( 8 ) التأريخ للعصر الجاهلي وأشهر المؤرخين
1 ـ حين بدأ التدوين في الحضارة العربية الإسلامية فإن أخبار الجاهليين لم تحظ بالاهتمام الكافي ، فقد كان الاهتمام الأساس بتدوين نسخ من القرآن الكريم أطلقوا عليها (المصحف ) من كلمة ( الصحف )أو من قوله جل وعلا (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ) ( الينة 2 ) ، وبعدها حروب النبى محمد عليه السلام ، وقد أطلقوا عليها ( المغازى ) بينما أطلقوا على حروب الصحابة التى اعتدوا فيها على الأمم المجاورة اسم ( الفتوحات الاسلامية ) بمعنى أن النبى كان يغزو ( معتديا ) بينما أصحابه من بعده كانوا يفتحون البلاد (سلميا باسم الاسلام حيث يدخل الناس فى دين الله أفواجا ) . ولو قلنا عن الفتوحات انها غزو لتشنج كثيرون ، ولو قلنا ان عمرو بن العاص غزا مصر لانهالت علينا سهام التكفير ، ولكن يتسامحون مع وصف حروب النبى الدفاعية بالغزو تمسكا بالاصطلاح التراثى ( المغازى ) .
الأعجب أن النبى محمدا قضى معظم حياته بعد البعثة وهو بين اضطهاد ومواجهة للمكائد ، ودعوة وإقامة دولة ، وتخلل هذا حروبه الدفاعية ، ولكن التراثيين أوجزوا سيرة النبى محمد عليه السلام فى كلمة واحدة هى ( المغازى ) متجاهلين الأنشطة الأساس التى قامت عليها دعوة الاسلام ، وأهمها انه دين للسلام وليس للاعتداء.
بعد تدوين (المغازي) كتبوا أقاويل فى التشريع والوعظ ( الترغيب والترهيب ) ونسبوها للنبى تحت مصطلح السّنة . وفى غمرة هذه الجاهلية الجديدة فإن العرب المسلمين نظروا للجاهلية السابقة على أنها عصر انحطاط أخلاقي وديني لا يستحق التسجيل .
والواقع أن انشغال العرب المسلمين (بالفتوحات) والفتن الكبرى كان عاملا آخر حصر اهتمامهم في الحرب والسياسة وقلل من اهتمامهم بالثقافة في القرن الأول الهجرى فبدأت الحركة العلمية برواد من الموالى الذين أهتموا أساسا بما يتعلق بالقرآن والنبى محمد عليه السلام والخلفاء الراشدين.
أولئك الموالى ـ فى القرن الأول الهجرى ـ لم يكن هناك ما يحفزهم للإلتفات للتاريخ الجاهلي لأنه ليس تاريخهم القومى،ولأن تاريخهم القومى ارتبط بالعرب بعد الاسلام وليس قبل الاسلام . ثم إن تاريخ العرب مع الاسلام وبعد الاسلام أكثر جاذبية للموالى واكثر حيوية ، فأين أيام العرب فى الجاهلية مثل حرب داحس والغبراء من أيام العرب بعد الاسلام فى الفتوحات مثل القادسية والمدائن واليرموك وذات الصوارى ، وفى الحروب الأهلية مثل الجمل وصفين والنهروان وكربلاء والحرة. وأين بطولات عنترة بن شداد بالمقارنة بخالد بن الوليد (سيف الله المسلول )؟.. على الأقل فان العرب فى الجاهلية لم يضربوا الكعبة بالمجانيق ولم يدمروها بالحرق كما حدث اثناء النزاع بين ابن الزبير والأمويين ..
2 ـ ومرت هذه المرحلة وجاءت مرحلة أخرى استقرت فيها الأمور في الدولة الأموية حيث كان الحكام في هذه الدولة عربا أولا ثم مسلمين ثانيا .. فلم تكن نظرتهم للجاهلية عدائية لأن الأمويين لم تنقطع صلتهم تماما بالعصر الجاهلي .. فقد ظلوا فيه حربا على الإسلام إلى أن أسلموا متأخرين في فتح مكة .. أي أنهم شبوا ونشأوا وعاشوا طويلا في مجتمع جاهلي كان رأس حربة ضد الإسلام وكانوا فيه القادة والحكام .. ثم دخلوا في الإسلام متأخرين ومكنتهم الفتوحات ومقدرتهم في الحرب والحكم من تقدم الصفوف واستغلال المتغيرات الجديدة لصالحهم وبهذا قفزوا على مقعد السلطة في مدة وجيزة وأصبحوا حكاما على مجتمع المسلمين فى وقت كان لا يزال فيه نخبة من كبار الصحابة السابقين للإسلام وجمهرة من الأنصار ..
