نقصد بالغرب هنا العالم الحر الذي يتركز أساساً في أوروبا وأمريكا الشمالية، ونقصد بالشرق منطقة الشرق الأوسط المتحدثة بالعربية، والتي قد تتسع لتشمل ما يعرف بالشرق الكبير، الذي يبدأ من باكستان وينتهي عند المملكة المغربية على شاطئ الأطلنطي، ونقصد بالمعضلة العلاقة الإشكالية بين الطرفين، وما يبدو للمراقب الخارجي وكأنه تخبط وتناقض في مواقف الغرب من الشرق، وكأنها تتأرجح يمنة ويسرة دون ضوابط مفهومة، علاوة على تناقضها أياً كانت مع مبادئ الحداثة والحرية وحقوق الإنسان التي تعيش عليها وترفع راياتها شعوب الغرب.
بدا الغرب بقيادة الولايات المتحدة حليفاً لأنظمة المنطقة الديكتاتورية، تلك التي لا تعترف بديموقراطية ولا بحقوق إنسان، وظل الوضع كذلك حتى بدايات ثورات ما سمي بالربيع العربي، حيث كانت ردود الأفعال الأولى التي صدرت عن أمريكا مثلاً هي التخوف من سقوط هذه النظم، رغم رفع الجماهير الثائرة لشعارات الحرية والكرامة الإنسانية، وفي حين أن العالم الغربي كان حريصاً طول الوقت على الظهور بمظهر من يستحث هذه النظم على الالتزام بهذه القيم، وعلى القيام بخطوات إصلاحية باتجاهها، ثم سرعان ما انقلب الغرب ليؤيد هذه الثورات، بعد أن لمس جديتها وقدرتها الفعلية على تغيير الواقع الذي بدا ردحاً من الزمن وكأنه أبدي، ليدخل الغرب مرحلة جديدة يبدو فيها داعماً للجماعات الإسلامية التي أنشبت مخالبها في الشعوب وقفزت على كراسي الحكم.
هناك تصور سهل وطريف لرؤية هذه الإشكالية أو المعضلة وتفسيرها، وهو تبني نظرية المؤامرة، وبمؤداها نرى الشعوب الغربية كارهة للإسلام والمسلمين، وتعمل بشتى الطرق على إضعافهم، فتارة تلجأ تحقيقاً لهدفها إلى الاستعانة بالنظم الديكتاتورية لتقهر الشعوب وتدخل بها إلى مجاهل التخلف الاقتصادي والعسكري، وتارة أخرى تستعين بالجماعات الإسلامية لترجع بالشعوب إلى قرون عديدة خلت، وتمزق وحدتها الوطنية بالفتن الطائفية، ربما أيضاً تمهيداً لمخطط التقسيم الذي تضمره لدول المنطقة.
جميل هو وممتع استشعار الاستهداف والظلم الذي يهبط علينا من سماوات دول وشعوب حاقدة كارهة لنا نحن الأنقياء الأطهار الطيبين، وبالتأكيد من الألطف والأظرف أن يكون وصول الإخوان أو من هو أسوأ منهم للسلطة هنا وهناك نتيجة مؤامرة أمريكية صهيونية قطرية سعودية، لنظل إلى الأبد نحارب طواحين الهواء، بالتوازي مع تمكن الظلاميين من تخريب سائر بلاد المنطقة تماماً، فمحاربة طواحين الهواء سهلة وميسورة، ولا تقتضي أكثر من تدبيج المقالات، والظهور على شاشات الفضائيات التليفزيونية، نتقمص فيها دور العالمين بالخفايا وبواطن الأمور، فنسرح في تأويلات وتحليلات وتهويمات، كلما كانت أكثر شذوذاً وسفاهة كلما دلت على قدرتنا الفائقة على التحليل، وامتلاكنا لرؤية ثاقبة لا يقدر عليها إلا من يماثلنا في العبقرية، بجانب العبارات الحارة المفلفلة على مواقع التواصل الاجتماعي بالشبكة العنكبوتية.
