آحمد صبحي منصور Ýí 2009-08-11
(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس) ( 1 / 3 )
ملاحظة : سبق نشر هذا البحث في الفصلية العلمية ( الإنسان و التطور ) التي يصدرها المفكر المصري د. يحيى الرخاوي ، في قسمين تحت عنوان ( بعض مراتب ومراحل الاستنارة الدينية الحديثة في الإسلام) ، فى جزئين فى: دورية الانسان والتطور :
تم نشر الجزء الأول فى عدد 65 - 66 عام 1999.
وننشر البحث هنا فى ثلاث حلقات .
مع تقديم الشكر لمن قام باعادة كتابته على الكومبيوتر ، والشكر الخاص للاستاذ محمد مهند مراد أيهم الذى تفضل بمراجعة النّص المكتوب على الكومبيوتر.
مقدمة:
1- كعادتنا فإنا نبدأ بتحديد المفاهيم ووضع النقاط فوق الحروف.
في موضوعنا عن مدرسة الاستنارة الدينية بين مصر وتونس في القرن العشرين لابد أن نبدأ بتحديد الفارق بين الدين والتدين، وبين التدين المصري والتدين التونسي، وتأثرهما بالظروف الجغرافية والطبيعية للبلدين، واختلافهما عن أنواع التدين الأخرى، خصوصا التدين البدوي الصحراوي، ومدى اقتراب هذا وذاك من القرآن الكريم.( [1])
وفى ورقة بحثية موجزة كهذه فإننا نكتفي بإعطاء لمحة سريعة فيما يلي:
2- فالدين هو ما ينزل من السماء كتابا سماويا على النبي، ويكون النبي أول الناس طاعة واقتداء بهذا الدين، وتطبيق النبي لهذا الدين مرتبط بإمكاناته البشرية وظروف عصره، وبالتالي فإن التطبيق البشري للدين يختلف من عصر لآخر، وهذا التطبيق البشري المختلف حسب الزمان والمكان وحسب الظروف هو ما يعرف بالتدين، فالتدين هو نوعية الاستجابة للدين وكيفية التفاعل معه بالسلب أو الإيجاب.
ومن هنا تنشأ الفجوة بين الدين الحقيقي وأنواع التدين لدى الأمم والشعوب، سواء كانت إسلامية أو مسيحية وقد يكون ذلك مقبولا ومعقولا بسبب تأثر الإنسان بظروفه الاجتماعية والطبيعية، ولكن ليس مقبولا ولا معقولا أن يعطي الإنسان تدينه البشرى مشروعية إلهية زائفة عن طريق نسبته للنبي (كما يفعل أهل السنة) أو نسبته لأقارب النبي (كما يفعل الشيعة) أو نسبته لأشخاص آخرين يزعمون قدسيتهم وعلمهم اللدني الإلهي (كما يفعل الصوفية).
الدين كتاب إلهي، ومالكه هو الله تعالى الذي يملك يوم الدين، والدين يحاسب البشر أجمعين من أنبياء وأئمة وصالحين وعصاة، أما التدين فهو فكر بشري وسلوكيات إنسانية، فيها الخطأ وفيها الصواب. وفيها الحق والباطل، وإذا كان الحق في الكتاب الإلهي مطلقا، فإن ما نفهمه من الكتاب، وما نصل إليه بتفكيرنا الديني يظل في إطار الحقيقة النسبية إذا كان حقا، ويظل في إطار الباطل النسبي إذا كان خطأ، لأنه يجرى في إطار الاختلاف المذهبي الذي يصل بأصحابه إلى التعصب واعتبار ما "يذهبون" إليه من " مذاهب" أنه دين، وفى مواجهة هذا التعصب المغالي نضطر إلى القول بأن الحقيقة في التفكير الديني البشرى نسبية، والباطل فيها أيضا نسبي، وذلك حتى لا نقع في تكفير أحد.
والمهم أن الدين الإلهي يظل واحدا مهما اختلفت الرسالات السماوية في لغتها وفى أزمنتها وأمكنتها وظروفها، يظل الدين الإلهي يعني - بكل لغات البشر - إسلام القلب والجوارح لله تعالى في التعامل مع الله، والسلام مع الناس في التعامل مع الناس.
