الطعام والطيبات في القرآن الكريم
في البحث عن الإسلام - الطعام والطيبات في القرآن الكريم

غالب غنيم في الثلاثاء ٠٢ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

في البحث عن الإسلام - الطعام والطيبات في القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر - 36
مقدمة :

هذه سلسلة من المقالات، التي أود من خلالها محاولة فهم الإسلام – دين الله القيم بشكل حنيف قريب الى المراد الإلهي الذي نبتغيه في بحثنا عن الحق، من منطلق عالميته واتساعه لنواميس الكون وسننه والتغيرات التاريخية في المجتمعات منذ نزوله حتى اليوم.

وأنوه أن فهمي لما ورد هنا هو نتاج تدبر خالص لله تعالى مني لكتابه العزيز فقط، حيث أنني لا أعرف غيره مرجعا لي ومصدرا لعلمي وفكري في دين الله تعالى ، وانا اعرض على الكتاب كل صغيرة وكبيرة حسب جهدي وما أوسعنيه الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو عبارة عن رأي – أراء لي في بعض المسائل في الكتاب، التي لم يتعرض لها الكثير ، وهي نتاج آنيّ في زمننا هذا وفي وقتنا هذا ، ولا يلزم كونه الحقيقة بل هو نسبي بحكم أن الحقيقة لله وحده تعالى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وهي ما نبحث عنه ونرجوا الوصول اليه.

وأكرر ما قاله تعالى – يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وبعد،

بداية علينا فهم تفصيل الله تعالى لكلمة "طعام" :
وهي في قوله تعالى :
( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
البقرة - 249

ومنها بكل بيان نرى ان الماء من الطعام - العام - لقوله تعالى "ومن لم يطعمه" ، فالطعام هو الذي يتم دخوله الفاه
فالجوففتحس بطعمه ثم تأخذ منه كمية كافية لك !

وفي هذه الآية وضع لهم طالوت ثلاث خيارات :
1. من شرب منه (أي من ارتوى منه - أي طعمه)
2. النقيض لها - من لم يطعمه - أي لم يرتوي منه ولم يشرب منه ابدا
3. حالة إستثنائية للعطشى - بأن يشربوا مقدار ما تحمل يدهم منه (غرفة بيده)
فجائت كلمة يطعمه نقيضا لمن لا يشربه ابدا
ومنه نفهم ان الطعام ما يدخله الإنسان في جوفه من ماء او نبات او لحوم أو غيره.

______________

قال تعالى :
( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) البقرة - 61

ومنه نرى بكل بيان ان ان كل ما ذكر هنا هو طعام، وتم "صفته" بالعدد – أي انه أنواع وأصناف.

وقول موسى عن انواع الطعام بأن هناك خير وهناك أدنى عائد إلى كون طعامهم الذي رفضوه كان من السماء وليس من طعام الأرض، فكان ارتباطه بالله تعالى - فاطلق عليه صفة الخير لهذا السبب، وأطلق على طعام الأرض صفة "أدنى" لكونه لا يسموا لطعام السماء الذي لا بد يحتوي على كل ما يلزم الإنسان من فوائد وفيتامينات وطاقة ... الخ - فهم اكلوا صنفين فقط، وكانا كافيين لتزويد أجسادهم بما يلزمها من طاقة وفوائد أخرى!

______________

الطعام والشراب صنفان من نوع الطعام :

( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة - 259

في هذه الآية لا تعارض مع مورد البقرة - 249 – حيث طالوت ومن معه، فهنا تم فصل الشراب عن الطعام، ولم يتم ذكر ماهية الشراب، فالطعام هو الإسم العام لكل ما يطعمه الإنسان - أي يدخل فاه وجوفه بغض النظر عن طبيعته، وحين يلزم التفصيل نقول ان السوائل تشرب، والطعام يؤكل، فأنت لا تأكل الماء بل تشربه او تطعمه، فيكون الطعام من مصدر فعل (طَعـَم) بفتح الطاء والعين.

______________
الفرق بين الطعام والأكل:

الطعام من طعم يطعم أي مما يدخل الفاه فتطعمه، وهو مفهوم شامل عام لكل ما يؤكل ولا يؤكل، من ماء او شراب أو ما يدخل الفاه إجمالا!
 وهو غير الأكل، فالأكل هو من الإنقاص في الشيء عامة، ومنه هو الإنقاص من الطعام مما هو من البحر أو في الأرض أو من الأرض.
ولهذا تم ذكر الأكل في الصيام، فقد يدخل فانا ما لا نأكله بل نطعمه فقط، حين السهو مثلا.

ومنه كلمة أكل قد تحمل معنى الإنقاص من مال اليتيم، فنحن نأكل الطعام أي ننقص منه بطعمه ودخوله أجوافنا، ونأكل مال اليتيم فننقص منه، وأن نأكل نارا في بطوننا كما قال تعالى ليس أن نطعمها، بل أن تكون تلك الأموال المنقوصة أو كتم العلم والآيات كما هو النار في البطون، فالأكل هو الإنقاص كما قلنا وليس دخول الشيء للبطن فقط، أي دخول الطعام فقط، فيمكننا أن نأكل نارا وأموالا بالباطل بل يمكننا أن نأكل آيات بينات بكتمها – أي بإنقاصها بكتمنا لها – وهذا سأذكر فيه أدناه آيات كثيرة تدل على أن عملية الأكل ليست في الطعام فقط كما الطعم – يطعم!

نأكل الطيبت مما حلل الله تعالى لنا بإنقاصنا إياها، فعملية أكل الطعام تنقص منه :
(
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) البقرة – 172

أكل النار هو كتم آيات الله تعالى، أي الإنقاص منها وعدم إظهارها كلها:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) البقرة – 174

أكل الأموال هو في سرقتها وأخذها باطلا بين بعضنا البعض باستخدامها في الرشوة :
(وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة – 188
وفي كثير من الآيات نقرأ ونفهم أنه يتم أكل الأموال، أي الإنقاص منها، بالخير أو الباطل، ولكن أكل المال هو استخدامه والإنقاص منه باستخدامه.

وما أكل السبع – أدناه تفصيله – أي ما أنقص السبع منه حين اصطياده له، وقد يكون فتك به فمات، وقد نستطيع تذكيته.

وأكل عيسى وأمه من الطعام هو أن ينقصا منه بأكله وليس طعمه فقط:
(
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)المائدة – 75

والأكل من الثمر هو الإنقاص منه حين أكله :
(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)الأنعام – 141

وخير مثال في الإنقاص حين الأكل هو ما أوله يوسف عليه السلام في البقرات السبع وغيرها :
(ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ) يوسف – 48

وتم دائما ربط الأكل بالطعام والرزق والطيبات والحلال منه أو الخبيث، بينما تم ربط التحريم والتحليل بالطعام فقط :
(وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) الأنبياء - 8

______________

قضايا الطعام التاريخية في القرآن:

لكي نفهم قضايا الطعام التاريخية في القرآن، سنفصلها إلى جزئين، أو مرحلتين، شئنا أم أبينا، الجزء الخاص بشرعة الإصر والأغلال على اليهود ذوي المعجزات الحسية، والجزء الثاني الخاص بشرعة التخفيف الممثلة بالقرآن الكريم الرسالة الكونية:

أولا - شرعة الإصر والأغلال :

كما بلغنا من القرآن الكريم عن بني إسرائيل، انهم اتتهم من الله تعالى آيات معجزة كثيرة حسية، هم ومن بعثوا إليهم - قوم فرعون، وذلك بسبب الواقع التاريخي والإجتماعي الحسي ذاته الذي كان يسود ذلك الوقت من سحر وعلم في البناء وطغيان لفرعون في ظلمه.

وبالتالي، كان الله تعالى يعاقبهم عقابا نكالا منه، مباشر، على عدم تصديقهم لتلك المعجزات الخارقة للعادة البشرية، وكفرهم بها ونقضهم لمواثيقهم مع الله تعالى، فكان ينزل بهم العقاب، واحد تلو الآخر، تبعا للمعجزات المتتالية لهم، ولم يكن يمهلهم، وهذه هي الصورة الإجتماعية والتاريخية لهم من القرآن كما نراها، وكما جاء بها الكتاب المهيمن بتصديقه لما كان في التوراة، بإحتوائه إياه، مصححا له من كل تحريف من حوله من الموروثات الروحية المحرفة للتوراة والإنجيل - الإسرائليات - ، ومنه نحن نرى ان الله تعالى نسخ آياته - التوراة والإنجيل - وبدلها بالقرآن المهيمن المجيد الكريم، وهذا له باب نقاش آخر ليس وقته هنا.

