إبن الصيرفى قاضيا ظالما ومؤرخا ظالما

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٩ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الثانى : أحوال الشارع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

الفصل الثانى عشر : إبن الصيرفى قاضيا ظالما ومؤرخا ظالما   

إبن الصيرفى قاض ظالم

1 ـ هناك ظالم بنفسه وظالم لنفسه. الظالم بنفسه هو المجرم الآثم ، والظالم لنفسه هو الضحية المظلوم الذى رضى بالظلم فلم يقاوم ولم يهاجر من بلاد الظلم الى أرض الله الواسعة ليمارس حريته وكرامته فى المدى المتاح له من عمره .الظالم بنفسه المجرم الآثم هو ايضا نوعان :الذى يقترف الظلم بنفسه وبأعوانه،ثم الذين يدافعون عن الظالم ويهللون له ويباركون ظلمه ويؤيدونه ضد المظلومين. وقد عايشنا مسيرة الظلم المملوكى فى تطبيق السلطان قايتباى للشريعة السّنية المؤسسة على الظلم بالنقل عن مؤرخنا القاضى إبن الصيرفى، ورأينا موالاته للسلطان قايتباى ونظام حكمه كأحد أدوات هذا النظام بحكم عمله قاضيا.

2 ــ وإبن الصيرفى لم يتحدّث فى تاريخ ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) عن نفسه وسيرة حياته بإعتباره ضمن أبناء العصر الذين يؤرّخ لهم، فمع أنه سجّل أحداث المجتمع بالتركيز على أخبار السلطان وأخبار الفقهاء والقضاة وأرباب السلطة فلم يخبرنا عن نفسه ، وهو أحد المشاركين فى أحداث العصر. كانت هناك قضايا وأحداث شارك فيها، ومجالس للحكم القضائى حكم فيها ولكنه لم يخبرنا بها،ولم نعرف موقفه منها، أى إنّ (المؤرخ ابن الصيرفى) كتم عنّا عمدا ما فعله (القاضى إبن الصيرفى).!.

وقد عرفنا مما كتبه أن تعيين القضاة وإصدارهم لأحكامهم كان قائما على الرشوة والتزوير والمحسوبية والجهل والوراثة. وبالتالى فإنّ إبن الصيرفى لم يشذّ عن هذا السياق الظالم. وبالتالى فإنه أغفل تسجيل ما كان يدور فى مجلس حكمه وتسجيل ما شارك فيه من أحداث حتى لا يفضح نفسه، أى إكتفى بتسجيل مساوىء الآخرين وكتم مساوئه ، ونشر فضائح الآخرين وأغفل فضائحه . وحتى فى القضية الوحيدة التى ذكرها عن تزويجه طفلة يتيمة من بلطجى نعرف أنه كان ظالما حين إختار أن يزوّج طفلة لهذا البلطجى المجرم ، بل أنه تحامل على أهل بولاق لأنهم إنتصروا للطفلة المظلومة ووصفهم بالغوغاء . وفى النهاية فإنّ ابن الصيرفى واحد من طبقة القضاة الذين كانت وظيفتهم الظلم . وبالتاى فقد باشر الظلم بنفسه قاضيا ، فى دولة تطبّق شريعة الظلم ، وكان هو من آلات تنفيذ هذا الظلم . أى إن إبن الصيرفى هنا هو ( ظالم بنفسه ) شأن السلطان قايتباى. وكان أيضا مواليا للظالم الأكبر قايتباى ، وهذا يسنلزم توضيحا وتأكيدا.

