دستور مرسى وسلب ثروات المصريين بالأوقاف:( 9 / 4) الاوقاف والأزهر قبل شيوخ القزلباش

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٠ - يناير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

دستور مرسى وسلب ثروات المصريين  بالأوقاف:( 9 / 4) الاوقاف والأزهر قبل شيوخ القزلباش

مقدمة :

1 ـ نعيد التذكير بدور الفتوحات والفتنة الكبرى والصراع السياسى والحربى بين المسلمين فى القرن الأول الهجرى فى تأسيس دينى السّنة والتشيع. وقد تمّ تقعيدهما وتنظيرهما فى العصر العباسى الذى شهد بدوره نشأة دين التصوف متأثرا بالتشيع ومتخففا من أوزاره السياسية ومن عقيدة التبرى والتولى مكتفيا بتقديس كبارالصحابة كلهم . فى نفس الوقت كان التصوف بطرقه الصوفية متفاعلا مع الناس معبّرا عن الأغلبية الصامتة من عوام الداخلين فى الاسلام فاستمروا بالتصوف فى تقديس البشر والحجر كما كان أسلافهم ولكن تحت شعارات اسلامية . ولهذا لقى التصوف ترحيب المستبدين وكان الأسرع انتشارا من القرن الخامس الهجرى الى أن تسيّد الساحة الدينية بدءا من العصر المملوكى فى القرن السابع الهجرى.  لذا أصبح التصوف مجال الصراع السّنى الشيعى ، فظهرتصوف سنّى  وتصوف شيعى ،كلاهما يستغل التصوف وتكوين الطرق الصوفية فى تأسيس خلايا سياسية ، هذا مع التظاهر بالزهد للوصول للحكم . فعل ذلك أبوعبد الله الشيعي داعية الفاطميين الذى أسهم فى تأسيس الدولة الفاطمية فى تونس وكان أول خليفة فاطمى هناك هو عبيد الله المهدى(909-934 م). وبالتظاهر بالزهد أسّس الفقيه السّنى الحنبلى ابن تومرت  الدولة الموحدية بشعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وبالمناسبة، فقد وشى خصوم ابن تيميه به الى صديقه السلطان الناصر محمد بن قلاوون بأن إبن تيمية (يلهج) بذكر(إبن تومرت) أى يطمح لانشاء دولة على منواله . وأدّت هذه الوشاية الى قيام الناصر محمد بسجن صديقه ابن تيمية ، وتركه فى السجن حتى مات فيه.

2 ـ  تلك الدول أسست مدارس ومساجد وأوقفت عليها الأوقاف لنشر دعوتهم الدينية وخدمة لتحكمهم السياسى ،وليس إبتغاء وجه الله جل وعلا . وكان منها ـ ولا يزال ـ الأزهر .

أولا : الأزهر والأوقاف الى قبيل سقوط الدولة المملوكية :

 فى العصر الفاطمى:

1 ـ  من هنا نفهم حرص الفاطميين على إقامة الأوقاف لتنفق علي أيدلوجيتهم الشيعية ومؤساتها كالأزهر وجوامعهم الأخرى. تأكّد هذا فى الفصل بين ( الأحباس / الأوقاف )و(القضاء) فأسس المعز الفاطمى ديوان الأحباس ليشرف على ريع الأوقاف التى يوقفها الخليفة والأفراد ، وقاموا بتعيين ضامن لجباية ريع الأوقاف ، يدفع للدولة مالا مقدما ، ثم يقوم بعدها بجباية الريع من القائمين على الأعيان المحبوسة. وكان أول ضامن للأحباس (محمد ابن القاضى أبى الطاهر محمد ) مقابل أن يدفع للدولة مليون ونصف مليون درهم. وعمل الفاطميون على زيادة الأوقاف بإضافة المزيد من الأراضى الزراعية والعقارات للإنفاق على مساجدهم الشيعية بحيث كان لكل مسجد وقف يقوم بنفقاته ، تحت إشراف ديوان الأحباس . بل أصبح منصب متولى ديوان الأحباس يعلو منصب قاضى القضاة.