لكن يظل التدين لدى البشر مختلفا ومنقسما بين طوائف ومذاهب وملل ونحل وجماعات وفرق، وتظل الاختلافات الدينية الفكرية هي الأسرع في الانقسام والتكاثر من أي اختلافات فكرية أخرى سياسية أو اجتماعية أو علمية.
3- ومع هذه الاختلافات المتشعبة في تدين الناس إلا إن هناك سمات عامة تجتمع فيها أنواع التدين الكبرى لدى الشعوب، وعلى سبيل المثال فالتدين الإيراني يقوم أساسا على التشيع لظروف تاريخية واجتماعية، والتدين البدوي الصحرواي في نجد في الجزيرة العربية يقوم على أساس التشدد مهما كانت نوعية المذهب الذي ينتسبون إليه ، ويتخذ ذلك التشدد زيا دمويا بسفك الدماء واستحلال أموال الآخرين وأعراضهم، والتدين المصري أو التونسي يميل إلى الاعتدال والتسامح، ولا شك أن ظروف كل بلد هي التي أعطت له ملامحه في التدين.
أ- فالقومية الفارسية تحقد على أبي بكر وعمر اللذين أسقطا الإمبراطورية الكسروية، ومن الطبيعي أن تؤيد حق " علي بن أبي طالب" في الخلافة، خصوصا وأن " الحسين بن علي" كان قد تزوج إحدى أميرات البيت الكسروي، كما يقال، ومن الطبيعي أن تعود من خلال هذا التشيع لعلي وبنيه ملامح الكهنوت الفارسي دينيا وسياسيا تحت رداء الإسلام، وهذا الرداء صناعة بشرية، أو تدين بشري يعرف بالتشيع، وله "موضات" أو أزياء مختلفة.
ب - وأهل نجد احترفوا استحلال الغرباء والقوافل التي تمر بهم من العراق إلى الحجاز ولذلك تتلون الدعوات الدينية في هذه المنطقة ليصبح السلب والنهب والاستحلال أهم شعائرها الدينية، كذلك فعل القرامطة، ثم الوهابيون، وفى ظل هذه الأحوال يتحول التدين النجدي إلى تطرف وتعصب وسفك للدماء فهذه طبيعة الصحراء القاحلة، وتلك طبيعة أهلها لا يرون غيرهم إلا أن يكون فريسة لهم.
جـ - وعلى النقيض من ذلك التدين البدوي نجد التدين " الزراعي" في المناطق التي تسكنها جماعات من عنصر واحد أو يغلب فيها عنصر واحد، وينطبق ذلك على مصر وتونس، فالبيئة المعتدلة في المناخ، والمنفتحة في الجغرافيا، والغنية بالثروات، تنتج شعبا محبا للحياة متسامحا مع الآخر معتدلا في مزاجه منفتحا على التيارات الوافدة، مع حرصه على الثوابت وعلى الوطنية والقومية، لذلك لا نعجب إذا كانت مصر تتعامل بالتمصير مع كل الوافدين إليها ثقافيا ودينيا، ولا نعجب إذا رفضت تونس قانون التجنيس مع انفتاحها على فرنسا وأوربا.
4- وذلك التوازن بين الثوابت الوطنية والانفتاح على الآخر، سواء كان الآخر عربيا أم أوروبيا هو السمة الأساسية لثقافة البحر المتوسط، وهى الثقافة الحقيقية لمصر وتونس وقد بدأت هذه الثقافة في مصر الفرعونية ثم انتقلت إلى اليونان، ومنها إلى روما، وسيطرت على البحر المتوسط في القارات الثلاث، ولم يمنع انتشارها اشتعال الحروب بين دول البحر المتوسط العربية والأوربية بعد الإسلام، أو دول آسيا وأفريقيا وأوربا قبل الإسلام، بل على العكس من ذلك، كانت الحروب الهيلينية والصليبية إحدى روافد التأثر الثقافي بين جوانب البحر المتوسط، بل كانت جزر البحر المتوسط نفسها تقوم بالدورين معا: الحربي والثقافي أي أن الحروب - وهى إحدى صور العلاقات العادية بين الدول والشعوب - لم تكن في هذه الحالة نفيا للآخر ومصادرة له في أغلب الأحوال، وحتى في الأحوال الاستثنائية مثل فرنسا والجزائر مثلا فإنه ينبغي ألا ننسى الأصول العربية الإسلامية للثقافة الفرنسية، خصوصا في النواحي القانونية والتشريعية بدءا من التأثر بالمذهب الملكي في الأندلس وانتهاء بقوانين نابليون التي تلونت بحملته على مصر وتأثرت بها.