 إبن الصيرفى مؤرخ ظالم :

1 ــ وإبن الصيرفي في تاريخه "أنباء الهصر" تنكّر لوظيفة المؤرخ الأمين، وغلبت عليه صفة القاضى المملوكي وولائه للسلطان الظالم، فانبرى يدافع عن ظلم السلطات المملوكية ويبرر أخطاءها فخان ولاءه للحقيقة التاريخية وخان انتماءه للشعب الذى أنجبه، وكان يرجو منه ومن أمثاله أن يقولوا كلمة حق وأن يرفعوا لواء القسط. لقد رأينا الصيرفي وقد جعل السلطان قايتباى كعبة يطوف حولها عابداً خاشعاً ، وهو بذلك لا يمثل القاضى المملوكي فحسب وإنما يمثل فقهاء السلطة في كل زمان ومكان، خصوصاً إذا كانت تلك السلطة دينية عسكرية تتفرغ للعسف بالناس باستخدام الفقهاء والكهنوت الدينى .ومن هذا الموقع يكون أولئك الفقهاء والعلماء شركاء للسلطة العسكرية فى ظلمها ، يبررون أخطائها ويدافعون عن ظلمها، وأهم من ذلك كله يعطونها الصفة الشرعية لكى ينتشر الظلم آمناً من كل شبهة للاعتراض والانكار إلى أن يصبح ممارسة الظلم نوعاً من أنواع التدين.

2 ــ والخط العام في آراء الصيرفي هو تبرئة السلطان قايتباى من المظالم التى وقعت في عهده وتحميل المسئولية للأعوان الذين لا يبلغون السلطان بالحقيقة. وذلك منهج معروف وشائع في التبرير لم يخترعه ابن الصيرفي ولم يكن آخر من سار فيه، إذ لا يزال مفتوحاً وممداً أمام سدنة الحكام الظلمة في كل زمان ومكان.

وقد ذكر ابن الصيرفي المظالم التى ظهرت عام 873 وازدادت وطأتها بظهور المجاعة والطاعون، وحرص في نفس الوقت على تبرئة سيده قايتباى فقال: ( والسلطان ــ نصره الله ــ ما يظن أن من ولّاه من الوزراء والاستادراية والكشاف ومشايخ الأعراب يصلون إلى هذا الحد الفظيع.). وينسي ابن الصيرفي مسئولية السلطان الكاملة، فأولئك الظلمة قد عيّنهم السلطان بعد أن دفعوا، "البذل" "والبرطلة" أى الرشوة، ولابد بعد أن اشتروا المنصب أن يستردوا من الناس أضعاف ما دفعوا، وإذا تطرف أحدهم في سلب الناس كان السلطان يصادره ويستصفي أمواله تحت التعذيب، وقد كانت له "شرطة سرية" وعيون تتبع أصحاب الثروات من أرباب الوظائف بل والتجار، وحتى إذا مات أحدهم كانوا أسرع من الورثة إلى اقتناص نصيب السلطان في التركة والويل لهم إذا أخفوا شيئاً عن السلطان، ورأينا طرفاً من ذلك، فكيف يأتى ابن الصيرفي بعد أن أورد لنا بنفسه هذه الأخبار ليدافع عن السلطان بأنه ما كان يعلم. والشاعر يقول :

 

إن كنت لا تدرى فتلك مصيبة

 

وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم

 