2 ـ وكان نصيب الأزهر من الأوقاف الفاطمية مميزا ، ومنه كان الانفاق على تعميره وتجديده وعلى القائمين فيه بالدعوة الشيعية وأسرارها . يقول المقريزى فى ( الخطط ) أن الأزهر ـ أول مسجد أسس بالقاهرة  ـ إكتمل بناؤه سنة 359 هجرية ، وأول جمعة جمعت فيه في شهر رمضان 361 . وكان أول وقف عليه فى خلافة العزيز بالله الفاطمى قام به فيلسوف الدعوة الفاطمية الوزير يعقوب بن كلّس الذى أنشأ دارا للدعاة بجانب الجامع الأزهر ، وجمع فيها 35 داعية من الفقهاء وجعل لهم أرزاقا. ولا جتذاب أفئدة المصريين كانت لأولئك الدعاة الشيعة  طقوس فى حضور الصلاة بالأزهر،بل أشاعوا عن الأزهر وقتها أن فيه طلسما سحريا (فلا يسكنه عصفور ولا يفرخ به وكذا سائرالطيور من الحمام واليمام وغيره).  وجعله الخليفة العزيز بالله جامعة يدرس فيها  أسرار الدعوة الشيعية الإسماعيلية للقادمين من الآفاق وفق تقسيم العالم الى ساحات وجزر كما ذكر المقريزى فى ترتيب الدعوة الفاطمية . وأوقف الحاكم بأمر الله أوقافا للإنفاق علىالجامع الأزهر وجامع المقس والجامع الحاكمي ودار العلم بالقاهرة . ثم قام المستنصر بتجديد الجامع الأزهر والزيادة فيه .  وجدّده أيضا الحافظ الفاطمي وزاد في مساحة الأروقة، وأنشأفيه ( مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربي الذي في مقدم الجامع بداخل الرواقات عرفت بمقصورة فاطمة)،  فقد أشاعوا أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها رؤيت بهذا المكان في المنام تدعو لإقامة هذه المقصورة .

3 ـ بالاضافة الى نشر التشيع تسلل الفاطميون للمصريين بالتصوف ( الشيعى ) وبدأت الطرق الصوفية الشيعية تتسلل بين المصريين تنشر بينهم التشيع على أنه ( الاسلام ) ، ولا تزال الحياة الدينية للمسلمين تحمل هذه المؤثرات الفاطمية . وأنشأ المستنصر الفاطمى للصوفية الشيعة الخوانق فتأسست أول خانقاة للصوفية الشيعة فى مصر وهى خانقاة سعيد السعداء .

 فى العصر الأيوبى

1 ـ لم يكتف صلاح الدين الأيوبى بحرب التشيع سياسيا وحربيا بل حاربه دينيا بتشجيع التصوف السّنى ليحلّ محلّ التصوف الشيعى ،فتحولت خانقاه سعيد السعداء الى معقل لنشر التصوف السّنى ، واستورد لها صوفية سنيين، وأوقف عليها عقارات بالقاهرة وأراضى زراعية بالمنيا . واصبح شيخها يعرف بشيخ الشيوخ، أى إمام وشيخ لكل الصوفية ، واستمر نفوذها ودورها فى العصر المملوكى .

2 ـ كما قام صلاح الدين الأيوبى بملاحقة الشيعة داخل القاهرة وخارجها ، وبإغلاق وتعطيل الدراسة فى الأزهر وسائر المعاهد الشيعية ما ظهر منها وما بطن ، وظل الجامع الأزهر معطلًا من إقامة الجمعة فيه مائة عام الى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهربيبرس على حد قول المقريزى فى الخطط .

 الأزهر والأوقاف فى العصر المملوكى

1 ـ  يعود الفضل للسلطان المملوكي  الظاهر بيبرس في إعادة الخطبة والجمعة إلى الجامع الأزهر في عام 665هـ = 1266-1267م.، كما قام بتجديده وتوسعته، وإعادة فرشه، واستعاد الأوقاف من غاصبيها. وفي عهده تم بناء أول رواق للتدريس في الجامع الأزهر  . وأوقفت عليه .  

 2 ـ وحدثت تجديدات وإضافات للجامع الأزهر تبرع بها المماليك طبقا للوقف الخيرى . فعمل الأمير بيلبك الخازندار فيه مقصورة كبيرةورتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه الشافعي،ورتب فيها مدرسا لقراءة الحديث والمواعظ ، ووقف على ذلك الأوقاف ، ورتببه سبعة لقراءة القرآن ورتب به مدرسًا، على حد قول المقريزى . ثم قام الأمير "علاء الدين طيبرس" نقيب الجيوش في عهد الناصر محمد قلاوون بإنشاء المدرسة الطيبرسية سنة (709هـ/ 1309م)، وألحقها بالجامع الأزهر، وقرر بها دروسًا للعلم . وتبعه فى عصر الناصر محمد بن قلاوون- الأمير علاء الدين آقبغا سنة (740هـ/ 1340م) الذى أنشأ المدرسة الأقبغاوية، وألحقها  بالأزهر . ثم أنشأ الأمير جوهر القنقبائي خازندار السلطان الأشرف برسباي مدرسة ثالثة عُرفت باسم المدرسة الجوهرية . و قام السلطان قايتباي المحمودي سنة (873هـ/ 1468م) بهدم الباب الواقع في الجهة الشمالية الغربية للجامع، وشيده من جديد ،وأقام على يمينه مئذنة.   ثم قام السلطان قانصوه الغوري ببناء المئذنة ذات الرأسين.

