( المقال الثالث ) التشريع الذى يحكم به القاضى .
أولا : أكذوبة أهل السلف فى مصطلح ( شرع الله ) و( تطبيق الشريعة )
1 ـ أهل السلف لهم جرأة عجيبة على الله جل وعلا ، ولهم مقدرة هائلة على الكذب عليه . وليس أدل على ذلك من أنهم يطلقون مصطلح ( شرع الله ) على الكتابات الفقهية لأئمتهم ، بدءا من الامام مالك فى ( الموطأ ) والشافعى فى (الأم ) الى ابن حنيل والبخارى و مسلم ..الخ ، مرورا بان تيميه وابن القيم الجوزية ..الخ .. .وانتهاءا بابن عبد الوهاب وابن باز وابن عثيمين وسيد سابق ..الخ&nbcirc; .
معنى أن تكون تلك الكتابات الفقهية البشرية ( شرع الله ) أن المولى جل وعلا قد أعطى حق التشريع باسمه لمالك ثم للشافعى ثم لابن حنيل ثم لفلان وفلان . أى أن أولئك هم ( شرع الله ) فيما يكتبون وفيما يختلفون مع بعضهم ومع أنفسهم ، وفيما يقولون من خرافات وتناقضات يندى لها الجبين ويضحك لها الحزين . ولأنهم ( شرع الله ) الذى يجب أن ينفذه المسلمون فقد كان يجب أن يعلن رب العزة أسماء أولئك الأئمة الناطقين بشرعه ، ولكن ذلك ـ مع الأسف ـ لم يحدث . أى أن أولئك الأئمة وأتباعهم هم متخصصون فى الافتراء على الله جل وعلا ، وهم يحققون الاعجاز القرآنى بعصيانهم ، فقد أكّد رب العزة قبل ظهرورهم ان أشد الناس ظلما هو من إفترى على الله كذبا أو كذّب بآياته .
2 ـ ومن جرأتهم على الكذب أنهم يحملون شعار الشريعة الاسلامية ، ويطلقونه على كتاباتهم الفقهية التى لا آخر لها فى التأليف وفى التناقض و فى التخريف .
ترتب على هذه الكذبة الكبرى ظهور ما يعرف الآن إعلاميا وسياسيا بتطبيق الشريعة، ذلك الشعار الذى يرفعه من لا يدرى عنه شيئا، ولكن يكسب به كثيرا فى دنيا السياسة الغوغائية.
فالذين يرفعون شعار تطبيق الشريعة لا يحددون المقصود من الشريعة:
هل هى شريعة القرآن والتى كان يطبقها خاتم النبيين عليه السلام؟
وهنا نتساءل عن اختلاف الظروف، والمطلق والمقيد، ومستجدات عصرنا، وكيفية الاجتهاد، وهل أعدوا اجتهادا قرآنيا يستجيب لظروفنا؟ ولو فعلوا لصاروا معنا من (اهل القرآن ).
الاجابة واضحة: لا .. لأنهم لا وقت لديهم للبحث العلمى الذى يستلزم التفرغ و الملكة العقلية والبحثية . وقتهم مخصص لتحقيق طموحهم السياسى وتجميع الناس حولهم وغسل أمخاخهم والمزايدة بهم على الحاكم المستبد العسكرى . هم زعماء للغوغاء ، وهم ـ فى تقدير المراقبين السياسيين ـ الحكام الجدد القادمون ، فكيف يرضى أولئك الزعماء وأولئك الحكام القادمون أن يكونوا تلامذة لأهل القرآن ، يتعلمون على أيديهم حقائق الاسلام المنسية ؟ ثم إن طموحهم السياسى مرتبط بذلك الدين الأرضى فى عقيدته وشريعته وفى أسس دولته الدينية المبنية على الاستبداد الدينى والحكم المطلق بزعم أنها ( حاكمية الله )، فهل يتركون تلك السلطة المرتقبة التى سيمتلكون فيها الشعب و ثروته مقابل أن يرجعوا فى خريف العمر الى تلامذة للقرآن الكريم ؟
ونعود للتساؤل، هل هى شريعة الفقهاء فى العصر العباسي؟
وهنا نتساءل عن أى مذهب وأى عالم فقهى سيأخذون عنه؟
الواضح أن الاختلاف بين المذاهب وفى داخل كل مذهب بل والاختلاف فى كل كتاب وفى كل صفحة أحد السمات الأساسية فى تشريعات الفقهاء ، وأغلب تلك التشريعات تحصنت من النقد بعد أن ألبسها أصحابها زورا ثوب الأحاديث النبوية، وتلك الأحاديث تتناقض مع نفسها ، والذين حاولوا تنقية الأحاديث وفق ما يعرف بالجرح و التعديل هم مختلفون ، ولا يزالون ، وقد وصل الاختلاف بينهم مداه فى الأحاديث المتعارضة والمختلفة فى السند وفى المتن . ولا يزال ذلك الخلاف قائما ، ويجعل مصطلح الشريعة الذى ينادون بتطبيقه مجرد كلام هلامى للمزايدة السياسية ، لا يصمد أمام أى نقاش علمى، ويحتاج الى القوة فى فرضه وتطبيقه بالهوى وتحصينه من النقاش .
