آحمد صبحي منصور Ýí 2024-02-07
كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية )
هذا الكتاب
يتناول قرآنيا ماهية الدولة الاسلامية وعلمانيتها فى ستة أبواب وخاتمة مع ملحقين . يتناول الكتاب
القيم الأساس للدولة الاسلامية ، وحرية الدين والديمقراطية المباشرة بين التنظير والتطبيق ، ومظاهر العلمانية فى الدولة الاسلامية وشريعتها ، كيف نقيم دولة اسلامية علمانية . ثم الخاتمة عن شهادة العصر عن مصر .)
الفهرس
مقدمة الكتاب
الباب الأول :
القيم الأساس للدولة الاسلامية
الفصل الأول :
الاسلام والسلام : ( الدولة الاسلامية دولة مسالمة قوية ـ عالمية الاسلام ضد إنقسام العالم الى معسكرين ـ الإخاء الانسانى أساس الاسلام السلوكى بمعنى السلام )
الفصل الثانى :
العدل ( القسط ) والاحسان ( التسامح )
الباب الثانى :
( الحرية : حرية الدين ، وحرية الرأى والتعبير بين التنظير والتطبيق )،
الفصل الأول :
التنظير القرآنى :
( الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية ـ حرية الدين بين مشيئة الرحمن ومشيئة الانسان ـ حوار الله جل وعلا مع خلقه أعظم دليل على حرية الدين ـ الرسول مهمته البلاغ فقط وليس مسئولا عن هداية أحد)
الفصل الثانى :
التطبيق :
تطبيق حرية الدين والرأى في الدولة الاسلامية للنبى محمد عليه السلام
( مدي حرية المعارضة في في دولة النبى محمد عليه السلام ـ تقاعسهم عن القتال الدفاعى ـ حرية المنافقين فى البخل فى الدولة الاسلامية ـ حرية المؤمنين الحقيقيين فى دولة النبى الاسلامية ـ مواقف المؤمنين الحقيقيين فى دولة النبى الاسلامية ـ حرية المؤمنين المسالمين الكافرين عقيديا فى دولة النبى الاسلامية )
الباب الثالث :
الشورى ( الديمقراطية المباشرة )
مقدمة / الشورى فريضة إسلامية / الشورى الاسلامية هى حُكم الشعب وليس حكم الفرد / أولو الأمر فى الشورى الاسلامية / القرار للأغلبية فى الشورى الاسلامية / ثقافة الشورى الاسلامية )
الباب الرابع
علمانية الدولة الاسلامية
أولا : مقارنات :
الفصل الأول : الاسلام السلوكى هو جوهر العلمانية الاسلامية الفصل الثانى : قضية السيادة فى العلمانية الاسلامية وما يترتب عليها . الفصل الثالث : بين ( ضنك ) العلمانية الدنيوية و( سعادة ) العلمانية الاسلامية . الفصل الرابع : العلاقات الخارجية للدولة الاسلامية العلمانية . الفصل الخامس: التناقض بين الدولتين: الإسلامية والدينية .
ثانيا : الدولة الاسلامية وحقوق المواطن
الفصل الأول : الثروة بين المجتمع والفرد فى الدولة الاسلامية . الفصل الثانى : الحق المطلق للمجتمع فى الحكم وفق الشورى فى الدولة الاسلامية . الفصل الثالث : الحق فى القسط والحرية بين الجتمع والفرد . الفصل الرابع : الحق فى الأمن بين المجتمع والفرد .
الباب الخامس :
علمانية الشريعة فى الدولة الاسلامية
الفصل الأول : التوازن بين الفرد والمجتمع فى الشريعة الاسلامية
الفصل الثانى : مقدمة عن محدودية الإلزام للفرد فى الشريعة الاسلامية
الفصل الثالث : ثلاث مقالات عن الإلتزام الفردي فى تطبيق التشريع الاسلامى
الفصل الرابع : محدودية تدخل الدولة الاسلامية فى بيوت العبادة
الفصل الخامس : مدى تدخل الدولة الاسلامية فى عبادة الصلاة
الفصل السادس : لا تدخل مطلقا للدولة الاسلامية فى عبادة الصيام
الفصل السابع : حدود تدخل الدولة الاسلامية فى الزكاة المالية
الفصل الثامن : حدود تدخل الدولة الاسلامية فى فريضة الحج
الباب السادس:
كيف نقيم دولة اسلامية علمانية
الفصل الأول :
فى إقامة القسط أساسا للاسلام والدولة الاسلامية
الفصل الثانى :
الثقافة الاسلامية للتغيير الاصلاحى : حتى يغيّروا ما بأنفسهم
الفصل الثالث :
الثقافة الاسلامية للتغيير الاصلاحى : قهر الخوف بالتقوى
الفصل الرابع :
إقتلاع الخوف فى تجربة شخصية ( 1 ) ( 2 )
خاتمة كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ) :
شهادة على مصر فى هذا العصر :
الملاحق
مقالان سبق نشرهما فى التسعينيات دفاعا عن الأقباط :
1 ـ ( بناء الكنائس والدفاع عنها حق مقرر فى الاسلام )
2 ـ ( حق الأقباط فى القتال الدفاعى طبقا للشريعة الاسلامية )
مقدمة الكتاب
1 ـ أقام النبى محمد دولته الاسلامية الحقيقية ، والتى كانت نقطة إعتراضية فى العالم المعروف وقتها ، والذى كان يئن من الاستبداد والفساد والاستعباد . لذا لم يكن لهذه الجملة الاعتراضية أن تستمر ، وإذا كانت دولة الاسلام جزيرة وسط محيط من الاستبداد فلا بد أن تطغى أمواج المحيط على هذه الجزيرة لتصبح متسقة مع السائد فى العالم . وهذا ما تكفلت به قريش وجواسيسها الذين مردوا على النفاق ، ثم قفزوا على السلطة بموت النبى محمد عليه السلام فارتكبوا جريمة الفتوحات باسم الاسلام ، وفى القرون التالية تحولوا الى آلهة تحت عنوان الخلفاء الراشدين والصحابة المعصومين من الخطأ ، ينسبون اليهم أحاديث باطلة تأسّست بها أديانهم الأرضية. بهذا تمت إزالة ملامح الدولة الاسلامية وتحولت الى حكم مستبد تحصّن بأديان أرضية تحمل اسم الاسلام وتناقضه فى نفس الوقت.
2 ـ كان الغرب يعيش تحت الاستبداد السياسى والكنسى . وقد نجح الغرب ــ خلال قرون ــ فى التخلص من سيطرة الكنيسة واديانها الأرضية وتحالفها مع الاستبداد السياسى ، ونجح الغرب فى إقامة دول ديمقراطية تقترب من ملامح دولة النبى محمد من حيث الحرية الدينية والعلمانية وحقوق الانسان وحقوق المرأة والمواطنة . هذا بينما لا تزال دول المحمديين صريعة أديانها الأرضية وتحالف أربابها مع الاستبداد . وبهذا التحالف الشيطانى ــ بين اكابر المجرمين من الفراعنة ورجال الدين ــ ينتشر الخراب والقتال وتدمير الأوطان .
3 ـ وسبق التعرض لبعض لمحات الدولة الاسلامية الحقيقية القرآنية ، وما يناقضها فى تاريخ المسلمين وشرائعهم . وهذا الكتاب يتخصّص فى موضوع ماهية الدولة الاسلامية ليكون ردا على الفراعنة المحمديين ورجال دينهم ، وردا أيضا على على من يستغل دينا أرضيا ليصل به الى الحكم . وهذا ما يفعله الوهابيون الطموحون للسلطة وسائر تنظيماتهم العلنية والسرية . وهم جميعا يرفعون لواء الاسلام ظلما وعدوانا ، ونجحوا فى تشويه إسم الاسلام فى العالم . وهم لا يقلُّون أجراما عن الحكام المستبدين الذين يعملون فى الإطاحة بهم والحلول مكانهم .
4 ـ عملنا هو الجهاد السلمى فى إصلاح المسلمين بالتوعية بحقائق القرآن الكريم الذى اتخذوه مهجورا ، وفى التعريف بدولة الاسلام التى جاءت فى القرآن الكريم ملامحها .
ومن أسف أن دعوتنا الاسلامية القرآنية تواجهها قوى عاتية إقليمية وعالمية . القوى الإقليمية هى تحالف فراعنة المحمديين مع رجال الدين ، والقوى العالمية هى التى تستفيد من تخلّف المحمديين وتفرقهم وتنازعهم وتحاربهم ، ولا تريد لهم أن ينهضوا ، فبحروبهم تنتعش مصانع أسلحتهم .
5 ـ قدرنا أن نواجه الجميع ، وأن نبحر بسواعد عارية فى بحر متلاطم الأمواج . ولكننا مستمرون وناجحون ومنتصرون ، فربنا جل وعلا وعدا وعدا مؤكدا فقال جل وعلا : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) غافر ).
5 ـ ندعو الله جل وعلا أن يجعلنا من الأشهاد على قومنا .
الباب الأول :
القيم الأساس للدولة الاسلامية
الفصل الأول :
الاسلام والسلام : ( الدولة الاسلامية دولة مسالمة قوية ـ عالمية الاسلام ضد إنقسام العالم الى معسكرين ـ الإخاء الانسانى أساس الاسلام السلوكى بمعنى السلام )
الفصل الثانى :
العدل ( القسط ) والاحسان ( التسامح )
الفصل الأول :
الاسلام و السلام : الدولة الاسلامية دولة مسالمة قوية
مقدمة
1 ـ جاء فى العهد القديم
جاء فى سفر التثنية فى الأصحاح العشرين من عدد 10 وما بعده:
" حين تأتى من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير ، ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك ، بل عملت معك حربا ، فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك ، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء ، والأطفال ، والبهائم ، وكل ما فى المدينة وكل غنيمتها فتغنمها لنفسك ، وتأكل غنيمة أعدائك التى أعطاك الرب ألهك ، وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا ، التى ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا ، وأما مدن هؤلاء الشعوب التى يعطيك الرب ألهك نصيبا فلا تبقى منها نسمة ما ، بل تحرمها تحريما ، الحيثين ، والأموريين ، والكنعانيين والرزيين والحويين واليوسيين كما أمرك الرب ألهك ".
2 ـ وجاء فى أنجيل متى ، فى الأصحاح العاشر عدد 34 ــ :
" لا تظنوا أنى جئت لألقى سلاما على الأرض ، ما جئت لألقى سلاما ، بل سيفا ، فأنى جئت لأفرق الأنسان ضد أبية والأبنة ضد أمها والكنة عن حماتها وأعداء الأنسان أهل بيته ، من أحب أبا أو أما أكثر منى ، فلا يستحقنى ، ومن أحب أبنا أو أبنة أكثر منى فلا يستحقنى ومن لا يأخذ صليبة ويتبعنى فلا يستحقنى ومن وجد حياته يضيعها ، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها " .
3 ـ لو أتيح للمحمديين العبث بالقرآن الكريم وتحريف نصوصه لكتبوا فيه ما يجعل فتوحات الخلفاء الفاسقين دينا. عجزوا عن ذلك فافتروا أحاديث جهادهم الشيطانى .
4 ـ ونعطى تفصيلا :
أولا :
1 ـ على خلاف ما يفهم الجميع فان الجهاد فى الاسلام هو لتأكيد السلام، والسلام هو معنى الاسلام فى التعامل مع الناس فى داخل الدولة الاسلامية ، وفى التعامل مع الدول الأخرى خارجها . ولا بد أن تكون الدولة الاسلامية المُسالمة قوية ، لأنها لو كانت ضعيفة فإن ضعفها سيشجع من لديه رغبة توسعية وعتدية فى الاعتداء عليها .
2 ـ الدين السُنّى بالذات هو دين السيطرة والعُنف والهيمنة ، فهو نتاج حكم الخلفاء الفاسقين المستبدين أصحاب الفتوحات والامبراطوريات ، وفى هذا الدين تم ربط الجهاد الاسلامى بالاعتداء والفتوحات . وصنعوا أحاديث شيطانية ، وزعموا اكذوبة النسخ تتلاعب بآيات الله جل وعلا القرآنية لكى يتم لهم ادخال تشريعاتهم المناقضة للاسلام داخل الاسلام فى موضوع الجهاد وغيره.
3 ـ إلا إن أبرز ما فعلوه هنا هو ذلك الحديث الذى زعموا فيه أن النبى محمدا عليه السلام قال ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله)
هذا الحديث يناقض القرآن فى أكثر من ألف آية قرآنية تؤكد أنه لا اكراه فى الدين وأن الحرية مطلقة فى الايمان والكفر. بل إنه يناقض حقائق التاريخ وحقائق الواقع حيث لم يتم تطبيق هذا الحديث الكاذب طوال تاريخ المسلمين وإلا كانوا قد أكرهوا جميع غير المسلمين على دخول الاسلام ، وهذا لم يحدث بدليل وجود أقليات من أهل الكتاب حتى الان ووجود تشريعات فى الأديان الأرضية نفسها عن ( أهل الذمة ) .
