انتهت الأجازة في القرية بعد أن استمتعت بيومين من أحلى أيام التأمّل، رجعت إلى مدينتي وبدأت في تهيئة نفسي لقبول واقع جديد ومختلف..وفي يومٍ اشتكت لى زوجتي من المُدرسة التي تُدرس لإبني الأكبر في السنة الدراسية الأولى من المرحلة الأساسية، وقالت أنها ضربته ضرباً مبرحاً وأن الطفل جاء يبكي بعد انتهاء فترة المدرسة..قلت في نفسي هذا تصرف خاطئ بكل تأكيد..ولكن لابد من استماع وُجهة النظر الأخرى لعل هناك شيئاً ما فالصورة لدي من وجه واحد، ولكي تكتمل لابد من رؤية الوجه الآخر.
ذهبت إلى المدرسة وتقابلت مع المُدرسة وتساءلت عن حقيقة ما حدث..قالت أن المُدرسين والمدرسات يتعرضون لضغوط شديدة فوق طاقتهم، وأن التدريس لأطفال السنة الدراسية الأولى من أصعب ما يكون، فهم يعلمون أنهم في عداد الأب الثاني والأم الثانية ولا سبيل لهم للتواصل مع الأطفال إلا أسلوبهم، ورغم ذلك فالطفل قد لا يفهم أساليب المدرسين والمدرسات لاعتياده على طريقة والديه أو مربيه....تفاءلت كثيراً بعد سماع هذه الرؤية وقلت أنني أقف أمام عقلية جيدة، فطرحها لمبرراتها كان ممتازاً...ولكن ظلت لدي إشكالية الضرب "المبرح" وناقشتها مطالباً بالصبر والعفو أملاً في غرس الثقة في أنفس الأطفال بدلاً من هدمها في لحظات من الغضب...وأنني لن أتشدد لإبني لو كان مخطئاً، ومع ذلك أريد طريقة عقاب أخرى غير الضرب.
انتهى الحوار بتفهم المُدرسة ووصلنا لنتيجة جيدة أعلم أنها لن تطبقها مع طفلي خاصة بل مع كافة الأطفال -في الفصل ... وفي اليوم التالي ذهبت للعمل وإذ بصديقي "غانم" نجتمع أنا وهو في مكانٍ عمل واحد، وفي فرصة جيدة للحوار حدث أن توقفنا عن العمل وقيل أنه سيكون لمدة نصف ساعة على الأكثر..قلت لابد من عرض المسألة على غانم لاستشارته في ما حدث.. ثم دار هذا الحوار:
قلت: ياغانم لو تعرض طفلك للضرب في المدرسة ماذا ستفعل؟..هل ستعفو أما تزجر؟..وإذا عفوت ما البديل؟..وإذا زجرت هل هو عدم تفهم لمعنى العفو بأن ترضاه على نفسك وتكرهه لغيرك أم ماذا؟
غانم:لن أبحث في السبب ولن أعترف بأي مبرر لضرب الطفل، فالتعليم إن لم يكن بالترغيب فهو تعليم سئ..وليس معنى أنني أرفض العفو أن أكرهه للمُدرسة فهي تتعامل مع عقل صغير لا يفكر بل أنا أتعامل مع عقل كبير يفكر ويعي..فلا محل للقياس.
قلت: فإذا كان الفاعل امرأة ولا تعلم عاقبة أمرها -أو تعلم ولكن ضعفت أمام الحدث، وإذا كان رجلاً هل يستويان مثلا، وإذا استويا في التقدير هل يستويان في العقوبة؟
غانم: لا طبعاً هناك فارق..فأصالة العقل عند الرجل أبدى وهي المؤثر، أما عند المرأة فالأصالة لديها في الروح والعاطفة، فلن يستويا لا في التقدير ولا في العقوبة..وإذا كان الفعل عن جهل بالنتائج فليس عُذرا لأنني أتعامل مع عقل كبير، وإذا كان من عُذر يكن به العفو فبعد رضائي والتعهد بعدم التكرار.
قلت:أرى أن خُلق العفو من التسامح وهما ينشآن لدى الفرد من منطق قوة على النفس والغير، فماذا إذا لم يكن لديك هذا المنطق؟
غانم: لن يكن عفواً بل سيكون أشياء أخرى كالطلب أو الرجاء أو التوسل..والمنطق موجود كوني ولي الأمر وصاحب الحق.
قلت: فلنفرض أننا اختلفنا وقمنا الآن بضرب بعضنا البعض..من منا هو صاحب الحق كي يكون له منطق القوة؟
غانم: ياسامح قلت لك لا محل هنا للقياس، فنحن كبار نفهم ونُدرك.. أما هذا فاعتداء واضح على طفل لا يفهم ولا يُدرك.
قلت: لا أقصد ما وصل إليه ذهنك بل أقصد أنه لو توهم الحق لديك في مسألة لا منطق للقوة فيها، هل ستعفو أم لا؟
غانم: جائز أن يحدث هذا التوهم بالفعل وحينها سيَعدُم منطق القوة..لكن يجوز أن أنكر ذاتي للعفو -عن ما أراه حقاً لي- ولكن لابد من استشعار الحالة النفسية حين حدوث الفعل فلربما كان العقل متأخراً حينها تحل النزعة مكان العاطفة.
قلت: إذاً أنت تُقر بالعفو عن من ضرب إبنك.
غانم: كيف؟!!
قلت: إن الميل لاستشعار الحالة النفسية واعتبارها مبرراً للخطأ بدلالة تأخر العقل عن النزعة هو عين العفو عن المعلم، حيث ما أيقنت به مبرراً هو بعينه ما يجده المُعلم أو المُعلمة مبرراً لضرب إبنك، أما ما تقول به بانتفاء محل القياس فيدحضه الظرف المحيط بالواقعة ، حيث لم تكن المواجهة مفردة بين طفلك والمُعلم بل كانت مواجهة أطفال جماعية مع نفس المعلم، وهو ما يؤخر العقل لديه -ليس دائماً-بضغوط نفسية من صعوبة تعليم الأطفال في تلك المرحلة العُمرية،ولكن بحدوثه تبقى فرضية كونه استثناء وحينها يجب التحقق لا كما تقول باستحالة العُذر.
غانم: كلامك جميل..ولكن هل كنت تتوقع طرحي للمبرر الذي بنيت عليه ردك؟
قلت: نعم كنت أتوقعه فبطرح منطق القوة وتلاشي ظهور الحق يبرز المبرر كقاعدة عُذر لتجميل التقصير الحادث في حق النفس والغير.
غانم: ولكن هل يخطئ الإنسان في تفسير شعوره لهذه الدرجة؟
قلت: قد يخطئ فيما لو كان مدلول القضية لديه مُبهماً..أي لو اختلف السائق والراكب حول مقدار الأجرة اللازمة للسفر، ولم يعذر كليهما الآخر ولم يعفو وأصرا على موقفيهما..بينما كان مدلول القضية يستوجب الاتفاق لسد الذريعة، فكان المبادر هو صاحب الخطأ الأكبر لأنه لم يُعلن عن القيمة ابتداء..فالسائق هو أنت أما الراكب فهو المعلم ، ولو اتفقتم على نظام معين في التربية قبيل الواقعة لكان حدوث خلافه يستدعي موقفك، أما وكان الاتفاق معدوم فشعورك هنا يكون من منطق "الحق الشخصي" لا من منطق "الحق العام"..وحينها لن تفهم معنى العفو لأنك ستعتقده تنازلاً.
وقبل أن يُكمل غانم رده جاء إلينا الأمر بالعمل فقد انتهى الوقت.