ولذلك يختلف الفقهاء السلفيون حاليا فى كل شيء من حرب الخليج إلى الختان وفوائد البنوك.
3 ـ وبعد الاختلاف داخل شريعة الفقهاء وأحاديثهم المفتراة فان تلك الأحاديث وذلك الفقه كان يعبر عن عصره ، ويتغير ـ أحيانا ـ مع تغير عصره ، ولذلك كانت مصانع الأحاديث تنتج المزيد فى كل عصر ما يناسب ذلك العصر فيتراكم انتاجها ، بدليل أن موطأ مالك كان حوالى ألف حديث فقط ، دون وجود آية قرآنية واحدة ، ومن تلك الأحاديث قسم كبير ليس منسوبا للنبى محمد عليه السلام بل للصحابة . وبعد قرن واحد تزايدت أعداد الأحاديث لتصل الى مئات الألوف ، ثم الى ملايين فى العصر المملوكى بحيث أحتيج الى تأليف مجلدات فى الأحاديث المصنوعة و الموضوعة فى نهاية العصر العباسى ( ابن الجوزى 597 ) الى نهاية العصر المملوكى ( السيوطى 910 ).
أحاديث الشافعى ـ التى أختلقها وصنع لها رواة ـ جعلها تنسخ ـأى تلغى أحكام القرآن. هذا الشافعى هو نفسه إختلف مع نفسه .حين كان فى العراق أسس مذهبه القديم ، وحين جاء الى مصر ألّف مذهبه الجديد لأن ظروف مصر تختلف مع ظروف العراق فى نفس الزمان .
ولو تخيلنا الامام الشافعى قد قام من قبره فى الفسطاط ، وسار فى شوارع القاهرة التى تم بناؤها بعد موته بقرن ونصف قرن من الزمان ، لو تخيلناه يمشى فى القاهرة الآن ـ ولا نقول نيويورك أوطوكيو أو لندن ـ فكيف سيكون تعبيره الفقهى عن تغير الظروف ؟ المتوقع أنه سيموت ثانيا من هول المفاجأة .!!
ولكن بعض المتخلفين عقليا يريدون فرض فقه الشافعى علينا بعد أن تجاوزناه ب12 قرنا ، ولكى ينجح فى مشروعه يريد بنا أن نرجع الى العصور الوسطى فى الزى من الحجاب و النقاب و اللحية و الجلباب وعبادة ذلك التراث ( الهباب ).
إن الملمح الأساس فى البناء التشريعى أنه يواكب العصر ، ويضع حلولا لمستجدات العصر ، وقد حفل عصرنا بشتى المستجدات التى يتوالى ظهورها يوميا ، والتى لم يكن الشافعى أو حتى ابن عبد الوهاب و سيد سابق يعرفون عنها شيئا .. فهل يا ترى نجد بين فقهاء اليوم من الدعاة لشعار تطبيق الشريعة ( السنية ) حلولا لمستجدات عصرنا الذى يحتاج إلى اجتهاد فقهى متطور يواكب سرعة إيقاعة وسرعة تطوره.؟
الجواب واضح ، وهو انهم يختلفون فى كل شىء مع أنهم يتدخلون فى كل شىء ، ويفشلون فى كل شىء ، ولا ينجحون إلا فى اصدار الفتاوى المقززة بدءا من رضاعة الكبير الى التداوى ببول النبى محمد عليه السلام .