4 ـ ومع كل الأدلة القرآنية والتاريخية والواقعية التى تقطع بكذب هذا الحديث إلا أنه لا يزال دستور الارهاب فى عصرنا لدى متطرفى الدين السنى . فهو لا يزال موجودا فى البخارى وبقية كتب السنة ، ولا يزالون يرددونه فى المساجد والتعليم الدينى.. ولا يزال يستشهد به أسامة بن لادن وغيره ، لأنه دستورهم فى تقسيم العالم الى معسكرين متحاربين : معسكرهم الذى يجعلونه معسكر الاسلام والايمان ، ومعسكر الكفر الذى يجعلونه دار الحرب. ومع أن الاشارة الى تشريع الجهاد فى الاسلام قد تكررت من قبل فى سياق الفصول السابقة فاننا لمجرد التذكير نكر بعض ما سبق ونأتى بتفصيلات أخرى تؤكد على تناقض الجهاد الاسلامى الذى يستهدف حقن الدماء مع الارهاب الذى يقتل المدنيين طبقا لتشريعات العصور الوسطى والتى ينفذها حاليا الارهابيون الوهابيون.
تشريعات الجهاد و القتال في الاسلام : لتدعيم السلام والحرية
1 ـ سبق التاكيد على ان الاسلام فى التعامل مع الناس هو السلام ، وأن الايمان فى التعامل مع الناس هو الأمن والأمان. وأن كل انسان مسالم ويأمنه الناس فهو مؤمن مسلم بغض النظر عن دينه. وأن كل إنسان ظالم قاتل فهو كافر مشرك بسلوكه. وفي الاطار السابق نفهم تشريعات الجهاد في الاسلام .
2 ـ والجهاد في مصطلح القرآن الكريم يعني بمفهوم عصرنا ( النضال ) وبذل الجهد والطاقة ، ولكن ليس طلبا للدنيا ، بل ابتغاء مرضاة الله جل وعلا بالنفس والمال .
2 / 1 : وقد يكون ذلك بالدعوة السلمية بمجرد قراءة القرآن كقوله سبحانه وتعالي ( فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) الفرقان ) .
2 / 2 : وقد يكون الجهاد دفاعا حربيا ضد عدو مهاجم ، بدأ بالعدوان .
3 : هنا تتوالي تشريعات القرآن الكريم لتضع احكامه وقواعده واهدافه .
3 / 1 : وعموما فالاحكام في التشريعات القرآنية هي (أوامر ) تدور في اطار ( قواعد تشريعية) ،وهذه القواعد التشريعية لها ( مقاصد) أو اهداف ،أو غايات عامة ،. فالامر بالقتال له قاعدة تشريعية وهوان يكون للدفاع فقط ، ورد الاعتداء بمثله او بتعبير القرآن (في سبيل الله )،ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين ،كي يختار كل انسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وامان حتي يكون مسئولا عن اختياره امام الله تعالي يوم القيامة .
4 ـ ونضرب بعض الامثلة :
4 / 1 : يقول سبحانه وتعالي ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة )، فالامر هنا (قاتلوا) ، والقاعدة التشريعية هي ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .
4 / 2 : وتتكرر القاعدة التشريعية في قوله تعالي ( فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) ( البقرة ). أى إن ردّ الاعتداء يكون بالمثل ، وهذا ما ينبغى على المتقين .
4 / 3 : اما المقصد او الغاية التشريعية فهي في قوله سبحانه وتعالي : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) البقرة ) أي ان منع الفتنة هي الهدف الاساس من التشريع بالقتال . والفتنة في المصطلح القرآني هي الاكراه في الدين والاضطهاد في الدين فيما يخص التعامل بين الناس حين يضطهد القوى الباغى الضعيف فى دينه ليرغمه على تغييره، أى يفتنه فى الدين ، وهذا ماكان يفعله المشركون في مكة ضد المسلمين يقول سبحانه وتعالي : ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) البقرة ) إعتادوا الغارة على المؤمنين فى المدينة ليفتنوهم ويردوهم عن دينهم . والله جل وعلا وصف الفتنة بأنها أكبر من القتل . ووصفها أيضا بأنها ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ )(191) البقرة ).
4 / 4 : ويلاحظ فى نفس التشريع أن إستمرارية القتال الدفاعى مرهونة باستمرارية الهجوم الحربى ، فإن توقف المعتدون توقف الدفاع ، قال جل وعلا :
4 / 4 / 1 : ( فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) البقرة ).
4 / 4 / 2 : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) البقرة ) .
5 ـ وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة او الاضطهاد الديني يكون البشر قد تحملوا مسئوليتهم عن حريتهم الدينية أمام مالك يوم الدين سبحانه وتعالي ، فلا يعتذر أحدهم بأنه وقع عليه إكراه فى الدين . وهذا ما ينبغى أن يكون ، لذا كان للقتال الدفاعى فى الاسلام مقصد أو غاية هى تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد والإكراه فى الدين ، لأن الله جل وعلا هو مالك الدين ( وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) النحل ) وهو جل وعلا مالك يوم الدين ، وهو الذى سيحكم بين البشر جميعا فى الدين يوم الدين ، وهو جل وعلا القائل : ( قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) الزمر ). الذى يصادر الحرية الدينية ويقيم للناس محاكم تفتيش وقوانين لازدراء الدين إنّما يجعل يوما للدين فى الدنيا قبل يوم الدين ، ويغتصب سُلطة الله جل وعلا ، أى يزعم ـ صراحة أو ضمنا ــ الالوهية ، وذلك معني قوله سبحانه وتعالي ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) (193) البقرة ) ، وتكرر هذا فى سورة ( الأنفال ) : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) . ويلاحط أيضا أن الآية تنتهى بنفس التنبيه : ( فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) الانفال ) أى ينتهى الدفاع بانتهاء الهجوم .
6 ـ تشريعات القتال في الاسلام تتفق مع مفهوم الاسلام والايمان والمسلم المؤمن ،او بمعني اخر هي تشريعات تؤكد علي السلام وتحميه من دعاة العدوان ،وتؤكد علي حرية العقيدة وتفويض الامر فيها له سبحانه وتعالي يوم القيامة وتحميها من دعاة التعصب والتطرف واكراه الاخرين في عقائدهم واختياراتهم.
7 ـ تشريعات القرآن جاءت بتأكيدات اخرى فى الصلة بين القتال فى الاسلام وبين الاسلام السلوكى ( السلام والأمن والأمان ) . ونعطي لذلك أمثلة من القرآن الكريم :
7 / 1 : في سورة النساء وهي تتحدث عن حرمة قتل انسان مسالم مؤمن مأمون الجانب ،يقول جل وعلا : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)النساء ) أي لايمكن ان يقتل مؤمن مسالم مؤمنا مسالما الا علي سبيل الخطأ، او بمعني اخر لا يمكن ان يتعمد المؤمن المسالم قتل المؤمن المسالم الاخر، ثم تتحدث الاية عن الدية المفروضة واحكامها . وفى الآية التالية يقول جل وعلا : عن عقوبة قتل المؤمن المسالم : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) النساء ) فالذي يقتل مؤمنا مسالما جزاؤه الخلود في جهنم مع العذاب العظيم ولعنة الله وغضبه ،وهي عقوبات فريدة قلما تجتمع فوق رأس احد من الناس يوم القيامة . ثم يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) النساء )، وهنا يأتى الحديث عن ذلك المؤمن المسالم الذي تحرص تشريعات القرآن علي حقه في الحياة أنه في ساعة المعركة بين جيش كافر مهاجم معتدى وجيش مسلم مدافع ـ يجب حقن دم جندى بمجرد نطقه بالسلام ، دليلا على إسلامه السلوكى . أى يعطى رب العزة جل وعلا مسوغا للنجاة لكل مقاتل في الجهة المعادية فيكفي ان يقول (السلام عليكم ) ، فاذا القاها حقن دمه ، لإاى إنسان يقول (السلام) فهو مسلم له حق الحياة ، حتي في ساعة الحرب ، واذاتعرض للقتل فان قاتله يستحق الخلود في النار والعذاب العظيم ولعنة الله وغضبه .
7 / 2 : فى سورة التوبة ، والتى بدأت بالبراءة من الكافرين ناقضى العهد . ومع ذلك فقد وضعت تشريعا للمحارب فى جيش العدو المعتدى وهو يقاتل المسلمين ثم بدا له أن يراجع نفسه فما عليه الا ان يعلن الاستجارة ،وحينئذ تؤمن حياته او يُعطي الامان، ويسمعونه القرآن حتي يكون سماعه للقرآن حجة عليه يوم القيامة ،ثم علي المسلمين ايصاله الي بيته في امن وسلام، قال جل وعلا : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6).
7 / 3 ـ أما إذا وقع فى الأسر فى ميدان المعركة فالاسلام يحفظ حياته ويطلق سراحه بالافتداء أو بالعفو عنه . قال جل وعلا : ( فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (4) محمد ) وإذا تم العفو عنه تحول الى ضيف أو ابن سبيل له على المسلمين حق الرعاية وحقوق مالية وعينيية فى الصدقة وغيرها الى أن يصل الى وطنه.
دولة إسلامية قوية
الدولة الاسلامية لا بد أن يرتبط التمسك بالسلام لديها بالاعداد العسكرى حتى لا يطمع العدو المعتدى فى الهجوم عليها. وبذك الاستعداد العسكرى يفكر المعتدى أكثر من مرة قبل أن يبادر بالهجوم. إذن فضعف الدولة الاسلامية المسالمة هو الذى يشجع هلى الاعتداء بينما قوتها هى التى تردع الدولة ذات الطبيعة العدوانية من الاعتداء. ولذلك فان الاستعداد العسكرى فى الدولة الاسلامية ـ المسالمة بطبعها والتى لا تبدأ حربا ولا تعتدى على الآخرين ـ هو الذى يرسّخ السلم وهو الذى يحقن دماء المعتدين والمسالمين على السواء, وفى نفس الوقت فإذا جنح المعتدى للسلم فلا بد من الاستجابة له حتى لو كان مخادعا. لأن الله سبحانه وتعالى هو الذى يتكفل بحماية طالب السلم والساعى له. قال جل وعلا : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) الأنفال ).
أخيرا :
1 ـ هذا هو الجهاد فى الاسلام .
2 ـ أما الخلفاء الفاسقون وصحابة الفتوحات فقد اعتدوا على من لم يعتد عليهم وسلبوا الأموال وقتلوا الأسرى وسبوا الأطفال والنساء وفق ما كان سائدا فى عصرهم . أى اتبعوا شريعة العصور الوسطى و تجاهلوا شريعة الاسلام ، ثم بعدها صاغ اللاحقون من شريعة العصور الوسطى وعقائدها أديانا أرضية ونسبوها للاسلام. وجاءت الوهابية فى عصرنا الراهن تبعث من جديد أشرس الأديان ألأرضية للمسلمين وهو الدين السنى الحنبلى.
3 ـ أعادوا العمل بما جاء فى العهد القديم والعهد الجديد المُشار اليه فى البداية .
التعليقات
بن ليفانت
انجيل متي
ماذكر في المقال عما جاء فى أنجيل متى ، فى الأصحاح العاشر عدد 24 ليس صحيحًا على ما أعتقد. النص كالتالي:
إنجيل متى الفصل / الأصحاح العاشر
12 وحين تدخلون البيت سلموا عليه .
13 فإن كان البيت مستحقا فليأت سلامكم عليه، ولكن إن لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم إليكم .
14 ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فاخرجوا خارجا من ذلك البيت أو من تلك المدينة، وانفضوا غبار أرجلكم.
15 الحق أقول لكم: ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالا مما لتلك المدينة.
16 ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام .
17 ولكن احذروا من الناس، لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس، وفي مجامعهم يجلدونكم.
18 وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادة لهم وللأمم .
19 فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به.
20 لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم .
21 وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ولده، ويقوم الأولاد على والديهم ويقتلونهم.
22 وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص .
23 ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى. فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان .
24 ليس التلميذ أفضل من المعلم، ولا العبد أفضل من سيده .
25 يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه، والعبد كسيده. إن كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول ، فكم بالحري أهل بيته.
26 فلا تخافوهم. لأن ليس مكتوم لن يستعلن، ولا خفي لن يعرف.
27 الذي أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور، والذي تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح .
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا اخى بن ليفانت . واقول:
الخطأ هو فى الأرقام . وتم تصحيح الأرقام . أنقله مصححا :
العهد الجديد / إنجيل متى :
الفصل / الأصحاح العاشر:
34 لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا.
35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها.
36 وأعداء الإنسان أهل بيته.
37 من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني. 38 ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني .
39 من وجد حياته يضيعها ، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها .
40 من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني .
41 من يقبل نبيا باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ .
42 ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحق أقول لكم: إنه لا يضيع أجره.