3 ـ وفى زلزال عام 702 سقطالجامع الأزهر،فتولى الأمير سلارعمارة الجامع الجامع الأزهر‏.‏ثم جددت عمارة الجامع الأزهر سنة 725على يد القاضي الأسعردي محتسب القاهرة ، وأعيد تجديده فى عام 761 فى ىسلطنة الناصر حسن القلاوونى بعناية  الأميرالطواشي سعد الدين الجامدار الناصري، وقد رتّب فيه مصحفًا وجعل له قارئًا وأنشأ على باب الجامع القبلي حانوتًا لتسبيل الماءالعذب في كل يوم،وعمل فوقه مكتب سبيل لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز ورتبللفقراء( الصوفية )  المجاورين طعامًا يطبخ كل يوم ،ورتبفيه درسًا للفقهاء من الحنفية يجلس مدرسهم لإلقاء الفقه في المحراب الكبير. يقول المقريزى : (ووقف علىذلك أوقافًا جليلة باقية إلى يومنا هذا.ومؤذنو الجامع يدعون في كل جمعة وبعد كلصلاة للسلطان حسن إلى هذا الوقت الذي نحن فيه‏.‏).

3 ـ أى إنّ أوقاف البر ( الأوقاف الخيرية ) إتجهت نحو الأزهر الذى لم يكن له سلطان قائم فى الحكم ، بينما ولّت الأوقاف الأهلية وجهها شطر أصحابها من السلاطين والأمراء وأصحاب النفوذ ، تحمى ثرواتهم من المصادرة .

4 ـ وبهذا أصبح الأزهر وقتها تكية للعاطلين والهاربين ووجهة للوافدين الى مصر، يجدون فيه ما يهوون وما يشاءون ، وبينما كان صاحب الوقف الأهلى حريصا على تطبيق شروطه فى كتاب الوقف ، وعلى التفتيش على من يعينهم من مدرسى وموظفى الوقف فإنّ الأمر إختلف مع التبرع للأزهر بالصدقات من  ريع الأوقاف ، فكان العطاء فيها للبرّ بلا تدقيق فى كيفية التوزيع أو مراقبة لما يقوم به المدرسون و الصوفية المنقطعون للعبادة والدعاء لمن يتبرع لهم . ولهذا  حدثت محنة لمجاورى الأزهر عام 810 ،وقد ذكرها المقريزى فى الخطط وفى تاريخه السلوك ، وأوردها فى ضوء نقمته على الأمير المملوكى سودون حاجب الحجاب . وقتها زاد عدد المجاورين فيه من القادمين لمصر ومن الهاربين من الأرياف ، يقول المقريزى ( وبلغت عدتهم في هذه الأيام سبعمائةوخمسين رجلًا ما بين عجم وزيالعة ومن أهل ريف مصر ومغاربه،ولكل طائفة رواق يعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرًا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والإشتغال بأنواع العلومالفقه والحديث والتفسير والنحو ومجالس الوعظ وحلق الذكر،فيجد الإنسان إذا دخل هذاالجامع من الإنس بالله والإرتياح وترويح النفس ما لايجده في غيره . وصار أربابالأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر من الذهب والفضة والفلوس إعانة للمجاورينفيه على عبادة الله تعالى، وكل قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات، لاسيما في المواسم ) ولكن وشاية جاءت للأمير سودون حاجب الحجاب بأن المجاورين فى الأزهر يرتكبون الفواحش ليلا .يقول المقريزى: ( وأشاع أن أناسًا يبيتون بالجامعويفعلون فيه منكرات، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجروفقيه وجندي وغيرهم ، منهم من يقصد بمبيته البركة ، ومنهم من لايجد مكانًا يأويه، ومنهممن يستروح بمبيته هناك ، خصوصًا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان فإنه يمتلئ صحنهوأكثر رواقاته‏.‏) يقول المقريزى عن الأمير سودون : ( فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادي الآخرة طرق الأمير سودونالجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف وقبض على جماعة وضربهم في الجامع . ( أى ضبطهم متلبسين بالطبع ، وإلا ما ستحقوا الضرب فى الجامع . ويقول المقريزى متحاملا على الأمير سودون : (وكان قد جاءمعه من الأعوان والغلمانوغوغاء العامة ومن يريد النهب جماعة ، فحلّبمن كان في الجامعأنواع البلاء،ووقع فيهم النهب،فأخذت فرشهم وعمائمهم ، وفتشت أوساطهم ، وسلبوا ما كانمربوطًا عليها من ذهب وفضة. ).