ومع ذلك ، لا يزالون يرفعون لواء ( تطبيق الشريعة ) ولا يخجلون .!!
4 ـ ثم إن تلك التشريعات السلفية لم تكن صالحة لعصرها حيث ساعدت على انتشار الظلم والاستبداد، فى ظل سيادة الدول الدينية فى العصور الوسطى ، فكيف تكون صالحة لعصرنا، وعصرنا هو عصر ثقافة حقوق الانسان والديمقراطية ؟
وقد سيق لنا نشر مقالات عن تطبيق الحكام المستبدين المسلمين فى العصور الوسطى لشريعتهم فى إطار سلطتهم المطلقة ، وننوى نشر المزيد ليتعلم مسلمو اليوم أن تطبيق الشريعة السنية بالظلم والاستبداد كان قائما فى حكم الخلفاء حتى سقطت الخلافة العثمانية فى نهاية الربع الأول من القرن الماضى . وهو ما يريد الوهابيون والاخوان المسلمون إحياءه الآن تحت الشعار المطاط المخادع ( تطبيق الشريعة )، وهم يركزون من تلك الشريعة على حد الردة لارهاب وإرعاب المخالفين لهم سياسيا وفكريا ، وهم يطبقون ذلك الحد حتى قبل وصولهم للحكم ، كما فعلوا فى قتل د. فرج فودة ، ويطبقونه وهم فى الحكم كما فعل النميرى فى السودان مع المفكر المسلم الأستاذ محمود طه . هذا علاوة على حكم الفساد والاستبداد والفسوق والتفاهات فى السعودية ودول الخليج.
ثانيا : إمكانات تحقيق العدل فى الدولة الاسلامية
طبقا لجوهر التشريع القرآنى الاسلامى القائم على إحقاق العدل وإقامة القسط فإن الحكم الذى يصدره القاضى يعنى الآتى :
1 ـ وجود سلطة تنفيذية هى التى بحثت فى الجريمة وعثرت على المتهم واحضرته ، ثم بعد أن يحكم القاضى عليه هى التى تقوم بتنفيذ الحكم . ومعرف ان هذه السلطة التنفيذية تعبر عن المجتمع وتدافع عنه ، ومن هنا يأتى دورها فى العثور على من تراه مجرما ، ويظل المتهم بريئا الى أن يثبت القاضى ( المحايد ) إدانته أو براءته . هذه السلطة التنفيذية تتكون من متخصصين فى هذا (الأمر ) أو هذا ( الشأن ) ، أى من (أولى الأمر ) المتخصصين فى البحث و التحرى والقدرة على التنفيذ.
2 ـ وجود تشريع قانونى مفصل ومحدد فى العقوبات و حل الخلافات المدنية ، ولا سبيل فيه للتعارض أوالتناقض أو العبارات المطاطة أو الغامضة أو التى تحتمل أكثر من وجه . وهذا التشريع تقوم به سلطة تشريعية من داخل المجتمع من المتخصصين فى هذا الأمر أو هذا ( الشأن ) أى من ( أولى الأمر ) المتخصصين فى التشريع و القانون .
3 ـ وجود (قاضى ) أو سلطة قضائية ، وهنا (يحكم ) القاضى فى القضية المطروحة أمامه ، وهو فى حكمه يقوم بتنزيل أو تطبيق المادة القانونية المطابقة على القضية التى امامه. و الحكم الذى يصدره يكون أقترابه من العدل بمقدار التطابق بين القانون و القضية . هذا القاضى لا بد أن يكون مؤهلا لفهم القانون وفهم القضية المطروحة ، وأهم من ذلك أن يكون نزيها متحريا للعدل بقدر ما تمكنه قدراته البشرية . وهذه المؤهلات تعنى أنه لا بد أن يكون من المتخصصين فى هذا (الأمر ) أى من (أولى الأمر) أو من أولى هذا الشأن.
