملاحظ أيضا كثرة الحوار معهم، ودعوتهم للإحتكام للقرآن الكريم : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)( النمل ) بل إن الله جل وعلا يشيد بالمؤمنين منهم ( القصص 52 : 55) ( آل عمران  113 : 116 ،  199 : 200) ( النساء 162)( الاسراء 107 : 109 )، ويدعو المؤمنين للتسابق معهم فى الخيرات: ( المائدة 48 ) .

5 / 5 : كما جاء حوار مع المشركين من اهل الكتاب القائمين بتحريف ملة ابراهيم. وجاء هذا مثلا  فى الجزء الأول من سورة البقرة ( 40 : 141 ) وفيه موضوع الحج ، ونفس الحال فى سورة آل عمران ، وفيها يتحدّاهم رب العزة بالاحتكام للتوراة التى فى أيديهم ثم يدعوهم الى إتباع ملة ابراهيم حنيفا والى الحج للبيت الحرام : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) آل عمران ).

5/ 6 : ومنه نستشف وجود علاقة بين مشركى قريش وكفار أهل الكتاب ، إذ عانى المؤمنون منهم ابتلاءات ومؤامرات فقال جل وعلا يخاطب المؤمنين يأمرهم بالصبر على مكائد الكفار من أهل الكتاب وقريش : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) آل عمران ) . وكان أئمة الكفر من أهل الكتاب يصدرون فتاوى لقريش بأن دينهم أوتواترهم الباطل لملة ابراهيم أفضل من دين محمد ، فقال جل وعلا يلعنهم :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) النساء). ونعرف أن يهود بنى قريظة قاموا بنقض التحالف مع النبى وغدروا بالمؤمنين فى حصار الأحزاب تعاونا مع قريش وأبى سفيان . وبإجلاء اليهود المعتدين ناكثى العهد من المدينة تعاظم تحالفهم مع قريش فى مكة ، وفى الوقت الذى فتحت فيه قريش أبواب مكة والحرم للحجاج من أهل الكتاب ومن كل إتّجاه فقد صدّت النبى عليه السلام والمؤمنين عن الحج .

أخيرا

هذا الوجود المكثف لأهل الكتاب فى الجزيرة العربية وخارجها إزدهرت معه عالمية الحج بعد أن دخلت فى دور جديد بابراهيم عليه السلام ، ثم أستفادت قريش من هذه العالمية وقامت بتطويرها تبعا لمصالحها التجارية ، فى رحلة الشتاء والصيف ، تلك المصالح التى نجم عنها تغيير وتحريف فى ملة ابراهيم ، ولكن هذا التحريف شجع على عالمية الحج لأنّ فيه فائدة إقتصادية لقريش وقوافلها التجارية ، ومن أجل هذه الفائدة الاقتصادية حاربت قريش الاسلام والمسلمين ومنعتهم من الحج ، ومن اجل إستمرار هذه الفائدة الاقتصادية اضطرت قريش لدخول الاسلام مؤخرا ، ثم ركبت ظهور العرب المسلمين بعد موت خاتم النبيين ، وبالفتوحات دخلت بالعرب بل والعالم كله فى تاريخ جديد ، يهمنا منه هنا أنه أعاق الاصلاح القرآنى لمناسك الحج ، فما لبث أن عاد التواتر الباطل الجاهلى القديم لمناسك الحج مضافا اليه منع أهل الكتاب من الحج للبيت الحرام . وموعدنا مع التفصيل لكل هذا .

اجمالي القراءات 11301