صعب علينا الاعتراف بالحقيقة المُرَّة، أن ماتبدى حتى الآن نتيجة ثورات الربيع أو الخريف العربي وكأن شعوبنا لديها الاستعداد لقبول الجهالات والعزوف عن العلم الذي تعجز عن استيعابه واستساغته، وكأنها تميل لاعتناق الكراهية وتعجز عن الحب حتى لنفسها، وأن حجم الخِسَّة والنذالة في شخصياتنا وسلوكياتنا مهول، أي أننا في ذاتنا المشكلة التي أعيت الشعوب الحرة في مداواتها، وأن ما يبدو منهم من تخبط أو تناقض إنما يعكس حيرتهم كيف يتعاملون معنا، وكيف يحافظون على مصالحهم، وفي نفس الوقت يدرأون عن أنفسهم شرورنا التي تفاقمت إلى حدود كان يصعب تصورها قبل بضعة سنين قليلة مضت.
نستطيع بالطبع أن نصب اللوم على من يرى "صورتنا" قبيحة أو يتصور فينا القبح، دون أن نفكر في "الأصل" الذي هو المصدر الأول (على الأقل) لهذه الصورة التي نعدها مشوهة، فلاشك أن الرؤية تختلف باختلاف هدف الرائي، فإذا ما غابت الموضوعية أو انتفت من القاموس، فإن الهدف يمكن أن يكون هو التخلص من عبء ما يجري من خيبات ونكبات، والبحث عن شماعة نلقي عليها بما يقض مضاجعنا وننوء بحمله، في هذه الحالة سنفترض بداية الفروض التي تريحنا وتحقق هدفنا، ثم نبدأ بعد ذلك في تأويل وتفسير الظواهر وفق هذه الرؤية، منتقين ما يدعمها مهملين ما يناقضها أو لا يخدم غرضنا في تبريرها وإثباتها، أما إذا التزمنا بالموضوعية، فإن الهدف سيكون هو محاولة تشخيص الحالة، كخطوة أولى نحو البحث عن علاج لاختلالاتها، واضعين نصب أعيننا أن التشخيص الصحيح يحتل أغلب المسافة بيننا وبين الحل المنشود لمعضلاتنا وإشكالياتنا، وفي هذه الحالة سوف نشرع بدرس حقيقي لمكونات الواقع وعناصره، دون انتقاء أو إغفال، معطين لكل عنصر وزناً يتفق مع حجمه الواقعي في التأثير على مجريات الأحداث، لنبدأ بعدها في رسم خريطة للتيارات والعلاقات التي تشكل الصورة، وبهذا نكون قد أوشكنا على العثور على الحلول المطلوبة، مادمنا قد وضعنا أيدينا على منابع الخلل.
في مقابل التفسير التآمري الذي سقناه أعلاه، والذي يكاد يجمع عليه الكل، نخباً وشعوباً في شرقنا الغارق في تهويماته وظلماته، نسوق رؤية أخرى تقول أن الغرب أو العالم الحر "احتار دليله معانا"، وأن ساسته وإداراته قد اقتنعت منذ فترة ليست بقليلة أن لا فائدة ترجى من محاولة إلحاق الشرق الأوسط وشعوبه بالعصر وقيمه وحضارته، وأن هذه الشعوب لا تستسيغ هذه الحضارة، كما تعجز عن مجاراتها، وأن الأسباب التي تجعل هذه الشعوب تتخذ هذا الموقف أقوى من أن يتم التعامل معها والتغلب عليها بإبطال مفعولها، فربما يرجع البعض منها لمقدسات أقوى من أن تقهر، وربما أيضاً هناك ما يمت للطبيعة الجغرافية والديموغرافية، وكذا الصفات البيولوجية للأعراق التي تستوطن هذه المنطقة، المهم أن الغرب ربما استخلص من محاولاته خلال العقود الماضية، ومن بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن، أنه لا أمل فينا في أن نصير جزءاً من منظومة الإنسانية المعاصرة.