في شرعة الإصر والأغلال نرى أن الله تعالى حرم عليهم "بداية" فقط ما حرمه إسرائيل - جدهم - على نفسه:
( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) آل عمران - 93

وهذا التحريم لنفسه كان من قبل التوراة – أمر مسلم به - لأن بني إسرائيل ينتسبون إلى إسرائيل نفسه، ممن حملهم الله تعالى مع نوح.

ثم - منطقيا -  لا بد ان ننتقل إلى مرحلة أخرى، ففي هذه المرحلة - مرحلة ما قبل التوراة -  حيث لم يكن محرم عليهم الكثير من الطعام، بل أغلبه حلال، أتت التوراة ، وبدأوا بالجحود والكفر والعصيان الظالم الظاهر لآيات الله تعالى البينات، فتم تحريم كثير مما كان حلالا عليهم أصلا :

( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) النساء - 160

وهنا للمرة الأولى نواجه كلمة "طيبات" ، وسنعود إليها لاحقا إن شاء الله تعالى.

وبلغ ظلمهم وكفرهم درجة كبيرة، أن الله تعالى فصل لهم تفصيلا ما يمكن اكله وما لا يحل لهم اكله حتى من المتقارب من اللحم :
( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الأنعام - 146

ويجب ان نلاحظ هنا بدقة أن "كل ذي ظفر" كان حلالا لهم ثم حرمه الله تعالى عليهم "نكالا"، وهو ليس محرم على جميع البشر كما ادخلوا علينا الإسرائيليات - وسنناقش هذا لاحقا.

وهناك آيات كثيرة تفصل ما حرم الله تعالى عليهم من طعام مختلف، ولن نتعرض لها هنا، لأن كل هذا تم نسخه بالقرآن الكريم المخفف للإصر!

______________

ثانيا - شرعة التخفيف والرحمة :

لا بد لنا من التعرض للحظة التي تم فيها التبشير بعيسى ومحمد عليهما السلام، وهي لقاء الطور أو الجبل الذي تم فيه ميقات موسى ومن معه مع الله تعالى:

( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِإِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الأعراف - 155:158

فمن بعد نقضهم لعهد الله تعالى، بعبادتهم العجل، حيث تركهم موسى ليتلقى الألواح، وبمجرد مغادرته إياهم، فمن بعد أن آتى الله تعالى موسى التوراة – والتي هي عبارة عن ألواح يستطيع حملها رجل واحد معه! – ثم رؤية موسى ما حصل معهم، عاد موسى إلى الوادي المقدس ليستغفر قومه ربهم، على ما عبدوا وأشركوا، فاختار سبعين رجلا منهم، فمن القرآن نفهم ان الإستغفار والتوبة النصوح تحتاج إلى سبعين مرة، كما قال تعالى للرسول في القرآن الكريم أنه لن لهم - فئة من منافقين المدينة - حتى لو استغفر لهم الرسول سبعين مرة (التوبة - 80)، ومنه اختار موسى ذلك العدد من قومه الذي ظلم نفسه لميقات ربه، فلما اقتربوا من الجبل، اخذتهم الرجفة بسبب غضب الله تعالى عليهم بما عبدوا وأشركوا أثناء تلقي موسى التوراة ، فبدأ موسى يستغفر لهم، ويطلب من الله تعالى أن يخفف عنهم الإصر والأغلال بقوله لله تعالى ان يكتب لهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وأنهم هادوا إليه - أي عادوا وتابوا وأنابوا كما يفهم من قوله! ولكن الله تعالى لم يقبل بأن يخفف عنهم إلا بشرط واحد، هو أن ينتظروا النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة "والإنجيل"، وهو من سيحل لهم "الطيبات" ويحرم عليهم "الخبائث" ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ....

ومن هنا بكل بيان نفهم انهم لن يزالوا تحت حكم تلك الأحكام حتى يأتي نبي برسالة تكون هي "رسالة التخفيف ووضع الإصر والأغلال" - وهي رسالة القرآن.

ثم علينا ملاحظة ذكر الإنجيل لهم في التوراة بل أثناء الميقات، وهذا مهم جدا، لكي لا يكون هناك خلط بين عيسى ومحمد عليهما السلام، فالله تعالى بشرهم بعيسى ومعه الإنجيل أثناء لقاء الجبل، ثم بمحمد ومعه شرعة التخفيف والرحمة.

وأخيرا تلا كل هذه الآيات آية تدل على عمومية الرسالة الأخيرة المخففة لكل الناس قاطبة. أي أن الإسلام هو دين التخفيف ودين الناس كافة!

وهذا الأمر فقهه بني إسرائيل جيدا، ومن بعدهم فهمه اليهود جيدا جدا بل استخدموه ضد الإسلام نفسه!!!

فالقرآن جاء يحوي التوراة والإنجيل بداخله، ليس عبثا، بل لغاية تصحيح الموروث الديني القديم المحرف، فقام العرب او غيرهم ممن تأسلم وادعى الإسلام بإعادة هذا الموروث وإضافة موروث جديد عليه ( الإسرائيليات - السنة - الشيعة - من بخاري ومسلم وكافي ).

وهذا امر مهم جدا علينا فقهه والتنبه له، فعملية إعادة رسالة القرآن إلى دين إصر وأغلال، هي عملية تحريف هادفة لنفي صفة الرسالة الأخيرة عن القرآن بكونه لم يخفف الإصر والأغلال ومن هنا، هو ليس الذي بشروا به، ونهاية، هو ليس من عند الله تعالى. فقاموا بنشر كثير من التراث القديم والجديد الذي يزيد الأغلال على الناس ولا يضع عنهم إصرا بل يزيد الإصر عليهم فيرهقهم، وهذا ما نراه اليوم ومن قبل في كثير من الحركات الإسلامية التي جعلت من دين الله تعالى شيئا غير ما نراه في القرآن ابدا، فحتى العبادات لم يتركوها وشأنها فزادوا فيها بحجة الخير ولم تعد كما نقرأها من القرآن الكريم، وهذه حرب ضروس ضد دين الله تعالى القيم المخفف للإصر والأغلال، ونسوا ان الله تعالى، شاؤوا أم أبوا، سيظهر دينه على الدين كله وسيتم نوره، بحركة تاريخية جدلية وتطور إجتماعي وفكري وثقافي، خارج عن إرادتهم وقدراتهم في السيطرة عليه، لأن الله تعالى لم يجعل للشياطين سلطان على عباده المخلصين.

والآن، ما علاقة كل هذا بالطيبات والطعام؟
هنا نبدأ بحثنا في شرعة التخفيف عن الطعام، وسنجد العلاقة من خلال فهم الشرعة التي نزلت للناس كافة، وليس للعرب أو لفئة معينة من البشر كما في السابق، فقد أصبح الخطاب إنساني حتى في الحج وغيره، بخطاب "الناس"، وليس العرب أو المؤمنين، في كثير من جوانب الدين القيم، بكل تفرعاته !

______________

من الضروري جدا، بل من علامات الإيمان الصادق، أن نقرأ القرآن ولا نخلط بين شرعتين، إحداهما نسخت، وبقيت الأخرى مهيمنة على كل ما سبق، ومنه، لا يحق لنا أن نعيد التراث القديم الذي جاء القرآن ليصححه، فنأخذ بالإسرائليات أو بموروث منسوب كذبا على رسول الله محمد - الرسول الموقر - عليه السلام والرحمة.

الآية الفاصلة المحكمة في التحريم والتحليل للطعام بكل أشكاله وأنواعه في القرآن هي ما قاله تعالى :
( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنعام - 145

وهنا نلاحظ إستخدام كلمة "طاعم" وكلمة "يطعمه"، اللاتي هي اعمق واشمل من "أكل" أو "شرب"، فهي كما أوردنا أعلاه تحوي الأكل والشرب معا!
ولذلك كان الدم المسفوح - الذي هو سائل نوعا ما بطبيعته - من ضمن ما ذكر هنا من بين انواع الأطعمة.

