آحمد صبحي منصور Ýí 2024-07-24
أثر دين التصوف فى التركيب الاجتماعي فى مصر المملوكية : المجاذيب
كتاب : أثر التصوف الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثالث : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية
أثر دين التصوف فى التركيب الاجتماعي فى مصر المملوكية : المجاذيب
أولا : رؤية المجتمع المملوكى للمجاذيب
1ــ تكلمنا عن المجاذيب فى الكتاب الخاص بالحياة الدينية فى فصل عن أنواع الأولياء ، ونعطى لمحة إضافية . فقد اعتبرهم ابن خلدون نوعا من الأولياء مع سقوط التكاليف عنهم [1] ، وصاحب كتاب ( شفاء السائل ) اعتبرهم دون مرتبة الإنسان . [2] . والبعض ينسب هذا الكتاب لابن خلدون وقد ثبت لنا أن هذا الكتاب لا علاقة له بابن خلدون .
2 ــ فى دين التصوف يُعتبر المجاذيب النوع الأعلى من الأولياء ، فهناك الولى (السالك ) الذى (يسلك ) الطريق الصوفى بالتعلم ، أو بأخذ العهد والخرقة على يد شيخ ، و(يسلك ) أو يسير فى الطريق الصوفى طبقا للدرجات الى ان يكون قطبا . ولكن المجذوب عندهم هو الذى يتم إختياره ( إلاهيا ) بأن تجذبه العناية الالهية بزعمهم ، فتأخذه من عقله ويصبح فجأة متعلقا بعالم الملكوت وعائشا فى ( الحضرة الالهية ) قد زال عنه ( حجاب ) الجسد و( فنى ) عن البشرية و ( تحقق ) بالألوهية فى زعمهم . وكون المجذوب أعلى قدرا من السالك أكده ابن عطاء فى كتابه ( لطائف المنن ) [3] .
3 ــ وكان هذا الاعتقاد من حُسن حظ المجانين والمُلتاثين عقليا ، فأرتفعوا من درجة ( المجنون ) المُحتقر الى درجة ( المجذوب ) المُعتقد . وإذا جاءته اللوثة فهى الدليل القاطع على أنه من ( أرباب الأحوال ) الذى تعتريه حالات من الجذب الالهى . ومهما قال كلاما بشعا أو كلاما غير مفهوم ، ومهما أساء من تصرف فالاعتقاد فيه يزداد لأنه من (أرباب الأحوال) .
4 ــ وإنصافا للتصوف والعصر المملوكى فإن هذا الاعتقاد فى ( المجاذيب ) كان موجودا فى العصور الوسطى فى أوربا أيضا . فإبليس هو المُعلم للجميع . ولأن العقل السليم هو صمام الأمان والايمان للإنسان فإن الشيطان حريص على تغييب هذا العقل ، سواء بالخمر والمخدرات الحسية ، أو بالأديان الأرضية التى تجعل الفرد يغيب عقله وهو يقدس بشرا مثله ، أو يقدس قبورا وأصناما يصنعها بيده ثم يعكف عليها عابدا متبتلا ، أو يجعل المجنون فاقد العقل إلاها مقدسا بزعم أنه غائب عن هذا العالم المادى حاضر فى ( الحضرة الإلهية ). وهذه الخرافة تجد من يصدقها . وبهذا اصبح عاديا فى العصر المملوكى ان ترى المجنون فاقد العقل يسير فى الشارع فى شكل بشع ممزق الثياب ـ بل ربما بلا ثياب ، وتغلفه الحشرات ويعيش كالحيوان بين قاذورات ،وهو متمتع بالتقديس يتوسل به الناس يطلبون منه البركة والمدد . وكلما ساء أحواله إزداد أتباعه .