4 ـ وجود مجتمع حىّ حرّ نشط فعّال يتناصح بالمعروف ( أى العدل والاحسان و الحرية وحقوق الانسان ) و يتناهى عن المنكر( الظلم والفساد والاجرام و البغى و الاسراف ..الخ ..). هذا المجتمع ينتظم فى جمعيات مدنية تعنى بتطبيق تلك القيم العليا وتحارب المنكرات من جرائم ومخالفات ، ليس بالتدخل المباشر ولكن بتوصيل الحقائق لأولى الأمر السابقين عبر الاعلام ، وتتولى مراقبة أولى الأمر ومحاسبتهم ، وأن تكون المحاسبة أو المساءلة فوق الجميع وتسرى على الجميع وفق الديمقراطية المباشرة فى الدولة الاسلامية المدنية.
بهذا تتوفر إمكانات تحقيق العدل فى الدولة الاسلامية الديمقراطية الحقوقية .
بالنسبة للمسلمين اليوم ـ حيث يتعانق الاستبداد والفساد و تسود ثقافة العبيد ـ فإن ما سبق يدخل فى إطار التمنى وما ينبغى أن يكون ،أو ( الينبغيات ) ، مع أنه خلاصة التشريع القرآنى ، ومع أنه ممكن التطبيق وليس مستحيلا . ومعظمه يتم تنفيذه فى الحضارة الغربية الديمقراطية التى يجعلها السلفيون فى النار ..
ثالثا : إمكانية الفساد والظلم فى نظام القضاء فى الدولة الدينية للمسلمين
1ـ الاستبداد فى الدولة الدينية ينعكس على ممارسة القاضى وظيفته فيها، حيث يجمع القاضى فى داخله سلطتى التشريع والقضاء معا.
فى دول المسلمين فى القرون الوسطى لم يوجد قانون محدد ومفصل ومتفق عليه يحكم به القاضى . كان أمام القاضى عشرات الآراء الفقهية المختلفة فى القضية الواحدة يختار من بينها ما يريد و يفتى بما يريد.
بهذا يتحول القاضى من مجرد ناطق بالحكم إلى مشرع يختلق الأحكام ثم يقوم باصدارها ، وهذا ما كان عليه نظام القضاء فى الدولة الدينية، أى يكون القاضى مشرعا وناطقا بالحكم فى نفس الوقت. إذ يكون الجهة التى تشرّع ( البرلمان ) أى يختار رأيا فقهيا من عشرات الآراء الفقهية المختلفة و المتضاربة ، ثم يكون (القاضى ) حين يطبق ذلك التشريع على الحالة المعروضة عليه فى مجلس القضاء. وعلى فرض نزاهته و تحريه للحق فى إصدار الحكم فإن منبع الخطأ يكمن فى جمعه للسلطتين ( التشريعية و القضائية ).
2 ـ ولكن تعقد النظام القضائى فى العصور الوسطى ( فى العصر المملوكى مثلا ) وضع العراقيل أمام القاضى النزيه الذى يريد أن يتحرى العدل .
كان التشريع القائم طبقا للمذاهب السنية الأربعة ، أى قاضى قضاء شافعى و حنفى ومالكى وحنبلى، وكل منهم يتبعه ( نائب للحكم ) أى قاضى محلى فى كل مدينة أو كل حى ، وكل قاضى محلى يحكم رسميا بمذهبه ، وليس مذهبه هذا كتابا محددا تم تقنين الحالات فيه ، ولكن الحكم بالمذهب الفلانى تعنى جميع الكتب الفقهية التى كتبها أرباب هذا المذهب بكل ما فيها من ثرثرة و تعارض واختلاف. أى فى النهاية يحكم القاضى بهواه ، ثم ليس هناك مساءلة عليه لو أخطأ فى الحكم ، لأن ولاءه للخليفة أو السلطان المستبد ، وطالما رضى عنه المستبد فلا عليه مهما ظلم .