وحين حكم الأمويون أعادوا للعرب العصبية القبلية التي أخمدها الإسلام ، فاشتعلت نيران الفتنة القبلية بين قيس وكلب والعرب الشمالية والعرب القحطانية ، واستغل الأمويون التعصب القبلي في إنشاء دولتهم . والعصبية القبلية الجاهلية تعني التفاخر بالآباء والأنساب والبحث عن تاريخ الأسرات والقبائل ، وهكذا بدأ فى العصر الأموى الإهتمام بالتاريخ الجاهلي إما للفخر بالقبيلة ومآثرها القديمة وإما للبحث عن مثالب الآخرين وهجائهم ..
ومعاوية كان أول الملوك فهو الذي أسس الملك العضوض القائم على توارث الحكم بقوة السيف والقهر ، لذا فقد كان يتسامر بسيرة الملوك السابقين فقرب إليه الأخبارين يحكون له أخبار كسرى وقيصر والمناذرة والغساسنة وسبأ وكهلان وأخبار العرب الجاهليين. وبنفس القدر لم يعرف عنه اهتمام بالقرآن أو بالأحاديث المنسوبة للنبى عليه السلام إلا بمقدار ما يخدم الدعاية له ولملكه، أما سيرة النبى محمد (أو مغازيه ) فهى مما يوقع معاوية فى الحرج ،إذ كان معاوية وأبوه أبو سفيان وأمه هند وأسرتها أبطال الحرب ضد الاسلام قبل أن يدخلوا فى الاسلام ، لذا لم يكن من مصلحته هو ودولته الاهتمام بالسيرة النبوية وروايتها . ومعروف أن معاوية قد أدرك النبى محمدا وأسلم مع فتح مكة، وظل فى مكة بينما رجع النبى محمد الى المدينة وما لبث أن مات فيها عليه السلام ، ومعاوية عنه بعيد . وهذا هو كل حظ معاوية من الاسلام ورسول الاسلام.
3 ـ بدأ الاهتمام فى العصر الأموى برواية أخبار العصر الجاهلي ، ثم مالبث روايات هذا العصر أن أخذت طريقها للتدوين لاحقا فى العصر العباسى على يد مؤرخين بدأوا بالكتابة والتدوين عن العصر الجاهلي ضمن ما كتبوه من علوم ومعارف ، إذ كانت الحركة العلمية في بدايتها لم تعرف التخصص ولم تتحدد بعد إلى علوم ، فقد دارت مجالس العلم ورواياته ثم تدوينه حول جملة علوم تأخذ من كل مجال بطرف ، من القرآن والنبى من سيرة ومغازى وأقاويل وأحاديث سموها (سنة) مع الشعر والتاريخ والقصص. . وكان سهلا للأمويين إفساح مكان بين تلك العلوم أو المعارف لروايات عن العرب قبل وقبيل الاسلام تتناول أيام العرب ومآثرهم ونوادر الأعراب.
4 ـ يزيد فى الاهتمام بتراث الجاهلية عامل التسلية .
جانب التسلية والتشويق كان مطلوبا للخلفاء والخواص وبنفس القدر للعوام فى عصر لم توجد فيه وسائط التسلية التى نعرفها الان من مسرح و إذاعة و سينما ودراما وألعاب .
وجوانب التسلية كانت أكثر فى تاريخ العرب قبل الاسلام حيث انطلق العرب فى اللهو والمجون بلاحساب ؛ لا فارق ولا حرج بين صغير أو كبير.