عالمية الاسلامضد إنقسام العالم الى معسكرين
أولا :
إسلاميا من وجهة نظر قرآنية
نزل القرآن الكريم للإنس والجن كما جاء فى سورتى الأحقاف والجن . ويكفى :
1 : قوله جل وعلا للبشر جميعا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات ) أى انه برغم أختلافاتهم العرقية واللسانية والاجتماعية والاقتصادية فقد خلقهم جميعا من أب واحد وأم واحدة ، أى هم أخوة ينتمون لنفس الأب والأم ، وقد جعلهم أجناسا مختلفة وشعوبا مختلفة لا ليتنازعوا ويتقاتلوا ولكن ليتعارفوا ، والتعارف لا يكون الا بالعلاقات السلمية والتلاقى الحضارى وقبول الآخر والاستفادة من تجربته الانسانية وتراثه الحضارى ، والانفتاح على ثقافته والتسامح فى الاختلاف معه ايمانا بأن التنوع مطلوب لازدهار الحضارة العالمية الانسانية، اما من ناحية التدين فان أكرم الناس عند الله تعالى هو الأكثر تقوى ، وليس الاكثر ثروة او جاها او ذكاءا أو علما او حسبا ونسبا اوجمالا أو صحة او شبابا. وهذه التقوى سيكون مرجع الحكم عليها لله تعالى وحده يوم القيامة ، ومن يزعم تزكية نفسه الآن فقد عصى الله تعالى الذى قال (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) النجم 32 ).
2 ـ مع أنه نزل بلسان عربى فلم ترد فيه كلمة عربى تدلُّ على العرب . بل جاءت صفات عامة عن المؤمنين والكافرين وما يتفرع عنها . أى هى صفات تنطبق على من يستحقها فى جميع البشر من وقت نزول القرآن الكريم الى قيام الساعة . إنه حديث يتوجه للناس قائلا ( يأ أيها الناس ) ( يا بنى آدم ) ( يا أيها الانسان ) . وحتى حين يتحدث الى طائفة أو مجموعة فانه يخلصها من محلية الزمان والمكان ليصبح الخطاب عاما لكل من يتصف بهذه الصفة فى كل زمان ومكان قيقول مثلا ( يا أيها الذين ) كذا ..وهذا منطقى فى دين الله تعالى ، فالله تعالى هو رب الجميع ، وهو خالق الجميع ، واليه وحده المرجع يوم القيامة حيث سيحاسب الجميع ، وسيبدأ الحساب بحساب الرسل جميعا وهم حملة "أمة الاسلام ": أو القيم العظمى للاسلام (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) المائدة 109 ) (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الزمر69 ).
ثانيا :
تقسيم العالم فى الدين السنى الى معسكرين والردعليها قرآنيا
1 ـ طبقا للحديث الكاذب الذى يقول ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله و.. ) فان من مسوغات الجهاد فى عقيدة الدين السنى تقسيم العالم الى معسكرين: معسكرالاسلام والايمان ومعسكر العدو ، وهو دار الحرب الت يجب الجهاد ضده الى يوم القيامة. هذا هو السائد فى الفقه التراثى ولدى المتطرفين الوهابيين اليوم حيث يجعلون أنفسهم معسكر الايمان والسلام والاسلام ، ويجعلون الغرب معسكر الكفر ويسمونه دار الحرب. وفى هذا التقسيم يوضع غير المسلمين من الأقليات الدينية موضع الشبهة والاضطهاد ، وينظر اليهم باعتبارهم خونة ينتمون للعدو الخارجى فى معسكر الاعداء أو (دار الحرب ) .
2 ـ للانصاف فان ذلك التقسيم لم يكن قاصرا على المحمديين وحدهم بل كان فى أوروبا العصور الوسطى ، وهى ثقافة تأسّست على أديان أرضية هنا وهناك تقوم على التعصب الدينى المذهبى فى الداخل والحروب الدينية مع المعسكر الآخر فى الخارج. ويدفع الثمن الأقليات الدينية فى المعسكرين هنا وهناك ، كما يدفعها الطرف المهزوم . الواقع انه كلما تحمس أحدهم لدينه وفق هذه الثقافة العصرأوسطية ازداد كراهية للآخر ورغبة فى استئصاله. وكان الأسبان هم الأكثر تعصبا فى العصور الوسطى .
2 ـ أمة محمد فى مقابل أمة المسيح
2 / 1 : المسيحيون يعتقدون ان المسيح عليه السلام هو المخلّص الذى يؤلهونه ، وفى غمار الحروب الصليبية والاكتشافات الجغرافية والابادة الجماعية للسكان الأصليين كان الأسبان يرتكبون تلك الفظائع باسم المسيح ، وعموما تم الاستعمار فى العصر الحديث لمعظم العالم الاسلامى وبقية العالم تحت سفن تحمل الصليب، وتتغنى بالمسيحية. هذا بينما المسيحية فى اخلاقياتها تقوم على الحب والتسامح. والتسامح المسيحى المقترن بالصبر والتضحية نراه تاريخا ناصعا فى حياة أجدادنا المصريين الأقباط. وفى هذا تختلف المسيحية المصرية عن المسيحية الغربية الأوربية ، وخصوصا الأسبانية.
2 / 2 : المحمديون فى أديانهم الأرضية يؤلهون محمدا ، يعتقدون بحياته الأزلية فى قبره ، ويحجون اليه ، ويصلون له " السنن" ويعتقدون أنه سيشفع فيهم ويدخلهم الجنة ، ومع أن شهادة الاسلام واحدة ، هى " لا اله الا الله "، يقول سبحانه وتعالى لخاتم النبيين محمد عليه السلام : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ) محمد 19 ) ، الا أن المحمديين أدخلوا ( محمدا ) فى شهادة الاسلام الواحدة ، وجعلوها شهادتين ،لا تتم الأولى بدون الثانية ، فيقولون ايضا " ومحمد رسول الله "، وبذلك يعصون الله تعالى الذى أمرهم أربع مرات فى القرآن الكريم بألا يفرقوا بين الرسل : ( البقرة 136 ، 285 ) ( آل عمران 84 ) ( النساء 150 : 152) . والمفهوم انك حين تشهد أنه لا اله الا الله فقد آمنت بكل الرسالات السماوية التى نزلت لتؤكد هذه الحقيقة :أنه لا اله الا الله ، وتكون قد آمنت بكل رسل الله تعالى وأنبيائه بدون تفريق بين أحد منهم لأن كل واحد منهم جاهد وناضل وأوذى فى سبيل هذه الحقيقة . بل ان الله سبحانه وتعالى أمر خاتم النبيين أن يعلن أنه ليس بدعا من الرسل وليس مميزا عن أحد منهم ، بل لا يعلم الغيب الذى كان يعلم بعضه بعض الرسل السابقين وانه مجرد متبع للوحى ومجرد نذير مبين( الأحقاف 9 )، ولكن المحمديين يرفعونه الى مستوى الله سبحانه وتعالى ، ففى المساجد تجد اسمه مساويا ومناظرا لاسم الله تعالى ، ويذكرونه فى الأذان مع الله جل وعلا ، وهو الغالب على قلوبهم فالصلاة عليه وحده ، واذا قلت النبى فليس فى الذاكرة والقلب غير( محمد ) وحده ، واذا قلت الرسول فهو وحده الرسول مع تجاهل تام لبقية الانبياء والرسل ، اللهم الا فى معرض تفضيل محمد عليهم فهو " سيد المرسلين " أى الاههم ، وهو"أشرف المرسلين" ، وهو "خير ولد آدم ولا فخر" ، وقد تم تفضيله "على الأنبياء بسبع" ، وان الله تعالى قد خلقه من نوره جل وعلا، وأنه أول خلق الله ، وانه مخلوق قبل آدم ، وكان "نبيا وآدم بين الماء والطين" ، أو و" آدم لا ماء ولا طين " كما تقول الأحاديث و الأساطير الصوفية فيما يسمى بالحقيقة المحمدية . و فى الصلاة يقولون التحيات تعظيما لمحمد ، ويجعلون هذه التحيات مكان التشهد المذكور فى قوله سبحانه وتعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) آل عمران ).النهاية أنهم يعتقدون أنهم " أمة محمد " أى بطريق غير مباشر يجعلونه الاها لهم ويعتبرون أنفسهم الأفضل حظا بهذا قائلين " يا بختنا بالنبى ".
كل ذلك التفضيل لمحمد على من سبقه من الأنبياء والمرسلين مخالف للاسلام وللعقيدة التى ناضل محمد طيلة حياته من أجلها . كل هذا التأليه لمحمد وتمييزه عمن سبقه من الأنبياء والمرسلين انما هو خيانة لدعوة محمد ودينه ، وعصيان للاسلام العظيم الذى لا مجال فيه لتقديس بشر أو حجر. ولكن هذا التقديس لمحمد هو الأساس لجعل المحمديين (أمة محمد ) تواجه ( أمة المسيح) ، وكل منهما تكفّر الأخرى .
ثالثا :
مصطلح " أمة محمد " يناقض الاسلام
1 ـ ( أمة محمد ) جاءت به أحاديث افتراها المحمديون ، خصوصا أحاديث الشفاعة ، وفى بعضها يزعمون أن النبى محمدا ينادى ربه يوم القيامة قائلا ( أمتى أمتى ) فيرد عليه رب العزة قائلا ( بنفس النغمة والوزن ) : ( رحمتى رحمتى ) ، وبالطبع يتحيز رب العزة ـ بزعمهم ـ الى أمة محمد وفق هذا الافتراء المناقض للاسلام.
2 ـ مصطلح " أمة محمد " يناقض الاسلام ويجعله دينا لبعض الناس أو لمعسكر ضد معسكر آخرن كما يناقض ( لااله الا الله ) حين يجعل محمدا الاها مع الله . ويناقض القرآن الكريم الذى تحدث عن الأنبياء السابقين أكثر مما تحدث عن محمد، بل وامره باتباع هدى السابقين من الأنبياء ، بل جعله تابعا لملة ابراهيم عليه السلام ، وأكّد ان تشريعاته فى العبادة من صلاة وصيام وصدقة وحج انما هى امتداد لملة ابراهيم ، وقد جاء محمد رسولا لاصلاح التحريف الذى لحق بهذه الملة.
3 ـ مصطلح " أمة " :
3 / 1 : يأتى فى القرآن الكريم بمعانى شتى كلها تدل على مجموعة أشياء : فقد يدل مصطلح أمة على مجموعة سنوات ( هود 8 يوسف 45) أو مجموعة خصال حميدة ( النحل 120) أو مجموعة من العادات والتقاليد والثوابت الشركية ( الزخرف 22 ، 23 ) أو مجموعة من البشر فى زمان محدد ومكان محدد ( البقرة 128 ، 134 ).
3 / 2 : إستعمل القرآن الكريم كلمة أمة لتدل على دعوة كل الأنبياء فى كل عصر، يقول سبحانه وتعالى مخبرا عن وحيه لكل الأنبياء فى كل زمان (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 52 ) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( 53 ) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ( 53 ) المؤمنون ). فكل الأنبياء أمة واحدة لهم رب واحد يجب أن نتقيه وحده . هذا هو ما يجب أن يكون ، ولكن الذى يحدث هو تدخل السياسة والصراع على حطام الدنيا فيتفرق الأتباع الى أحزاب وملل ونحل وطوائف ، أى الى أديان أرضية متنازعة متحاربة متحزبة كل حزب بما لديهم فرحون. وهذا هو مجمل التاريخ الدينى بعد كل نبى قبل القرآن الكريم وبعده.
3 / 3 ـ ويقول سبحانه وتعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( 92 ) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) ( 93 ) الأنبياء ) هذه الآيات جاءت فى سورة الأنبياء بعد ان قًصّ الله تعالى قصص الكثيرين منهم ثم قال معقبا ان أولئك الأنبياء أمة واحدة لهم رب واحد يجب عبادته وحده ، ولكن الذى حدث هو الشقاق ، ومرجع الحكم على هذا الشقاق والاختلاف العقيدى هو يوم القيامة عندما يرجع الجميع الى الله سبحانه وتعالى.
4 ـ إن الدين الحقيقى لكل الأنبياء هو الاسلام ـ بمعنى السلام فى التعامل مع البشر والانقياد والطاعة لله سبحانه وتعالى وتأليهه وحده ، وكل نبى أرسله الله تعالى بلسان قومه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ابراهيم 4 ) ، اى ان كل نبى كان يعبر عن الاسلام بلغة قومه .وكل نبى كان يؤكد انه لا اله الا الله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء 25 ) واذن فأمة الاسلام. ليس الا مجموعة من المبادىء والمثل العليا تتركز فى التقوى فى العقيدة بالتمسك بلا اله الا الله والتقوى فى السلوك بالتزام العمل الصالح واجتناب الشرور والآثام والظلم والبغى والمعاصى ، وهذه المبادىء تبدأ بنوح وتنتهى بمحمد عليهما وعلى جميع الأنبياء السلام.
