فلسفة الأخلاق(لوحة العدل)

سامح عسكر في الإثنين ٠٨ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 
كعادة بعض المهاجرين المصريين من الريف إلى الحضر أنهم يشعرون أحياناً بالغُربة والحنين لقريتهم، فما أحلى مشاهد القرية والألوان الخضراء التي تبعث على الأمل وتزرع في النفوس البهجة..قررت أن أصطحب زوجتي وأولادي لقضاء أجازة لمدة يومين مع أهلي وأقاربي ، وفور وصولنا إذ جائتنا الأنباء عن أن الأهل والأحباب قادمون إلينا لزيارتنا والاطمئنان علينا جميعاً..ما أحلى هذا الجو العظيم..حقاً إن الإنسان لكفورٌ بالنعمة!

جلسنا سوياً فإذا بالحديث يتجه نحو إشكال داخل العائلة، إشكالاً يحكي اعتداء أحد الشباب على شاب من أبناء العائلة اسمه.."محمد".. بآلة حادة مما أدى لإصابته بجروح صعبة في الرأس واليد والظهر ، وكان الحضور منقسمون حول التنازل عن القضية مقابل "فدية" من المال أو الاستمرار في القضية حتى النيابة وحبس هذا الشاب المعتدي، حقيقةً أنا لا أتعاطف مع قضية التعويضات هذه، ففلسفتي –في هذه القضية-تقوم على الحقوق والواجبات، وأن الصدام غالباً ما يأتي بتنوير في حال كانت الأزمة حادة، وقتها سيخرج المعتدي من نَمط تفكير لآخر سيؤثر فيه بالإيجاب مستقبلاً..

كان لي جار "حكيم" في الخمسينات من عمره اسمه.."الأستاذ عيد"..وهو ممن فتح الله عليهم بقوة البصيرة ونفاذ الرؤية ولكنه لم يُكمل تعليمه، ومع ذلك فقد وهبه الله سعةً من العلم والثقافة..في زيارته لي جلسنا نحتسي الشاي ثم دار هذا الحوار:

قلت:أستاذ عيد أود الحديث معك في قضية البارحة فهي تُشغلني-إلى حدٍ ما

الأستاذ عيد:ياسامح أنا ضيف عندك ولا أود إشغالك بمشكلاتنا، فأنت رجل لن تعيش هذه المشكلات معنا وستخرج منها وقت سفرك للمدينة.

قلت: لا لن أتضرر ياأستاذنا العزيز..ولكن بالفعل أنا أستمتع بالنقاش معك.

الأستاذ عيد: تفضل بالسؤال.

قلت:محمد هنا له حق يقابل حق حياته على هذه الأرض، فأنت تعلم خطورة الاعتداء بآلة حادة وبهذا الشكل،ففي بعض الأحيان تؤدي إلى الوفاة، لذلك أنا أفسر ما حدث أنه محاولة قتل فاشلة وليس كما يهونها البعض بأنها خناقة بين الشباب ومرت مرور الكرام.

الأستاذ عيد:هذه القضية التي كنا نتحدث فيها بالأمس ليست صعبة وشائكة ياسامح ، لأن قوامها العدل، فإذا تحقق العدل برضاء جميع الأطراف بما يضمن عدم التعرض مستقبلاً فهو الخيار السليم..لذلك تجدني كنت من المؤيدين لخيار "الفدية" وبالتالي "الصُلح".

قلت: لهذا السبب وددت النقاش معك فأنا أفهم العدل من قوله تعالى.."إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي"..فكان ذي القربى معطوفاً على العدل والإحسان فهذا يعني أن خدمة ذوي القربى وإيتائهم حقوقهم هي من أعمال العدل والإحسان، ومن يفعل ذلك يُحبه الله لقوله تعالى.."وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"..

الأستاذ عيد:ولكني لست من العائلة

قلت: نعم وهذا ما أقصده لأنني لاحظت أن جُل معارضيك هم من العائلة لذلك طرحت هذه الرؤية كي تتفهم ما يشعر به الآخرون.