5 ـ ثم هناك جانب آخر هو عدم التحرج فى قول أى شىء عن الجاهلية ، فالحديث هنا أقرب الى أن يكون (علمانيا ) لا شأن له غالبا بالاسلام وتشريعاته ومحظوراته ، كما أنه ليست هناك قدسية لاعلام الجاهلية من إمرىء القيس وجساس بن مرة والمهلهل بن ربيعة وكليب بن ربيعة وعنترة بن شداد ، فلنقل عنهم ما نشاء من حقائق أو غرائب ، وربما كانت الغرائب أكثر جاذبية ، بل هى كذلك .
6 ـ والشعر أكثر جاذبية ، وقد ارتبط قصص أولئك الجاهليين بالشعر ، فقد كان معظمهم شعراء أو تعاملوا مع شعراء . وكان الحوار فى اقاصيصهم تتخلله أبيات الشعر مما يدل على انها أقاصيص موضوعة للتسلية وابهار القارىء فى عصر كان الشعر والقصص أهم أدوات السمر والتسلية و التسرية.
ولكن من الصعب أن يتخيل العقل أن يتحاور الناس ـ حتى لو كانوا شعراء محترفين ـ فى حياتهم الواقعية بالشعر ، تقوله المرأة والصبى و البطل والكومبارس ..إلا إذا كان ذلك محاولة مبكرة وبدائية لتأليف ما اصطلح فيما بعد على تسميته بالمسرح والدراما و والاوبريتات ..
7 ـ وهكذا ففي بداية الحركة التاريخية للجاهلية فإن القائمين بها كانوا أقرب للإخباريين القصّاصين منهم إلى المؤرخين .. فالمؤرخ هو الذي يتحرى الصدق في الرواية ويتثبت من الوقائع التي يذكرها ويجعل لها اسنادا يزعم فيه انه سمع الرواية من فلان عن فلان عن علان .. أما الإخباري فهو الذي يحكي ويقص دون نقد أو تمييز للصحيح أو المكذوب ودون اسناد . ولهذا فإن عنصر الخرافة واضح جلي فيما يورده الأخباريون من التاريخ الجاهلي ..
وقد زاد من الخرافة أنهم نقلوا الروايات الجاهلية بعد فترة كان فيها العرب المسلمون معرضين عن التاريخ الجاهلي حين انشغلوا بالإسلام والفتوح والفتن فظلت الروايات التاريخية الجاهلية حبيسة الصدور ومجهولة قد انقطعت الصلة بينها وبين الزمن الذي قيلت فيه ، فلما عاد الاهتمام إلى تلك الروايات في العصر الأموي بعد قرن من الانقطاع كان الاضطراب والخلط قد لحق بها وزادها بعدا عن الواقع ..ولا ضير فى ذلك لأن الهدف الكبر كان التسلية والتشويق ، ومعظم الحقائق التاريخية تخلو من التشويق ، كما ان معظم القصص والحكاوى تقوم على الابهار والتضخيم والتشويق .
وأهم الأخباريين المتخصصين في التاريخ الجاهلي : عبيد بن شربه الجرهمي ووهب بن منبه وهشام الكلبي وأبو عبيدة معمر بن المثني وابن الحائك الهمداني ..
1- عبيد بن شربه :
كان قصاصا إخباريا أدرك النبي (ص) ولكنه لم يسمع منه شيئا ، ثم برز في بلاط معاوية وكان يسمعه كل ليلة أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها ، ويقال إنه ألف لمعاوية كتاب (الملوك وأخبار الماضين) وفيه أخبار الجاهليين وأشعار عاد وثمود والتبايعة وجديس وطسم وبني إسرائيل .. والروايات المنقولة عن عبيد بن شربة يغلب عليها طابع القصص الشعبي الخرافي . وهذا شيء طبيعي فيمن يتخصص في تاريخ اندثر ويحكى عنه للتسلية والسمر. .