ولهذا .... لا يحق لأحد تحليل أو تحريم شراب او طعام لم يذكر هنا أبدا إلا إن جاء فيه نص صريح خارج هذه الآية المحكمة الشاملة العامة!

فالرسول عليه السلام بذاته لم يجد غير ذلك محرما عليه، وبالتالي – منطقيا - علينا!

وأكرر أن هذه آية محكمة لا شبهة فيها إلا لمن أراد المعاجزة فقط أو تحريف الإسلام جوهرا، وكما قلت وتكلمت، عن تحريفهم لشرعة التخفيف بجعلها شرعة أغلال وإصر!

والآن، وبناءا على هذه القاعدة المحكمة نبدأ البحث عن الطعام وفهم الطيبات منه من الخبائث!

في شرعة التخفيف الإنسانية العالمية ذكر حالتان او بدقة أكثر أربع حالات عن أحكام الطعام.
 نستثني منها حالة الإكراه - فهي بينة (
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) البقرة – 173
وأترك نقاش حالة الخمر كطعام (
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المائدة - 93، فليس محلها هنا.

فيبقى أمامنا حالتان هما :

1. وضعية الإحرام في الأشهر الحرم وخاصة الحج – حرمة الصيد.
2. الوضع اليومي العام للإنسان والمجتمع.

______________

الصيد :

بالنسبة لوضع الحج فأمره خاص من العام، أي هو إستثناء من الوضع العام الذي يعيشه الإنسان في يومه العادي، فهو كذلك حالة إستثنائية مؤقتة بإعلان الرغبة في الحج او العمرة، وتنتهي بالتحلل من ذلك الإعلان، فيعود الفرد إلى سابق عهده، من طعام وصيد وغيره، ومن هنا، كانت الآية المحكمة الفصل في هذا الأمر هو قوله تعالى :
( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) المائدة - 96
والتي كما نراها محكمة بينة لا جدال حولها.

فالصيد بحد ذاته هنا هو موضوع التحليل والتحريم وليس الطعام، وهذا مما يجب ان نتنبه له! وليس كل الصيد بل صيد البر فقط بكل أشكاله وعمومه فالحكم عام بين واضح لمن اتقى.

وذكر الصيد هنا لم يرتبط بالكعبة أو البيت الحرام كما يدعي او يرى البعض بل بعملية السفر ذاتها، فكثيرا ما يجادلون في الصيد وكأن مكة هي مكان للصيد فقط ! ولا يتدبرون قوله تعالى "مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ" ، والتي نفهم منها ارتباط الصيد أثناء السفر إلى مكة في الطريق، وكان – في ذلك الوقت أو من يحج راجلا حتى اليوم -  ولا بد، من انهم كانوا يصطادون أثناء سفرهم لكي يقتاتوا!

وورد هذا في آية أخرى "بنفس" التخصيص للصيد في السفر، بكلمة " آمِّينَ" البيت الحرام، أي متجهين إليه، وسنراها لاحقا إن شاء المولى.
وهذا كله بلاء وامتحان "صغير" من الله تعالى لمن أراد الحج لبيته :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) المائدة – 94

وكذلك تأكيدا لكون الحج غير مرتبط بالصيد أبدا هو قوله تعالى :
(
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التوبة – 36
فلم يتم ذكر الصيد هنا أبدا، بل منع القتال فيهن إلا على من اعتدى، بل وعظنا الله تعالى فيهن أن لا نظلم أنفسنا ابدا، ولم يتم ذكر الصيد فيهن أو في غيرهن!

ولمن لا يعلم علاقة الصيد بالغيب بالكفارات عليه البحث وسيجد في ذلك الكثير.وينتهي هذا التحريم الخاص بكونهم ليسوا حرما أي بمجرد تحلل حرمتهم.

______________

صيد البحر :

سألني أحد الأخوة سؤالا يريد أن ينبهني به إلى أمور فاتتني في البحث السابق:
ما المقصود بصيد البحر في الاية ؟ وهل كان محرما فاصبح حلالا ؟ وميتة السمك ؟ هل اصبحت حلالا لنا ؟ وهي ميتة ؟

فكان لا بد هنا من تفصيل لبعض الأمور المتعلقة بصيد البحر والتي اغفلت عنها في دراستي الأولى، فتم تذكيري بها من أصدقائي ممن حولي من المهتمين بالأمر، ومنها تحديد مدلول صيد البحر والميتة من البحر!

قال تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) المائدة – 96

والفعل (أُحِلَّ ) يدل على الماضي وليس الحاضر، أي انه حلال منذ القدم، لا نعلم من متى، ولكن نعلم انه تم تعداده كحلال ولم يقل الله تعالى من بعد ذلك شيء او غيره، فنأخذ الفعل كما هو لأنه لم يرد فيه شروط وتفصيلات تعليلية من بدء أو نهاية.
وهنا ذكر الله تعالى كلمة صيد البحر وطعامه، وكنا تعرضنا لكلمة طعم ، يطعم أعلاه، ومنه طعام البحر يشمل كل ما هو ينمو داخل جوف البحر من عشب ومخلوقات مختلفة الأنواع والأشكال بل وماء أيضا وما يمكن أن نستفيد من الماء من أملاح وغيرها!
وأنا استخدمت كلمة جوف البحر بسبب اللسان العربي في القرآن الذي يحمل معنى آخر لكلمة (في البحر).

وصيد البحر لم يتم تفصيله في القرآن الكريم أو طريقة الصيد بحد ذاتها، وهذا من تخفيف الله تعالى علينا العليم الخبير الذي يعلم أنه سيأتي يوم تكثر فيه أساليب الصيد في البحر، ومنها الصنارة والشبكة والرمح وطرق أخرى نعلمها او قد لا نعلمها!
ولكن هل الحيتان (السمك وغيرها من البحر) التي تموت وتطفوا على سطح البحر حلال أم حرام؟
لنتدبر الآيات التي تتكلم عن صيد البحر او ما في جوفه!
لإزالة اللبس، نستخدم اللسان العربي المبين في القرآن، ونفقه معنى (في) و (من) من الآيات البينات:
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) الأنعام – 59
فها هنا الحديث عما في بطن الأرض وجوف البحر؟ بل هو عما فوقهن من فلك يجري (في) البحر او ورق يسقط (في) الأرض، وليس عن الجوف منهما!
(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يونس – 22
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْوَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ) إبراهيم – 32
وآيات كثيرة تحمل نفس المدلول باستخدام كلمة (في)، بل كل الآيات تدل على نفس المدلول.

ومنها نرى بكل بيان أن استخدام كلمة (في)، في اللسان العربي المبين تعني "فوق ، على، سطح" البحر وليس كما نحن نستخدمها، في الفاظنا اللغوية العامة!

أما ما أحله لنا تعالى فهو (من) البحر فقط، بدلالة الآيات التالية:
(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة – 96
(وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فاطر – 12


 ففي القرآن – اللسان العربي المبين -  استخدم الله تعالى كلمة (في البحر) لتدل على كوننا على ظهره، وفي هاتين الآيتين استخدم الله تعالى كلمة (من) لتدل على ما في جوفه. ومنها نرى ان الله تعالى لم يحلل ما (في) البحر أي على سطحه! فكل ما مات من سمك ومما في جوف البحر فطفا فوق سطحه فليس هو بحلال لنا، وهو من الميتة.

 
______________

بالنسبة للوضع العام - وهو موضوع بحثنا الذي أطلته عليكم - معتذرا ولكن مجبرا فالقرآن وحدة عضوية متكاملة من الفاتحة حتى المعوذتين- فأطلب منكم السماح والمعذرة.

من الآية - مورد الأنعام - 145 أعلاهفهمنا ان المحرم مذكور في القرآن بين واضح لا زيادة عليه ولا نقصان، وهو كما لاحظنا قليل جدا، وهذا من ميزة التخفيف في الإصر والأغلال!

