ضياء رشوان يكتب: مراجعات أم تراجعات؟.. سؤال واحد وإجابتان

في الجمعة ٣٠ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

تثير بعض ردود الأفعال علي وثيقة «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم» ومجمل عملية المراجعات التي عرفتها مصر قبل أعوام عشرة مع الجماعة الإسلامية وتشهده اليوم مع جماعة الجهاد، أسئلة كثيرة مهمة وضرورية، يبرز في المقدمة منها التساؤل حول جديتها واستمرارها، والذي يتلخص في كلمات ثلاث: مراجعات أم تراجعات؟

والحقيقة أن الشيء الملفت في هذا التساؤل، هو أنه يطرح من فئتين من النخبة، متناقضتين جذرياً في كل شيء: الأولون هم بعض من المنتمين للقاعدة والفكر السلفي الجهادي خارج مصر، والآخرون من المنتمين لمدارس فكرية حديثة ليبرالية وقومية ويسارية ترفض بحسم ليس فقط التيارات الإسلامية الجهادية بل أيضاً التيارات السياسية المعتدلة منها.

ويؤدي تأمل السؤال نفسه عند الطرفين المتناقضين إلي اكتشاف أنهما يحملان الإجابة نفسها له، وهو أنها تراجعات، إلا أن كلا منهما يقصد مضموناً لها عكس ما يقصده الآخر تماماً. فبالنسبة لأنصار القاعدة وأعضائها، التراجعات هنا تحمل معني سلبياً مؤكداً وهو تخلي أصحابها عن أفكارهم ومواقفهم الجهادية السابقة، التي هي ـ حسب اعتقادهم ـ المعبرة بدقة عن الدين الإسلامي وواجبة الاتباع من عموم المسلمين، بما يضع المتراجعين عنها في فئة المخدوعين أو الضالين أو الحانثين بالعهد الجهادي، وصولاً إلي أن يكونوا كافرين عند بعض من هؤلاء.

أما عند أنصار وأصحاب المدارس الفكرية الأخري، فالتراجعات تعني ثبات هؤلاء الجهاديين السابقين علي أفكارهم ومواقفهم السابقة، وأن ما يعلنونه من نقد لها وتخل عنها لا يعدو أن يكون نتيجة لأحد سببين أو الاثنين معا: إما أنها استجابة قسرية للقيود والضغوط التي يخضعون لها في السجون، أو أنها تقية منهم وإخفاء لحقيقة تمسكهم بما سبق من أفكار ومواقف. أما المراجعات كمصطلح ومعني، فهي تتخذ عند الطرفين، وبمجرد طرح السؤال بصياغته السابقة، معني إيجابياً مقابل المعني السلبي الذي تحمله التراجعات، وإن لم يجرؤ أحد منهما علي قول ذلك صراحة أو أن يحدد ماذا يقصد بالضبط بالمراجعات.

والحقيقة أن السؤال نفسه يحتاج للمناقشة بمنهجية أخري، بما قد يؤدي لاستيضاح إجابته الحقيقية. وأولي خطوات تلك المنهجية هي تحديد أي الإجابتين يمكن أن تعبر بصدق عن طبيعة المراجعات وقد صارت تراجعات في كليهما، وأي معني هو الأقرب للدقة.

ولأن أهل مكة أدري دائماً بشعابها، ولأن أنصار السلفية الجهادية والقاعدة وأعضائهما هم الذين يعرفون ويمارسون فكرهم أكثر من أي أحد آخر، فلاشك أن حكمهم علي المراجعات بأنها تراجعات بالمعني السابق شرحه، يجعلها بالفعل بمثابة قطيعة كاملة مع هذا الفكر، وليست تقية أو ثمرة إكراه أمني، كما يقول الفريق الثاني.

فهؤلاء الأولون يدركون جيداً أي نوع من الأحكام العامة والمنطلقات الشرعية تستند إليها المراجعات، بما يخرج أصحابها ـ حسب رأيهم ـ من معسكرهم الجهادي برمته، ويرمي بهم إلي ساحة المتراجعين عن فكرهم وماضيهم السابقين، في حين ينظر الآخرون للمراجعات انطلاقاً من رؤاهم ومواقفهم الفكرية والسياسية المختلفة بطبيعة الحال مع الإسلاميين أياً كان صنفهم، مما قد يغيب عن نظرهم طبيعة التحول الجذري الذي تعنيه تلك المراجعات.