والمهم أن العنصر الغالب في ثقافة البحر المتوسط هو الاعتراف بالآخر والتواصل معه، وهذا يتناقض مع الثقافة البدوية النجدية التي لا ترى في الآخر إلا فريسة تستحل مالها ودماءها وشرفها.
وتختلف حظوظ دول البحر المتوسط في درجة التحلي بهذه الثقافة، كما تختلف الأحوال داخل الدولة نفسها، وذلك حسب الظروف الطبيعة والاجتماعية، ولكن تظل مصر وتونس أكثر الدول العربية حظا في إدراك هذه الثقافة، فالجغرافية المصرية يبدو فيها الاتجاه نحو الشمال، نحو البحر المتوسط بدءا من النيل إلى البحر الأحمر ذاته الذي يرفع إصبعيه كعلامة النصر كأنما يرحب باقترابه من شقيقه البحر المتوسط، وحتى أبناء جنوب الوادي في صعيد مصر يرحلون عنه إلى القاهرة - مركز ثقافة البحر المتوسط - وإلى الإسكندرية "عروس البحر المتوسط" فإذا استقروا في الدلتا والقاهرة والإسكندرية تخلصوا من التشدد وأصبحوا أكثر اعتدالا وتسامحا.
وإذا انتقلنا إلى تونس وتأملنا خريطتها وموقعها الجغرافي وجدناها تبالغ في إعطاء الصحراء ظهرها وتبالغ في الالتصاق بالبحر المتوسط والتعمق فيه، ومن الطبيعي أن تساعدها سواحلها الطويلة على الاتجاه أكثر نحو البحر والاعتماد عليه والتعامل مع الدول التي تطل عليه من الناحية الأخرى، كما أن هذه الدول نفسها ترى في تونس القريبة منها أقصر طريق للتمتع بالشمس الإفريقية والحضارة الإسلامية العربية وهذا الاحتكاك البشري والثقافي ترى بصماته واضحة على تعامل تونس مع الغرب، منذ الأغالبة وحتى حكم البايات قبل الاستقلال وهو الانحياز للثوابت الوطنية والقومية مع الانفتاح على الآخر. وتلك هي فلسفة الثقافة البحر متوسطية.
5- وقد قلنا إن الدين السماوي هو الكتاب الإلهي السماوي، وقلنا إن التدين هو الفكر الديني للبشر والذي يختلف حسب الظروف، ورأينا طرفا من ذلك الاختلاف في التدين بين دول وشعوب المسلمين، ونأتي للسؤال الهام: أي من هذه المذاهب هي الأقرب للإسلام أو للدين الإلهي، أو للكتاب الإلهي؟وتأتي الإجابة على نوعين، وذلك تبعا لمنهج الأخذ عن القرآن الكريم، إذا نظرت للقرآن الكريم من خلال التراث، فستجد إجابات متنوعة تنتقى منها ما تشاء، فإذا كنت متعصبا وجدت في التراث من تفسير وحديث وتشريع ما يؤكد لك تعصبك ويجعله لك دينا، ويجعلك لا ترى في الآخر إلا مستحقا للموت في الدنيا والنار في الآخرة، وإذا كنت متسامحا وجدت في التراث نفسه من تفسير وحديث وتشريع ما يؤيد لك تسامحك، وفى الحالتين ستنتقى الآيات والتفسيرات، وستنام مرتاحا سواء كنت متعصبا أو متسامحا، لأن القرآن عندهم " حمال أوجه".
أما النوع الآخر من الإجابة فهو النظر للقرآن الكريم نفسه، وعن طريق مفاهيمه هو ومصطلحاته هو، وعن طريق لغته هو، هنا ستجد القرآن كتابا أحكم الله تعالى آياته ولا عوج فيه ولا اختلاف، هنا ستجد رأيا واحدا تدعمه كل الآيات، وبالنسبة لموضوعنا ستجد القرآن مع التوسط والاعتدال والتسامح والرقي الأخلاقي والسمو الحضاري، وذلك موضوع شرحه يطول، ولكن فيما يخص موضوعنا الحالي: ستجد ثقافة البحر المتوسط أقرب الرؤى البشرية للإسلام والقرآن، وبنفس القدر ستجد الرؤية البدوية المتعصبة الإرهابية أبعدها عن الإسلام وأكثرها تناقضا معه. وذلك أيضا موضوع شرحه يطول.