وهنا نبدأ في البحث عن آيات تخص موضوعنا ، حيث قال تعالى :

أولا، كل الطعام هو من رزق الله تعالى :
( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) الشعراء - 79
( الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) قريش - 4

فالله تعالى من رزقنا بالماء الذي ينبت منه الزرع ويحيي الأرض فتأكل الأنعام وغيرها من الدواب والطيور وما هو من البحر.

ونأتي إلى مورد المائدة وهو ما اريد البحث فيه :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
) المائدة - 1:5

فهل في هذه الآيات أي تعارض مع الآية المحكمة أعلاه (مورد الأنعام - 145)؟

لا بد ان نبحث عن الكلمات المصطلحية - فكل كلمة يستخدمها الله تعالى في القرآن الكريم هي بناء قائم محكم لا يمكن ان نجعله مع بناء آخر مشابه له لفظا أو شكلا!

فكل كلمة مصطلح - وهذه هي ميزة اللسان العربي عن اللغة العربية، فاللغة العربية، الكلمة فيها تستخدم في أغراض ودلالات كثيرة، فتتداخل مع بعضها البعض لكونها مبنية على الرأي الخاص والمشاعر والحالة النفسية للإنسان، بينما كلام الله تعالى أبدي محكم مفصل حكيم مجيد كريم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكل كلمة هي مصطلح محكم لا يجوز تبديله بكلمة أخرى، ولذلك قال تعالى انه كتاب فصلت آياته من لدن حكيم خبير، فربط الحكمة في آياته والخبرة في البشر ورغباتهم من بعد في التحريف فأحكم آياته بأن منع البشر من تحريفها بكونها آيات بينات أي تبين ذاتها بذاتها، وفصلت آياته أي بينت وأظهرت للناس لمن تدبرها وقرأها ولم يعاجز فيها. فلكي افهم مدلول كلمة اجده في آيات أخرى تبين لي مدلول الكلمة من الوصف التفصيلي الصوري او المثال او الموقف ...
ومن هنا، كما قلت سابقا في مورد الأنعام استخدم الله تعالى كلمة "طعم" كفعل ليشمل كل أنواع الطعام والشراب!

في الايتين (1،2) :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)

نرى حديث الله تعالى الخاص - عودة - عن الحج، (آمِّينَ) البيت الحرام، وربط التوجه للبيت الحرام - السفر - بالصيد وحرمته.
وكذلك أي شعيرة من شعائر الله تعالى التي يحرم علينا تحليلها من هدي نأخذه معنا أثناء اتجاهنا للحج او قلائد مما أردنا ان نجعله قربانا لله تعالى شكرا له على هدايته، فكل هذه الشعائر لا يجوز تحليلها أبدا، فإن أنا سقت معي جملا لأذبحه هديا لله تعالى فلا يحل لي أثناء سفري ذبح ذلك الجمل لأقتات به ابدا كوسيلة لتحليله، اللهم إلا إن شارفت على الموت فقط.
______________

وفي الآيتين أعلاه، جملة افتتاحية هي " أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ" وهي جملة متعلقة بما تلاها، لكونها متعلقة بالهدي وشعائر الله تعالى من بهيمة الأنعام التي حرمها ، ولا يجوز إقتطاعها من مساقها، اي أننا في الحج نستخدم الأنعام وليس كل الأنعام (بهيمتها) (1) ، أي نستخدم ثمانية أزواج فقط كشعائر، وهي حلال، وتحرم – حين تلي علينا تحريمها في الحج حين نستخدمها كشعائر فقط -  ، وأفضل بهيمة تستخدم كشعائر هي البدن – أي الإبل لما فيها من تعبير شكر الله تعالى على المكان والزمان والأرض والسماء، لكون الإبل فيها كل تلك الصفات ( أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) الغاشية – 17:20
وسوف أعود لهذه النقطة في مقال تفصيلي عن الأنعام وبهيمة الأنعام لكي أزيل ما أبهم عن كثيرين بتعرضهم لما حلل الله تعالى وحرم، ومنهم من قال أن الحلال فقط هي الأزواج الثمانية ليس غير!

ثم تأتي الآية التي تفصل الآية المحكمة الفاصلة في الطعام (مورد الأنعام) وذلك بسبب إحتوائها على قوله تعالى فيما أهل به لغير الله، والميتة، فيتم تفصيلهما وذكرهما :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

وهنا علينا التنبه لقوله تعالى – عودة لموضوع التخفيف والتحريف – "الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ" ،فالله تعالى ينبهنا إلى ان لا نتبعهم ونخشى كلامهم من بعد، والذي سيحاولون به تحريف دينه بأن يجعلوا منه دين إصر وأغلال بعد أن حلل ما حرم عليهم.

فما هو المحرم علينا؟
هي التي عدها الله تعالى في آياته أعلاه فقط، وهي تشمل الأشياء التالية:
1. الميتة – وهي كل ما هو ميت مما يمكن أكله غير الصيد، ولهذا نعت الله تعالى بصيد البحر وطعامه، وهنا لا بد لي من ذكر نقطة مهمة جدا غابت عن ذهني في الإصدار الأول، وهي أن السمكة التي تطفوا على وجه البحر ولم نصطادها فهي ميتة لا تؤكل مثلها مثل الميتة البرية!
قال تعالى في أكثر من موقع في القرآن الكريم أنه أحل لنا ما هو (من) البحر وليس (فيه) كما أوضحت أعلاه!
والميتة هي كل ما مات ميتة لسبب ما، نعرفه او لا نعرفه،أي فارقته نفسه ولم يعد فيه حياة، والمستثنى من الميتة ليس ميتة ولا يعتبر ميتة بسبب تسميته من الله تعالى بصيد.


2. الدم – وهو الدم الصافي – بلا معاجزة فيه – فالدم يبقى دما، أي الدم الصافي مسفوحا او غير مسفوحا، وتم ذكر الدم لوحده هنا حتى لا يعاجزوا فيه من كونه اختلط باللحم أو غيره، والدم من مكونات الجسد التي يمكن جمعها في وعاء، بكل سهولة.

3. لحم الخنزير – وهنا تم تحريم اللحم من الخنزير علينا، ليس تربيته ولا بيعه ولا شحمه بل لحمه فقط، ومن المشهور ان شحم الخنزير يحوي لحما منه إلا ما ندر، ولمن اراد المعاجزة فليقرأ تفصيل الله تعالى في شرعة الإصر والأغلال عن الحوايا وما اختلط العظم بالشحم وغيره، فالله تعالى إن أراد تفصيل شيء فسيفصله وإن أراد تعميم شيء فسيعممه! وهنا ذكر لحم الخنزير فقط.
وأذكر هنا أن الله تعالى فصل مكونات الجسد تفصيلا وقسم مكوناته إلى (عظام ولحم ودم وشحم)، وتحدث عن كل من هذه المكونات على حدة! فلا يجب الخلط بين أي منها، فالعظم عظم، والدم دم، واللحم لحم، والشحم شحم، ولا يجب أن نكون كبني إسرائيل أبدا، ولا يجب إتباع ما أتوا به إلينا مهما عظم أو قل، فإن، مثلا حرم اليهود على أنفسهم الخنزير كاملا فلا يعني هذا أنهم على حق أو أن علينا إتباعهم! بل إن خصوصية القرآن في كونه مخفف الإصر والأغلال! فما أتى به الله إلينا هو ما نأخذ به خالصا بلا نظر لمن حولنا.وأنا أعلق هنا على آراء كثيرة تحرم شحم الخنزير، وهي آراء تعتمد إما على التراث أو مخلفاته في القلوب، أو على اتباع شرعة الإصر والأغلال، أو على فهم سقيم لكلام الله تعالى الذي فيه تفصيل كل شيء!
فما أسهل ان يقول الله تعالى حرم عليكم الخنزير! وحينذاك لن نقول كلمة في لحمه وشحمه وعظمه، وسنقول صدق الله، فلا نقرب الخنزير ابدا!
فتعميم التحريم هو وصف السنتنا كذبا على الله تعالى وافتراءا عليه بما لم ينزل به من سلطان!
وهنا علينا أن نفصل القول لمن تعلق في ذهنه بقايا من إسرائيليات الإصر والأغلال، فالله تعالى فصل في كتابه العزيز مكونات الإنسان او الجسد بشكل عام، وهو كما نفقه من القرآن الكريم مكون من (عظام ، لحم ، دم وشحم)، فالشحم غير الدهن – الصبغ، الموجود في النبات، وتم ذكر كل منها على حدة، بل ما ذكره الله تعالى عن شرعة الإصر والأغلال مما حرمه لهم هو فيه شحم ولحم منفصلان الذكر، أي تم ذكر الشحم بعيدا عن اللحم، ولا يمكننا أن نجمعهما معا فنقول أن اللحم يشمل اللحم والشحم فهذا من باب الغلو والإصر والأغلال التي خففها الله تعالى عنا!
ومنه قوله تعالى (
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍوَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الأنعام – 146

ومن هذه الآية المحكمة التي لا تدع لنا مجالا لذكر ما تصفه ألسنتنا من جمع بين اللحم والشحم!
فالله تعالى يذكر لنا مما جعله محرما، بعد أن كان حلالا، على الذين هادوا من البقر والغنم، أي من مكونات البقر والغنم، وهي الشحوم، واستثنى من الشحوم ما يصعب تفريقه عن اللحم والعظم!