5 ـ ومع ذلك ظل الأزهر يفتح أبوابه للفاسدين والهاربين من الريف ، وكان منهم القاضى (هانى ) سيىء السمعة وقد عرضنا له فى كتابنا عن المجتمع المصرى فى عصر قايتباى . وفى عصر قايتباى إهتم الأمير يشبك الدادار الكبير بفقراء الأزهر فجعل ريع بعض أوقافه للتوزيع خبزا وطعاما مطبوخا وليس نقدا . وفي يوم الاثنين 3 ربيع الثاني 877، قبل سفره للشام أقام الداودار الكبير مأدبة حافلة للطلبة في جامع الأزهر على أمل أن ينتصر على شاه سوار، يقول ابن الصيرفي "صنع عظيم الدنيا أمير سلاح الداودار الكبير وباش العسكر المنصور ومع ذلك نجاه الله من المهالك، معروفاً عظيماً للفقراء الفاطميين بجامع الأزهر في كل يوم من الخبز ألفاً ومائتا رغيف وطعام يطبخ لهم في كل يوم فجزاه الله خيراً وتقبل منه، ثم أنه بعد سفره تخاصم أهل الجامع فيما بينهم وصاروا يرافعون بعضهم ويقولون: هذا له وظيفة، هذا له قراءة، حتى بطل ذلك والأمر بيد الله المالك.). أى بينما كان كبار الشيوخ والفقهاء والقضاة يتنافسون ويتشاجرون فى سبيل المناصب وآلاف الدنانير فإنّ صوفية الأزهر وروّاده كانوا من الرعاع الجوعى يتنافسون على الرغيف .!!.. كان هذا هو الفارق بين الأزهر وبقية المؤسسات التابعة للوقف الأهلى وحيتان العصر المملوكى .

أخيرا :

1 ـ نخلص مما سبق إن الأزهر شهد علوّ صيته حين كان مركز الدعوة الشيعية الاسماعيلية فى ( العالم الاسلامى ) وبدعات وصل نفوذ الشيعة الى ضواحى بغداد نفسها. وكانت تغدق علي الأزهر الأوقاف الخيرية الفاطمية خدمة لأهدافها السياسية ، وبنفس السبب كان تعطليه على يد صلاح الدين الأيوبى وقيام خانقاه سعيد السعداء لتؤدى دورا مناهضا للتشيع . ثم عاد الأزهر منذ سلطنة الظاهر بيبرس يجتذب اليه أوقاف المحسنين الخيرية ، حيث يلجأ اليه القليل من طلبة الفقه السنى والكثير من الرعاع محترفى الفقر أو التصوف بمصطلح العصر المملوكى ، كما جذب اليه الأزهر الكثيرين من العوام و اللاجئين والهاربين من فلاحى الريف المصرى ، وصار مكانا للسمر والسهر والفسوق استوجب قيام حملة الأمير المملوكى سودون عام 810 .

2 ـ وفى كل الأحوال فإن الأزهر كان قد فقد دوره الريادى فى العصر المملوكى الذى إشتهرت فيه خوانق وقباب وأضرحة ومدارس شغلت الاهتمام من السلاطين والمؤرخين والناس، وتنازع على رئاستها شيوخ الفقه وأساطين القضاء ، منها خانقاه سعيد السعداء ، وخانقاه سرياقوس ، وخانقاه السلطان قلاوون ، وجامع أو مدرسة الظاهر بيبرس ، و خانقاه جمال الدين الاستادار ..ظل الأزهر فى الظّل الى قبيل سقوط الدولة المملوكية ، حيث عاد اليه الشيعة أو شيوخ القزل باش ليجعلوه مركزا لاستعادة الحكم الشيعى . ثم سقط المخطط الشيعى ، ولكن نجح فقط فى أن أعاد الأزهر الى الضوء حتى عصرنا .وهذا هام جدا فى عصر الاخوان ودستور مرسى .

2 ـ كيف هذا ؟ إنتظرونا ..

اجمالي القراءات 9730