6- ولكن نتوقف مع مدرسة التنوير الديني التي نهضت بين مصر وتونس في القرن العشرين لتعبر عن حقيقة التدين المتسامح في البلدين، وكان لهذه المدرسة شيوخها، ومنهم الشيخ الطاهر بن عاشور التونسي.
وقد ورثت هذه المدرسة المستنيرة فكر المسلمين المتأثر بالعصور الوسطى وتعصبها، كما ورثت مجتمعا أرهقه التخلف والجمود، فنهضت للتقدم لتواجه ميراث الماضي وتخلف الحاضر، ولتواجه أيضا ما هو أشد وأعنف، وهو فكر التطرف الذي نما منذ منتصف هذا القرن، فما هو منهج هذه المدرسة؟
وكيف تعاملت مع أبرز قضايا عصرها؟
هذا هو موضوع هذه الورقة البحثية على نحو من الإيجاز والله تعالى المستعان.
مدرسة الاستنارة الدينية في القرن العشرين ( 2 / )
بين مصر وتونس: الأرضية التاريخية والمنهج العلمي
الأرضية التاريخية:
1- انقسم المسلمون مبكرا حول الخلافة، وتحول خلافهم السياسي إلى حرب أهلية في الفتنة الكبرى، ثم تحول الخلاف السياسي الحربي إلى خلاف مذهبي ديني، ثم كانت الطامة الكبرى حين تحول إلى تدين وطائفية دينية، من السنة إلى الشيعة إلى الخوارج، ثم أضفوا على التدين المذهبي مشروعية زائفة عن طريق نسبته إلى النبي أو إلى آله وأقاربه، ثم اتسع الأمر بمزيد من الانقسام داخل الطوائف الكبرى، ثم بإضافة طوائف جديدة بدأت فلسفية ثم تحولت إلى التأثير في العوام مثل التصوف الذي بدأ نظريا ثم تحول إلى طرق صوفية شعبية.
خلال الفترة التي تميزت بقوة المسلمين لم تتأثر دولتهم بهذا الاختلاف المذهبي، فاستمر الأمويون - مثلا - في حروب في الداخل ضد مناوئيهم من الشيعة والموالي والخوارج مع استمرارهم في الفتوحات، ولكن بدأت الانقسامات الفكرية ترسم تجاعيد الضعف على وجه الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي الثاني، واستلزم الأمر مجيء عناصر عسكرية وافدة أعطت بعض الشباب والحيوية للدول الإسلامية مثل السلاجقة والبويهيين والأكراد والمماليك، ولكنها كانت في النهاية مجرد مساحيق لزينة وجه ضامر أضعفته الانقسامات المسلحة فكريا ودينيا واجتماعيا، وجاء الإنقاذ أيضا من الخارج مرتبطا بالسقوط الكبير للشعوب العربية والإسلامية تحت قبضة الدولة العثمانية، تلك الدولة العسكرية الفقيرة ثقافيا وأيديولوجيا، والتي لم تستطع التواصل مع الفكر السائد لدى العرب والمسلمين في الداخل، كما لم تستطع التواصل العسكري مع عدوها الأوروبي سواء في الشرق (روسيا) أو في الغرب (انجلترا وفرنسا)، وفى النهاية سلم الرجل العثماني المريض نفسه للموت ليرثه الأوروبي بعد أن أسهم العثمانيون في إضفاء المزيد من التخلف والضعف على الشعوب العربية والإسلامية التي كانت تعانى أصلا من الضعف والانقسام.