ولكن السلطان قايتباى كان يعلم ، وكان يتصرّف على أساس علمه حتى لو أدى تصرّفه إلى موت الضحية تحت سياط التعذيب، وابن الصيرفي نفسه ذكر أن السلطان عذّب يحيي بن أبى الفرج حتى تقطّع لحم جلده ومات، وكل ذلك حتى يعترف بما خبّأه من أموال يمكن أن يستحوذ عليها السلطان، يقول ابن الصيرفي عن ذلك الأمير التعس وما قال له : ( أذكر من لفظة أنه صودر تسع عشرة مرة.. واستمر على ذلك إلى أن صادره الملك الأشرف قايتباى أول مرة وثانية. وهو معذور فيه، فإنه يدعى فقراً .) أى فالسلطان معذور في رأي ابن الصيرفي إذا قتل ذلك الأمير السابق الذى باع كل ما يملك، فإنه يدعى فقراً والسلطان يعتقد أنه يدعى فقراً ولديه معلومات أنه لا يزال يخبئ أموالاً له ولا يريد أن يستحوذ عليها، لذا فهو معذور أن قتله تحت السياط. أى كان السلطان يعلم، وربما يعلم (أكثر مما ينبغي )، وكان يظلم ويعذّب الضحية تحت مسئوليته .ولم يكن أعوانه إلا منفذين لأوامره، ولم يكونوا إلا سوطاً لظلمه. وذكر ابن الصيرفي ما حدث لمجاهدى ادكوا حين هزموا مركباً افرنجياً واستولوا عليه وسلبهم الأمير قجماس حقوقهم، فجاءوا يستغيثون بالسلطان فاعتقلهم مع الأسرى الفرنجة وضربهم وأهانهم وحزن الناس من أجلهم، ولا يخفي الصيرفي حزنه من أجلهم ولكن لا ينسي مع ذلك الدفاع عن سيّده قايتباى فيقول: ( فما هان على غالب الناس ترسيم على أهل ادكو فإنهم مجاهدون صلحاء وصنعوا جميلاً غير أن مولانا السلطان نصره الله غُطّي عليه أمرهم.).ولا يملّ مؤرخنا من ترديد نفس الحجة وهى أن السلطان لا يعلم، فهو يتحدث عن مظالم 875 وآثارها السيئة على الناس فيقول: ( وأما الناس فصاروا ثلاث أثلاث، الغني افتقر والمكتسب ما يفي بنفقته، والفقير فبعد أن كان يسأل في الرغيف صال يطلب لُبابة... وأما غير ذلك فمن جهة: الظلم والجور والأحكام الباطلة وانتهاك حرمة الشرع وبهدلة القضاة والفقهاء وعدم نصره المظلوم، وفشا هذا الأمر وانتشر.) ثم يسارع بتبرئة سيده قايتباى ، فيقول : ( وفي الواقع فسلطان مصر الملك الأشرف أبو النصر قايتباى نصره الله، سلطان عظيم شجاع ، فارس معدود من الفرسان، ديِّن عفيف الفرج.. وله ورد في الليل من صلاة وقيام.. ولو بلغه المقربون لحضرته ما يحصل على المظلومين.. لا نصف المظلومين من الظالمين.)

3 ــ وابن الصيرفي كان من ذلك الصنف الوضيع من كلاب السلطة الذى لا يكف ولا يكتفى بالدفاع عن أسياده ، بل يهاجم في نفس الوقت الأحرار الذين يجرءون على قول كلمة حق أمام السلطان الجائر، ونعرف هذا من نقل المؤرخ ابن الصيرفي لمجلس سلطانى حضره، وكان جميع الحاضرين يأملون أن يسقط السلطان غير المستحقين للنفقة من المماليك الأثرياء بينما يريد السلطان أن يوافقه الجميع على أخذ أموال الأوقاف والتجار، ولم يجرؤ ابن الصيرفي على مواجهة السلطان بالحق، وحين تحدث أحد القضاة بالحق أمام السلطان أفصح عما يعتمل في نفوس الجميع عاقبه الصيرفي فحرمنا من معرفة اسمه وصفته حقداً منه على ذلك القاضى الشجاع، يقول ابن الصيرفي يصف ذلك المجلس: ( فتكلم بعض القضاة بأن الظلم لا يجوز في ملّة من الملل، لأنه قصد بذلك السلطان، لأنه بلغه عنه أنه يريد أن يأخذ فائض أموال الأوقاف وأموال التجار، ثم أن القاضى المذكور أخذ يقول أن السلطان له النظر العام ينظر فيمن يستحق يبقيه في الديوان، ومن لم يستحق يمحوه من الديوان، وتكلم شيخنا أمين الدين الأقصرائى بكلام ساعد فيه القاضى المذكور وعضّده..). احتفل ابن الصيرفي بشيخه الأقصرائي حين تشجّع (وعضّد القاضى المذكور) في كلمة الحق.. أما ذلك (القاضى المذكور) الذى بدأ بقول الحق فقد تحول إلى نكرة في تاريخ ابن الصيرفي الذى حفل بآلاف الأسماء والألقاب، والسبب أن القاضى المذكور الذى لا نعرف اسمه ــ مع شديد الأسف ـــ تشجع وقال كلمة حق أمام سلطان جائر في وقت جبُن فيه ابن الصيرفي.