3 ـ وفى النهاية كان وجود القاضى النزية أمرا غير مرغوب ، فصلاحية القاضى لم تكن لنزاهته وعدالته أو علمه وخلقه ، ولكن كان لمدى ولائه للمستبد وطاعته له ، بل أكثر من ذلك ، كان الوصول لمنصب القضاء ـ فى العصر المملوكى ـ يستلزم دفع الرشوة للسلطان وأعوانه ، وكان شراء المناصب شرعا رسميا أقيم من أجله ( ديوان البذل و البرطلة ) ، وعندما يباشر القاضى وظيفته يعوض ما دفعه من رشوة بأخذ الرشاوى من الناس . هذا هو الواقع العملى لتطبيق الشريعة فى العصرين المملوكى والعثمانى.
هنا نتذكر ـ بكل أسى ـ أن تقنين الظلم هذا كان يتم تحت اسم شرع الله جل وعلا ، وتحت الزعم بتطبيق الشريعة .
ونتذكر أيضا ـ بكل أسى ـ كيف حفلت آيات القرآن الكريم ، ليس فقط بالحث على العدل و القسط ، ولكن أيضا بمنع وتحريم الظلم . وهذا التكرار يحوى إعجازا موجها لمن سيأتى بعد نزول القرآن ، حيث يكون شاهدا على انحرافهم و تعديهم على شرع الله جل وعلا وإحلال الظلم محل العدل ، ثم يكون ذلك تحت اسم الاسلام العظيم وشريعته السمحاء.!!.
ويجب أيضا أن نتذكر ـ بكل غضب ـ أولئك السلفيين الذين يريدون إعادتنا الى نفس الأفك ، ظلما لله جل وعلا ودينه وشرعه .. وظلما لنا نحن المسلمين .
4 ـ وبعد قيام الدولة الحديثة فى مصر بدأ تقنين الدستور والقوانين فى مواد محددة محكمة، وانحصرت وظيفة القاضى فى أن يجتهد فى تطبيق ذلك النص على الحالة، دون أن يملك الحق فى تجاهل النص أو تغييره.
ولكن يعتبر السلفيون هذا ردة عن ( شرع الله )، لأنهم يعتبرون خرافات الفقه السنى و اكاذيبه هى (شرع الله )، ويحكمون بكفر من لم يحكم بما أنزله الله ، ويتناسون أن أئمتهم من مالك والشافعى وابن حنبل و البخارى الى ابن عبدالوهاب وسيد سابق هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله جل وعلا ، وهم الذين يفترون على الله جل وعلا كذبا .
5 ـ السلفيون طبقا لاعتقادهم فى تقسيم العالم الى معسكرين يقفون ضد أى شىء يأتى من معسكر الغرب ( دار الحرب)، وبالذات ديمقراطية الغرب وتشريعات الغرب.
والتشريع الغربى حتى لو كان ضالا فأمره هيّن وميسور لأن مرده للبشر فى تطويره واصلاحه طبقا للمصلحة ، ولأنه ليس منسوبا لله جل وعلا ويحمل صفة التقديس والعصمة بحيث يمكن مناقشته والاعتراض عليه وحتى الهجوم عليه .
أما التشريع السّنى فقد جعلوه محصّنا مقدسا معصوما بنسبته ظلما وزورا لله جل وعلا ورسوله ، وقولهم عنه ( شرع الله ) و ( الشريعة الاسلامية ) وهى تتناقض مع الاسلام وشريعته فى الكليات والتفصيلات ، وفى المناهج والقواعد ، وفى المدار والمقاصد والغايات.
رابعا : حق المجتمع المسلم فى سن القوانين
وهناك بحث قادم لنا سننشره بعونه جل وعلا يوضح هذا التناقض بين شريعة الاسلام القرآنية ، وشريعة الفقهاء السنية ، وبحث آخر عن التطبيق العملى للشريعة الاسلامية فى العقوبات ،أو ما يسمونه بالحدود . وسبق نشر بحوث أخرى عن الحلال و الحرام فى تشريع الاسلام .
ومنها نعطى لمحة عن حق المجتمع المسلم فى سن القوانين.