2- وهب بن منبه :
وهب بن منبه فارسى يمنى يهودى ، تتلمذ على بعض متأخرى الصحابة مثل جابر والنعمان بن بشير وابن عباس وأسند روايات الى صحابة آخرين لم يرهم مثل معاذ وأبي هريرة. قالوا عنه إنه ( كان عالمًا عابدًا ) ورووا أنه كان يتكلم من كتب السابقين من علماء بنى اسرائيل . ويروون عنه بعض الحكم والمواعظ ، وربما نسبها له من جاء بعده من الوعاظ والقصاصين . ومن نوعيتها قوله ( الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وماله الفقه. ) وهذا قول مصنوع لأن مصطلح الفقه لم يكم سائدا فى عصر وهب المتوفى فى العصر الأموى عام 110 هجرية. وبعض المنسوب اليه يغلب عليه صناعة الوعظ واسلوب الوعاظ ، وهو لم يكن متخصصا فى الوعظ . ومن ذلك قولهم ( إن وهب بن منبه قال في موعظة له: يا ابن أدم أنه لا أقوى من خالق ولا أضعف من مخلوق ولا أقدر ممن طلبته في يده ولا أضعف ممن هو في يد طالبه. يا ابن آدم إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك وأقام معك ما سيذهب عنك. يا ابن آدم أقصر عن تناول ما لا ينال وعن طلب ما لا يدرك وعن ابتغاء مالا يوجد واقطع الرجاء منك عما فقدت من الأشياء. واعلم أنه رب مطلوب هو شر لطالبه. يا ابن آدم إنما الصبر عند المصيبة وأعظم من المصيبة سوء الخلف بها . . يا ابن آدم قد مضت لنا أصول نحن فروعها فما بقي الفرع بعد أصله. .)
والواقع أن الذى صنع الشهرة لوهب بن منبه كان أحمد بن إبراهيم بن كثير المتوفى فى بغداد في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين ومائتين وقد قارب مائة سنة . (أحمد بن إبراهيم بن كثير) هذا هو حفيد وهب بن منبه من ابنته . قال محمد بن سعد فى ترجمته فى الطبقات الكبرى ( وهو ابن ابنة وهب بن منبه وروى كتب وهب من أحاديث الأنبياء والعباد وأحاديث بني إسرائيل عن أبيه عن وهب بن منبه وذكر أنه قد لقي معمر بن راشد باليمن وسمع منه وكان قارئا لكتب وهب بن منبه وحكمته) .أى أن هذا الحفيد هو الذى قام بالترويج لجده فى العصر العباسى.
ولذلك فان لوهب بن منبه تنسب معظم الإسرائيليات في المصادر العربية ، ولكنه ايضا اهتم بأخبار اليمن في الجاهلية معتمدا على روايات نصارى نجران ، فنسبوا له كتاب : ( الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم)
ويغلب عليه كابن شربه طابع القصص الشعبي الخرافي مما يدل على ثقافة ضحلة برغم ما يسند إليه من أقاويل فى الحكمة والوعظ . ولكن زعمه العلم بالتوراة وانه يقرأ فى أسفار بنى اسرائيل السابقة قد ضخم من شهرته العلمية ، إذ أخذ عنه أعلام من الصحابة كابن عباس وغيره فزاد ذلك أيضا من شهرته فى العصر العباسى حيث ينتسب العباسيون الى جدهم ابن عباس ،ويحتفلون بجدهم ابن عباس ، ويحرصون على كل ما له صلة بابن عباس ، فكيف بمن كان استاذا لابن عباس وأخذ عن ابن عباس وأخذ عنه ابن عباس ؟..
وايضا فقد إحتاج الكثيرون إلى تفسير ما أورده القرآن الكريم من أخبار وقصص فلجأوا إلى ابن منبه لما لديه من علم بالتوارة . وقد تعرضت التوارة لبعض القصص الواردة في القرآن . وسلم الكثيرون بعلم وهب بن منبه فأخذوا عنه ونقلوا أخباره وأقواله في كتبهم.
بل إن شهرته جعلت البعض يؤلف كتبا وينسبها لوهب بن منبه بعد موته ـ خصوصا فى العصر العباسى ـ حين تحول التدوين الى حرفة وحين أصبح النشر صناعة ، وكانت شهرة وهب قد ازدادت فى العصر العباسى بعد موته ، فنسبوا له بعض الكتب بعد أن نسب له القصاصون كثيرا من الحكم والمواعظ . ومن تلك الكتب كتاب (المبتدأ) في بدء الخليقة والرسل السابقين معتمدا على ما ورد في الكتب السابقة لأحبار اليهود ورهبان النصارى والتوراة والأنجيل ..