ومنه نرى بكل بيان ووضوح أن شحم الخنزير الذي لا يحتوي على لحم حلال بتحليل رب العباد وليس فهم العباد.

4. ما أهل به لغير الله – كل ما نأكله من طعام يجب أن يكون مما "أهل به لله تعالى"!
وهي قاعدة "إيمانية" بحتة، إلا ما ذبح على النصب والإستقسام بالأزلام فهي من ضمن ما أهل به لغير الله تعالى، بسبب دخول الشرك فيها.
وكل ما أهل به لغير الله فهو "فسق" كما في مورد الأنعام أعلاه (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )، ففي مورد الأنعام ذكر كل الأصناف وتم تفصيلها في آيات أخرى كما هنا.

وكلمة أهل به :هنا، هي أن تجعل منه شيئا مقدما ومملوكا لأهله – الله تعالى أو غيره ممن يشركون بهم -  قولا او رغبة او عملا.

والخلاصة أنه يجب أن لا نذبح أو نأكل شيئا أو نشرب شيئا – يجب أن لا نطعم شيئا – تم ذبحه أو هبته أو إهداءه أو تجهيزه لنصب مهما كان نوع النصب بشرا ام حجرا، بل كله يجب ذكر اسم الله تعالى عليه لإحلال البركة – بتحليله -  والشكر على النعمة، فيكون الإستهلال به لله وحده تعالى.

البحث في قوله تعالى (به) :
أتت كلمة (به) في اربع موارد، في مورد البقرة أتت سابقة لكلمة (غير) :
(
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِوَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) البقرة – 173
وفي بقية الموارد اتت لاحقة بعد (غير)، المائدة – الأنعام – النحل :
(
قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنعام – 145

وكلمة أهل به هنا تحتاج لمفعول به دائما، فهي ليست من التهليل بالكلام كما في اللغة، فاللسان العربي المبين هنا جعلها كلمة تحتاج لمفعول به أي لشيء يتم الإستهلال به لأحد ما.

وهي تماما مثل كلمة (استمتع) من القرآن الكريم، فالإستمتاع يتم (بشيء) وليس بلا مفعول به، وكذلك الإستهلال بالشيء،.
ومنه قوله تعالى :
(
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) النساء – 24
فالذي استمتعنا (به) منهن هنا هو المسألة، وليس المسألة (منهن)! ولن نخوض هنا في هذه المسألة ونتركها لمن أراد أن يستفيض في فقه قوله تعالى.
المهم هنا أن الإستمتاع دائما يحتاج إلى أن يكون بشيء، كما الإستهلال يكون بشيء!
وهنا في الموارد كلها وردت كلمة (
أُهِلَّ بِهِ)، أي انها فعل الإستهلال الماضي المقدر فاعله بضمير غائب، والمفعول به مشار إليه بكلمة (به).
ومن هنا لا معنى في اللسان العربي لكلمة أو قول "ما أهل لله، او ، ما اهل لغير الله)، فالأهلة تأتي بخبر، تأتي بخبر لنا، هو يخبرنا عن الحج ومواقيت أخرى، ولا تأتي الأهلة بلا خبر فهي ليست أهلة حينذاك.
فتعريف الله تعالى للأهلة على أنها مواقيت للحج ولنا، تعني أن الأهلة تأتي لنا بتلك الأنباء!
أي لا يوجد أهل لله فقط، بل أهل به لله، أي تم تقديمه لله تعالى.
ومما قيل عند العرب في المعاجم بالرغم من عدم رغبتي أن أرجع إليها – إلا مكرها بسبب ندرة الموارد في القرآن الكريم فقط – هو قولهم "استهل الصبي بالبكاء، واستهلت السماء بالمطر، و
اسْتِهْلال الصبيِّ أَنه إِذا وُلد)، ومنه نرى أن الإستهلال بالشيء يكون، كما الوليد ولد فجاء لنا خبره فاستهل فكذلك الأهلة تأتينا بالخبر عن الحج ومواقيت أخرى.

ومنه نرى أن تفصيل القرآن للكلمة أبلغ واعمق وأكثر دقة في تفسير الكلمة لنا لكي نفقهها. ومنه مما لا أريد الخوض به هنا، وهو ما قيل عن الإهلال خلطا – لغة – بالإستهلال، من رفع صوت وغيره، وليس مكانه هنا في الطعام.
______________

تفصيل الأربع الأساسيات:

والآتية تفصيل السابقة (الأربع السابقة ):

5. المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة – كلها صفات او هيئات للميتة من المحلل أكله لنا قبل اكتسابه هيئة الموت هذه، أي تفصيل للميتة إن لم تمت طبيعيا.

الْمُنْخَنِقَةُ:  هي كل ما يموت خنقا،ولك أن تتصور الكيفية، فقد يكون الخنق باليد او بحبل أو بسبب دخان او غاز او غرق او غيره، فكله خنق يؤدي إلى إنقطاع التنفس، فالله تعالى لم يفصل الخنق لكونه من عامة العلم.

الْمَوْقُوذَةُ:  أي ماتت من شدة الضرب أو من شدة المرض، وهذا ما وجدته من خارج القرآن الكريم أي من المعاجم، والله اعلم بها.

 الْمُتَرَدِّيَةُ: قال تعالى (
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ* قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ ) الصافات – 55:56
(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) الليل – 11
ومنها نفهم ان التردي من الهلاك، الهلاك الذي يؤدي للموت – فالحديث هنا عن الدنيا – ومنه، يكون التردي بالوقوع في النار او من علو،
بوقوعها في واد فتقع فتموت، والتردي له أشكال مختلفة، فمنه من يتردى غرقا او حرقا وغيره من سبل التردي، فان يتردى الشخص هو ان يهلك وقوعا في شيء او على شيء. فأن يقع من هاوية على صخر او ماء فيتكسر او يغرق هو نفس الشيء مات ترديا.

النَّطِيحَةُ: وهي الموت نطحا من حيوان آخر عادة –-  من بهيمة أخرى فتنطحها أثناء عراكهما فتموت.

6. وما أكل السبع – أي ما اصطاد السبع من ضبع وأسد ونمر وأشباههم، فأكل منها أي انقص منها، فكما قلنا أعلاه الأكل هو الإنقاص من الشيء، ومنه هنا الحديث ليس عن الصيد أبدا، بل عما وجدنا مما اكل السبع، كالذئب هجم على خراف ففتك ببعضها، وأكل من بعضها، وأستثنى الله تعالى ما ذكينا منها قبل موتها (إلا ما ذكيتم)، والتذكية من شدة الشيء أي تقويته واهتياجه كالنار نذكيها فتشتد وتهتاج وتتماوج، ومنه، أن نذكي ما اكل السبع هو ان لا يكون ميتا بل فيه بقية حياة فنستطيع ذبحه .

