خَرَجْ وَلَمْ يَعُدْ وَنَحْنُ عَلَيْنَاَ أَنْ نَعُوْدْ

شادي طلعت في الأربعاء ١٦ - يناير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

حقاً إن الفن مهنة سامية تؤثر في الوجدان وتلهب المشاعر، وكلما كان القائمون على عمل فني أصحاب إبداع حقيقي لتأثر المجتمع وتطور وإختصر من مسافة الوصول إلى الرقي الكثير، فالإبداع ينفع ولا يضر، ويقدم ولا يؤخر، وقد شاهدت فيلماً سينمائياً مر عليه أعواماً تم إنتاجه عام 1984، من إخراج/ محمد خان، وقام ببطولته الراحل /فريد شوقي والمبدع يحي الفخراني والفنانة عايدة عبدالعزيز والنجمة ليلى علوي، وإسم الفيلم كان "خَرَجْ وَلَمْ يَعُدْ" وهو فيلم ليس بالعادي ذلك لأنه مميز بل فاق الإمتياز وإنطلق إلى الإبداع، لأنه يخاطب مشاعر كل مصري أصيل، فهو تذكرة بجمال مصر ونيلها وطيبة شعبها وكثرة خيراتها، هو تذكرة لكل من أبهرته أضواء المدينة وكل من ظن أن الحضارة تكمن في البنيان العالي وكثرة الصخب وتدافع البشر اللذين لا يعرفهم من كثرتهم ولإنشغالهم بأحوالهم في عصر المادة أو عصر المدينة !

إن الريف والمدينة لا يتصارعان فلكل منهما أهمية فائقة ولكن المدينة يحكمها المادة بينما الروح هي الحاكم للريف، وأذكر أنني عندما زرت العاصمة الأمريكية واشنطن، أحببت أن أرى أصدقائي المصريون المقيمون هناك، فإذا بي فوجئت أنه لا يقيم أي منهم بالعاصمة واشنطن ! وكانوا إما يسكنون في ولاية فرجينيا أو ولاية ميريلاند وهما الولايتين الأقرب للعاصمة الأمريكية، ثم وجدت منازلهم في أماكن ريفية، وليست بمدينة ! عرفت بعدها أن طبيعة الناس في أمريكا تهوى اَلْسُكْنَةُ في الريف، وأن أمريكا تعاني من هجرة داخلية من المدينة إلى الريف ! فتعجبت لأن العكس هوما يحدث في مصر فالهجرة فيها تكون من الريف إلى المدينة !

الواقع أن ما دفعني لهذا الحديث وتلك الذكريات كان مشاهدتي لفيلم "خَرَجْ وَلَمْ يَعُدْ" وهذه الشخصية التي لعب دورها الفنان/ يحي الفخراني "عطيه" هذا الشاب الذي ذهب إلى الريف في مهمة عاجلة، ثم دفعته الظروف إلى البقاء في الريف لفترة شهرين، فكان نتيجة بقائه أن ترك القاهرة وقرر البقاء في الريف المصري، وقرر التخلي عن طموحاته الوظيفيه، قائلاً في نهاية الفيلم أنه لأول مرة يتخذ قراراً صائباً في حياته !

الحقيقة أنني وأنا أتابع الفيلم جائتني أماني بأن أكون في مكان "عطية" وهو يجلس في الريف ويعيش من خيراته الجمة، إن "عطية" لم يكن يأكل الطعام في الريف نظراً لشراهة في الأكل أو لكثرته، بل كان يأكل في الريف أكثر من أكله في المدينة لأنه إكتشف أن للطعام في الريف متعة ولذة كان يفتقدها في المدينة ! لقد سمع "عطية" صوت الكروان في الريف، بينما كان يسمع المطرب أحمد عدوية في القاهرة، فقارن بين الإثنين فإختار صوت الكروان، ومن منا لا يحب صوت الكروان، لقد وجد "عطية" جمالاً آخر وهو يعمل في الأرض ويتفقد زرعها وخيراتها، وخلع "عطية" نظارته الطبية لأن بصره تحسن في الريف، بعدما ضعف في المدينة.

الحقيقة أني كنت أتابع هذا العمل الفني وأنا كلي ذكريات بعضها حسن وبعضها سيئ، فتذكرت أن القاهرة يعيش بها ما يتجاوز العشرين مليون نسمة ! وأن أصحاب الأراضي في الريف قد تركوها إعتقاداً منهم أن أن المكوث بالريف رجعية وتخلف ! وأن اَلْسُكْنَةُ في المدينة هي الرقي والحضارة، هذا جزء من ذكرياتي للواقع الأليم الآن، أما ذكرياتي الحسنة فكانت لأيام لم تطول فأنا لم أسكن بالريف بكل أسف ولكني كنت أزوره في العام مرة أو مرتين، وأذكر قريتي التابعة لمركز المحلة الكبرى ولا زلت أذكر أجدادي ولا أنسى لذة الطعام في قريتي، حتى وإن لم يكن فاخراً، لكن مجرد أني كنت أتناوله مع أهلي وأقاربي تكفي لأن أشعر بلذته والإستمتاع به كنعمة من نعم الله، كما لا زلت أذكر لذة اللقاء بالبسطاء من الناس واللذين لا يبغون من دنياهم شيئاً إلا رضاء الله وستره لفي الدنيا والآخرة، ولا أنسى سماحة وطيبة عفوية وتواضع الريف وأهله، إنها أرض طيبة لي فيها ذكريات ليست بالكثيرة ولكنها كانت جميلة.

إننا وبكل أسف لم نترك الريف فقط لقد فقد بعضنا صفات كانت أصيلة نشأنا عليها، ومنا من تركها ظناً منه أنها رجعية ! مثل كرم الريف والترحاب، والحفاوة بالغريب وحسن المعاملة، والشهامة والمروءة والوفاء، جميعها صفات كانت متأصلة في كل المصريين.

لقد خرج "عطية" من القاهرة متوجهاً للريف لكنه لم يعد، أفلا يتعظ سكان المدن من "عطية" أم هل نسى أهل المدن أصولهم الريفية، وهل من أتى إلى المدينة من الريف خرجوا من جلودهم ولن يعودوا ! أما أنا والله فإني أتمنى وأطوق للسكنة في ريف مصر وأطوق للطبيعة وجمالها وأشتاق إلى الطيبة والقلوب النظيفة التي لا تحمل غلاً أو ضغينة، لقد خرج "عطية" ولم يعد، أما نحن فمنا كثيرون يجب أن يعودوا.

وعلى الله قصد السبيل

 

شادي طلعت

اجمالي القراءات 9556