5 ـ وهذه الحالة الفريدة من الخبل العقلى للعصر المملوكى فى تقديس المجاذيب ــ أرساها أرباب الصوفية المحققون الذين هم فى رتبة ( السالك ) الأقل درجة من رتبة المجذوب، فيرى ابن عنان أن المجاذيب يعيشون في عالم آخر، يقول : (ان من شأن المجذوب انك ترى أحدهم ماشيا وهو راكب وتراه يأكل في رمضان وهو صائم لم يفطر وتراه عاريا وهو مرتد لثيابه )[4] ، وبالتالى فلو رأيته يفطر فى رمضان فلا تصدق عينيك ، ولو كان عاريا فأنت لا ترى الثياب التى يرتديها .
ووضع الصوفية آدابا لمخاطبة المجاذيب بما يستحقون من تقديس ، وافتخر الشعراني بمراعاة الآداب معهم ، وأوصى بعدم مخالطتهم لأنهم يعلمون الغيب ويقرأون الخواطر والسرائر بإعتبار وجودهم فى الحضرة الربانية . وقال المتبولي :( سلموا على أرباب الأحوال بالقلب دون اللفظ ، فإنهم في حضرة لا يقدرون على خطاب أحد باللفظ )[5] ..
ثانيا : الانخراط فى ( الجذب ) خداعا
1 ــ وبسبب هذه المميزات والفضائل للمجاذيب ، وفرارا من الظلم المملوكى، ولسهوله الحصول على لقب ( مجذوب ) مقارنة بالصوفى السالك فقد إنخرط كثيرون فى سلك (الجذب) فانتشر المجاذيب فى كل مكان ، وأصبحوا يمثلون طبقة متحركة تهيم على وجهها فى المجتمع المصرى المملوكى .
2 ـ ولم يقتصر الأمر على العوام ، بل ادعى كثير من الأولياء الصوفية الجذبة المؤقتة ليحصل على إعتقاد الناس فيه ويتمتع بالتقديس الذى يتمتع به المجاذيب والمجانين الحقيقيون . ، ووصل الدشطوطى بإدعاء الجذب الى الشهرة ، وبعد أن صار وليا فى إعتقاد الناس ( عاد اليه عقله ) ليتمتع بثمار جذبته الاختيارية المؤقتة. ويصف الدشطوطي جذبته حاكيا عن نفسه (..فحصل لي جاذب إلهي وصرت اغيب اليومين والثلاثة ثم افيق اجد الناس حولي وهم يتعجبون من أمري ، ثم صرت اغيب العشرة أيام والشهر ولا آكل ولا أشرب ..... فخرجت سائحا إلى وقتي هذا ) [6] .وبهذا أصبح الدشطوطى متمتعا باعتقاد الناس ، إذ كان المجذوب يوصف عادة بأنه معتقد (بفتح القاف) وبانه مقصود بالزيارة ) [7]..
3ــ ونعطى أمثلة للفقهاء ( الماكرين ) الذين آثروا أن يتظاهروا بالجذب ( رياءا و إثما وعدوانا.!! ):
3 / 1 : محمد المجذوب ( كان طالب علم وصار خطيبا في جامع ، وما لبث أن هام على وجهه مجذوبا ) [8] . أى ترك الخطابة وترك الجامع وإنجذب فصار مشهورا ، فذكرته المراجع التاريخية ، ولو ظل خطيبا ما إنتبه له المؤرخون .
3/ 2 : ابن البناء ( كان فقيها فاضلا عاقلا انتفع به جماعة من الطلبة فاحتجب وخرج على الناس مجذوبا )[9] ، أى إنه أحتجب ليسأل الناس عن سبب احتجابه وينتظرون ظهوره ، ثم يظهر لهم فجأة ، وهو مجذوب .!!.
3 / 3 : (واشتغل الكمال الدمياطي بالعلم وكان على طريقة حسنة ، ثم انجذب ) [10] . كان طالب علم ضمن آلاف الطلبة ، وعندما إنجذب صار شيئا مذكورا .
3 / 4 : وكان أبوبكر البجائي فقيها مالكيا (ثم حصل له جذبه وصار صاحب كرامات )[11] .