2- وعلى الجانب الآخر - أوربا - كان الروم البيزنطيون والغال في فرنسا والبابوية في إيطاليا، وما تبقى من أمراء إسبانيا يندحرون في هزائم متلاحقة فترة عنفوان المسلمين ثم بدأ الغرب حركة استرداد عن طريق البيزنطيين، ثم الصليبين ثم الإسبان، وتوقفت موجة الاسترداد الأولى حينا ثم عادت عبر البحر المتوسط تغير على الموانئ العربية الإسلامية في شمال أفريقيا ومصر، وعبر استرداد الأندلس قطعة قطعة، ثم توج ذلك بإخراج العرب من الأندلس ومطاردتهم في جنوب البحر المتوسط، ثم قطع احتكارهم للتجارة الشرقية، ودخل بذلك الأوربيون إلى الكشوف الجغرافية، ثم إلى الاستعمار، وفى الوقت الذي كان الغرب يزداد فيه قوة كان المسلمون تحت الحكم العثماني يزدادون ضعفا وكانت الحملة الفرنسية على مصر صفعة أثارت انتباه المسلمين، على أن العدو الأوروبي بدأ ثانيا يتجه إلى قلب العالم الإسلامي، وهناك في صحارى نجد حيث كان النفوذ الإنجليزي مسيطرا على الخليج والبحر العربي، توالت صفعات أخرى، قبل الحملة الفرنسية، ومن هنا ومن هناك جاء رد الفعل، وقدمت نجد مشروعها للنهوض بالمسلمين، وقدمت مصر مشروعا آخر مختلفا.
3- كان مشروع نجد هو النهضة عن طريق العودة للسلف وذلك على أساس الفكر الحنبلي التـيمي المتشدد الذي يلائم التدين البدوي، ولذلك كان " الاستحلال" هو أساس التحالف بين ابن عبد الوهاب وابن سعود، وعلى أساسه قامت وتوسعت الدولة السعودية الأولى.
وفى المقابل قدمت مصر مشروعها للنهضة في إقامة الدولة الحديثة بالأخذ عن الغرب خصوصا فرنسا في ولاية محمد على باشا الذي اهتم بالقضاء على رموز القديم وإقامة الحديث مكانه، في التعليم والجيش وإدارة الدولة، وكان طبيعيا أن تقف الدولة العثمانية ضد المشروعين معا، ولكن حتمت الظروف السياسية أن يلبي محمد علي باشا رغبة السلطان العثماني في القضاء على الدولة السعودية الأولى وتدمير عاصمتها الدرعية سنة 1818 م.
وبعدها جرت مياه كثيرة، فقد قامت الدولة السعودية الثانية ثم سقطت، ثم بدأ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إقامتها للمرة الثالثة سنة 1902 وأكمل سيطرته على معظم الجزيرة العربية سنة 1926، وأعطى الدولة اسم أسرته سنة 1932، وخلال تلك العقود وبعدها كان الفكر السلفي ينتشر ممثلا ليس للفكر الإسلامي ولكن للإسلام نفسه، ثم تحالفت عوامل أخرى لتزيد من انتشار الفكر السلفي، تبدأ بسقوط الخلافة العثمانية وقوة المقاومة للاستعمار الغربي ومذاهبه التي تنتشر في الداخل وأخيرا ظهور البترول وانتشار الفكر السلفي عبر قطار النفط السريع إلى عقول أغلبية الأمة.
وأدت سيطرة الفكر السلفي في القرن العشرين إلى نتيجتين متلازمتين، هما إجهاض التطور الطبيعي لمدرسة الاستنارة الدينية التي بدأها محمد عبده، والتحول عن هذه المدرسة المستنيرة إلى المدرسة السلفية التي تحولت بدورها إلى الطموح السياسي، لتنشئ دولا دينية على مثال الدولة السعودية.
هذا هو المسرح السياسي الذي تعين على مدرسة الاستنارة أن تلعب عليه، وهو المسرح الذي فرض على تلك المدرسة أن تقدم تنازلات تتفق مع الانتصار المضطرد والمتنامي للتيار السلفي ونستطيع أن نلمح درجات هذا التنازل حين نتوقف مع المنهج الفكري للمدرسة، بين مصر وتونس.
منهج مدرسة التنوير المصرية
بداية مدرسة التنوير المصرية:
1- أطلق الجبرتي شهقة المفاجأة الأولى حين شهد بعض المنجزات العلمية للعسكر "الفرنسيس". ولا تزال أصداء شهقتة تتردد بين سطور تاريخه " مظهر التقديس في خروج الفرنسيس" وكان التعبير الحضاري عن هذا الانفعال بالغرب والتجاوب معه قد بدأ يتحول إلى سياسة واقعية على يد خصم المؤرخ الجبرتي وهو الوالي محمد على باشا الذي أرسل البعثات إلى فرنسا، وتـوجت هذه السياسة بنهضة عسكرية ومدنية تحولت إلى استنارة فكرية على يد رفاعة رافع الطهطاوي الذي أطلق المزيد من شهقات المفاجأة حين عاش في باريس، وسجل حياته فيها في كتابه المشهور " تخليص الابريز فى تلخيص باريز".