ومع الأسف فإن المنقول عن وهب في كتابه ذلك ما لبث أن نقله المسلمون في كتبهم التاريخية ؛ فعل ذلك ابن قتيبة في المعارف والطبري في تاريخه والمقدسي في كتابه (البدء والتاريخ) والثعالبي في كتابه (قصص الأنبياء أوالمجالس) وهذا ما يفسر ما في هذه الكتب من خرافات وأساطير ..
ولم يكتف أولئك بذلك بل أشاعوا عن وهب علمه باللغات القديمة المنقرضة وأذاعوا الأخبار التي تؤكد ذلك ..ولو كان لوهب كل ذلك العلم لما كانت عقليته بهذه الضحالة ..
وقبل أن نترك وهب بن منبه ننقل بعض ما ذكره عنه الطبرى فى تاريخه .
تحت عنوان ( القول فى كم قدر جميع الزمان من ابتدائه الى انتهائه وأوله الى آخره ) يقول الطبرى : ( حدثنا أبو هشام ،قال حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن الأعمش عن أبى صالح قال : قال كعب (الأحبار ) : الدنيا ستة آلاف سنة . حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال : حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثنى عبد الصمد بن معقل ،أنه سمع وهبا (ابن منبه ) يقول : قد خلا من الدنيا خمسة آلاف وستمائة سنة ، وإنى لأعرف كل زمان منها ، ما كان فيه من الملوك والنبياء. قلت لوهب بن منه : كم الدنيا ؟ قال: ستة آلاف سنة ) (تاريخ الطبرى 1 : 10 ) .
الأخ وهب هنا يستحق جائزة نوبل أو نوفل فى الكذب .. ويتفوق فى الكذب على البخارى و(ابى لمعة ) .
ونتوقف مع كذبة أخرى أعرض وأفجع فى تاريخ الطبرى ( ج 1 ص 39 ، 41 ) ينقلها الطبرى عن وهب فيما يتعلق بخلق العرش والسماوات والأرض..حيث يتكلم الأخ وهب بثقة شديدة كما لو كان حاضرا وقت خلق السماوات والأرض .. ويجد من يصدقه حتى أن الطبرى ينقل عنه ويجعل للنقل إسنادا ليوهم الحمقى بصدق تلك الأقاويل. يقول الطبرى : ( حدثنى محمد بن سهل ابن عسكر ، قال : حدثنى اسماعيل بن عبد الكريم ،قال : حدثنى عبد الصمد بن معقل ،قال : سمعت وهب بن منبه يقول : إن العرش كان قبل أن يخلق السماوات والأرض على الماء ، فلما أراد أن يخلق السماوات والأرض قبض من صفاة الماء قبضة ، ثم فتح القبضة فارتفعت دخانا ، ثم قضاهن سبع سماوات فى يومين ، ودحا الأرض فى يومين ، وفرغ من الخلق فى اليوم السابع .)
حسنا... فالجاهليون قبل الاسلام لم يقولوا هذا ..
وصدق الله العظيم : (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) ( الكهف 51) .
ويقول الطبرى فى رواية أخرى لابن منبه : ( حدثنى محمد بن سهل بن عسكر ، حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم ،قال حدثنا عبد الصمد أنه سمع وهبا يقول ..إن السماوات والأرض والبحار لفى الهيكل ، وأن الهيكل لفى الكرسى ، وإن قدميه عزّ وجلّ لعلى الكرسى ، وهو يحمل الكرسى ، وقد عاد الكرسى كالنعل فى قدميه . وسئل وهب : ما الهيكل ؟ فقال : شىء من أطراف السماوات محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط ) ..
مساء الفل..!!
3- هشام بن محمد بن السائب الكلبي :
كان أبوه عالما بالأنساب واللغة والتاريخ ، وخلفه ابنه في هذا العلم فكتب (جمهرة النسب) وكتب في تاريخ الجاهلية . وكان يعتمد على الأصول والمصادر التاريخية التي تتعلق بموضوع دراسته ففي تاريخ الأنبياء كان يعتمد على أهل الكتاب وفي تاريخ الفرس كان يستقي مادته من الترجمات الفارسية ، وفي تاريخ اليمن يعتمد على ما ينقل من الرواية الشفهية وفي بحثه عن الحيرة يعتمد على مخطوطات كنائس الحيرة ...