أما عن القول بأن المراجعات صادرة عن إكراه وضغوط فهو يتضمن ثلاث مغالطات رئيسية علي الأقل: الأولي تتعلق بالعدد الكبير الذي انضم للمراجعات وقام بها، وهو يقارب العشرين ألفاً في حالتي الجماعة الإسلامية والجهاد، مع بقاء بضع عشرات من الأخيرة علي رفضهم لها، فهل من الوارد منطقياً أن تسفر تلك الضغوط وهذا الإكراه المزعومين عن تحول كل هؤلاء بالأفكار نفسها وفي الوقت نفسه؟ أم أنها معجزة من السماء؟

وتتعلق المغالطة الثانية بالتساؤل عن توقيت المراجعات، فلماذا تتم بعد كل تلك السنوات الطويلة التي قضاها هؤلاء الجهاديون السابقون وراء الأسوار، زادت علي ربع القرن بالنسبة لبعضهم؟ ولماذا لم تتم سوي في السنوات التي تحسنت فيها أوضاعهم نسبياً في السجون ولم تحدث في سنوات الجحيم الطويلة التي عاشوها فيها؟

وأما المغالطة الثالثة، فهي ترتبط بسوء فهم عميق لطبيعة الإسلامي الجهادي، الذي يتحول السجن بالنسبة له إلي «أسر» وسجانوه إلي «كفار مرتدين» ومعاناته إلي تضحية من أجل العقيدة وحتي موته إلي «استشهاد» في سبيل الله.. فكيف يمكن لمن يملكون تلك الرؤية إذا كانوا لايزالون متمسكين بها أن تؤثر فيهم ضغوط أو إكراه أيا كانت قسوتهما؟ ويبقي الحديث عن التقية كدافع للمراجعات، وهو بدوره يتناقض جذرياً مع منظومة الفكر السلفي الجهادي، فلا تنازل أو «دنية في الدين» لدي أصحابه، والموت بالنسبة لهم أو الشهادة ـ حسب معتقدهم ـ هو الثمن المنطقي لتمسكهم بعقيدتهم التي تستحق منهم ذلك وأكثر وأدني منه. وليس هذا حكما من تخمين الكاتب بل هو ثابت من جميع التجارب العملية والمراجع الشرعية لمختلف الجماعات ذات الطابع الجهادي والسلفي الجهادي علي مستوي العالم منذ ظهورها في عصرنا الحديث.

ويبقي بعد كل ذلك أن نحدد من جانبنا - مرة أخري في هذا المقام بعد أن ذكرناها في مقامات أخري - معني المراجعات الحقيقي لكي نكتشف طبيعة العملية التاريخية التي نشهدها، فهي بداية المرة الأولي في تاريخ الحركات الإسلامية منذ انهيار الخلافة العثمانية عام ١٩٢٤ التي تقوم فيها جماعات جهادية ذات عضوية تقدر بالآلاف، بمراجعة جذرية وكاملة لأفكارها الجهادية القديمة ولتاريخ طويل من الممارسات المتشددة والعنيفة، لتنتهي منها بالخروج من ثوبها الجهادي العنيف والدخول في فئة الحركات الإسلامية السياسية السلمية.

والمعني الذي تنصرف إليه عملية المراجعات هو في الحقيقة إعادة قراءة مزدوجة لأمرين: الأولي للأفكار التي كان الجهاديون المصريون يتبنونها في الماضي، والثانية لهذا الماضي نفسه وما قاموا به فيه من أعمال وممارسات صارت اليوم جزءاً من التاريخ.

وهذه الإعادة المزدوجة للقراءة تضمنت بداخلها عمليتين سارتا بشكل متواز ومتداخل: الأولي هي النقد العميق والجذري لأفكار الماضي وممارساته، والثانية هي صياغة نسق فكري وأيديولوجي جديد منقطع الصلة بالقديم، صار الجهاديون السابقون يتبنونه، وأضحي هو المحدد لرؤيتهم حركتهم في الحاضر والمستقبل.

اجمالي القراءات 4690