7. وما ذبح على النـُصِب – وهي مما أهل به لغير الله ،والنـُصِب هي مما نـُصِبَ للتعبد له، والنـُصِب هيئة فصلها الله تعالى، كالجبال (
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) الغاشية – 19، وفصل ما يساق إليها للذبح كمن يخرج من الأجداث ذليلا خاشعة ابصاره كالذبيحة (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ *  خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) المعارج – 43:44
أي انهم حين يخرجون من القبور يخرجون أذلة كالأنعام المساقة إلى "نصب" للذبح، فلا قوة ولا حيل لهم.
أي ما ذبح أمام أصنام أو أشكال أخرى نصبت للتعبد لها قربانا لها بغض النظر عن نوعية تلك النصب وهيئتها تعميما من الله تعالى.
ومنها ما يذبح في يومنا هذا أمام البيوت الجديدة والسيارات – المركبات – وغيرها من أشكال الذبح في الجاهلية.


8. وأن تستقسموا بالأزلام – وهي مما أهل به لغير الله، الأزلام رجس وفسق ، وهي مشمولة مع الخمر والميسر والأنصاب الأنفة الذكر بأنها كلها رجس من عمل الشيطان، والأزلام هنا فسق كذلك.
والميسر والأزلام تعتمد على الحظوظ في الرمي والقسمة، أي ان نتائجها مبنية على الحظ، وحين يصل الأمر إلى أن نطلب "جزئنا – أو حصتنا أو قسمنا " بناءا على إيمان منا في الأزلام فهو فسق ورجس ، ومدعاة للإيمان بغير قسمة الله تعالى تعالى لنا من الأرزاق، والأزلام تستخدم للقسمة كما الأقداح للميسر، وهي حسب ما ذكر في لسان العرب – سهام تضرب، وبغض النظر عن طبيعة الأشياء والمواد المستخدمة في الأزلام فهي مجموعة من الأشياء التي يتبين لنا من خلالها طبيعة الحصة التي ننالها من خلال ضربها او السحب منها – كالقرعة تماما.
والخلاصة أن طلب الحصة من الطعام عن طريق استخدام الأزلام هو مدعاة للشرك والفسق وهو حرام.
والإستقسام – فعلا – غير القَسَم أي أن يُقسِم الشخص بالله تعالى او غيره، فهنا حلف يمين وليس استقسام!

ولمن قال، لم ذكر الله تعالى المنخنقة والموقوذة والمتردية وذكر الميتة نقول أن الميتة ميتة ، فقد حصل موتها فوجدناها ميتة حين رأيناها، ولا يهمنا معرفة سبب موتها فهي ميتة! وأتى تفصيل هيئات للموت وليس الميتة، وهذه الهيئات قد تكون بفعلنا أو بفعل غيرنا، فمما علمته أن كثير من الشعوب تقتل البقر مثلا بالضرب على رأسها، وهذه هيئة موت، تؤدي إلى تحريم ما تم موته بذلك الشكل!

وما يستثنى من هيئات الموت، تذكية، هو قبل موتها، أي وفيها وهج ونار الحياة وليس وهي تلفظ انفاسها او ميتة!

وكلمة تذكية أتت من ذكو ، ذكاء ، وتذكية النار، وهي من الكلمات الشائعة العامة عند العرب فلم تحتج لتفصيل من الله تعالى.

وأخيرا، في مورد المائدة قال تعالى :
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

وهنا ابتدأ الله تعالى بكلمة "يسألونك"، وودت لو قلت لو ما سألوا ما كان هذا! ولكن أمر الله تعالى كان مفعولا.
فما تلا هذه الكلمة كان موجودا أصلا – ضمنيا – في كل ما ذكرته أعلاه! أي من بعد مورد الأنعام وتفصيله الآنف في المائدة، ولكن من طبع البشر سؤال الرسل – وهذا ما نهى الله تعالى عنه المسلمين بنعته جهلا، وليس من العبث كان نهيه لنا عنه -، بل لكون الإسلام دين عقل وعلم وليس دين سؤال وجواب وإصر وأغلال!

ومنه، أجابهم الله تعالى، ويبدو هنا من المساق أنهم سألوا عن أمر استخدام الجوارح والكلاب في الصيد وعن طعام اهل الكتاب، فاجابهم الله تعالى، بالرغم من ان مورد الأنعام يحوي الجواب عن هذه الأمور – ضمنيا – ولكن اكثر الناس لا يعلمون!

فمما عده الله تعالى لنا هنا هو استخدام الكلاب والجوارح في الصيد على انه حلال، وطعام الذين أوتوا الكتاب من قبلنا أيضا حلال لنا، ويجب أن نركز هنا على أن من أوتوا الكتاب من قبلنا يعلمون الحلال من الحرام في الأطعمة ! فالميتة والخنزير – مثلا – حرام علينا كلينا، وبالتالي لا نفهم أنه يجوز اكل الخنزير عندهم أبدا! ولكن من كل بد أن طعامهم حلال لنا بسبب عدم وجود محرمات عندنا غير ما ذكر أعلاه، وهو لا بد ليس مما يأكلوه ويضيفون منه اللآخرين.

ومن المساق هنا نفهم استخدام الله تعالى لكلمة "اليوم" وكلمة "الطيبات"
فاستخدامهما جاء بناءا على جواب منه لسؤال طرح على الرسول في "أمور" تخص الطعام، فكان الجواب عاما بتسمية هذا الطعام "طيبات" تزكية له لتحليل الله تعالى له، ومن كونه من الخيرات، وسنرى لاحقا كيف توصلت لهذا المعنى.
فالطيبات تشمل كل ما لم يحرمه علينا، ولم نر حتى اللحظة تحريمه علينا لشيء غير ما ذكره أعلاه!

______________

عالمية القرآن وعالمية التحريم والتحليل:

والآن، وقبل أن نأتي إلى البحث في كلمة الطيبات، أود أن أذكركم وأذكر نفسي بقوله تعالى لنا أن لا ندعي عليه بما تصف به ألسنتنا من الكذب – من وصفنا المبني على الخيال والرغبات الشخصية أو مفهوم سابق مبني على التراث أو ما ورد في شرع أخرى أثرت علينا – فندعي أنه من الله تعالى ونفتري عليه الكذب، وهذا هو بيت القصيد هنا، فكم من كاذب أو مدع وصف شيئا بلسانه وحرمه، الله تعالى لم يحرمه ؟!

وهذا سنبحثه في مورد النحل، حيث قال تعالى:
( فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) النحل – 114:116

وهنا نرى ربط الطعام بكلمات (رزق الله – حلال – طيبا )
وهي كلها آيات محكمات كما في مورد الأنعام تماما، ولكن تم إضافة تحذير مباشر لنا بأن لا نفتري على الله تعالى الكذب بأن ننسب له ما تصفه ألسنتنا!

لنتدبر جيدا قوله تعالى "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ"
وفحواها انه لا يجب ان "نقول" أي أن نجعل من "وصف السنتنا لشيء"  قولا ندركه ونأخذ به ...!
الأمر هنا غاية في الدقة – وكأنه يتحدث عن التراث وعما يحيط بنا من إصر وأغلال!

فالله تعالى لم يقل ولا تقولوا لما تقولونه، ولم يقل ولا تقولوا لما تتكلمون به، بل استخدم تعبيرا قرآنيا بحتا محكما، وهو ما تصفه ألسنتنا، فكلام الله تعالى هو الحق، وما تصفه ألسنتنا هو النسبي والظن، ولهذا جعل من قوله قولا ومن قولنا وصفا لسانيا للشيء، وتفصيل كلمة وصف في اوضح صورة هو في قوله تعالى عن أخوة يوسف حين وصفوا كذبا دم يوسف على أنه دمه (
وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍقَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) يوسف – 18
فوصف الشيء كذبا هو الإدعاء بغيرية الشيء، أي أن نحاول جعل الشيء شيئا آخر، كأن نضع دما من غنم على قميص إنسان فنصفه بأنه دم إنسان!

ومثال آخر هو عملية إدعاء الكافرين بأن الرسالة ليست رسالة بوصفها غير ما هي عليه :
(
بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ
.............
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) الأنبياء – 5،18

ومن هنا، فحين نصف الصقر – مثلا – وفصيله نقول عنه انه ذي مخلب، وحين نصف الأسد نقول عنه انه ذي ناب أو ذي ظفر، ومن هنا، هذا هو وصفنا نحن لها! فهل بوصفنا لها، مثل هذا الوصف، نستطيع تحريمها أو تحليلها من خلال ورودها في التوراة، علينا؟
بناءا على ما ذكره الله تعالى لنا ... من المؤكد النفي !