ولهشام كتب كثيرة نحو (140 كتابا ) وصل لنا منها قطعة من كتاب جمهرة النسب وكتاب الأصنام الذي نشر بمصر وكتاب ( نسب فحول الخيل في الجاهلية والإسلام ) .
واتهم المحدثون هشام وأباه بالوضع في الحديث وتجنب بعضهم الرواية عنه ودافع عنه بعض الباحثين . والمهم أن هشام يعبر عن نزعته العربية حين كان يهتم بالأنساب ، فعلم الأنساب وثيق الصلة بالعصبية القبلية ..
4- أبو عبيدة معمر بن المثني :
فارسي الأصل يهودي الآباء بالديانة عربي الولاء . اشتهر بالثقافة والإطلاع إذ جمع بين الثقافات الفارسية واليهودية والعربية ، واشتهر بأنه من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها .. إذ تمكن بولائه لتميم من مقابلة البدو في الصحراء وأخذ عنهم اللغة واللهجات والأخبار والتاريخ الجاهلي والأنساب .. وركز اهتمامه على العرب الشماليين .. واستخدم أبو عبيدة علمه بالعرب في التأليف في مثالبهم ونقائضهم إذ كان شعوبيا يكره العرب ويحقد عليهم فله كتب في أدعياء العرب وأصحاب الرايات من العرب (أى العاهرات ) وكتاب المثالب الكبير .
واستخدم علمه بالأنساب في الطعن في أنساب العرب والوضع في تاريخهم ..
5- ابن الحائك الهمداني :
مؤرخ يمني عرف بتاريخ اليمن فوصف جغرافيتها وقبائلها وتاريخها . نشأ بصنعاء ورحل لبلاد العرب دارسا لمعالمها وآثارها وأقام بمكة حينا وأتهم بهجاء النبي(ص) فسجن ومات بسجنه سنة 334 فى خلافة المطيع العباسى. ويعتبر كتابه (صفة جزيرة العرب) من أهم مصادر تاريخ العرب الجاهلي خاصة في اليمن لدقته في الوصف واعتماده على المشاهدة ومعرفته بالخط المسند الحميري وقراءته للنقوش القديمة على آثار اليمن .. وكتابه ( الإكليل ) أهم ما ألف في ماضي اليمن وهو من عشرة أجزاء لم يصل لنا إلا جزءان . وقد وصف في الإكليل آثار اليمن من قصور وسدود وقلاع ومدن وهياكل معتمدا على المعاينة والفحص الدقيق .
وهو أول رحالة ارتاد اليمن وكتب ما قرأ أو رأى ..
ملاحظات على مؤرخي الفترة الجاهلية :
وقبل أن نترك العصر الجاهلي نذكر بعض السمات الهامة التي تجمع بين مؤرخيه ..
1 ـ فهم جميعا أصحاب ثقافات قديمة من عرب الجنوب وأهل الكتاب .. فهم يمنيون بالنسب أو الوطن فعبيد بن شربه جرهمي يمني ووهب بن منبه يمني الموطن وهشام الكلبي ينتمي لقبيلة كلب أشهر قبائل اليمن وأبو عبيدة فارسي الأصل وكانت لفارس صلة باليمن وابن الحائك الهمداني يمني الأصل والموطن .. واليمن كانت مركزا حضاريا في الجاهلية وقد عرفت النصرانية واليهودية والاتصال بالفرس .. وتمثلت فيها مختلف الثقافات من فارسية ويهودية ونصرانية وعربية .. وبهذه الثقافات كان بعضهم روادا للتاريخ الجاهلي مستظلين برعاية الدولة الأموية التي اهتمت بالعصر الجاهلي وتاريخه ..