الأستاذ عيد:استمع جيدا لي ياأخي سامح..إن قضايا الأموال والدماء هي قضايا عامة وليست حِكراً على مجموعة بعينها، وفي هذه المشكلة تتحقق فيها قضيتي "الدماء والأموال" في ذات الوقت..فحتى لو أكملت القضية بكافة مراحلها فهناك مصاريف وربما يلجأ الخصم لسلوك غير شرعي كي يبتزنا كأن يزعم بأننا اعتدينا على شخص من طرفه..وهكذا ، هذا سلوك معهود في الريف بكثرة، حتى أنه لا توجد مشكلة إلا ويلجأ أحد أطرافها لهذا السلوك الذي أصبح إيجاد مبرر له في منتهى السهولة..حتى شيخ الجامع ومؤذنه فعلوا هذا الأمر من قبل، فياأخي أنت تعيش في مجتمع لا يفهم لغة العدل إلا من منظوره ولأجل مصلحته، أما من يدعي أنه يقول الحق ولو على رقبته فهذا لن تسمعه إلا في "الأفلام والمسلسلات" !!.

قلت: كلامك طيب وجميل ولكن مُجمل اعتراضي يكمن ليس في توجه العائلة ومقاربته مع مضمون المشكلة، ولكن أرى ضرورة أن تأخذ العدالة مجراها وأن يؤدب هذا الشاب المُعتدي، فهذه قضية قتل فاشلة ولن تخرج من هذا الإطار..أما خوفك من أن يلجأ الخصم لسلوك غير شرعي فحينها نُقدّم الشهود، وأظن أن المحكمة لن تحكم إلا بالشهود.

الأستاذ عيد: ياأخي سامح عن أي شهود تتحدث؟!..إن شراء الشاهد الآن أسهل ما يكون، خاصة وإن كان الشاهد من أقارب هذا الشخص، حينها سيفعل ما يفعل وهو يعتقد أنه يدافع عن العائلة، وأن هذا أفضل لهم جميعاً من أن يضيع مستقبل الشاب بين حوائط السجون....إن تفسير العدالة في رأسك بحاجة لمناقشة حيث أن العدالة في حقيقتها تقوم على الفضائل كالحكمة والعفة والشجاعة، ولا تحصيل لها إلا بالضبط النفساني للغرائز والشهوات فما بالك وغريزة "القبيلة" لا زالت تتحكم في مجتمعنا إجمالاً ، ونحن نحكم بناءاً على الواقع الاجتماعي والثقافي للقرية وليس عن مدينة أفلاطون الفاضلة الخيالية التي لا توجد إلا في الأحلام والمنامات.

قلت: أفهم من ذلك أن تحقيق العدالة مستحيل في مجتمع غير فاضل؟!..طيب ياأستاذنا أنت تعترف أن تحقيق المدينة الفاضلة مستحيل، فهذا يعني أنك تؤمن بأن تحقيق العدالة مستحيل وأننا سنعيش في ظلم إلى الأبد..هل ما قلته صحيح؟

الأستاذ عيد:هناك أشياء صحيحة وأشياء أخرى خاطئة.. فالعدالة نعم تستحيل في مجتمع غير فاضل ولكن أي عدالة؟..هنا السؤال..يعني لو أنك سلكت العدالة مع نفسك وأسرتك تكون حققت المدينة الفاضلة ولو على نطاق ضيق، هنا يجوز عليك صفة العدل ولكن حين الخروج لفضاء المجتمع وبتعدد من هم أمثالك وبكثرتهم تستطيعون التأثير في المجتمع، وهذا هو الهدف من القول.."ابدأ بنفسك وبمن تعول"..فالأمر موجه للجميع لي ولك ولعمي محمد ولعمي مغاوري ولعم عبدالسلام وللحاج عرفة وللحاجة زينب والست ام السيد والناس كلها..أما من ينظر لغيره دائما فهو إنسان كذّاب ويوظف المبادئ لمصلحته، وحينما يتحدث باسم الدين فهو ينصب على الناس بصورة المقدس لديهم، لأنه يعلم تمام العلم أن الناس لن ترفض دعوته، وهو كشخص لا يحب أحد أن يعارضه أحد، فهو في حقيقته إنسان متسلط ياحاج سامح وطبعه يغلب تطبعه.

قلت: والله ياأستاذنا لم تَخِب نظرتي فيك يوماً أشعر بفهم الحُكماء لديك وأتفق معك في جميع ما قلت، بل هو مبدأي في الحل ورؤية الحياة بالمُجمل، ولكن لا زال اعتراضي على جزئية تأديب المخطئ، فهي جزئية هامة في التربية ورد الحقوق والاعتبار.