ومن منطلق كون القرآن كتاب كوني، ونزل على قوم مكانيا وزمنيا لعبرة وحكمة، فلم يعلم ذلك القوم بأي من شعوب الأرض الأخرى، فمن المؤكد أنهم لم يعلموا مثلا بأن هناك شعوبا تستخدم الكلاب فتحمل عليها أثقالا في شمال الكرة الأرضية، بالرغم من ضرب الله تعالى مثلا عن الكلاب تحمل اثقالا فتلهث! ومن المؤكد أنهم لم يعلموا بأن هناك شعوبا في عمق الأدغال قد يأكلون لحم التمساح على أنه وليمة، وهكذا...

أنا لا احلل هنا ولا احرم بل أؤطر لقرآن للناس أجمع احتوى الزمان والمكان مما لم ولن يحيط به البشر أجمع.

ولهذا لا يحق لأي منا تحريم "شيء" لم يتم تحريمه "صراحة" في الكتاب المهيمن.

______________

مسألة الطيبات:

والآن، علينا ان نبحث عن مسألة كلمة الطيبات والخبائث في القرآن الكريم، وبناءا على التوجه القرآني، وليس مشاعرنا ورغباتنا وظروفنا الآنية، وما نحبه ونرضاه مما لا نحبة ولا نرضاه، فالحكم حكم الله تعالى، والقول قوله، وعلينا الأخذ به كما أمرنا، بلا زيادة ولا نقصان.

قال تعالى :
( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) الكهف – 19

ومنها نرى ان الطعام يوصف بأنه أزكى وأنه رزق، أي كما نقول اليوم لغة (طعام طيب او زاكي).

ومن مورد البقرة – 172:173 ، نرى ربط الطيبات بكونها من رزق الله تعالى، بالمحرمات، مما حرمه الله تعالى منها، ربطا بينا لا ضبابية فيه :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

وهنا تم استخدام كلمة "كلوا" بدلا عن "طعم"، وهي كما ذكرنا آنفا خاصة بنوع الطعام من الطيبات.

وقال تعالى :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) البقرة – 168

وهنا نبدأ بفهم الكلمة "طيبا"، فالله تعالى يحذرنا في نهاية الآية ان لا نتبع الشيطان – بأن نحرم ونحلل – وبأن نأكل "مما في الأرض حلالا طيبا"، ومما في الأرض، أي على سطح الأرض، معمما من الله تعالى كما هو! وهو ليس الكلام عن الزرع والنبات أبدا، الذي هو (من الأرض) وليس (في الأرض)، والذي يأتي لاحقا أدناه.

فنلاحظ ارتباط كلمة "طيب" بكلمة "حلال" أو ما لم يحرمه كما في الآيات السابقة هنا!

والآية التي تربط الخبيث بالطيب وتفصل الأمر هي قوله تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) البقرة – 267

ومنها نستطيع ببيان أن نرى ان ما نكسب من مال – ناتج عن تجارة أو زراعة -  يكون إما "طيبا" وإما "خبيثا"
فالمال من السرقة والنصب والإحتيال والكذب والربا – كله مال خبيث
والمال من العمل والجهد والتعب والتجارة والإرث – بلا مخالفات لله فيها – هو مال طيب

والمال من زراعة الطيبات من الزرع هو من الطيبات
والمال من زراعة الخبيث من الزرع هو من الخبائث

فما اخرجت الأرض هو طيب عامة – ولكن هناك خبيث منه مثل نبات المخدرات مثلا، فهي مما تذهب العقل ، وهناك نبات سام مثلا، والله تعالى هو من أحاط بكل شيء علما، وهو من يعلم أن هناك نباتا خبيثا وهناك طيب منه، بل من ابسط الأمثلة،وعلى سبيل الفكاهة منها، هي "البطاطس"، والتي فيها خبيث وطيب في نفس الوقت! فورقها سام لا يجب ان نتيممه، والبطاطس نفسها من الطيب، فنتيممه، وسبحان من خلق!

والخبيث من الناس هو المنافق والذي يسارع في الكفر، والطيب منهم هو من أخلص لله تعالى دينه (آل عمران – 179)

ولا يجب الربط بين الطيبات والتحليل ابدا، فكل ما هو حلال هو طيب، فلا نكون مثل اليهود نفصل ما لم يذكره الله تعالى وعممه ، بدلالة قوله تعالى :
( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) النساء – 160
فقد حرم الله تعالى عليهم ما كان طيبا (حلالا سابقا)، فهل اصبح من الخبائث بعد تحريمه؟ من المؤكد النفي! فهو ما زال من الطيبات، ولكن حرم عليهم تحت شرعة الإصر والأغلال نكالا بهم على ما كسبت أيديهم!

ويجب ان نستمع لقوله تعالى ونأتمر به حين يقول سبحانه :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ) المائدة – 87:88

فكلام الله تعالى يحدد ويفصل ويبين أن رزقه هو الطيب إن أحله لنا.

والواقع أنني أبحث عن آية تحدد ما هو ليس بطيب من الطعام، ولا اجد غير كون الحلال طيبا من رزق الله تعالى، ولا استطيع تحريم اكل لحم التمساح ابدا، حتى لو عافته نفسي – شخصيا -  ولم استطع يوما أكله، فهو يبقى غير مذكور كخبائث أو حرام ، وهناك أناس ينظرون إليه على أنه من أشهى اللحوم وأطيبها!

فهل أستطيه وصف لحم التمساح أو التمساح على أنه خبيث أو حرام فأكذب على الله تعالى وافتري عليه؟ أنا لا أستطيع ذلك ولن أفعل، فلم يحرم الله تعالى ذي ناب أو ذي ظفر أو ذي مخلب علينا أبدا، وحلل ما وراء ما حرمه طيبا للناس يأكلون منه.

فكل ما تصفه ألسنتنا بكونه " أَزْكَى طَعَامًا" مما لم يحرم الله تعالى – كما قال اهل الكهف – فهو طيب!
فالحكم في ان تطلبه نفسك بعد عدم تحريم الله تعالى له.

فكلمة الطيبات ملازمة لرزق الله تعالى في كثير من الآيات (ورزقناهم من الطيبات) (ورزقكم من الطيبات) ولمن أراد أن يستزيد، سيجد كثيرا من الآيات في هذا الأمر.

وفي النهاية أصل إلى مدلول كلمة طيب من قوله تعالى :
( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل – 32
أي الخيرون الصالحون المؤمنون
ونقيضهم الظالمون الكافرون
( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل – 38

فالكلمة الطيبة هي كلمة الخير والسلام
والأبن الطيب هو الإبن البار المؤمن – الإبن الخير.
فالطعام الطيب هو ما احله الله تعالى لنا من رزقه من الخيرات من حولنا.

______________

الإسراف في الطعام:

الإسراف هو تعدي الحاجة اللازمة أو تخطي الكمية أو العدد الكافي في أمر ما (مضاعفة الشيء).

قال تعالى (
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) الإسراء – 33
ومنه نرى ببيان أن لا نقتل اكثر مما قتل لنا، فإن قتل احدهم واحدا منا فلا نقتل إلا واحدا – القاتل – ولا نتعدى الحد المسموح لنا وألا كان إسرافا في القتل.

ومنه، الإسراف في الطعام هو أن نأكل ضعف حاجتنا من الطعام، أي وجبتين في وجبة واحدة، وهو من النهم والجشع وفيه ما يضر العقل والجسد.

وحكم الإسراف في دين الله تعالى – إلهي بحت – فلا علاقة لنا به، وهو أن الله تعالى لا يحب المسرفين.
فلا يجوز ان نسرف حتى في الصدقة وتزكية ما نحصده (الأنعام – 141)
وقوم لوط هم قوم مسرفون ( الأعراف – 81 )، وفرعون كان من المسرفين (يونس – 83) .

ولكل منا فهم موقفه من الإسراف!

والإسراف في الطعام مبغوض من الله تعالى :
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الأعراف – 31

ويستثني الله تعالى من المسرفين من تاب وأناب وأصلح (الزمر – 53:55 ).

