السلطة جموح بطبيعتها , وإن دامت في يد واحدة فهي مَفسَدة ولا يقدر على كبح جماحها غير نبي معصوم , وهذا الجموح مركوز في طبيعتها بغض النظر عن ديانة ومعتقدات من تقع هذه السلطة بيده , والأمثلة كثيرة وأجلُّ من أن تحصى , ويذكرها لنا التاريخ من عصور الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلام . فالسلطة هي القدرة التي تمكِّن قلة من الناس من جعل أغلب الناس يفعلون ما قد لا يفعلونه بمحض إرادتهم , وعليه تكون السلطتان السياسية والدينية في ذلك سواء , وأداة السلطة السياسية لذلك هي الترهيب , وأداة السلطة الدينية هي الترهيب والترغيب . وإذ نسلِّم أن الانفلات من طبيعتها , يكون من الضروري إيجاد وسائل للسيطرة عليها وكبح جماحها والمحاذرة من تركيزها في يد فرد واحد أو مؤسسة واحدة , وإنما يتعين تفريق فعالياتها بين المؤسسات الثلاث الرئيسية : التشريعية والقضائية والتنفيذية , والحرص على الفصل الكامل الحقيقي بينها , وفرض قيود حقيقية على الحاكم وتحرير الصحافة وكفالة حرية الرأي والتفكير, وأن يتحقق ذلك كله من خلال الدستور والقانون . فالسلطة إن لم تكن مقيدة أمكن لصاحبها أن يستبد استبداد من لا يخشى أحدا فيهلك الحرث والنسل . ولا ينبغي سلب حق الشعوب في استرداد السلطة الممنوحة لحكامهم إذا انحرفوا . والسلطة السياسية بحاجة دائما إلى لجام تسيطر به على الناس , وعبر التاريخ كله لم يكن هناك أفضل من الدين والكهنوت يستخدمهما صاحب السلطان السياسي لامتطاء ظهور الناس وقمعهم وشل وعيهم وصرفهم بعيدا عن مصالحهم الحقيقية التي تخالف تماما مصالح السلطان , ولم يكن غير الدين , فهو خير ما يمثل الترغيب والترهيب للناس المطلوب ترويضهم واستئناسهم كي يتقبلوا ما ينزله بهم السلطان من صنوف الهوان والاستغلال . وليس أضر على الدين من الكاهن الذي يحسن الكلام ولا يخاف الله . ومن يتاجر بالدين ليثرَى لأشد فسقا من الغانية التي تزني لتأكل , والسلطان الذي ينهب أموال الناس التي ائتمنوه عليها , لأكثر سقوطا من قطاعي الطرق .
ودين الله يسلِّم السلطة للناس , لكن الفقيه شرعها سلطة عليهم , وبدون هذا التشريع لا تدوم أرستقراطية الكهنة والفرعون , وبدلا من أن تحمي السلطة حرية الفرد , قامت هي بسلبها .
ومراد التحالف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية هو تثبيت الواقع ذي التركيبة الطبقية التي تيسر نهب نواتج مجهود عموم الناس من المستضعفين وتسليمها إلى الحاكم ( فرعون أو قيصر أو ملك أو خليفة أو سلطان) والكاهن (شيخ أو حاخام أو قسيس أو سادن صنم), والملأ(الأشراف والنبلاء وأصحاب المال والإقطاع , وهم وجهاء القوم والمترفون ومجموعات المصالح المنتفعون بالوضع الراهن الذي يصنعه تحالف السلطان مع الكاهن) , فكلهم صياد ولكن الشباك تختلف . والقانون الذي يسنه هذا التحالف يقر التمييز الطبقي ويوجد له الضمانات القوية .