5 ـ يعزز ذلك ان مصطلح ( أمة ) جاء بمعنى مجموعة من الأخلاق الحميدة تركزت فى أبى الأنبياء ابراهيم عليه السلام ، الذى مدحه رب العزة بما لم يمدح به نبيا من الأنبياء ،وضمن سياق مدحه قال عنه رب العزة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) النحل 120 ) أى كان أمة من الأخلاق الحميدة السامية. وابراهيم عليه السلام من أعلام الأنبياء فى الاسلام ( اقرأ الآيات من 127 الى 137 من سورة البقرة). وعليه فان ابراهيم ـ وما يتمسك به من قيم وسلوكيات وعقيدة دينية حنيفية مخلصة لله تعالى ـ يقع فى واسطة العقد فى أمة الاسلام التى لا تعنى مجرد بشر ولكن تعنى نفس القيم والسلوكيات التى تمسك بها كل الأنبياء عليهم جميعا السلام .
6 ـ وفى المقابل فان ثوابت الشرك وتقديس الأسلاف وما وجدنا عليه آباءنا " وما أجمعت عليه الأمة " يعتبر فى مصطلح القرآن ( أمة). فالأمة هنا هى مجموعة من التقاليد المتوارثة التى يدافع عنها المترفون المتحكمون فى المجتمع مع أعوانهم من رجال الدين والمثقفين المستفيدين من بقاء الحال الظالم على ما هو عليه. اقرأ فى ذلك قوله سبحانه وتعالى يؤكد حقيقة اجتماعية انسانية : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ( 22 ) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ( 23 ) الزخرف ). اذن " أمة الاسلام " هى قيم الاسلام فى العقيدة والسلوك. وهى قيم مطروحة أمام البشر جميعا للتمسك بها مهما اختلفت الزمان والمكان واللغة والثقافة والعنصر والسلالة والذكورة والأنوثة والوضع الاجتماعى والاقتصادى. باختصار: هى قيم عالمية انسانية انزلها الله تعالى لكل البشر فى كل الرسالات السماوية ، وقالها كل الأنبياء ، وتمناها كل المصلحين الحقيقيين ، ويتبعها كل الأبرار من البشر فى كل زمان ومكان ، مع وجود الأغلبية التى تختلف و تتنازع فى الدين وتجعله شيعا وأحزابا.
التعليقات
يحيى فوزى نشاشنى :
ومع ذلك فهناك تساؤل كبير هو الآخر يتلخص في هذا السؤال : كيف حدث للمسلمين جميع وبدون استثناء ، كيف حدث أنهم لم يهتموا كثيرا بالاية القرآنية التحذيرية ؟ تلك التي يحذرنا فيها سبحانه وتعالى عن مغبة أن نقع في زمرة المشركين ؟ نعم لقد صنفهم بما يلي ( ....... لا تكونوا من المشركين من الذين فرقوادينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) . ألسناجميعا وبدون استثناء تحت هذه الصفة السيئة ؟ ولماذا سكتنا جميعا ؟ ولماذا فضلنا جميعا أن نبقى قابعين في خندقنا ولا نريد عنه حولا ؟ كل منا ماكث في خندق مذهبه أو شيعته أو ملته ؟ يبقى هذا السؤال سيدا إلى ما شاء الله أو إلى ما شئنا أن يشاء الله.....
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ يحيى ، وأكرمك الله جل وعلا
كنت سنيا ضمن فرقة من المحمديين ، وكنت أؤمن بانقسام العالم الى معسكرين . وكنت أحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ، ولكن بينه وبين قلبى حجاب . طلبت الهداية وتوجهت للقرآن الكريم مخلصا فوجدت فيه الهداية ، واصبح إمامى ومحور حياتى ، وتغيرت به حياتى . أرجو أن أظل متمسكا به الى آخر لحظة فى حياتى.
الفصل الثالث :
الإخاء الانسانى أساس الاسلام السلوكى بمعنى السلام
أولا :
تفصيلات ميثاق الأمم المتحدة جاءت فى إيجاز وإعجاز فى النصف الأول من هذه الآية الكريمة فى قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) ( الحجرات 13 ) والنصف الآخر عن الاسلام القلبى أو التقوى والذى مرجعه الى الله جل وعلا يوم الدين . قال جل وعلا : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات ). ونعطى تدبرا سريعا فى النصف الأول الخاص بالاسلام السلوكى :
1 ـ يتوجه الخطاب الالهى للبشر جميعا من جيلهم الأول الى نهاية العالم ، ب ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) . هم جميعا ( الناس ) بلا أى تفرقة .
2 ـ يقول الخالق جل وعلا فى خطاب مباشر لهم جميعا ( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ). والتعبير هنا ب( إنّا ) المؤكدة ، لم يقل ( لقد خلقناكم ) .
3 ـ ثم هم جميعا أخوة من أب واحد وأم واحدة . والذى خلقهم هو جل وعلا الذى جعلهم شعوبا وقبائل لكى يتعارفوا سلميا لا لكى يتقاتلوا ، سواء كانوا شعوبا مستقرة أو قبائل متجوّلة .
4 : هنا الأخُوّة الانسانية فى أعلى مستوياتها والتى يتغنى بها الحالمون من البشر ، والتى قامت بتفصيلاتها المواثيق الدولية بعد نزول القرآن الكريم بأربعة عشر قرنا .
وهذه هى الأخوة على مستويات ثلاثة :
4 / 1 : مستوى النسب الأعلى لآدم أب البشر ، وهنا نفهم الخطاب الالهى لهم جميعا ب ( يا بنى آدم ) بقوله جل وعلا وعظا ونُصحا فى الدنيا والآخرة :
4 / 1 / 1 : ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) الأعراف )
4 / 1 / 2 : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) الأعراف ).
4 / 1 / 3 : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) الأعراف ).
4 / 1 / 4 : وسيقول جل وعلا لهم تأنيبا فى الآخرة : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) يس ).
4 / 2 : مستوى التكريم لبنى آدم جميعا على قدم المساواة بلا أى تفرقة على أساس اللون والعرق والنسب والغنى والفقر أو النوع ( ذكرا أو أُنثى ) . قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) الاسراء ).
4 / 3 : الأخوة فى دين الاسلام السلوكى .
4 / 3 / 1 : كانت القبائل العربية تتكسب من الإغارات على بعضها ، والثارات بينها مستمرة فيما يُعرف ب ( أيام العرب ) . ثم فى النهاية دخلوا أفواجا متتابعين فى السلام أو الاسلام السلوكى . قال جل وعلا لخاتم النبيين فى أواخر ما نزل من القرآن الكريم : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر ). الكلام هنا عن الاسلام السلوكى بمعنى السلام الذى دخلوا فيه أفواجا . وهذا هو الذى رآه النبى محمد عليه السلام . لم يكن عليه السلام يعلم غيب القلوب ، وكان من المؤمنين فى المدينة ( الصحابة ) من كان مؤمنا بالاسلام السلوكى فقط ، ومدمنا على الخمر والميسر ولعب الأزلام والعكوف على الأنصاب أو القبور المقدسة ، يعنى كان كافرا بالاسلام القلبى العقيدى ، وقد قال لهم رب العزة جل وعلا يعظهم فى أواخر ما نزل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ). نرجو تدبر هذه الآيات الكريمة من فضلكم .!
4 / 3 / 2 : نزلت الدعوة للكفار المعتدين ناقضى العهود والمواثيق بأن يعودوا الى الاسلام السلوكى بمعنى السلام ، وهذه هى التوبة الظاهرية ، وتعنى هنا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بمجرد عودتهم للسلام . وبها يكونون أخوة فى دين الاسلام السلوكى . قال جل وعلا : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) التوبة ) .
ثانيا :
1 ـ تغيّر هذا بما فعله أبو بكر الزنديق بحرب من رفض دفع الاتاوة له ، فيما يعرف بحرب الردّة ، هاجمهم وقاتلهم وسبى نساءهم وحرّقهم ، إعتبرهم ( الآخر ) . فلما أذعنوا له ، اشركهم فى الفتوحات ، والتى إعتبر الأمم الأخرى التى لم تعتد عليه هم ( الآخر) الذى يستحل قتله وقتاله وسلب أمواله وسبى نسائه وأطفاله وإحتلال أرضه . وارتبط وصف هذا الآخر بالكفر . وهذا ما يتردد فى وصف تلك الشعوب المقهورة إذا ثارت طلبا لحريتها . من يومها ـ ودائما ـ يتجه الجهاد عندهم نحو هذا ( الآخر) .
2 ـ الآخر فى الاسلام هو كل خارج عن الاسلام السلوكى . فى الداخل أو فى الخارج .
2 / 1 : فى الداخل : داخل الدولة الاسلامية يتمتع الناس بالمواطنة على أساس السلام فقط . يتمتعون بكل حقوقهم من حرية الدين المطلقة وحرية المعارضة السلمية المطلقة ، ويتأكد هذا مما جاء فى القرآن الكريم عن المنافقين ومُعظم الصحابة المؤمنين . بالتالى فإن من يخرج على هذه الدولة من الداخل إنما يكون محاربا لله جل وعلا ورسوله ساعيا فى الأرض بالفساد. وعقوبته هائلة إن لم يتب مقدما . قال جل وعلا : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) المائدة ) .
2 / 2 : فى الخارج : الدولة التى تعتدى على الدولةالاسلامية المُسالمة . هنا نتذكر قوله جل وعلا : ( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة ). فالدولة المخالفة فى الدين ولكن مسالمة يجب التعامل معها بالبرّ والقسط . أما الدولةالمعتدية فيحرم موالاتها وتأييدها فى سياستها العدوانية .
أخيرا
لمجرد التذكير
1 ـ الاخوان المسلمون أصدروا قرارا بأنهم وحدهم المسلمون ، وأنهم ( إخوان ) ، والآخر هو غيرهم ، سواء من المحمديين أو من المسيحيين . واتجهوا بالجهاد السلفى الى هذا الآخر ، وقام حسن البنا بتكوين جهازه السرى للإغتيال ، فاغتال بعض المشاهير وإغتال الكثيرين من غير المشاهير . وإعتاد أن يتبرأ علنا من أتباعه حين يتم ضبطهم متلبسين ، فيقول ( ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ) .
2 ـ الاخوان المسلمون زرعهم عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الثالثة الراهنة . أسسّها بسواعد أتباعه الأعراب الذين أسماهم ( الاخوان ). فلما بدأ التناحر بينهم وبينه قام عملاؤه بنشر الوهابية فى مصر عبر تحويل الجمعية الشرعية الى جمعية وهابية ، ثم تكوين جماعة الشبان المسلمين وجماعة أنصار السُنّة ، وأخيرا جماعة الاخوان المسلمين . وتحالف الاخوان مع ( الضباط الأحرار ) فى انقلاب 1952 ، ثم تآمروا على ( عبد الناصر ) فعصف بهم ، فهرب معظمهم الى السعودية ، ثم تآمروا على السعودية فكان الانشقاق بينهم وبين السعودية ، مع إنتمائهم الى نفس الدين الوهابى .
3 ـ كانت مصر ـ رائدة كوكب المحمديين ـ تتأهّل للدولة العلمانية المدنية ، فجاء حكم العسكر وتأسيس الدولة السعودية ردّة حضارية كبرى . إذ من سوء الحظ ظهور البترول فيها وقيام أمريكا بضمان سلامتها ، فنشرت السعودية فى عهد الملك فيصل دين الوهابية فى العالم على أنه الاسلام . وانتشر الارهاب باسم الاسلام ، وبينما يحدث التحول الديمقراطى فى العالم فإن أمواجه تتكسّر وتنحسر على شواطى كوكب المحمديين . وصار الأمر صراعا بين المستبد والجماعات السلفية الوهابية الطامحة فى الحلول مكانه ، أو صراعا بين الشيعة والسنة ، وانتشر الخراب والحروب الأهلية فى كوكب المحمديين ، كل فريق يعتبر عدوّه هو ( الآخر ) الذى يتوجّب إستئصاله .
4 ـ لم يكفر زعماء ( الصحوة الوهابية ) بالاسلام فقط ، بل إمتد هجومهم على الأمم المتحدة ومواثيقها فى حقوق الانسان ، كم فعل المسعرى فى رسائله . والتفاصيل فى كتابنا عن المعارضة السعودية الوهابية فى القرن العشرين .
5 ـ وظهر أهل القرآن ردّ فعل إيجابيا يوضحون حقائق الاسلام القرآنية التى تم تغييبها منذ الفتوحات الكافرة الظالمة فى عهد الخلفاء الفاسقين . إرتبط توضيحنا لحقائق الاسلام بفضح ما يناقضه من تراث المحمديين وتاريخهم وشرائعهم وأديانهم الأرضية . وبسبب هذا هبٌوا يدافعون عن آلهتهم باضطهادنا ، يصُدُّون عن سبيل الله يبغونها عوجا . فى النهاية هم يريدون الدنيا وجاهها وأموالها ، ونحن نرجو أن نكون ممّن يريد الآخرة ويعمل لها عملها وهو مؤمن .
التعليقات
يحيى فوزى نشاشبى
حسبنا القرآن ونعم الحديث (هو).