الأستاذ عيد:ماذا ستفعل لو كنت مكان الشاب المعتدي وعُرض عليك نفس الخيارات؟

قلت: هو سؤال صعب لأن الحرية لا تقدر بثمن.

الأستاذ عيد: يعني انت من داخلك موافق على مبدأ الفدية، لكن في نفس الوقت يحدث صراع بداخلك بين قيم الدولة والمجتمع والتربية وبين المنفعة المادية وهذا أمر يُحسب لك.

قلت: أنت الآن فهمتني ...بالفعل هذا ما يحدث.

الأستاذ عيد:طيب المسألة سهلة وبسيطة ياحاج سامح..هل أنت في مجتمع قروي أم مدني؟

قلت: لا أفهم مغزى السؤال..نعم نحن في مجتمع قروي.

الأستاذ عيد:يعني الأغلبية العظمي من الناس فقراء ، حتى من يملك العديد من الأرض الزراعية فهو في المحصلة ليس ممن يوصفون بالطبقة المتوسطة فضلاً عن الطبقة العليا..

قلت: لا زال الأمر ملتبس..هل تعني أن مبدأ.."الفدية"..سيجبر المعتدي وأهله على المراجعة أم ماذا؟

الأستاذ عيد: نعم هذا ما وودت قوله..عندنا في مجتمع القرية مَثَل من الأمثال يقول.."إن الفلوس تأدب النفوس"..وتأكد أن الأموال التي سيدفعها أهل الشاب المعتدي هي بحُكم العقوبة له، لان أهله لن يتركوه مستقبلاً وسيجبرونه على التفكير بطريقة جديدة...ثم هناك شئ آخر لم نتطرق إليه داخل النقاش وهو أن .."محمد"..المجني عليه شاب فقير وأعزب وهو وحيد أسرته ، يعني هو بحاجة ماسة لهذه الفدية من جانب، وأنه الرجل الوحيد لأسرته فوجوده مهم لوالديه ولأخوته خشية انتقام الطرف الآخر في حال الحُكم على ابنهم بعقاب شديد.

قلت:الله ياأستاذنا العزيز..الآن اتضحت المسألة لدي..فعلاً أهل الخبرة هم جوهر المجتمع وبدونهم يتحول المجتمع إلى غابة..فهمت من مجمل النقاش أن تحقيق العدالة يرتبط بتفسير الواقع أكثر من الموجود في الذهن..فقد تكون القيمة الذهنية لا تحاكي أفكار وتطورات البشر أو متغيراتهم الاجتماعية والثقافية..ولكن تبقى الحلقة المفقودة في رأيي وهي إيجاد الرابط بين هذا الواقع الاجتماعي ..وبين القيم ..رابطاً يحمل الناس على التطبيق العملي للأفكار وليس حبسها داخل الأذهان.

الأستاذ عيد:هذا الرابط موجود لدى العقول في الشريعة، ولكن كما قلنا فجهل الناس وغلبة المتسلطين عليهم تدفعهم على التناقض، ولن يفرق هذا بين الشيخ والأمير فجميعهم يبيعون الوهم للناس..لن نتقدم ياحاج سامح إلا بالثقافة، واحنا مجتمع لا زال عديم الثقافة ، وينظر للثقافة بمنظور الشيوخ، بينما لو نظرت ستجد أن الكثيرين من الشيوخ في عصرنا هذا هم سبب أصيل في الكوارث التي حلّت بالمسلمين..أول أمس كان يجلس معنا شيخ المسجد وكنا نحاول إيجاد حلول لقضية خاصة بقضايا العِرض والشرف وذلك في مجلس"عُرفي" من مجالس القرية.. وكان الشيخ متهافت لدرجة أنني كنت معرضاً للخروج من شعوري وإحراجه وسط الرجال..ولن أطيل معك فيما حدث والحمد لله أن استطعنا إزالة الإشكالية لديك.

الآن انتهى الحوار، وكان حواراً ماتعا استفدت الكثير منه على المستوى الشخصي..ووصلت إلى نتيجة مؤداها أن العدل قيمة يهواها الجميع، ولكن حين اختلف الناس في تفسير العدل بناء إما على مصالحهم الشخصية أو معلوماتهم المحدودة شاع الظلم بين العباد، وتحولت الأرض من جنة "آدم" إلى غابة "الإنسان"
اجمالي القراءات 8769