4 ــ وابن الصيرفي عاصر مؤرخاً مشهوراً هو جمال الدين أبو المحاسن بن تغري بردى الذى كان حاداً في هجومه على قايتباى وأمرائه، وسلك في ذلك طريقة أستاذه المقريزي في تاريخ "السلوك". وقد استشهد ابن الصيرفي بفقرات طويلة من تاريخ أبى المحاسن موافقاً إياه في الجميع إلّا ما فيه انتقاد للسلطان قايتباى والداودار الكبير يشبك. عندها نجد ابن الصيرفي يتجرد دفاعاً عنهما وهجوما على المؤرخ أبى المحاسن ،مع أن ابن الصيرفي كما يظهر في أغلب ما كتب كان أقرب للهدوء والمسألة، ولكنه كان يخرج عنهما إلى العنف إذا هوجم أسياده المماليك.

5 ــ كان إبن الصيرفى تابعاً وفياً للسلطان الذى لم يأبه به ولم يعلم عنه شيئاً ذا بال. فإن ابن الصيرفي نفسه يذكر أن قايتباى حين استعرض القضاة واحداً واحداً أثناء أزمته مع القضاة استفهم عن ابن الصيرفي وسأل عمن عمله قاضياً . أى كان ابن الصيرفي في سلطنة قايتباى مجرد كومبارس ممن يدخلون عليه مع كبار القضاة الأربعة وفي خدمة قاضى الحنفية باعتباره تابعاً لابن الشحنة قاضى القضاة الحنفية ثم من جاء بعده، ولم يكن قايتباى يهتم كثيراً بمجئ قضاة القضاة ومشايخ الإسلام حسب تعبير ابن الصيرفي، لم يكن يهتم كثيراً بمجيئهم إليه يهنئونه بأول كل شهر عربي إلا إذا أراد استخدامهم لغرض من أغراضه، فكيف يهتم بأحد القضاة من الدرجة الثانية كابن الصيرفي. ومع ذلك اتخذ ابن الصيرفي من قايتباى كعبة يطوف بها ، ويخرج عن طبيعته الهادئة المسالمة ليهاجم من ينتقد ذلك السلطان مثلما فعل مع المؤرخ جمال الدين أبى المحاسن.

6 ــ  حين ترجم إبن الصيرفى للمؤرخ أبى المحاسن في سنة وفاته 874 ملأ الترجمة بهجوم لاذع عليه بعد موته. ولم يكن يجرؤ على إنتقاده فى حياته حين كان خادما له ، فقد إعترف إبن الصيرفى  بأنه كان خادماً للمؤرخ أبى المحاسن، يصفه فيقول عنه:(مخدومنا) . وبعد موته أخذ إبن الصيرفى يهاجم سيده ومخدومه السابق أبا المحاسن بسبب انتقاد أبى المحاسن للسلطان قايتباى في تاريخه، فكان ابن الصيرفي ينقل هجوم أبى المحاسن على قايتباى ليرد عليه.

6 ــ  وننقل بعض الشواهد :.

6 /1  : في أوقات المجاعة والطاعون ترك السلطان القاهرة وذهب يتنزه في الشرقية والغربية والبحيرة حيث يتبعه عسكره أفواجاً وترد عليه الهدايا تباعاً، وبعد أن هلل ابن الصيرفي للسلطان في هذه الرحلة أورد رأى أبى المحاسن فيها، ونقل قوله عن السلطان:(ولم يظهر لسفره في هذه الأقاليم الثلاثة نتيجة،بل شمل الخراب غالب قراهم من النهب والكلف،ولم يفتكوا بمفسد ولا ردعوا قاطع طريق، بل كان دأبه أخذ التقادم،(أى الهدايا) والانتقال من بلد إلى آخر من غير فائدة، بل الضرر الشامل. فلما علم المفسدون منه ذلك طغوا في الناس وزاد شرهم وقطعوا الطريق..حتى أن بعضهم كان يفعل ذلك بقرب وطاق(أى خيمة) السلطان مع بعض حواشيه وأعوانه، وهو فيما هو فيه، فوقع بذلك غاية الوهن في المملكة، وآيس الناس من منع ظلم العرب، (أى الأعراب)، لهم وقالوا إن كان السلطان ما أزاله عنه فمن بقي يزيله.). وسارع ابن الصيرفي بالرد على أبى المحاسن يقول:( وقلت وهذا الكلام الذى ذكره الجمال مردود من وجوه، لأن السلطان نصره الله إذا توجه بنفسه إلى بلد أو قرية ضروري أن أهل تلك البلاد من المفسدين وغيرهم يفرون منه.). وذلك دفاع هزيل.