3 / 5 : قاضي القضاة الجلال الأنصاري انجذب بدعوى أن هاتفا دعاه للعبادة فساح في الأرض ( إلى أن أُذن له في الجلوس فبلغ المجاهدة مقام المشاهدة ) [12] ، أى زعم أنه هاتفا دعاه الى أن يكون مجذوبا فصار مجذوبا ، ثم جاء له الأمر بالجلوس شيخا صوفيا ، فجلس شيخا صوفيا ، وبلغ درجة ( المشاهدة ) أى مشاهدة الخالق جل وعلا بزعمه .!!،
3 / 6 : وكانت لآخرين أسبابهم القوية في الجذبة، فالشيخ حُطيبة ) [13] وإسماعيل الصالحي ) [14] كلاهما عشق امرأة فانجذب ، وضاق الطوخي بما عليه من ديون فأظهر الجذب وكثُر من يعتقده ، وأحيانا كان يرجع عن جذبته ثم يعود إليها ) [15] . يعنى ينجذب إذا طارده الدائنون ، فإذا أمن منهم عاد لطبيعته
3 / 7 ولم يقنع بعض الصوفية فاتخذوا من الجذب وسيلة للشهرة ، فيحي الصنافيري كان صوفيا ثم حدثت له جذبه ربانية فوصل إلى مقام القطبانية وسعت له الخلق [16] وكان عمر الكردي صوفيا بخانقاة سعيد السعداء فانجذب واشتهر بالصلاح [17] وحتى يشتهر الدشطوطي كانت هيئته كالمجاذيب ) [18] وانجذب أبوالفضل وفا ) [19] .
واتخذ كثير من الأولياء في نهاية العصر سمة المجاذيب كما يظهر في الطبقات الكبرى للشعراني ....
ثالثا : بعض مظاهر الجذب
1ــ وكان المجذوب يهذي بماله علاقة بعمله قبل الجذب فكان( الشيخ بهاء الدين المجذوب يحفظ البهجة كأن لا تزال تسمعه يقرأ فيها..) .. وكان فرج المجذوب يقول : ( عندك رزقه فيها خراج ودجاج وفلاحون ) ، وابن البجائي يقول: ( الفاعل مرفوع والمخفوض مجرور وكان القاضي ابن عبدالكافي ( يقول في بيت الخلاء : ولا حقّ ولا استحقاق ولا دعوى ولا طلب ) [20]..
2ــ وتفنن المجاذيب في اتخاذ كل غريب في مظهرهم من حلق الوجه ولبس القرون او الألياف او الحرير او الحديد في اعناقهم ، او يتخذ الأعلام على رأسه، أو يركب جريدة قد صور لها وجها وعينين ، أو يعلق فيها جرسا ، أو يتخذ الحروز الكثيرة حول عنقه كقلادة المرأة او يحمل الطبل في عنقه ) [21] . ومنهم من يمشي عريانا، أو يرتدي زي الجندي ويمشي بالسلاح والسيف ، أو يلبس زي القضاة والتجار ، ويغير الألوان . وربما حمل على رأسه عمامة نحو قنطار) [22] . وتارة يصيح احدهم ، أويصمت ، أو يتكلم ثلاثة أيام ويسكت مثلها ) [23] .
3 ــ وقد يعرف أحدهم بالوقوف الطويل في مكان معين لا ينتقل منه صيفا او شتاء ، وبما امتدت المدة إلى ثلاثين سنة فبما يزعمون ، أو ينام أحدهم في كانون الطباخ ، أو يقيم في الأمكنة الخربة او البرية وحوله الحيوانات ) [24] .
4 ــ وعٌرف المجاذيب من أتباع ابن خضر المجذوب بأن احدهم (إذا طاب يضرب رأسه بعصاه هائلة ضربات متعددة بحيله وقواه ، ولا يسيل له دم ) [25] .
وكانت لآخرين أحوال مضحكة فكان ابن مصيغير يخاصم ذباب وجهه ويتشوش من قول المؤذن (الله أكبر) فيرجمه ويقول عليك يا كلب نحن كفرنا يا مسلمين حتى تكبروا فينا ) .! . واذا مرت عليه جنازة وأهلها يبكون يمشي معهم ويقول : ( زلابية هريسة زلابية هريسة ) [26] .
