أوّلا :
1 ــ حين كنت طالبا بالثانوى بالزقازيق كنت أستيقظ صباحا على نداء عم معوض بائع الفول المدمس وهو ينادى على بضاعته قائلا : " يازبدة .. ياجواهر" ، وعقلى الذى كان ولا يزال سبب شقائى فى هذه الحياة كان لايكف عن عقد المقارنات بين الفول والجواهر.. وكان يخرج بنتيجة مرضية، وهى أن الفول أثمن من الجواهر، وكنت أتخيل عم معوض الذى لم ير الجواهر فى حياته قد ظلم الفول حين شبّهه بالجواهر، وكنت أتخيل عم معوض يسير فى الصحراء وحيدا ومعه كيس فول ، وهو به أغنى الناس، ولو كان مكانه أحد الأثرياء ومعه كيس جواهر وقد أصابه الجوع فى الصحراء فإنه يكون على أشد الاستعداد لأن يتنازل عن كل الجواهر فى مقابل بضع حبات من الفول. وكنت أرى بعين عقلى مئات الملايين من الناس البسطاء الذين عاشوا ويعيشون فى رضا دون أن يرى أحدهم جوهرة ، ولا يحس أنه ينقصه شىء!!. وفى المقابل كنت أرى بعض الناس يحسبون أنفسهم الأذكى والأعظم من الآخرين، وهم قد أضاعوا حياتهم فى سبيل تلك الجواهر ثم يتركونها كما هى لتظل كالطعم فى السنارة يجذب اليه المزيد من الضحايا، وهكذا يظل البشر يتصارعون حول قطعة حجر ملون لا تؤكل ولا تشرب ، يسفكون دماءهم فى سبيلها وتبقى هى كما هى . أى أنها نوع جديد من عبادة الأحجار الكريمة تكون ضحاياها البشرية بالآلاف وباستمرار. وكنت أتخيل أننى أشاهد فيلما سينمائيا تقوم بالبطولة فيه قطعة حجر من الألماس عثرت عليها قبيلة أفريقية ، وصقلتها، ثم انتزعتها منها قبيلة أخرى بعد أن سقط آلاف الضحايا وجاء الرجل الأبيض فاستولى عليها ونقلها الى بلاده بعد أن سالت أنهار الدماء ، ولكن اثناء النقل فى البحار هجمت سفن القراصنة فاستولت عليها ،واصطبغ لون البحر بالدم ، وهكذا .. تتنقل قطعة الألماس من يد الى يد وحيثما انتقلت وتنتقل تسيل دماء البشر أنهارا، وقطعة الألماس تنظر إلى أولئك فى احتقار واستخفاف .. كأنها تقول هل من مزيد .. وهى حتما ستجد المزيد طالما يفقد الإنسان عقله وكرامته أمام بريق الجواهر .
2 ــ وبعدها تخصصت فى التاريخ ففوجئت بأن بين سطوره مايفوق خيال الروايات والدراما ..كنت مخدوعا بالشعارات والعناوين فوجدت عند الجواهر الخبر اليقين . لقد جاء العباسيون بعد أن قضوا على الدولة الأموية ، وقد رفعوا شعارات برّاقة تبشر بالخلاص من الظلم الأموى ، ولكن سرعان ما استحضر الخليفة المنصور أحد خبراء الإقتصاد الذين عملوا فى خدمة الأمويين وسأله عن أفضل أموال الأمويين فأفتى بأنهاالجواهر، فأخذ المنصورالعباسى بنصيحته وأخذ يستكثرمن شراء الجواهر ، وصارت تلك سياسة رسمية للخلفاء العباسيين .. كان الأمويون قد ورثوا جواهر الأكاسرة ثم صارت الى العباسيين ، أو كما يقول المؤرخ ابن الجوزى " وكانت جواهر الأكاسرة وغيرهم من الملوك قد صارت الى بنى أمية ، ثم صارت إلى الخليفة السفاح(العباسى) ثم إلى المنصور، واشترى الخليفة المهدى الفصّ المعروف بالجبل بثلثمــــــــــــائة ألف دينار ، واشترى الرشيد جوهرة واحدة بألف ألف دينار ، ولم يزل الخلفاء يحفظون ذلك الى أن آلت الخلافة الى المقتدر ، وهناك مالم يرمثله وفيه الدرة اليتيمة زنتها ثلاثة مثاقيل ".
3 ــ وتضخمت ثروة العباسيين من الجواهر حتى تولى المستعصم الذى قتله المغول حين اقتحموا بغداد وأهلكوا أهلها ، ويذكر المؤرخ الهمدانى الذى كتب سيرة المغول أن كل ماجمعه العباسيون من الجواهرخلال خمسة قرون إستولى عليه المغول ، ووضعوه بعضه فوق بعض حتى صاركالجبل العظيم . وذلك الكنز الذى لم يسمع بمثله قط جعل هولاكو يقيم له قلعة حصينة فى أذربيجان لتكون خزانة لتلك الجواهرالتى جمعها العباسيون تحت شعارات جميلة وبراقة.. وماتوا وتركوها ولكن حملوا وزرها معهم .
4 ــ والطريف أن تلك الجواهر ـ التى كانت للأكاسرة ثم للأمويين ثــــــم للعباسيين ثم للمغول ــ مالبثت أن استولى عليها المستعمرون حين نهبوا ثروات الهند خلال الشركات التجارية التى مالبثت أن أفسحت مكانها للإستعمارالمباشر، فقد كان أثرى حكام الهند من سلالات المغول الذين سلبوا كنوز بغداد العباسية . أى ربما ترجع بعض جواهر التاج البريطانى الى أصلها المغولى ثم العباسى ثم الأموى ثم الفارسى .. والله أعلم ..
5 ــ والفاطميون فى مصرساروا فى نفس الطريق، اكتنزوا الجواهرالى أن جاءت المجاعة الكبرى فى خلافة المستنصر الفاطمى ونهب الجند كنوز الخلافة وظهر المستور . وقد سجل المؤرخ المصرى ابن ميسرة أنه رأى مجلدا يحوى عشرين كراسة فيها بيان بالجواهر التى سلبها الجنود من خزائن الخليفة الفاطمى المستنصر .. !!، وقد استمر ذلك النهب المنظم مدة سنتين (459 ـ 461 هـ) .. وانتقلت تلك الجواهر من يد الى يد كما هى العادة ، حتى وصلت الأمويين ثم المماليك ، ثم الولاة العثمانيين ، ثم أسرة محمد على .. !! والله تعالى أعلم ببقية القصة ..
6 ــ أما نحن ـ معشر البسطاء ـ فالجواهر التى نعتز بها هى حبات الفول الذى يقول فيه المثل الشعبى أنه يكاد يمشى على قدمين ، وذلك الجوهر الغالى عندنا يبعث الحياة والدفء وليس للحقد والحرب ، وأن تكون على مذهب عم معوض بائع الفول خيرا من أن تكون على مذهب السلاطين .
أخيرا
نشرت لى جريدة الاحرار هذا المقال بتاريخ 12 اكتوبر 1992 ، كنت أنصح فيه الأبقار السّمان فى حرامية عصر مبارك . ولكن تحولت الأبقار السمان الى حيتان سمان ، وانتهى الأمر بزعمائهم الى سجن طرة . وأعيد نشر المقال ولكن بنصيحة علنية لغلمان ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز وابن عثيمين وابن ستين فى سبعين ..لعلّ ..وعسى ..