6 / 2 : إلا أن مساوئ تلك الزيارة السلطانية للدلتا امتدت للقاهرة، فأثناء غياب السلطان عن القاهرة زاد الغلاء، وانتهز أعوانه غيابه فقطعوا عن الناس ما اعتادوا من توزيع الأضحية في عيد الأضحى ويعترف ابن الصيرفي بذلك فيقول: ( وكان هذا العيد أشبه بالمآتم لما طرق الخلق من الحزن والكآبة وقبض الخاطر، وافتقر بذلك الغلاء خلائق من الأعيان، وقال الجمال يوسف بن تغري بردي المؤرخ في تاريخه:هذا والسلطان دائر بتلك الأقاليم في هوي نفسه ، وأنه أخذ الأموال والتقادم من الناس حتى من كبار فلاحى البلاد، ويتوجه بنفسه إليهم حتى يأخذ تقدمتهم، ولم يكن في سفرة السلطان هذه مصلحة من المصالح بل المضرة الزائدة ، ولا سيما على الفلاحين وأهل القري فإنهم شملهم ضرر الأعوان لأخذ الأحطاب، وكانوا إذا لم يجدوا حطباً أخذوا أبواب البيوت، وفعلوا ذلك بغالب الأرياف والطواحين، وبالغوا حتى قالوا فعلوا ذلك بأبواب المساجد، انتهى كلامه، قلت أقسم بالله لولا وجود هذا السلطان نصره الله في الوجود، وحرمته التى ملأت الأقطار والأمصار ودوسه البلاد وإرساله التجاريد، (أى الحملات) ويقظته التامة لرأى الناس والعياذ بالله، الموت عيانا.).أى أن إبن الصيرفي حين أعوزته الحجة للدفاع عن السلطان لجأ للقسم بالله، وعندى أنه حانث..

6 / 3 : ودافع ابن الصيرفي عن الداودار الكبير الرجل الثاني في الدولة، وحين قال عن السلطان قايتباى : (ولو بلغه المقربون لحضرته ما يحصل على المظلومين.. لأنصف المظلومين من الظالمين سارع بعدها فقال ليبرئ الداودار الكبير حتى لا تلحقه تهمة عدم إبلاغ قايتباى بالحقيقة ، فيقول : ( وأمّا عظيم الدنيا وصاحب حلّها وعقدها المقر الأشرف الكريم العالى السيفي أمير داودار الكبير وما مع ذلك- عظّم الله شأنه، فما عنده من يعلمه بهذه الأمور.).ولكن ينسي فيناقض نفسه حين يذكر حادثة القبض على صبي صغير برئ ليكون رهينة حتى يستحوذوا من أمه على التركة التى خلفها أبوه، ويذكر أن ذلك تم بأوامر من الداودار الكبير، يقول: ( فقبضوا لى ولده الصغير الذى ليس له سواه، وعمره أقل من عشر سنوات، ورسم عليه لأجل أخذ المال بأمر الأمير الداودار الكبير. وإلى الله المصير.). ولا ننسى تلك (الصفات الحسنى) التى أضافها الصيرفي للداودار الكبير خصوصاً بعد أن زاد نفوذه وتولى الوزارة والاستادراية واعتقل خصومه وطاردهم، يقول : ( والذى يظهر لى أن أمر هؤلاء الممسوكين جميعهم راجع إلى رأى الأمر المعظم لمكرم وعظيم الدنيا الداودار الكبير فإنه صار مدبر المملكة ومشيرها ونظامها وصاحب حلها وعقدها والمتصرف فيها.).

