ومن دخل الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم , ظلت معتقداتهم الموروثة وأفكارهم الدينية السابقة هي الفاعلة والمؤثرة , وأثاروا بين المسلمين مسائل فلسفية ما عرفها المسلمون من قبل مثل مسائل صفات الذات الإلهية والجبر والاختيار وما شابه ذلك . ومنهم من أظهر الإسلام وأبطن غيره ليتمكن من تقويض هذا الدين الجديد الذي سلب أمتهم السيادة والعزة . ولما كان من الأدوار المنوطة بالإعلام الرسمي الحاكم , محاصرة الوعي الشعبي وإبقاؤه دون الحد الأدنى اللازم لإيقاظ الجماهير ودفعها للسير في اتجاه تغيير واقعها المزري , كان لابد من اختراق وعيها بوسيلة مستحدثة آنذاك وهي القصص والقصاصين . ومحاولات استخدام القصص والقصاصين كوسيلة دعائية بدأت أيام عمر بن الخطاب ولكنه منع القصّاص من مزاولة أنشطتهم الدعائية في المساجد . وظهر القصص أيضا في عهد عثمان وكرهه الإمام علي حتى أخرج القصاص من المساجد لما كانوا يضعونه فى أذهان الناس من خرافات بعضها مأخوذ من الديانات السابقة بعد أن دخلها التحريف. واستُخدم القصص للدعاية أيام الفتنة الكبرى , ثم أُسند فيما بعد إلى من يأخذ عليه أجرا . والعقل الشعبي يساهم في تشكيله الأدبُ الشعبي والعادات والتقاليد والأعراف والأساطير والثقافات الموروثة. ومما يحُول دون جهود إعادة النظر في المعتقد ومراجعة التدين , الاستمساك بالرأي الذي ألفناه بسبب اعتقادنا بصحته لمجرد رغبتنا في أن يكون ذلك الرأي صحيحا , إذ يعز علينا اكتشاف أننا لم نكن على شيء . والانتصار لرأي ما , والتعصب لمذهب ما دون طرحه للفحص والتمحيص , يعني خوفنا الشديد من اكتشاف ما كنا عليه من خطأ. والعامة من الناس يفتقدون الثقافة التي تعينهم على إمضاء هذا التمحيص فهي- أي الثقافة - لا تمثل لهم ضرورة حياتية مباشرة , وإذا ما نجحت قياداتهم في تزيين معتقد ما لهم , استمسكوا به إذ يتوهمون آنذاك أنهم يفكرون ويختارون بأنفسهم . وهم في ذلك - أي العامة المغرَّر بهم- كالعميل الساذج الذي يجنده العدو دون علمه , فجُل العامة ينساقون وراء المبطلين دون أن يعلموا , فحظهم من العلم قليل , وهم بسطاء منصرفون إلى كسب معاشهم دون اكتراث بالآراء أو الفلسفات , ويعتنقون ما يصوره لهم المبطلون أنه الدين , والعوام دوما مع كل متكلم كما أن الصدى يجيب كل ذي صوت بمثل كلامه.
وهكذا تم تضليل الضمير الديني على مر القرون , وتم الاجتراء على ثوابت الدين على نحو يدعو إلى الاستغراب , ولكن العامة لم تستنكف هذا الاجتراء الذي حدث تدريجيا إذ تم توطئة العقل الشعبي لقبول مثل هذه الانحرافات , ذلك ما حدث ببساطة . فالعقل الشعبي هو الذي يحُول دون أن يمحص الناس ديانتهم التي يعتقدون , وهو الذي يمنعهم من التحول إلى ديانة أخرى . وليس هناك خط فاصل يمكن اعتباره العلامة الفارقة التي تميز التحول من الحق الى الباطل, فمثل هذا الخط وهمي لا وجود له في الواقع , لأن عملية التحول هذه تمّت في وقت ليس بالقصير وبالتدريج الذي يصبح فيه التدريج غير ملحوظ , فمن كانت مطيته الليل والنهار , فإنه يُسار به ولو كان واقفا . والطريقة الممكنة لاكتشاف هذا التغيير هو قياس ما آلت إليه الأمور والأفكار والآراء بما جاء به القرآن . وبذا يمكن معرفة مقدار التحول من الصواب إلى الخطأ . وقد يكون من الضروري عندئذ تسليط الضوء على الملابسات والظروف التي أحاطت بهذا التحول , وهي الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية . (يُتبع)