2- وتحولت شهقات المفاجأة الجبرتية والطهطاوية إلى تأسيس مدرسة فكرية ما لبثت أن اشتعلت حماسا سياسيا بمجيء الأفغاني ووصل الحماس أوجه بالثورة العرابية، وبفشلها بدأ محمد عبده - أحد الثوار والمفكرين - يراجع نفسه وهو في منفاه في لبنان، فاختار تطليق السياسة والتركيز على الإصلاح الديني الفكري والعقلي.
قام محمد عبده "بإصلاح" حركة الإصلاح وإعادتها إلى الاتجاه السليم، وكانت مهمة عسيرة لأنه تحتم عليه أن يواجه زملاءه في الأزهر، وإصلاح الأزهر كان مهمة عزف عنها محمد علي بكل سطوته وقسوته، ولكن نهض لها محمد عبده في الزمن الخطأ، حيث كان يتمتع محمد عبده بكثير من الخصوم على رأسهم الخديوي توفيق نفسه.
ولا نريد أن نستطرد في حركة محمد عبده الإصلاحية ومعاناته، ولكن نود الإشارة إلى أن حجم هذه المعاناة وسوء المناخ السياسي والاجتماعي في هذا الوقت أجبر محمد عبده على التريث في إعلان كل تفاصيل منهجه الفكري، وأرغمه على أن يحصر هذا المنهج في محاولة الإصلاح والاجتهاد داخل الدائرة التقليدية المتوارثة، لأن عصره لم يكن يسمح بقبول منهج فكرى جديد مهما كانت قوة الحجج التي يقوم عليها.
3- باختصار نحن أمام عقلية كبرى تجاوزت عصرها، بل تجاوزت المستوى العقلي للحضارة التي تنتمي إليها، ولكن قسوة الخصوم وسوء المناخ أجبر هذه العقلية على أن تقلص حركتها في إطار المنهج التقليدي وتجتهد من خلاله، وربما كان يطمع محمد عبده إلى أن يمتد به العمر وأن يتغير المناخ العقلي للأفضل فاختار طريق التدرج، فبدأ الإصلاح في المنهج التقليدي، وبين سطوره نثر بعض ملامح المنهج الجديد مثل بالونات اختبار يمكن البناء عليها، فإذا عاش استطاع أن يواصل الطريق، وإذا مات فقد أعطى إشارات لمن يخلفه من المفكرين كي يبنى ويطور، ولكن حدث عكس ذلك، لأنه مات في السادسة والخمسين من عمره، وهو يلعن الشيوخ أثناء احتضاره، وأفسد خليفته رشيد رضا دعوة أستاذه المستنيرة. فتحولت إلى التشدد السلفي الوهابي، بحيث أصبحت مدرسة التنوير تلك مرتبطة لدى بعض المفكرين اليساريين بالسلفية، وبحيث أصبح محمد عبده نفسه رائدا لما يعرف بحركة الصحوة التي تمهد الطريق لقيام الدولة الدينية، وأولئك الدارسون يكتفون بالعناوين وليس لديهم ما يعينهم على فهم الأصول الفكرية واختلافها بين محمد عبده ورشيد رضا، وفى ورقة بحثية نضطر سريعا لإلقاء لمحة عن تلك الأصول الفكرية والعقدية والتي نحكم من خلالها على اختلاف المنهج بين محمد عبده وتلميذه رشيد رضا ثم نتعرف على منهج المدرسة التنويرية ومسارها بين مصر وتونس.