1 ـ نبدأ بتساؤل: هل تشريعات القرآن فيها ذلك التضارب الفقهي؟
ونجيب بالنفى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء 82).
اصحاب الديانات الأرضية من المسلمين ( سنة / شيعة / صوفية ) هم الذين أشاعوا أكذوبة أن القرآن الكريم (حمّال أوجه )، وقد رددنا على هذه الأكذوبة من قبل ، وكان لا بد لهم من نشر هذه الأكذوبة لتتيح لهم انتقاء ما يهوون من آيات القرآن الكريم ، ثم إخراجها عن سياقها ، مع التعامل مع التشريع القرآنى باسطورة النسخ بمعنى الالغاء و الحذف ، والتلاعب بمفاهيم القرآن الكريم وتشريعاته مع شيوع صناعة الأحاديث .. وكتبنا فى ذلك الكثير ، وهناك المزيد قادم بعونه جل وعلا.
2 ـ ونتساءل هل تشريعات القرآن تشبه تشريعات الفقهاء فى تدخلها فى كل شيء بعد أن اختلفت فى كل شيء؟.
والإجابة أيضا بالنفي. لأن آيات التشريع المدنى فى القرآن لا تصل إلى مائتى أية بما فيها من تكرار وتفصيل وتأكيد .. ومعنى ذلك أن هناك قدرا هائلا قد تركه القرآن لاجتهاد البشر فيما يقع فيه التطور واختلاف الظروف، وبذلك يكون تشريع القرآن صالحا لكل زمان ومكان.
3 ـ وتفصيل القول فى تشريعات القرآن ومواضع الاجتهاد فيها يحتاج إلى مجلد كامل، ولكن نكتفى هنا باشارات سريعة.
* فهناك تشريعات قرآنية خاصة بزمانها ومكانها ولا مجال لتطبيقها فى عصرنا، مثل حديث القرآن عن التشريعات الخاصة بالنبى وبيوته وزوجاته وعلاقاته بأصحابه.
* وهناك تشريعات قرآنية لا يمكن تطبيقها إلا إذا توفرت ظروفها. فإذا لم تتوفر ظروفها فلا حاجة بنا لتطبيقها، مثل احكام الرقيق، اذ لا ضير فى أن يذكرها القرآن، فشأن التشريع أن يذكر كل حالة، أما التطبيق فلا يكون إلا إذا وجدت حالات صالحة للتطبيق، وعلى سبيل المثال فالقانون يتحدث عن نفقة الزوجة المطلقة ولكن ذلك لا يتم تطبيقه على الأعزب الذى لم يتزوج ولم يطلق.. فإذا تزوج وطلق زوجته أصبح خاضعا بحالته تلك للقانون. وهكذا فتشريع القرآن عن الرق لا تسرى إلا فى عصر يكون فيه الاسترقاق شائعا اجتماعيا. مع ملاحظة إنه لا يمكن القضاء تماما على ظاهرة الرق، وإن تشريعات القرآن قد قصدت فى المقام الأول تحرير الرقيق.. وتلك قضية أخري.
* وهناك الثابت و المتغير فى تشريعات الجهاد ، وهو موضوع شرحه يطول ، يدخل فيه التدرج فى التشريع فى العلاقات بين المسلمين المسالمين و المشركين المعتدين ، وعلى المسلمين مراعاة ذلك التدرج فى التشريع أو التقنين ، وأيضا فى التطبيق . وقد تحدثنا عن ذلك فى بحث ( النسخ فى القرآن الكريم يعنى الاثبات والكتابة و ليس الحذف والالغاء )
* وهناك تشريعات قرآنية لا تحتاج الى تقنين بشرى لأنه لا دخل لسلطة الدولة فيها لأن مناط تطبيقها موكول للفرد وتعامله مع ربه جل وعلا ، ويدخل فى هذا الاطار الأخلاقى للقرآن الكريم فى تعامل الفرد مع نفسه وأسرته ومن حوله ،ومنها بعض الوصايا الأخلاقية المذكورة فى السور المكية ( الاسراء 22 : 39 )( الفرقان 63 ـ )(الأنعام151 : 153 )( النحل 90 : 95 ) وفى السور المدنية ( البقرة 44 : 46 ، 83 ، 109 ، 153 ، 177 ، 261 : 274 ) ( النساء 36 ).. مجرد أمثلة ..