لو صح هذا لكان من الطبيعي أن يحدد الغرب لنفسه هدفاً أكثر تواضعاً، هو الحفاظ على مصالحه، ووقاية نفسه قدر المستطاع مما قد يلحق به من الشرر المتطاير أو الموجه من حرائق تخلفنا، فصار ينشد الاستقرار والانضباط في المنطقة كحد أدني ضروري ولا غنى عنه، سواء جاء هذا الاستقرار على يد قوى عسكرية ديكتاتورية، أو عن طريق التيارات الدينية باعتبارها الخيار المفضل للجماهير في سائر دول المنطقة، وكلا الخيارين بالطبع مُرُّ بالنسبة للغرب، فكلاهما يتناقض مع نوعية الحياة الغربية ومثلها وقيمها، علاوة على العداء الصريح للتيارات الدينية تجاه الغرب المسيحي، لكن ربما كان لسان حال الساسة الغربيين إزاء هذا هو أن ترديد المقولة المصرية الشائعة "ما باليد حيلة"، لابد من الاستقرار الذي يحققه من يقبض على زمام الأمور، فإذا انصاعت الشعوب لديكتاتوريات العسكر فهم لهم حلفاء، وإن قلبت العسكر وجاءت بمن هم أكثر منهم همجية وتخلفاً وعداء، فلا محيص أيضاً من التعامل معهم، ورغم عداء هؤلاء الأيديولوجي للغرب، إلا أن اختيار الشعوب لهم بكامل حريتها سيكون بالتأكيد عاملاً مساعداً على تحقيق الاستقرار المنشود، ويمكن في هذه الحالة وبدعم تمكين هؤلاء الظلاميين من السلطة، أن يسهل دفعهم وتحريضهم على احترام الحريات وحقوق الإنسان، وأياً كانت درجة استجابتهم في هذا الاتجاه، إلا أنه سيخلق بالتأكيد حالة أفضل من العداء لهم، تخوفاً من أن يتكرر نموذج إيران في سائر دول المنطقة.
لو صح هذا التصور فإن هذا يعني أنه "لا يحك جلدك مثل ظفرك"، بمعنى أن الغرب لن يجلب لنا التحضر والتقدم ليسقيه لنا في كأس بلوري، وأن علينا أن نسعى نحن لتعديل ما بأنفسنا، وأن نجد طريقة لتنمية وعي جديد، وعي يختار الحداثة والحضارة، ويفارق إلى غير رجعة ماض متخلف غير مأسوف عليه، فإن تحقق هذا وصار واقعاً سياسياً واجتماعياً، فسوف يسارع الغرب والشمال والجنوب بالتحالف معنا ودعمنا، هو قانون طبيعي أن يزداد الأقوياء قوة، وأن يذهب الضعفاء إلى الجحيم!!
صحة ما ذهبنا إليه في هذه السطور ستكون إذن على المحك الآن، وقد قام الشعب المصري ثانية ليعدل مسيرة ثورته، وليسترد بلاده ممن اختطفوها، فبمجرد أن تثبت الجماهير المصرية التي تنتفض الآن ضد هيمنة الإخوان والسلفيين، أنها جادة في رفض التخلف وفي السعي لتأسيس دولة وطنية حديثة منفتحة على العالم، سنرى كيف يقف معها العالم الغربي شعوباً وحكومات، وذلك بأضعاف أضعاف ما رصدنا من مساندتها لإخوان الظلام والتخلف حين نجحوا في الوصول إلى السلطة، وحينها سندرك أن المعضلة الشرقية التي ظللنا طوال الوقت ننوح على ما تجلبه علينا من ديكتاتورية وتخلف كان حلها وفك شفراتها طوال الوقت بين أيدينا نحن، وليس بيد من تصورناهم وصورناهم وكأنهم أعداء أبديين لنا.!!
عن ايلاف