7 ــ ويلاحظ أنه كلما زادت سلطات الداودار وزاد طغيانه زاد إبن الصيرفي من إضافة الألقاب إليه وزاد في الدفاع عنه والهجوم على منتقديه. فالدوادار الكبير حين ضم إليه الوزارة أناب عنه "قاسم جغيته" في الوزارة ليتكلم باسمه وليتحمل عنه سخط الناس، وتنفيذاً لأوامره قطع قاسم أرزاق الناس،وأورد الصيرفي هجوم المؤرخ أبى المحاسن وقوله:( واستمر الحال على ذلك أياماً كثيرة والناس منه في وجل وخوف من تناول المرتبات الكثيرة، أما من قنع وعفّ وكفّ عن ذلك فهو في أمان من الداودار وغيره).وذنب المؤرخ أبى المحاسن أنه أوضح أن الداودار يشبك هو أساس البلاء، وليس قاسم جغيته الذى ينفذ الأوامر بقطع المرتبات. لذا يسارع الصيرفي بتجريح أبى المحاسن فيرد عليه: ( قلت: أقسم بالله لو قدر أن يرتب للجمال المذكور،(أى المؤرخ أبى المحاسن) في راتب اللحم.. زيادة على ما بيده.. لقبل ذلك.. لكنه لم يصل إلى ذلك.).

8 ــ وطريقة ابن الصيرفي هى انتقاد نائب الوزير قاسم جغيته الذى لا خطر في الهجوم عليه والذى يتعرض للعزل والسجن والضرب من أسياده المماليك، وفي نفس الوقت يقوم الصيرفي بتبرئة الداودار الكبير ويمدحه. بل أنه حين ورد خبر تولى الداودار الوزارة وتولى قاسم النيابة عنه فيها على أساس توفير المرتبات وقطع أرزاق الناس فإنه يهاجم الجميع ما عدا الداودار الكببر، يقول عن الداودار الكبير: (واستقر في الوزارة عوضاً عن الحاج محمد الأهناسى بحكم القبض عليه وعزله، ولعجزه وخموله وظلمه وخسفه ورقاعته، ولا ذا بذاك.) أى لا وجه للمقارنة بينه وبين الداودار يشبك، ثم يقول عنه: (حين جلوسه طلب قاسم جغيته المعزول عن الوزر، ( أى الوزارة )  قبل تاريخه وأمره بالتحدث على الوزر، فإنه عرّف الأمير الداودار ــــ نصره الله ـــ أنه يوفر من مرتبات أولاد الناس والمتعممين والأيتام وغيرهم في كل يوم كذا وكذا  قنطاراً من اللحم، ولا زال يسأل في ذلك ويلح عليه ويترامى على رجليه حتى وليها .وفوض له الكلام فيها.).وبهذه الصورة يحاول مؤرخنا تبرئة الداودار من قطع أرزاق الناس ويلصقها بقاسم جغيته ثم يمدح الداودار لقبوله منصب الوزارة فيقول : ( ولقد زاد منصب الوزارة بهذا الذى وليه رتبة سنية وسعداً مستمراً فإنه أهل للسعادة وزيادة.).

ثم يلتفت إلى قاسم جغيته يهاجمه: ( وفي الحال شمّر قاسم جغيته ساعده في قطع رواتب العسكر والأجناد ممن له زيادة على عادته وكلهم زيادة وأما المتعممون، أى المشايخ فشنع فيهم أى بالغ في قطع أرزاقهم، بل أنه طالبهم بما أخذوه بأثر رجعي، يقول "وليتهم سلموا من المطالبة بما تناولوا قديماً، ووقع الترسيم أى الاعتقال على جماعات منهم وألزموا بأموال جمة وهرب خلق كثير.

9 ــ وطبيعي أن الاعتقال يأتى من الداودار وليس من قاسم جغيته خادم الداودار.. ثم يذكر الصيرفي معاناته أرباب الوظائف من قطع مرتباتهم فيقول "وأما أكابر الدولة وأعيانها ومباشروها فكل منهم خائف من المصادرة.. ثم لا يجد الصيرفي منقسماً أخر لغيظه إلا في الفقراء الذين لا يملكون مرتبات تقطعها عنهم السلطة، فيقول:( مع أن جماعة ما طرق قلبهم الهم والغم وهم العوام والفقراء فإنهم يتنزهون ويتفرجون فلا بارك الله فيهم، ما أقبح فعالهم.! ) وهكذا يفجر الصيرفي غيظه في أبى المحاسن وقاسم جغيته والعوام  والفقراء ، وتطيش سهامه عن الداودار الكبير والسلطان قايتباى وهما أساس البلاء.