ومن هنا نفهم أن الطعام يجب ان لا يكون بإسراف كما يحدث في الواقع الإجتماعي الآن في اغلب بلاد العرب والمسلمين، في حين لا يجد غيرهم ما يسد به رمقه من حولهم، وأشدد بالذكر شهر الصيام الذي اصبح شهر الإسراف عندنا بكل أسف، ففقدنا قيمته من تقوى لله ، ووقعنا في حكم المسرفين إضافة لذلك!

______________

الطغيان في الطعام:

نعم، نكتشف أن هناك اكثر من الإسراف في الطعام، وهو الطغيان فيه!

الطغيان هو عموم انتشار الشيء (مضاعفته)  فيصبح كالغطاء الكامل لما تحته لا يبدو من تحته شيئا أبدا.

والآية التي تفصل كلمة الطغيان في قوله تعالى :
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ) الحاقة – 11
فطغيان الماء يعني ارتفاع منسوبه بشكل كبير يغطى على ما اسفله تماما فلا يظهر منه شيء  ويزيد ارتفاعه حتى يحمل الجارية.

والطغيان أنواع كثيرة، وهنا يهمنا الطغيان في الطعام، حيث قال تعالى :
(كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) طه – 81:82

وقد قلنا أن الإسراف هو مضاعفة الشيء ، أو البدء في مضاعفته، والطغيان هنا هو مضاعفته أضعافا مضاعفة بلا رادع.

وهو ما نراه الآن من ولائم حيث يجلس اربع افراد على مائدة موضوع عليها خاروف كامل مثلا، وهذا حصل ويحصل كثيرا في وقتنا للأسف.

وهنا أمر خطير جدا، يستدعي حضور غضب الله تعالى.

ويبقى باب الغفران مفتوحا لمن اتقى وأصلح وأناب.

______________

ذكر اسم الله تعالى على نعمه :

ورد في القرآن الكريم حث الله تعالى لنا أن نأكل مما ذكر اسمه سبحانه عليه! بل الله تعالى يستنكر أن لا نأكل مما ذكر اسمه تعالى عليه ويذكرنا أنه فصل لنا في القرآن ما حلله وحرمه لنا، فكيف لا نأكل منه؟!

والآية المحكمة هي قوله تعالى (
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) الأنعام – 118
وهنا موقف مهم للغاية، بل هو فيه أمر من الله تعالى ضمني بأن نطيعه وأن نأكل مما ذكر عليه اسمه، وجعل ذلك من علامات الإيمان الخالص به، ومن الإيمان بالقرآن الكريم ذاته.

ويتبين لنا موقف الله تعالى ممن لا يطيعه في هذا الأمر، من الآيات التالية لهذه الآية المحكمة، فالله تعالى يشدد على كون القرآن ودين الإسلام هو الشرعة المخففة المزيلة للإصر والأغلال أبدا، فلا رجعة للماضي ولا لما كان محمرما منه على الذين هادوا، فالموقف هنا دقيق وخطير جدا، وعلينا وعيه كاملا وإدراك ما يحيط بالإسلام من تحريف جلي واضح يخالف آيات الله تعالى وكتابه وأمره.
 قال تعالى مفصلا هذه الآية لمن لم يتقيه كي يفقه القول فيها :
(
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ

وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ

وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ

أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام – 119:122

ففيها الأمر بين واضح لمن اتقى، فالله تعالى يجيبنا بعد ان استنكر عدم طاعته بالأكل مما ذكر عليه اسمه، بأن من يحرم ويحلل مما لم يفصله الله تعالى هو متبع الهوى ومضل للبشر (
وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ).
ثم منعنا من أكل ما أهل به لغير الله تعالى بأن يذكر اسم غير اسمه عليه او لا يذكر اسمه تعالى، لأنه فسق وإشراك بالله تعالى (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )، والأكل منه هو اتباع للشياطين وشرك كما هو واضح وبين من الآيات اعلاه.

والحكمة في الذبح والإنفاق في مناسك الحج هي التقوى، فالله لا يناله شحومها ولا لحومها بل التقوى فقط، (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) الحج – 37
 
ولهذا قال تعالى ان نذكر اسمه تعالى عليها ونكبره سبحانه على ما هدانا وأنعم علينا :
(
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الحج – 34:35
فنحن نشكر لله تعالى على ما وهبنا من نعم وعلى وهبه إيانا بهيمة الأنعام فنذكر اسمه مكبرين وشاكرين لكي نتذكره دائما ولا ننسى نعمه، ونتقيه.

متى يتم ذكر اسم الله تعالى عليه؟

من آية البدن نرى ببيان أن ذكر اسم الله تعالى يتم وهي صواف، أي قبل الذبح، وهذا هو تعليل الإستهلال به لله تعالى او لغيره!
فأن اذبح لله تعالى هو أن أستهل بما أذبح لله تعالى بذكر اسمه عليه شكرا له على نعمه وفضله علينا، ويكون الإستهلال قبل الذبح ، وذكر الله تعالى كثيرا ويفضل أن يكون بصوت مسموع كما علمنا الله تعالى تعالى حين قال لنا أن نذكره كذكر آباءنا أو أشد ذكرا، ونحن نذكر آباءنا بصوت مسموع عادة بالحديث عنهم او شكرهم او الترحم عليهم، وهذا كله ليس قانونا بل هو وجهة نظر، فكل يذكر الله تعالى كما يريد، ولكن المهم هو أن نذكر اسم الله تعالى بالشكر او التكبير او التسمية – البسملة – او الحمد فكلها ذكر لله تعالى وشكر على نعمه.
فمن قال ماذا اقول ، نقول له اذكر اسم الله تعالى وقل الله اكبر او بسم الله ، الله اكبر، أو بسم الله والحمد لله، او غيره مما شابه، فالمهم هو (ذكر اسم الله عليها) وهي قائمة قبل ذبحها، وهذا نوع من الشكر والرحمة لما نذبح، ولذلك حرم علينا ما اهل به لغير الله تعالى، لأنه يتم إهدائها قبل الذبح لغير الله تعالى فيشركون به.
.

فمن هو الذي يذكر اسم الله ؟
 - الذي يذبح.

والله تعالى يستنكر منا عدم اكل طعام "قد تم" ذكر اسم الله عليه ، ولم يقل ما ذكرتم اسم الله عليه، فكلمة "مما ذكر" تفيد ببيان المجهول، فنحن لا نعرف من ذكر ولكن نعرف انه تم ذكر اسم الله عليه، وببساطة، هو قول الله تعالى لعلمه الغيب، فما يذبح الآن في المسالخ الإسلامية ويذكر اسم الله تعالى عليه لا نراه نحن ولكن نأكله.

اما طبيعة الذكر من نطق او في النفس فذلك لم يفصله الله تعالى وذلك شأنك، ولكن لتأكيد الحدوث من نفسك كي لا تنسى ، يفضل ان يكون نطقا، فالإنسان ينسى ويسهو، وفي الحج لا اظنك تبقى طيلة الوقت تذكر اسم الله بصوت مسموع طيلة الوقت، ولا اريد الخوض في طبيعة الصوت من عدمه فلم يفصله الله تعالى، وفقط  أقول من رأيي الشخصي أنه افضل بسبب إمكانية النسيان والسهو الذي يقع فيه الإنسان غالبا!

أما ذكر اسم الله تعالى على الطعام وما نأكل وما نشرب فلا اظنه شيء سيء، فالله تعالى يحب المتقين والشاكرين ، فلم لا نذكره شكرا على نعمه وفضله علينا ؟ ولا اقول أنه واجب او فرض او غير ذلك فلكل تقواه.



إنتهى.

والله المستعان

ملاحظة: لا حقوق في الطبع والنشر لهذه الدراسة، وإن كنت لم أصل إلى مراد الله تعالى الذي نطمح كلنا إليه –فهو سبب تدبرنا – فعسى أن تصححوا خطاي وأكون لكم من الشاكرين.

مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرآن الكريم

* بعض المفاهيم المستقاة من الكاتب محمد أبو القاسم حاج حمد حول مسألة الإبل في كتابه "القرآن والمتغيرات الإجتماعية والتاريخية " دار الساقي – بيروت – لبنان – طبعة أولى 2011

(1) أنظر المقال التالي عن تفصيل الأنعام وبهيمة الأنعام.


 

اجمالي القراءات 47350