بارك الله فيكم لهذا المسح وهذا التوضيح الذي لا يُمل تكراره نظرا للغفلة الضاربة أطنابها في العقول . ولا يسعنا في الأخير إلا أن ننسج جملة على منوال ( حسبنا الله ونعم الوكيل) لنقول ونردد : (حسبنا القرآن ونعم الحديث ) - هو - . ودمتم موفقين.
الفصل الثانى :
العدل ( القسط ) والاحسان ( التسامح )
( العدل والقسط )
مقدمة :
القسط هو تمام العدل، والقسط هو الهدف من إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب السماوية، يقول تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25) فإقامة الناس فى أى مجتمع للقسط والعدل هى إقامة لشريعة الله التى جاءت بها الرسالات الإلهية لكل عصر. والدولة الاسلامية تتبنّى القسط قيمة أساسا .
ونعطى تفصيلا :
أولا :
القسط والعدل مع الله جل وعلا :
1 ـ فالقسط فى التعامل مع الله يكون بالإيمان به جل وعلا إلهاً واحداً لا شريك له ولا نظير، ولم يلد ولم يولد. ومن هنا فإن الإشراك بالله تعالى ظلم عظيم للمولى جل وعلا ﴿إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان 13). وهذه قضية يختلف فيها البشر، ومرجعها إلى الله تعالى يوم القيامة.
2 ـ و( العدل ) فى التعامل مع الله جل وعلا يعنى الكفر به ، لأنه يعدل بالله جل وعلا غيره ، ويجعله عدلا له أو نظيرا له جل وعلا . عن المشركين الكافرين قال جل وعلا :
2 / 1 ـ ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الانعام )
2 / 2 ـ ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) الانعام )
2 / 3 ـ ( أإله مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) النمل ).
3 ـ العدل المطلوب هو فى تعامل البشر مع بعضهم البعض. قال رب العزة جل وعلا عن بعض قوم موسى عليه السلام فقال : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) الأعراف ).
ثانيا :
القسط فى التعامل مع البشر:
جاءت الأوامر بالعدل والقسط :
1 ـ داخل البيت، مع الزوجات أو الاكتفاء بزوجة واحدة . قال جل وعلا : ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾ (النساء 3).
2 ـ فى التعامل مع الأقارب حتى لا تؤثر القرابة على القيام بالقسط فتقع المحاباة والظلم. يقول سبحانه وتعالى :
2 / 1 : ضمن الوصايا العشر: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ﴾ (الأنعام 152).
2 / 2 : ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ﴾ (النساء 135) فالأمر الإلهى هنا للمؤمنين بأن يقوموا بالعدل والقسط، وأن يكونوا بذلك شهداء لله تعالى حتى على أنفسهم وأقاربهم إحقاقاً للعدل وابتعاد عن الهوى.
3 ـ مع الأعداء داخل الدولة الاسلامية : حتى لا يتأثر العدل والقسط بكراهية الأعداء فتحكم عليهم ظلماً، يقول سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ﴾ (المائدة 8) أى أن يقوموا ابتغاء مرضاة الله تعالى بالقسط فلا يؤثر فيه كراهيتهم لقوم فيحكموا عليهم ظلماً..
4 ـ مع المخالفين فى الدين داخل الجولة الاسلامية : المواطنة فى الدولة الاسلامية هى بالاسلام السلوكى بمعنى السلام . فكل إنسان مُسالم هو مواطن بغض النظر عن إنتمائه الدينى وعلا قته بربه جل وعلا . المصريون الأقباط هم أولى الناس بالاسلام السلوكى الذى يعنى السلام ، فهم مسالمون امتلأ تاريخهم بالصبر على الاضطهاد وإيثار الاستشهاد على المقاومة للظلم . لذا فهم أولى الناس بالبرّ والعدل فى الدولة الاسلامية ، والذى يظلمهم مستحق لنقمة المولى عز وجل الذى لا يريد ظلما للعباد . ولكن تعرضوا للإضطهاد بعد الفتح العربى ، وحتى الآن مع علو النفوذ السلفى السُّنّى .
5 ـ مع الدول : إذا كان المختلفون فى العقيدة قوماً مسالمين لم يضطهدوا المؤمنين ولم يطردوهم من ديارهم ولم يساعدوا العدو فى اضطهادهم، فإن من حقهم على الدولة الاسلامية أن يُعاملوا ليس بالقسط فقط ولكن بالبر والإحسان. يقول سبحانه وتعالى : ﴿لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8) .
6 ـ فى التعامل التجارى وفى الأسواق وفى كتابة الديون ومع اليتيم والتقاضى والشهادة . يقول سبحانه وتعالى :
6 / 1 : ﴿وَلْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾..
6 / 2 : ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ﴾ (البقرة 282) .
6 / 3 : ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ (الأنعام 152)
6 / 4 : ﴿وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىَ بِالْقِسْطِ﴾ (النساء 127) .
6 / 5 : والقسط فى التقاضى بين الناس ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء 58) .
6 / 6 : وفى الحكم بين القوم الآخرين : ﴿وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (الشورى 15) .
6 / 7 : والقسط فى الشهادة : ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مّنكُمْ﴾ (الطلاق 2) .
6 / 8 : والقسط فى الحكم بين دولتين متصارعتين : ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ﴾ (الحجرات 9).
ثالثا :
( الميزان التوازن / القسط ) فى خلق السماوات والأرض :
الكلمة القرآنية ( الميزان ) تعنى فى عصرنا التوازن . والميزان / التوازن أو القسط هو أساس خلق الكون واستمراره :
1 ـ عن خلق السماوات والأرض وفق ميزان دقيق يقول سبحانه وتعالى ﴿وَالسّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 ) أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ﴾ ( 9 )(الرحمن ) . السماء وهى كل ما يعلونا تقوم على أساس دقيق من التوازن، وعلينا ألا نطغى على ذلك التوازن فى العالم الكونى من الغلاف الجوى أو فى ذرات الأرض وهندسة الجينات وعناصر التربة ومعادنها، وإلا فإن الطغيان على ذلك التوازن الطبيعى يفتح الباب للفساد، ويحدث هذا بين الناس إذا ضاع القسط فى التعامل فيما بينهم، لذا يقول تعالى يربط التوازن الطبيعى بالتوازن العادل فى التعامل بين البشر ﴿أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ﴾ ( 9 ) الرحمن ).
2 ـ إن الميزان الإلهى فى خلق المادة تجده فى أوزان العناصر والذرات والمعادلات الكيماوية بنفس ما نجده فى حسابات الفلك والنجوم والكواكب، وعن طريق الحسابات الرياضية توصل أينشتين إلى نظريته فى النسبية قبل أن تتحقق بتفجير القنبلة الذرية، وعن طريق الحسابات الرياضية توصل علماء الفلك إلى اكتشاف بعض الأقمار والمجرات قبل أن يتعرفوا عليها بالمراصد. والله سبحانه وتعالى يقول عن منازل القمر : ﴿وَقَدّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس 5) ويقول عن التقويم القمرى والشمسى : ﴿وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً﴾ (الأنعام 96) . ونفس الميزان المحسوب فى المواد أشار إليه الخالق جل وعلا : ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْزُونٍ﴾.. ﴿وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مّعْلُومٍ﴾ (الحجر 19،21). وهذا الميزان الدقيق فى المخلوقات الحية وغير الحية يستلزم عدم المساس به حتى لا يفسد النظام فى الذرة والعناصر والخلايا والغلاف الجوى.
رابعا :
( الميزان التوازن / القسط ) فى الكتب الالهية :
1 ـ الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون المتوازن أنزل كتاباً إلاهيا فيه الميزان الذى يهتدى به الناس فى تعاملهم مع الكون والبيئة وفى تعاملهم مع بعضهم البعض.
2 ـ وهو ( كتاب واحد ) لكل نبى . بل هو كتاب واحد لأكثر من نبى ، مثل موسى وهارون عليهما السلام : ( وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) الصافات ) ، وهو كتاب واحد لثلاثة من الرسل : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) يس ). هو ( كتاب واحد ) لأنه ميزان واحد ( ليس كتاب وسُنّة كما تقول بعض المواشى البشرية التى تسير بقدمين فقط .!) . الميزان لا يتعدد ، هو فرد وليس مثنى . بل إن كل الكتب الالهية يأتى وصفها جميعا بالمفرد ( الكتاب ) ، والله سبحانه وتعالى يأمر خاتم النبيين أن يقول ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (الشورى 15) . هنا ( كتاب ) إلاهى ، وهو أيضا أمر بالعدل .
3 ـ ويقول سبحانه وتعالى عن ذلك الكتاب الألهى الواحد : ( الميزان ) الذى نزلت به الرسالات الإلهية : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25) أى عن طريق الكتاب الالهى ( الذى هو الميزان ) يعتمد الناس القسط فى تعاملهم مع الله تعالى وفى تعاملهم مع أنفسهم وفى تعاملهم مع البيئة.
4 : ونزل القرآن الكريم خاتم الرسالات السماوية قبل قيام الساعة، يقول سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم الذى جاء ميزاناً محفوظاً إلى قيام الساعة ﴿اللّهُ الّذِيَ أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى 17).
خامسا :
الميزان ( القسط ) يوم الحساب
1 ـ فيه سيتم وزن الأعمال بالقسط وعلى أساس الذرة، يقول سبحانه وتعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47).
2 ـ وفيه توزن الأعمال فى كفّة مقابل الكتاب السماوى الذى كان الميزان الذى ينبغى أن يحتكم إليه الإنسان فى الدنيا ، يقول سبحانه وتعالى : ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ (الأعراف 8: 9) . لم يقل ( بآياتنا والسُنّة ) كما تعتقد بعض المواشى البشرية التى تسير بقدمين فقط .!
سادسا :
الفساد ضد القسط
1 ـ إذا تحكم الفساد فى علاقات البشر فلابد أن يفسد البيئة، وإشتهر قوم شعيب بالفساد . قال جل وعلا :
1 / 1 : ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ َأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) الأعراف) .
1 / 2 :( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)هود ) .
1 / 3 : ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183)الشعراء ).
1 / 4 : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) العنكبوت ) .
2 ـ الله سبحانه وتعالى يجعل حدوث الفساد المادى فى الأرض فى البرّ والبحر والغلاف الجوّى ــ ناشئاً عن فساد العلاقات بين الناس، يقول سبحانه وتعالى : ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم 41) . أى هو عقوبة إلاهية لهم لعلهم يرجعون ويكُفُّون عن الفساد . ومن المعروف أن موسم الجرد يرتبط فيه إحراق المخازن والمنشئات للتغطية على السرقات.. أى تدمير البيئة بعد جرائم السرقة.
سابعا :
القسط أساس الاسلام وشهادة الاسلام
1 ـ شهادة الاسلام واحدة ( لا إله إلا الله ) ، وتكررت هذه الشهادة الواحدة مرتين فى آية التشهد والتى ابدلها المحمديون بعبارات كوميدية سمُّها التحيات . التشهد جاء فى قوله جل وعلا : ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران 18) . والمستفاد هنا أن القيام بالقسط يشهد به الله سبحانه تعالى والملائكة وأولو العلم،( وليست المواشى البشرية التى تسير بقدمين فقط ).! .
2 ـ الظلم ضد القسط . ومن الظلم عدم المساواة بين المواطنين بسبب اللون أو الدين أو المذهب . أو أن يكون غير المسلم (أهل ذمة). فذلك من تشريعات الأديان الأرضية للمسلمين، ولم يعرفه عصر النبى محمد عليه السلام، ولم يأت ( أهل الذمة ) فى القرآن الكريم ، مع مجىء كلمة ( ذمّة ) فى سياق آخر وصفا للمشركين المعتدين ناقضى العهود والمواثيق ( التوبة 8 ، 10 )، ولكن أوجدته دولة الخلفاء الفاسقين.
أخيرا :
حساسية القسط :
1 ـ الله جل وعلا يجعل ميزان القسط متناهى الحساسية، فالقسط المطلوب هو بنسبة مائة فى المائة فإن تراجعت النسبة إلى 99% أصبح الحكم ظلماً، طالما دخلت فيه نسبة الواحد فى المائة من الظلم. نفهم هذا من التفرقة القرآنية بين كلمتين "قاسط" و"مقسط"؛ فالقاسط هو الذى يحول الحكم لهواه أو لصالحه ولو بنسبة 1%، والله سبحانه وتعالى يقول عن القاسطين : ﴿وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ (الجن 15) ، أما المقسط فهو صيغة مبالغة من القسط أى الذى يراعى القسط دائماً وأبداً. وذلك المقسط يستحق حب الله سبحانه وتعالى،فتكرّر قوله جل وعلا : ﴿إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ثلاث مرات (المائدة 45، الحجرات 9، الممتحنة 8) .
2 ـ الدولة الاسلامية شعارها : ﴿وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾. أما دول المحمديين فهى دول القاسطين : ( وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾.
( الاحسان / التسامح )
مقدمة :
1 ـ التسامح ليس من مصطلحات القرآن الكريم ، ولكن معناه يوجد فى ( الاحسان ) ، وهو تعبير شائع فى القرآن الكريم باشتقاقات متنوعة ، وأكثر دلالة من مفهوم التسامح .