* وهناك تشريعات قرآنية جامعة مانعة، والاجتهاد يكون فى تطبيقها كما هى دون زيادة أو نقصان، والمثال الواضح فى ذلك هو المحرمات فى الزواج (النساء 22: 24) مع ملاحظة أن تشريع الفقهاء لم يلتزم بهذا التحريم الجامع المانع، فأضاف للمحرمات فى الزواج ما أحله الله تعالى، مثل قولهم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وقولهم: يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها. فالقرآن يجيز ذلك، والفقهاء يحرمونه أى يحرمون ما أحل الله.
وهناك مثال آخر للمحرمات الجامعة المانعة، كتحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وقد فصل القرآن القول فيها وحذر من تحريم ما أحل الله، ولكن الفقهاء حرموا الكثير من الحلال بالمخالفة لتشريع القرآن.
وينطبق ذلك أيضا على القواعد التشريعية الجامعة المانعة، مثل تحريم قتل النفس إلا بالحق أى بالقصاص، وقد خالف الفقهاء هذه القاعدة التشريعية فحكموا بالقتل للمرتد والزانى المحصن وأسباب أخرى كثيرة أى أحلوا ما حرم الله.
أى أن الفقهاء اجتهدوا فى الحكم بغير ما أنزل الله تعالى فى تشريعاته الجامعة المانعة الملزمة، والتى لا يكون الاجتهاد فيها إلا بتطبيقها كما هي.
* وهناك تفصيلات تشريعية احتكم فيها القرآن للعرف أو المعروف، وهنا نحتاج إلى قوانين وتشريعات لتقنين ذلك العرف حسب أحوال العصر. ومثلا يقول تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ)(البقرة 233" فالتشريع البشرى يتدخل هنا فى تقنين نفقة الرضيع على أبيه بحسب العملة السائدة وظروف العصر، والقاضى يقوم بتقدير تلك النفقة على الحالة المعروضة أمامه حسب فقر الأب وغناه. ونحو ذلك قوله جل وعلا فى التعامل مع الزوجة المطلقة وحقها فى العيش فى سكن ملائم ونفقة ملائمة واجبة على الزوج (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) ( الطلاق 6 ). هنا نجد المعروف هو المعوّل عليه فى سن القانون بمعرفة الهيئة التشريعية ، وفى تطبيقه على يد القاضى .
ولقد كان خاتم المرسلين نفسه مأمورا باتباع المعروف أو العرف (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) (الأعراف 199 ) . وبالتالى فان التزام العرف يكون فى جانبين : سنّ قوانين فى المباحات المسكوت عنها ، وفى تطبيق الأوامر التشريعية فى القرآن الكريم .
* وقد جاءت تشريعات القرآن فى رعاية الأسرة وحقوق الإنسان أو حقوق العباد وتنمية الأخلاق وركزت على تفصيل المحرمات بينما تركت المباح الحلال مفتوحة أبوابه لأنه هو الأصل. وهذا المباح يحتاج إلى اجتهاد تشريعى فى تنظيمه فى إطار المقاصد التشريعية العامة وهى العدل والتيسير ورفع الحرج ورعاية المصالح والإحسان وعدم إيقاع الضرر وحفظ حقوق العباد، وكل القوانين فى ذلك الإطار تكون تشريعا إسلاميا، وهذا حق البشر فى التشريع وفق ما أنزل الله تعالي.
وكل ما يدور فى إطار القوانين المستحدثة فى المرور والمساكن والتنظيم والإدارة والصحة والتعليم والخدمات.. إلخ .. كل ذلك فى إطار التشريع البشرى المسموح به إسلاميا لأنه متروك لاجتهاد البشر فيما سكت عنه القرآن وتركه للعرف والمعروف، والمهم أن يراعى المقاصد التشريعية الكبرى مثل العدل والتيسير ورعاية المصالح وحفظ الحقوق بالنسبة للعباد.