من خلال قراءتى للمقال ومن خلال تلك الفقرة بالذات أستطيع الاجابه على سؤال الاخت عائشة حسين
"والتدين البدوي الصحرواي في نجد في الجزيرة العربية يقوم على أساس التشدد مهما كانت نوعية المذهب الذي ينتسبون إليه ، ويتخذ ذلك التشدد زيا دمويا بسفك الدماء واستحلال أموال الآخرين وأعراضهم، والتدين المصري أو التونسي يميل إلى الاعتدال والتسامح، ولا شك أن ظروف كل بلد هي التي أعطت له ملامحه في التدين "
وأهل نجد احترفوا استحلال الغرباء والقوافل التي تمر بهم من العراق إلى الحجاز ولذلك تتلون الدعوات الدينية في هذه المنطقة ليصبح السلب والنهب والاستحلال أهم شعائرها الدينية، كذلك فعل القرامطة، ثم الوهابيون، وفى ظل هذه الأحوال يتحول التدين النجدي إلى تطرف وتعصب وسفك للدماء فهذه طبيعة الصحراء القاحلة، وتلك طبيعة أهلها لا يرون غيرهم إلا أن يكون فريسة لهم.
فالواضح مما سبق ان معنى الاستحلال هو استحلال أموال الغير الاخر المختلف واستحلال دمه وعرضه واعتباره فريسه لهم فهذه هى الثقافة التى جمعت بين ابن عبد الوهاب وابن سعود وهى ثقافة نجد الصحراوية والتى تقوم على التعصب والتطرف وهو ما نعانى منه اليوم وللأسف الشديد فقد تحولت مصرإلى محمية وهابية بفضل قطار النفط الوهابى السريع وغيرت مسارها من الاعتدال والتسامح إلى التشدد والتعصب ، فلقد تغلبت تقافة الصحراء على ثقافة البحر المتوسط فى عصرنا الراهن ، وبدأنا نرى السلب والنهب فى مصر المحروسة أكثر من ذى قبل بفضل الثقافة الوهابية وأحاديث الشفاعة .
لقد اعجب الجبرتى بالثقافة الفرنسية القائمة على حقوق الانسان بالرغم مما يقال عن الحملة الفرنسية من احتلال واستعمار وهذا يبدو من خلال وصفه لهم وحديثه عنهم وتأريخه لهم ..وقد تخلف عن الحملة الفرنسية على مصر وجود تيار احتك بالحضارة الغربية عن قرب وتأثر بها إلى أن جاء محمد على وبدأ فى إرسال البعثات إلى أوروبا عامة وفرنسا على وجه الخصوص وهذا التيار اثر فى كل منحى الحياة فى مصر بداية من الثقافة وصولا للصناعة مرورا بفهم الدين المعتدل ، وكان من أثار هذا التيار ظهور الشيخ محمد عبده الذى ولد سنة 1849 م بفكره المستنير .
شهقات كثيرة كما يقول الدكتور أحمد صبحي منصور وكلمة شهقة تعبير عن الصدمة والأعجاب والفارق الحضاري بين
الشاهق والمشهوق منه .
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5111 |
اجمالي القراءات | : | 56,688,476 |
تعليقات له | : | 5,445 |
تعليقات عليه | : | 14,818 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
دعوة للتبرع
زوجها ضعيف جنسيا: زوجى عنده ضعف جنسى كامل . تحملت اربع سنوات...
فصاحة القر’ن : السلا م عليكم دكتور احمد ، ارجو الاجا بة علي...
الركاز: ما رأيك فيما يقال فى الفقه عن الركا ز ؟ ...
الشاهدة من تانى..!: أنا الذي سألتك منذ بضعة أعوام عن الزوا ج،و ...
الايمان أولا : انا امرأة مسلمة من الجزا ئر. في بلادن ا اصبح...
more
الدكتور الفاضل احمد صبحي : ليت مصر استمرت في مشروعها هذا الذي كان مختلف بل على النقيض من مشروع نجد ، فمشروع مصر في نهضتها كان قائما على النهضة الحديثة بالأخذ عن الحضارة الغربية وخاصة الفرنسية منها ولذلك نهج محمد علي نهجافي القضاء على رموز القديم وإقامة الحديث مكانه ، في التليم والجيش وإدارة الدولة ، ليتنا ندرك قيمته اليوم ونحن نحاصر بالرجعيين الذين تشددوا حتى عن المتشددين أنفسهم حتى أصبحوا أكثر حنبلية زمما أدى إلى حالة من الإلغاء للدور المصري والشخصية المصرية المسالمة المنعتدلة التي تقبل الآخر المختلف
لكن ما المراد بـ الاستحلال في هذه الفقرة :"ولذلك كان " الاستحلال" هو أساس التحالف بين ابن عبد الوهاب وابن سعود، وعلى أساسه قامت وتوسعت الدولة السعودية الأولى.