2 ـ وفى التنزيل المكى وقبل تكوين الدولة الاسلامية كان الحرص على غرس قيمة الاحسان قيمة أخلاقية عند المؤمن ، ثم جاءت تفصيلات مؤكدة فى التنزيل المدنى .
3 ـ ونعرض للإحسان فى لمحة سريعة :
أولا :
بين الاحسان والعدل
1 ـ يأتى إرتباطهما فى قوله جل وعلا آمرا ناهيا : (إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٩٠﴾ النحل 90 ) .
2 ـ ولكن الاحسان درجة تعلو العدل . العدل هو الردّ بالمثل قصاصا، أما الاحسان فهوردّ السيئة ليس بمثلها ولكن بالعفو عن المسىء . قال جل وعلا : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿٤٠﴾ الشورى ).
ثانيا :
درجات الاحسان :
1 : الدرجة الدنيا ، وهو مجرد الغفران مع الصبر على الأذى ، وهذا لغير القادر على دفع السيئة إلا بالسكوت والصبر والغفران تسامحا وأملا فى الأجر من رب العزة الذى لا يكلف نفسا إلا وسعها . (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴿٤٣﴾ الشورى ). الصبر هنا إيجابى لأن المظلوم لديه وعى بما يحل به من ظلم ، ووجوب مقاومته ولكن لا يستطيع إلا الصبر والعفو.
2 : الدرجة العليا : أن ترد السيئة بالحسنة ، وليس مجرد العفو. كأن يشتمك شخص فترد عليه بالدعاء له . قال جل وعلا فى صفات عباد الرحمن أنهم يردون على جهل الجاهلين بالسلام ، قال جل وعلا : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴿٦٣﴾ الفرقان )
3 : الدرجة الأعلى : أن ترد السيئة بالتى هى أحسن . قال جل وعلا : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) ﴿٩٦﴾ المؤمنون ). أى أن يسبك شخص فتدعو له وتمدحه وتعطيه مالا . هذه درجة عليا تستلزم صبرا عظيما ، لا يقوم بها إلا أحسن المؤمنين إيمانا وصبرا. قال جل وعلا :( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿٣٤﴾ فصلت ) أنت بهذا تخاطب الخير فى داخله فلا يملك إلا أن يستجيب لك بالخير ويتصرف ( كأنه ) ولى حميم ، وما هو ب ( ولى حميم ). فى الآية التالية قال جل عن هذه الدرجة من الصبر الايجابى والاحسان والتسامح : ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٣٥﴾ فصلت ).
ثالثا :
بين الاحسان والصبر الايجابى
1 ـ هناك صبر مذموم ، هو الصبر السلبى الذى يعنى الخنوع والرضى بالذل مع القدرة على المقاومة ولو بالدعاء على الظلم . الصبر فى الاسلام هو الصبر الايجابى الرافض للظلم والاهانة بدءا من الدعاء على الظالم الى الهجرة ، والوقوف ضد الظلم دفاعا عن العدل والقسط . والصبر الايجابى مصاحب لكل ذلك .
2 ـ ونتذكر آيات : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ﴿وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ﴾ ، وآيات أخرى تقرن الصبر بالإحسان مثل ﴿وَاصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (هود 115) ﴿إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف 90).
2 ـ وكما يقترن الإحسان بالغفران كذلك يقترن الصبر بالغفران، يقول سبحانه وتعالى ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ﴾ (الشورى 43) وتكرر الأمر للنبى بالصبر على الأذى الذى كان يلقاه من المشركين وقال له ربه جل وعلا ﴿اصْبِر عَلَىَ مَا يَقُولُونَ﴾ (طه 130، ص 17، ق 39) وقال له جل وعلا : ﴿وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ (المزمل 10).
3 ـ وكما أن الله تعالى يحب المحسنين فإنه جل وعلا مع الصابرين، وتكرر هذا كثيراً فى القرآن (البقرة 153، الأنفال 46، البقرة 149، الأنفال 66) ولذلك أصبح من الأمثال السائرة: أن يقال "إن الله مع الصابرين" والمجتمع المؤمن يستعين على المصائب بالصبر والصلاة (البقرة 45) كما يتواصى أفراده بالصبر وبالرحمة والحق (البلد 17، العصر 3) وفى النهاية فإن الجنة هى جزاء الصابرين حيث تتلقاهم الملائكة تقول لهم ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ﴾ (الرعد 24) وفى الجنة يتلقون أجرهم بدون حد أقصى أى بدون حساب يقول تعالى ﴿إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر 10).
رابعا :
أنواع الاحسان
الاحسان العملى :
1 : كلمة ( حسنة ) تأتى وصفا للعمل الصالح ،وتكرر هذا فى القرآن الكريم كثيرا لكى يستغرق الإنسان حياته فى الخير والعمل الصالح بحيث لا يبقى فى وقته متسع للشرور بحيث تتحول حياته إلى حسنة مطلقة يأتى بها إلى الخالق جل وعلا يوم القيامة فيتضاعف له الجزاء بعشر أمثالها : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا )(160) الأنعام ) . فالإحسان من الله سبحانه وتعالى سيكون جزاءاً لمن أحسن عملا . قال جل وعلا : ﴿هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاّ الإِحْسَانُ﴾ (الرحمن 60).
2 : والأمر بإحسان العمل تردد فى القرآن الكريم كثيراً ومنه : ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص 77) والإحسان هنا لا يعنى مجرد التصدق وإعطاء الصدقة ولكنه إحسان العمل كله.
3 : ومنه الإحسان للوالدين وذوى القربى واليتامى والمساكين والجيران والأصحاب وابن السبيل، ولا يشترط فى أولئك جميعاً سوى الاسلام السلوكى بمعنى السلام سلوكا ظاهريا ، بغض النظر عن دينه القلبى وعقيدته ومذهبه. فالإحسان للمسيحى إذا كان قريباً أو جاراً أو صاحباً أو مسكيناً أو زائراً أو سائحاً. مع ملاحظة أن ابن السبيل هو الغريب المسافر القادم لبلادنا، وهذا ينطبق على الأجانب. ولابن السبيل حقوق ؛ منها حقه فى الصدقة التطوعية والصدقة الرسمية والفئ والغنائم وحقه فى حسن التعامل معه مثلما نتعامل مع آبائنا وأمهاتنا وأقاربنا وجيراننا.. وابن السبيل فى عصرنا هو كل غريب يمر ببلادنا، ينطبق ذلك على السياح والأجانب، بغض النظر عن اللون والجنس واللغة والدين والعقيدة .
4 ـ 2 : يأتى فى موقف ، توسطاً فى الخير أو شفاعة فى مظلوم، وهذا مأمور به، وقد يكون العكس وهو التوسط فى الشر أو أن الشفاعة فى الشر، وذلك منهى عنه، وفى كل الأحوال فالجزاء عند الله تعالى من جنس العمل إن خيراً وإن شراً، وذلك معنى قوله سبحانه وتعالى ﴿مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا﴾ (النساء 85).
الاحسان القولى :
1 : قال جل وعلا آمرا : ﴿وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الإسراء 53) أى بدلاً من أن يقول كلمة سيئة نضع مكانها كلمة خير حسنى، أو أحسن منها.
2 : فى رد التحية، بالمثل أو بالأحسن منها، يقول سبحانه وتعالى ﴿وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ (النساء 86) ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يقول ﴿وَإِذَا حُيّيتُم﴾ وهذه عبارة مطلقة، تعنى إذا حيّانا أى إنسان بأى لسان وبأى كيفية فعلينا أن نرد عليه بالمثل أو بما هو أحسن من تحيته، وليس شرطاً أن يكون مسلماً مثلنا أو أن ينطق بتحية الإسلام، المهم أن تكون تحية، ولو بالاشارة . لا بد أن نرد عليه بالمثل أو بالأحسن. وجدير بالذكر أن الوهابية تحرم تحية ( المشرك ) أو رد تحيته لأنها تستوجب إظهار العداء له. والمشرك فى الوهابية هو كل من ليس منهم.
3 : فى العفو وكظم الغيظ . يقول سبحانه وتعالى عن بعض صفات المتقين ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران 134) فالذى يتحكم فى غضبه وغيظه ويعفو عن الناس يكون من المحسنين الذين يحبهم الله تعالى، وهذا يتعلق بالتعامل العادى مع الناس الذى قد يستجلب الغضب والغيظ، ويستوجب عند المحسنين الحلم والعفو.
الاحسان فى الجدال مع المخالف فى العقيدة :
1 : لا جدال مع المعاندين أو الذين ظلموا، وإذا صمموا على الجدال فالمجال الوحيد المتاح هو المباهلة بأن نبتهل نحن وهم بأن يجعل الله تعالى لعنته على الكاذبين بدون تحديد. قال جل وعلا : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) آل عمران).
2 : والجدال مع غير المعاندين بالتى هى أحسن، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل 125).
3 ـ ومنه مع أهل الكتاب: ﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (46) العنكبوت ).
3 : وعن اسلوب الجدال مع المشرك :
3 / 1 : نلتزم بما أمر الله جل وعلا به رسوله: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ. قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ﴾ (سبأ 24: 26) .
لم يقل للمشركين إنا على هدى وأنتم على ضلال، وإنما أمره الله تعالى أن يقول بأن أحد الفريقين على هدى والآخر على ضلال، ولم يقل للمشركين لا تسألون عن إجرامنا ولا نسأل عن إجرامكم، بل نسب الجرم إلى نفسه فقط، وهو خاتم النبيين، وفى النهاية أرجأ الحكم إلى الله تعالى ليحكم بينه وبينهم بالحق يوم القيامة.
3 / 2 : ومنه تقرير حريتهم الدينية ، وهذا تكرر فى القرآن الكريم ، كقوله تعالى ﴿وَقُل لّلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّا عَامِلُونَ. وَانْتَظِرُوَاْ إِنّا مُنتَظِرُونَ﴾ (هود 121،122) أى يعمل كل فريق بما يعتقده صواباً وينتظر الجميع حكم الله تعالى يوم القيامة.
3 / 3 : وهذا الخلق العالى من الإحسان يستدعى أن يقول المسلم كلمة الإسلام السلوكى "السلام" فمن صفات عباد الرحمن أنهم إذا خاطبه الجاهلون بالسىء من القول ﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ (الفرقان 63) وإذا أسمعهم الجاهلون اللغو فى الدين وهو مما يسىء إلى عقيدة المسلم أعرضوا عنهم ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (القصص 55) أى أيضاً قالوا لهم: سلام عليكم.
3 / 4 ـ ومنه ( الصفح الجميل ) إنتظارا لحكم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة. يقول سبحانه وتعالى : ﴿وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (الحجر 85) أى أن الساعة آتية وهى يوم الفصل وبالعذاب للمعاندين وهم يستحقون الشفقة، فلا أقل من أن تصفح عنهم صفحاً جميلاً. وتكرر هذا المعنى فى قوله جل وعلا : ﴿وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف 88،89) أى فاصفح عن هؤلاء الذين لا يؤمنون وقل لهم سلام عليكم، وسوف يعلمون يوم القيامة موقعهم بالضبط.
3 / 5 : الغفران : ويتكرر أمراً مباشراً للمؤمنين : ﴿قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (الجاثية 14،15) فالله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين بأن يغفروا للمخالفين فى الدين ، حيث سيلقى كل إنسان جزاء ما كسبه من صالح أو من سىء. وحيث مرجع الناس جميعاً إلى الله تعالى يوم القيامة. وبهذا يصل الإحسان فى الدعوة إلى ذروته بالمغفرة والصفح والسلام .
الاحسان القلبى :
ومن الطبيعى أن هذا الأدب الراقى فى الإحسان لا يشمل فقط اللسان والجوارح بل يبدأ أساساً بالقلب والضمير حيث التعامل مع الله سبحانه وتعالى الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، ولذلك فقد ترى إنساناً عاجزاً عن تقديم الإحسان ولكنه عند الله سبحانه وتعالى من المحسنين، والسبب أنه يتمنى فى قلبه لو كانت لديه المقدرة على الإحسان. والله سبحانه وتعالى يعلم صدق نيته فلم يكلفه إلا حسب مقدرته ، ولذلك جعله من المحسنين اعتماداً على نيته وسريرته. يقول سبحانه وتعالى يتحدث عن غزوة ذات العسرة : ﴿لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ. وَلاَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ (التوبة91،92) ففى الاستعداد لغزوة ذات العسرة كان بين المؤمنين ضعفاء ومرضى وفقراء لم يستطيعوا الإسهام فى المجهود الحربى، ومع ذلك اعتبرهم الله تعالى محسنين ولم يوجه إليهم اللوم ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ وألحق بهم مؤمنين أقوياء ولكن فقراء ليست لديهم دواب يركبونها للغزو، وليس للنبى دواب تحملهم، لذلك رجعوا باكين بسبب الفقر الذى منعهم من الإسهام فى الخير.