*حقوق الله تعالى فى العقيدة وفى العبادات فليس لأحد أن يتدخل فيها لأن مرجع الحكم فيها لله تعالى يوم القيامة، وهى مسألة هداية يتوقف الأمر فيها على كل إنسان إذا اهتدى فلنفسه وإن ضل فعلى نفسه.
أما حقوق العباد أو حقوق الإنسان فهى مسئولية المجتمع لحفظ حقوق الأفراد، ولذلك فإن العقوبات المدنية إنما تكون فيما يخص حقوق العباد فقط. حقهم فى الحياة والأموال والأعراض وحق المجتمع كله فى الأمن، وتتحدد العقوبات هنا فى جرائم الزنا والقذف والقتل وقطع الطريق والسرقة. ولسنا فى موضع التفصيل للشروط الموضوعية لتطبيق هذه العقوبات، ولكن نشير إلى أن تشريعات الفقهاء، غيرت المصطلح إلى الحدود، وكلمة الحدود تعنى الحق والشرع فى القرآن، وبعد تغيير المصطلح أضافوا عقوبات جديدة كالرجم والردة وعقوبة شرب الخمر وغيرها. وبهذا اتسع التناقض بين تشريع القرآن وتشريع الفقهاء.
نؤكد ثانيا أنه ليس للتشريع المصرح به للمسلمين أن يتدخل فى العقائد والعبادات من واجبات مفروضة ومن محرمات محظورة ، وأمامه الباب واسعا في المباح المسكوت عنه وفق القيم العليا للاسلام المشار اليها ، والتى تحمل مصطلح ( العرف ) و ( المعروف ). وباب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فى القرآن الكريم بين التنظير والتطبيق يحتاج الى بحث خاص سيأتى أوانه بعونه جل وعلا.
ختاما : النظام القضائى فى الاسلام يستلزم أولى الأمر أو أصحاب الشأن والاختصاص من الراسخين فى العلم بالقرآن وتشريعاته ، وما يمكن منها تشريعه وتطبيقه سواء كانت تفصيلاته منصوصا عليها فى القرآن ، أو كانت مرجعيتها القرآنية للعرف و المعروف ،أى القيم العليا فى الاسلام .
والتقنين هنا يكون تحت مناقشة واقرار الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة ، فاذا تم إقرار القانون فعلى الجميع الالتزام به باعتتباره تشريعا اسلاميا إذن به الله جل وعلا . وهذا الالتزام مرده الى العقد أو العهد الذى تبايع به الناس على السمع و الطاعة لأولى الأمر ،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء 59) ( لاحظ أنهم (أولى الأمر ) أى ليس (ولى الأمر ) أى تشكيلات ومجموعات من العاملين فى الخدمة العامة المختارين بحكم التخصص و الخبرة ، وليس مجرد ولى أمر حاكم فرد مستبد .
ومن بنود العقد الذى تقوم على اساسه دولة الاسلام عدم العصيان للمعروف ، وهذا ما جاء فى عصر النبى محمد فى بيعة النساء المهاجرات للدولة الاسلامية ليكنّ مشاركات أصلاء فيها (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة 12) .
( المقال القادم : الرابع ) ضمير القاضى المسلم فى بحث (وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين )
اجمالي القراءات
14025
أستاذنا الفاضل/أحمد صبحي منصورنعم ،هم يريدون لنا أن نرجع إلى الوراء ونعيش هذه العصور بتلك التشريعات السلفية التي ساعدت على انتشار الظلم والاستبداد فى ظل سيادة الدول الدينية فى العصور الوسطى ، فكيف تكون صالحة لعصرنا، وعصرنا هو عصر ثقافة حقوق الانسان والديمقراطية كما تفضلت بالقول ، والأدهى والأمر أنهم ينصبون أنفسهم حكام من قبل الله عز وجل فيصدرون الفتاوي ويطبقون ما يفتون به من قتل وتدمير وكله باسم الله تعالى فهم من يفتي وهم من يقتل أي يقومون بعمل السلطتين، التشريعية والتنفيذية. وجزاك الله خيراً على موضوعاتك القيمة والمفيدة