10 ــ وقد قام ذلك الداودار بغارة على الصعيد لمحاربة الأعراب ، ثم عاد للقاهرة ومعه أسرى ورهائن من الأولاد الصغار والنساء، وكانوا في حالة تعسة. وهلّل الصيرفي لقدوم الداودار يقول: ( قدم المقر الأشرف المعظم المفخم عظيم الدنيا ومشيرها ووزيرها وداودارها الكبير وصاحب حلها وعقدها ــ من بلاد الصعيد ، وصحبته عدة من العربان ونسائهم وأولادهم نحو أربعمائة نفر ، ففروقوهم على الحبوس.)( أى السجون).

ثم أورد كلام المؤرخ أبى المحاسن ( وصل الأمير يشبك الداودار من بلاد الصعيد بعد ما نهب أهلها وبدد شملها وأخرب عدة قرى من شرقي بلاد الصعيد وأحضر معه من نسائهم وأولادهم أكثر من أربعمائة امرأة إلى ساحل بولاق في المراكب، هذا بعد أن مات منهم عدة كثيرة من الجوع ولا يعرف أحد مقصود الداودار في حبس هؤلاء النسوة.). فالمؤرخ أبو المحاسن كالمعتاد يذكر إسم السلطان والداودار بلا ألقاب تعظيم وتقديس كما إعتاد ابن الصيرفى، وهنا يذكر تفصيلات الخبر المؤلمة دون أن يرهق القارئ بألقاب ومدائح الداودار، وذكر لنا أن الأسرى نساء جوعى وليسوا محاربين، وربما ليسوا أعراباً، وإنما هم من أهل الصعيد، ثم وصف مأساتهم وموت بعضهم من الجوع والبرد، وتعجب من استحضار الداودار لأولئك النسوة.. إلا أن ابن الصيرفي لم يعجبه ذلك لأن فيه إيلاما وهجوماً على سيده الداودار الكبير، لذا انبرى يدافع عنه بطريقة الخدم فيقول "قلت ولولا وجود مثل هذا الملك الذى ملأت حرمته الأقطار على رؤوس الأشهاد وسفره إلى الوجه القبلي وتمهيده وتنظيفه من المفسدين لرأينا ما لا يطاق وصفه، والحمد لله على كل حال.

11 ــ المؤرخ أبوالمحاسن ليس مصريا أصيلا مثل إبن الصيرفى.فأبوالمحاسن وفد أبوه ( تغرى بردى ) لمصر مملوكا وترقّى حتى صار أميرا ، وأنجب فيها إبنه جمال الدين أبا المحاسن.وكان أبوالمحاسن أكثر تعاطفا مع المصريين من ذلك المصرى الوضيع إبن الصيرفى .أبو المحاسن لم يستطع كتم تعاطفه الإنساني مع النساء المصريات اللاتى جئ بهن مع أولادهن إلى القاهرة جوعي ليلقي بهن في السجون بلا ذنب، أما المؤرخ المصري "الأصل" والنشأة ابن الصيرفي فيرى في أعمال الداودار تنظيفاً للصعيد ولولاه لرأى ابن الصيرفي من نساء الصعيد ما لا يطاق وصفه.!!، لذا يحمد الله أن قام الداودار بحملته التى أسفرت عن أسرهم.

أهذا يجوز يا ابن الــ...الصيرفي.؟.

السطر الأخير

نموذج إبن الصيرفى تجده فى عصرنا، فى قضاة يحكمون بالظلم وبقوانين إستثنائية ومحاكم طوارىء وعسكرية ، وفى أجهزة الاعلام الحكومية المقروءة والمسموعة والمرئية،وفى شيوخ (أمن الدولة ) وفقهاء المواكب الراقصة بالبخور بين يدى السلطان.

عليهم جميعا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . 

اجمالي القراءات 10782