الباب الثانى :
( الحرية : حرية الدين ، وحرية الرأى والتعبير بين التنظير والتطبيق )
الفصل الأول : التنظير القرآنى :
( الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية ـ حرية الدين بين مشيئة الرحمن ومشيئة الانسان ـ حوار الله جل وعلا مع خلقه أعظم دليل على حرية الدين ـ الرسول مهمته البلاغ فقط وليس مسئولا عن هداية أحد)
الفصل الثانى : التطبيق :
تطبيق حرية الدين والرأى في الدولة الاسلامية للنبى محمد عليه السلام
( مدي حرية المعارضة في في دولة النبى محمد عليه السلام ـ تقاعسهم عن القتال الدفاعى ـ حرية المنافقين فى البخل فى الدولة الاسلامية ـ حرية المؤمنين الحقيقيين فى دولة النبى الاسلامية ـ مواقف المؤمنين الحقيقيين فى دولة النبى الاسلامية ـ حرية المؤمنين المسالمين الكافرين عقيديا فى دولة النبى الاسلامية )
الفصل الأول : التنظير القرآنى :
الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية
جذور الحرية الدينية في الإسلام :
هي الأساس في وجوده في هذه الدنيا . بل هي الأساس في خلق الله تعالى للكون وهى الأساس في فكرة اليوم الآخر . ونعطى تفصيلا :
خلق الكون :
1 ـ فالله جل وعلا أبدع ما نراه من كواكب ونجوم ومجرات . وتلك النجوم والمجرات تقع بين الأرض والسماوات التى لا نراها ، وبالتعبير القرآنى ( وما بينهما ) : ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) (17) ( 18 ) المائدة ) ، وصفها رب العزة بالمصابيح للسماء الدنيا ، قال جل وعلا :
1 / 1 :( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (12) فصلت ).
1 / 2 : ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (5) الملك ) . السماوات السبع تقع فيما وراء الكون الذي تعجز العقول عن مجرد تخيله .
2 ـ أولو الألباب هم الذين يتفكرون في الحكمة من خلق السماوات والأرض. قال جل وعلا : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران ) .
3 ــ فالله سبحانه وتعالى لم يخلق السماوات والأرض باطلا ، بل بالحق . قال جل وعلا :
3/ 1 : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) ( 16 ) الأنبياء ) .
3 / 2 : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ) ( 3 ) التغابن .)
3 / 3 : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) الدخان ).
4 ـ وهذا الكون وتلك السماوات مع عظمتها الهائلة فقد خلقها الله تعالى لهدف واحد ، هو اختبار ذلك المخلوق المسمى بالإنسان . قال جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (7) هود )
تدمير الكون ويوم الفصل
1 ـ ونتيجة هذا الاختبار وموعده يكون يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين : ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) المطففين )، وقبله تقوم الساعة ويدمر الله سبحانه وتعالى ذلك الكون وتلك السماوات ويأتي بأرض جديدة وسماوات جديدة ويحاسب الناس على أعمالهم في الدنيا يوم الفصل . قال جل وعلا : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)ابراهيم ).
2 ـ لو شاء الله جل وعلا لجعل يوم الفصل فى هذه الدنيا . قال جل وعلا : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) يونس ). ولكن جعل الفصل ( يوم الفصل ). قال جل وعلا :
2 / 1 : ( وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) المرسلات ).
2 / 2 : ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) المرسلات )
2 / 3 : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) النبأ ) .
2 / 4 : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) الدخان ) .
3 ـ عن تأجيل الحكم فى الاختلافات الدينية الى يوم الفصل قال جل وعلا عن :
3 / 1 : البشر جميعا :
3 / 1 / 1 : ( قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) الزمر )
3 / 1 / 2 : ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) الأنعام )
3 / 1 / 3 : ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ )( 56 ) الحج ).
3 / 2 : بنى اسرائيل :
3 / 2 / 1 : ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) يونس )
3 / 2 / 2 : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) النحل )
3 / 2 / 3 : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) السجدة )
3 / 2 / 4 : ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) الجاثية )
3 / 3 : بين اليهود والنصارى : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) البقرة ).
4 ـ المختلفين فى عيسى عليه السلام : ( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) آل عمران )،
5 : وقت نزول القرآن الكريم :
5 / 1 : النبى محمد عليه السلام والكافرين :
5 / 1 / 1 : ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) الحج )
5 / 1 / 2 : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) الزمر )
5 / 1 / 3 : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) الزخرف )
5 / 2 : المهاجرين وذويهم الكافرين : ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )(3) الممتحنة )
5 / 3 : المنافقين من الصحابة وغيرهم : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )( 141) النساء ) .
5 / 4 : المؤمنين وأهل الكتاب : ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة ).
أخيرا :
1 ـ هذا التعليم القرآنى نزل فى مكة والمدينة ليتربى الناس على الحرية الدينية المطلقة قبل وأثناء الدولة الاسلامية فى المدينة ، وأن لها جذورا فى الهدف من خلق السماوات والأرض ، وأنه لاختبار الانسان ، وأن هذه الحرية تترتب عليها مسئولية سيكون موعدها يوم الفصل ، والى هذا اليوم يتأجل الحكم فيها على البشر الى يوم الدين الذى يحكم فيه مالك يوم الدين .
2 ـ وكل إنسان له اختياره حين يوجد على هذه الأرض ويعيش فيها فترة عمره المقدرة له سلفا ، وبعد هذه الحياة يموت ويعود إلى البرزخ الذي منه جاء، ومطلوب من الإنسان في تلك الحياة أن يعرف أن الله أوجده في هذه الدنيا لاختبار يوم الفصل . وحين يقضى الإنسان حياته غافلا عن ذلك الهدف من وجوده يفشل في الاختبار ويكون مصيره إلى النار . وسيقال له حينئذ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) 115 ) المؤمنون )
3 ـ ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد جعل عناصر الاختبار متوازنة وعادلة ، فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية العاقلة ، أي الميزان الحساس الداخلي الذي يميز بين الخير والشر والذي يؤمن بالله وحده ، وفى مقابل هذه الفطرة سلط عليه الشيطان للغواية ، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب الالهية ، وزين له الدنيا وغرورها، وفوق ذلك كله خلقه حرا في أن يطيع أو أن يعصى وفى أن يؤمن أو أن يكفر ، وجعل له سريرة يحتفظ فيها بكل أسراره ونوازعه ومشاعره وهواجسه وأفكاره بعيدة عن متناول كل مخلوق سواه لتكون له ذاتيته المستقلة ، فإذا أراد أن يكون حرا كان حرا وإذا أراد بمحض اختياره أن يكون عبدا لغيره من البشر ومن الأفكار كان كذلك ، والمهم أن الاختيار في يده هو ، وعن طريق هذا الاختيار يستعمل الإنسان حريته كما شاء .
4 ـ هذه الحرية في الدنيا تنتهي عند لحظة الاحتضار والموت ، وبعدها يتعين على الإنسان أن يواجه مسئوليته عنها يوم الدين . وحديث القرآن الكريم عن يوم القيامة يأتي دائما بصيغة المبنى للمجهول ، يقول جل وعلا عنه فى سورة الزمر : ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 69 ) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ) ( 70 ) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) ( 71) ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) ( 73 ) .
5 ـ إن كل فرد ــ حتى من الأنبياء ـ سيؤتى به يوم القيامة ( مُحضرا ) مقبوضا عليه . قال جل وعلا :
5 / 1 : ( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) (يس ).
5 / 2 : ( إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (53) يس ). أي يتم إحضارنا يوم الحساب حيث تنعدم حرية الإرادة وإمكانية الهرب .
6 ـ فالله سبحانه وتعالى أعطانا حرية الإرادة في الدنيا ليختبرنا . وأنزل الدين فى كتب إلاهية ، ولم ينزل معها سيفا وملائكة تأمر الناس بإتباع ذلك الدين ، ولم يجعل الجحيم في هذه الدنيا بحيث أن من يكفر ويعصى يؤتى به ليلقى في الجحيم أمام أعين البقية من البشر ، ولو فعل هذا ما كان هناك اختبار أو امتحان ، وإنما أنزل الدين شأنا شخصيا ، من إهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها .
7 ـ والله جل وعلا لم يعط سلطته فى الدولة الاسلامية لبعض الناس ليعاقبوا باسمه من أختلف معهم في الرأي أو من كفر بالله . والذين يدعون لأنفسهم هذا الحق المزعوم إنما يفسدون القضية من جذورها ويتقمصون دور الإله حيث لا إله إلا الله ويتحكمون فيما رغب عن التحكم فيه رب العزة جل وعلا . هذه الفئة من البشر هم أعداء الرحمن جل وعلا ، لأنها :
7 / 1 : تزيف دين الله وتغتصب سلطاته التي هى لذاته يوم الدين.
7 / 2 : تعطى الحجة لمن ينكر حساب الآخرة وعذاب النار . فاذا كان هناك إرغام على الإيمان . وإذا كان هناك إكراه في الدين ، فلا مجال حينئذ لأن يكون هناك حساب وعقاب يوم الدين .
7 / 3 : يعطون دين الله تعالى وجها قبيحا متشددا دمويا متحجرا متأخرا . ويسهمون في إبعاد أغلبية الناس عنه . وهذا الوجه القبيح لا علاقة له بدين الله تعالى بل هو وجههم هم . وهو دينهم هم .
7 / 4 ـ وهم دائما يسعون الى فرضه على الآخرين بالقوة والعدوان ، وقد زعموا أنفسهم وكلاء لله سبحانه وتعالى فى الأرض ليقتلوا الناس باسمه وليفرضوا عليهم سلطانهم بحجة أنه شرع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
8 ـ ولأنهم الأعداء الحقيقيون لدين الله فإن الله سبحانه وتعالى شرع القتال ضد عدوانهم . فالقتال فى الاسلام ليس لإرغام الناس على دخول الإسلام وإنما لتقرير حق الناس في الإيمان أو في الكفر وفى رفع وصاية الكهنوت عليهم .
9 ـ إن الدين لله جل وعلا وحده ، ولم يجعل سلطة للأنبياء ـ وهم صفوة البشر ـ فى إكراه أحد على الإيمان ، وكل منا ينتهي اختياره بلحظة وفاته ، وبعد قيام الساعة سيواجه كل منا مصيره في يوم الدين .
التعليقات
بن ليفانت
وجهات نظر عما جاء في مقدمة المقال :
أود أن أذكر بعض ما أمكنني التوصل إليه من خلال نصوص بعض الآيات المذكورة:
1 ـ إذا كانت السماوات والأرض قد خلقت، فهي خُلقت في وقت ما وفي حيز ما. هذا يعني أن الزمن والحيز كانا موجودين قبل السماوات السبع والأرض. ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (5) الملك: ) هذا يعني أن السماء الدنيا فقط فيها مصابيح (نجوم) وأن السماوات الستة الأخرى لايوجد فيها نجوم. هذا يعني أيضًا أن كافة المجرات موجودة في السماء الدنيا.
2 ـ ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) هود) إذا كان الهدف من خلق السماوات والأرض يتعلق بالإنسان، يجب أن تكون فكرة خلق الإنسان موجودة قبل خلق السماوات والأرض. يعني هذا أن التطور (Evolution) الذي حصل للكائنات على الأرض من ملايين السنين كان الهدف منه الوصول إلى الإنسان الذي نراة اليوم. التغييرات التي حصلت للمخلوقات لها أسبات من أهمها الطفرات أو التغيرات (العفوية).
3 - إذا صح ما جاء في الأعلى، فالجنة كانت موجودة على الأرض، وأن تساؤلات الملائكة عن خلق الإنسان كان سببها إعطاء هذا المخلوق حرية التصرف، وبهذا يمكنه أن يعيث بالأرض فسادًا (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) – حرية التصرف لم تكن موجودة في مراحل التطور التي سبقت ظهور الإنسان.
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ بن ليفانت وأقول:
الذى أفهمه من القرآن الكريم
1 ـ ان السماوات والأرض وبرازخهما خلقهما الله جل وعلا من لا شىء . وهذا معنى فاطر السماوات والأرض.
2 ـ فى أحد برازخ الأرض وجدت جنة عاش فيها آدم وحواء ، قبل هبوطهما الى الأرض المادية.
3 ـ ربما تكون هى نفس جنة المأوى والتى ربما تكون الجنة التى يعيش فيها المقتولون فى سبيل الله جل وعلا.
4 ـ قبل هبوط آدم وحواء كان يعيش فى الأرض جنس يأجوج ومأجوج ، كانوا متقدمين وسفاكى دماء ، وأدخلهم ذو القرنين الى جوف الأرض ، وسيخرجون منه قبيل قيام الساعة كآخر علامة من علامات الساعة . ويتواتر الحديث الآن عن التقدم الهائل فى الآثار التى سبقت وجود الانسان ، وعن إختفاء السفن والطائرات والأشخاص ، والأطباق الفضائية. .
سعيد على
خلاصة المقال في الاقتباس التالي :
حفظكم الله جل و علا و أعانكم على تدبر كتابه العزيز .. خلاصة المقال كما فهمت تتمثل في الاقتباس التالي: فالقتال فى الاسلام ليس لإرغام الناس على دخول الإسلام وإنما لتقرير حق الناس في الإيمان أو في الكفر وفى رفع وصاية الكهنوت عليهم .