2 ـ ثم هناك ناحية أخرى يكاد القارئ يحسها في تاريخ أولئك المهتمين بالتاريخ الجاهلي ، هي أن لهم موقفا من الإسلام يكاد يظهر من خلال تاريخهم فابن شربه أدرك النبي ولكنه لم يقابله ، في نفس الوقت الذي يجد فيه الوقت ليروى تاريخ الجاهلية في مجلس معاوية .. ووهب بن منبه كان معبرا للإسرائيليات التي وجدت طريقها للتراث ومنها نبعت الخرافات . وقد تساهل الأولون في النقل منه إذ انصب اهتمامهم على التشريع والحلال والحرام ، وما أوردوه عن وهب لم يكن فيه تحليل أو تحريم وإنما كان فيه ما هو أخطر ، كان فيه ما يؤثر على العقل والفكر والعقيدة .. كان فيه خرافات وأساطير اتخذها السنة و الشيعة والصوفية فيما بعد أساسا لأقامة أديانهم الأرضية على حساب العقل الإسلامي والعقيدة الإسلامية .. وهشام الكلبي اهتم بالأنساب مع أن الإسلام لا يعبا بالنسب قدر اهتمامه بالتقوى، ويهتم هشام بالعصيبة القبلية والإسلام لا فضل فيه لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. وعلى النقيض فأبو عبيدة يتعصب ضد العرب ويفتري عليهم الكذب ويضع الأساطير التي تشكك في الأنساب ويرمي العرب بكل قبيح .. وابن الحائك مع استغراقه في تاريخ اليمن وملوكها القدامى متهم بهجاء الرسول (ص) حتى سجنوه بسبب إلحاده ..
وبعد فقد آن لنا أن ننتقل من الجاهلية قبل الإسلام .. الى الجاهلية بعد الاسلام .. لنبحث جهود المؤرخين في رصد (غزوات الرسول) أو ما عرف بالمغازي ..
اجمالي القراءات
34092
أول القصيدة ....... كما يقولون ، شيء عجيب هذه التسمية لما كان يفعله خاتم اتلنبيين دفاعا عن دولته ضد المعتدين الكافرين ، ورغم ذلك لم يفكر الكثيرون في هذه التسمية ، وفي مضمونها وأنها تسيء للرسول عليه السلام دون أن يشعرون ، ورغم ذلك يعبرون بكل غضب مستخدمين نفس المعنى في قولهم غزو العراق للكويت ، وغزو أمريكا للعراق ، وهم ذهذه التسمية يشبهون ما قام به خاتم النبيين دفاعا عن دولته بما قام به صدام وبوش في العراق.
أعتقد أن بداية عصر التدوين لو كان هناك أحاديث لكانوا بدأوا في تدوينها ، حيث أنهم كانوا يهتمون بتدوين كل شيء حتى الشعر ، كما كانوا يقومون بتدوين مل قبل وقبيل دولة الإسلام ، فمن الأولى أن يدونوا الأحاديث لو كانت موجوده أصلا.
هل يعقل أن يترك الله جل وعلا جزء من دينه لمثل هؤلاء الناس يدونون ويكتبوه بمعرفتهم ،و حسب أمزجتهم واهواءهم الشخصية وميولهم وتعصبهم ، فمنهم من يكتب كيدا في الاسلام مثل اليهودي الأصل وهب بن منبه ، ومنهم من يكتب بعقلية قبلية متعصبة للأنساب والعائلة والأسماء وهو هشام بن محمدبن السائب الكلبي ، ومنهم من هو فراسي الأصل يهودي الآباء يحقد ويكره العرب فكيف يكون أمينا في نقل اخبارهم وهو أبو عبيدة معمر بن المثني ، كل من هؤلاء المؤرخون يتخذ موقفا من الإسلام ويكتب عنه بغرض تشويهه ، ولكل واحد طريقة ، ورغم ذلك العلماء ينقلون ما يكتبون ويكررون ما يقرأون لهؤلاء دون تمعن او تفكير في صحة هذه المرويات ، وفي التدقيق في شخصيات من قاموا بكتابتها ، وكان يجب عليهم أن يسألوا أنفسهم هل كتبوا وأرخوا لأهداف علمية بحتة تنقل للجيل التالي أخبار أجدادهم ، ام انهم كانوا يكتبون لأهداف شبه شخصية كالتسلية واضاء الخليفة أو لاحياء ذكرى الاسماء والقبيلة والعائلة ، أو يكتبون لتشويه صورة الإسلام ..