وكان بعضهم إذا رأي امرأة في الطريق ( يضربها ويقول غطي يدك فاشتهر بذلك ) [27] وكان اذا سأل أحدهم الدعاء من الشيخ نجيم قال له: ( كشك ولحم )، واذا دفعوا لجمال الدين الأسود نقودا جديدة انشرح وقال محمدي محمدي (فيحصل للسامع انبساط ) .[28]
5 ــ ويعبر عنهم المثل الشعبي ( زى المجاذيب .. كل ساعة في حال ) [29]
[1]ــ المقدمة 110 ، 111
[2]ــ شفاء السائل 88
[3]ــ ابن عطاء : لطائف المنن 111
[4]ــ أخبار القرن العاشر 134
[5]ــ لطائف المنن 189 / 190 ، البحر المورود 185
[6]ــ الطبقات الكبرى للشعراني 2 / 120 ، 121
[7]ــ من الصعب حصرهم في المراجع وعلى سبيل المثال نذكر المنهل الصافي 3 / 187 ، النجوم الزاهرة 11 / 138 ، 16 / 177 ، 195 ، 13/، 18 ، تاريخ ابن اياس 2 / 211 طــ بولاق ، انباء الغمر 3 / 261 ، 3 / 153 ، 1 / 59 ... إلخ
[8]ــ أخبار القرن العاشر مخطوط ورقة 181 الكواكب السائرة للغزى 1 / 87
[9]ــ الدرر الكامنة 1 / 297 : 298
[10]ــ التبر المسبوك 377
[11]ــ تاريخ ابن الفرات 9 / 2 / 418
[12]ــ تحفة الأحباب 193 : 195
[13]ــ الضوء اللامع 1 / 373
[14]ــ الغزى : الكواكب 1 / 161
[15]ــ أنباء الغمر 2 / 117، التبر المسبوك 246 ، 247
[16]ــ تحفة الأحباب 471
[17]ــ النجوم 16 / 328 ، تاريخ ابن اياس 2 / 413 تحقيق محمد مصطفى
[18]ــ الغزى الكواكب السائرة 1 / 248 ، الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 12
[19]ــ تاريخ ابن اياس 2 / 218 طـ بولاق ، الضوء اللامع 4 / 247 ، روض الرياحين 203 ، الغزى الكواكب 1 / 87
[20]ــ الشعرانى الطبقات الكبرى 2 / 12 ، اخبار القرن العاشر 181 ، الكواكب السيارة 195
[21]ــ رحلة تافور 3 / 64 ، المدخل لابن الحاج 2 / 203 ، 206 ، الطبقات الكبرى للمناوى 388 ، الضوء اللامع 2 / 266
[22]ــ عقد الجمان وفيات عام 721 لوحة 374 ر الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 161 وشذرات الذهب 8 / 176
[23]ــ إنباء الغمر 1 / 480 الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 129 ، 160
[24]ــ الطبقات الكبرى للشعراني 2 / 206 ، الضوء اللامع 4 / 247 ، روض الرياحين 203 ، الغزى الكواكب 1 / 87
[25]ــ المنهل الصافى 4 / 94
[26]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 122
[27]ــ تحفة الأحباب 196 . الكواكب السيارة 74
[28]ــ الكواكب السيارة 43
[29]ــ الأمثال الشعبية تيمور 179
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5111 |
اجمالي القراءات | : | 56,688,299 |
تعليقات له | : | 5,445 |
تعليقات عليه | : | 14,818 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
دعوة للتبرع
قنطار قناطير: قنظار وقناط ير جاءت قى القرآ ن عن أوزان...
هجص ابن كثير: في قرأتي لتفسي ر ابن كثر الايا تان 85 , 86 هنالك...
بحر / بحار: السؤا ل : فى القرآ ن الكري م كلمة ( البحر ) . هل...
الاستثمار و البورصة: ما هو رايك فى شركات الاست ثمار و البور صة و...
علم الله جل وعلا: اذا كان الله يعرف ماذا سافعل و لماذا و هو يعرف...
more