أحمد صبحى منصور
شكرا ابنى الحبيب استاذ سعيد على ، واقول
غبت عنا فافتقدناك.
يقولون ( العود أحمد ) . هذا ما يقوله عمك ( أحمد )
حرية الدين بين مشيئة الرحمن ومشيئة الانسان
مشيئة الله جل وعلا فى حرية البشر فى الدين
1 ـ لو شاء الله سبحانه وتعالى لجعل الناس جميعا أمة واحدة ، أي خلقهم بلا اختيار فيهم ، يولدون مهتدين ، كالآلات المبرمجة على الطاعة المطلقة ، ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يجعلهم أحرارا فى الاختيار الدينى فكان منهم المؤمن والكافر، المهتدى و الضال . قال جل وعلا : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( 149 ) الانعام ) . أي أن مشيئة جل وعلا لم تتدخل لحمل الناس على الإيمان به جل وعلا وحده إلاها ، ولو شاء لكان الناس جميعا مؤمنين إذ لا يقف أمام مشيئته أحد . والدليل على عدم تدخلها هو اختلاف الناس وحريتهم في الإيمان والكفر ، وسيظلون مختلفين لأنها مشيئته تعالى التي لا يعوقها شيء . قال جل وعلا : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ( 118 ) ( إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) ( 119 ) هود ).
2 ـ فأمام البشر مشيئة الهداية ومشيئة الضلال ، وهى مشيئة الرحمن أن تكون لهم حرية المشيئة فى الدين . والله سبحانه وتعالى ينزل الكتاب ويبعث الأنبياء لتوضيح الحق من الباطل ، والعدل من الجور ، ويترك للبشر حرية الاختيار بين هذا وذاك . قال جل وعلا : ( وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( 9 ) النحل ).
مشيئة البشر فى حرية الدين
1 ـ والله سبحانه وتعالى حين يدعو للحق ويذكر الناس به فإنه يقرر حريتهم في الاختيار ويسميها (مشيئة ) أيضا ، أي يُعلى من قدر هذه الحرية بجعلها مشيئة بشرية .
قال جل وعلا : ( كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) عبس ) .
2 : بل إنه بمجرد أن يشاء البشر الهداية تأتى مشيئة الله الله جل وعلا تالية مؤكدة.
قال جل وعلا :
2 / 1 : ( كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) المدثر ) .
2 / 2 : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) الانسان )
2 / 3 : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( 27 ) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ( 28 ) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 29) التكوير ).
بل إنّ الله جل وعلا يزيد المهتدى هدى ويزيد الضال ضلالا .
قال جل وعلا :
1 ـ ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً ) (10) البقرة )
2 ـ ( قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً (76) مريم )
3 : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) محمد )
4 ـ ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت )
لذا ، فالهداية مسئولية شخصية وليست وظيفة الدولة الاسلامية :
الهداية متاحة أمام الجميع ومن شاء الهداية فليهتد ومن شاء الكفر فليكفر . ومن إهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعلى نفسه .
قال جل وعلا :
1 ـ ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) (15) الاسراء )
2 ـ ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) النمل )
( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) لقمان )
( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فاطر ) .
والعمل صالحا أو فاسدا هو إختيار شخصى .
قال جل وعلا :
1 ـ ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) فصلت ) .
2 ـ ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) الجاثية )
ويترتب على هذه المسئولية الشخصية ألا يتحمل أحد وزر غيره.
قال جل وعلا :
1 ـ ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) الأنعام )
2 ـ ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (15) الاسراء )
3 ـ ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فاطر )
4 ـ ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الزمر )
5 ـ ( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) النجم ).
وجاء فى بعض هذه الآيات أن المسئولية يوم الدين مترتبة على الحرية فى الدين :
قال جل وعلا :
1 ـ ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) الأنعام )
2 ـ ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الزمر )
3 ـ ( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) النجم ).
وجاء أيضا فى قوله جل وعلا عن مشيئة البشر :
1 ـ ( وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) الكهف ) .
2 ـ ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) الانسان ).
3 ـ وإذا اختارالبشر طريق الغواية فهم يحاولون أن يجدوا لها سندا دينيا بتحريف معانى الحق الذي جاء في القرآن الكريم ، بما يُعرف بالتفسير والنسخ وعلوم القرآن . ولا تتدخل مشيئة الله جل وعلا في ذلك الافتراء عليه ، بل يسمح بوجوده ليكون المجال مفتوحا أمام الناس للبحث عن الحق والاختيار بين الصحيح والزائف ، والله سبحانه وتعالى يهددهم بالعقاب يوم القيامة وانه يعلم بمؤامراتهم في التلاعب بالآيات والالحاد فيها . ومع أنه يقرر لهم حريتهم في ذلك إلا انه يحملهم المسئولية عليها يوم القيامة ، يقول سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 40 ) فصلت ).
والمهم أن لهم المشيئة التي كفلها الله جل وعلا لهم في حربهم لله جل وعلا . وعليهم وزرها يوم القيامة . والدليل العملي واضح وهو أنهم يمارسون عملهم حتى الآن .
4 ـ وفى النهاية فكل نفس تهتدي أو تضل فهى يوم القيامة ستكون رهينة بما كسبت .
قال جل وعلا :
4 / 1 ـ ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور )
4 / 2 ـ ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) المدثر ).
صلة هذا بحرية الرأى وليبرالية الفكر
1 ـ هل بعد هذا تأكيد على حرية البشر في الإيمان وحريتهم في الكفر ؟ .
2 ـ وحرية الدين فى الاسلام هي ذروة حرية الرأي في الإسلام . وإذا كان للإنسان في نصوص القرآن الحرية في ( أن يكفر بالله ) ، فإن له بالتالي الحرية في أن يكفر بالحاكم أو بأي سلطة إستبدادية ؛ دينية أو مدنية . ففى النهاية فهذا المستبد السياسى أو الكهنوتى هو مجرد مخلوق لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا . وإذا كانت حرية الانسان تخوّل له ألا يسجد للخالق جل وعلا فكيف له أن يسجد لمخلوق مثله ؟ وإذا كان بامكانه أن يعصى الخالق جل وعلا فكيف له لا يعصى المخلوق ؟ .
3 ـ الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية هى ( أم الحريات ) المدنية والسياسية والتعبير والتفكير والابداع والاختراع والفنون والجنون .!
التعليقات
بن ليفانت
مشيئة الرحمن ومشيئة الإنسان
مشيئة الرحمن ومشيئة الإنسان. هذه الأساسية التي يُختلَف على كيفيتها. هل "إلا" في الآيات (المدثر 56، الإنسان 30، التكوير 29) هي توافقية كما ذكرت في المقال (بل إنه بمجرد أن يشاء البشر الهداية تأتى مشيئة الله الله جل وعلا تالية مؤكدة)، أم هي شرطية كما أراها؟ أود هنا أن أذكر وجهة نظري في الموضوع:
أولًا : لايوجد شيء في الكون يجري دون مشيئة الله: هناك أشياء متعددة تسير حسب برنامج معين وضعه الله لها، ولا تستطيع تغيير السير إلا بتغيير غير ذاتي في البرنامج، بمعنى أن هذه الأشياء لا تستطيع بإرادتها تغيير أي شيء في البرنامج وفي مسارها. الإنسان أيضًا جعل الله له برنامجه، لكنه منحه ضمن هذا البرنامج حيزًا يضمن له حرية التفكير والإرادة والقرار والتصرف، ويحمله المسؤلية على ذلك. الله تعالى يستطيع أن يتحكم في ذلك إن يشاء، لكنه يعطي الإنسان الضوء الأخضر ليحاسبه بعد ذلك على أعماله. بكلمة أخرى الإنسان يملك حق القرار والتنفيذ – بعلم وموافقة الله تعالى. أطرح هنا مثالًا على ذلك. لنتصور أحدنا يعمل لدى شركة، لذا تسمح له الشركة بالدخول إلى موقعها. للشركة مبنى له بوابة يقف عنده بواب يتأكد من هوية الموظفين. الموظف لا يستطيع الدخول إلى الشركة إلا بموافقتها. الشركة تطلب منه المجيء، لكنها لا تفرض عليه ذلك. هو يستطيع التغيب إن أراد، وسيحاسب على ذلك. الموظف يدخل الشركة بإرادته، لكن بموافقة الشركة.
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ بن ليفانت وأقول:
دائما تسعدنى تعليقاتك ووجهات نظرك ، وأنتظرها فهى تفتح أبوابا للنقاش . أنا تخرجت ( فى ) كلية اللغة العربية جامعة الأزهر ( قل : تخرج فى ولا تقل تخرج من ) . هذه الكلية هى أعرق حصن ل ( اللغة العربية) . ( لا تقل اللغة بل اللسان ). وتخصصت الى جانب ( اللسان العربى ) فى التاريخ ( الاسلامى و الحضارة الاسلامية ). . وقمت بتثقيف نفسى قرآنيا ، ومنه الفصل بين مصطلحات القرآن الكريم ومصطلحات التراث ، والفجوة بين أساليب القرآن الكريم والمتبع فى ( اللغة العربية ) من نحو وبلاغة .. وتعلمت أن أفهم المصطلحات القرآنية والأساليب القرآنية من خلال سياقها . ليس هذا حديثا عن النفس ولكنه لشرح الموضوع . لقد جاء فى المقال موضوع الهداية فى آيات مترابطة طبقا لسياقها ، وليس لقواعد النحو العربى الذى تخصصت فيه سابقا . لو إتبعنا ما قاله النحويون وعلماء البلاغة فى تدبر القرآن لاتهمناه بأخطاء فى النحو وتناقض فى معانيه .. ويكون هذا ظلما للقرآن الكريم أن ندخل عليه بمقاييس تم إختراعها فى العصر العباسى ، وهى ــ من خلال دراساتى ـ فيها الكثير من الأخطاء .
بن ليفانت
حياك الله أستاذ أحمد
أنا أيضًا أتوق للنقاش في مثل هذه المواضيع، لكني أحترم طبيعة موقعكم، لذا أقول رأيي وأمشي، وإذا سنحت لي الفرصة أفتح الموضوع مرة أخرى. بالنسبة لكلمة لغة (لسان – علشان ما تزعلش يا استاذ أحمد)، فمن الجدير بالذكر أن الانكليزية تستعمل كلمة لسان باللاتينية (lingua) لكلمة اللغة (language) رغم أن اللسان بالانكليزية كلمة أخرى. في اللاتينية والايطالية تُستعمل (lingua) بمعنى لسان ولغة.
بالنسبة لمعرفتي بالعربية، فأنا لست متخصصًا بها ولا أدعي أني متمكن منها، ولقد بدأت أشعر ببعض التحسن منذ تتبعي للقرآن منذ خمسة عشر سنة. هناك اختلاف بين القرآن والمفسراتية في فهم بعض المفردات المذكورة في القرآن، وكثير من هذه الإختلافات عرفتها من كتاباتكم، لكني في نفس الوقت أرى بأن فهم المفسراتية أحيانًا لا يمت للمنطق بصلة. مثال ذلك كلمة (أمي) بأنها تعني (لا يقرأ ولا يكتب) أو (النسخ) بأنه تثبيت وإلغاء. رغم ذلك فليس من الممكن الاستغناء عن كتب التراث في تعلم العربية. لا أحد ليس لسانه عربي يستطيع تعلم العربية من القرآن. لذا يبقى العقل والمنطق هو الحكم.
كلمة أخيرة: ماأردت من تعليقي السابق ووجهة نظري هو أنه سواء كانت "إلا" توافقية أم شرطية، فالنتيجة واحدة.
حوار الله جل وعلا مع خلقه أعظم دليل على حرية الدين
مقدمة
1 ـ لو تخيلنا حاكما صاحب فضل على شعبه ، ولكن ثار شعبه عليه ، ولم يلجأ الحاكم صاحب الفضل إلى القوة واتبع بدلها طريق الحوار والإقناع بأن منهجه في الحكم هو العدل وهو الأمثل ، وفى نفس الوقت لم يجبرهم على طاعته وترك لهم الحرية ، لو تخيلنا وجود هذا الصنف من الحكام بين البشر لوجدنا أنفسنا في خيالات وأحلام. ولكن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا أن الله سبحانه وتعالى ـ وهو الخالق الرازق ــ لم يشأ أن يجبر البشر على الإيمان به وبكتبه ورسله ، ولأنه فطرهم على حرية الإرادة فقد أجرى معهم حوارا كي يؤمنوا عن رغبة واقتناع ، لا عن إكراه وإجبار .
2 ـ وفى الوقت الذي ترفض فيه المؤسسات الكهنوتية إجراء حوار وتكتفي بإصدار قرارات التكفير والردة والحرمان ضد من يخالفها في الرأي ، ترى رب العزة وهو قيوم السماوات والأرض يجرى حوارا مع عبيده أبناء آدم ليقنعهم بأنه الله الواحد ألذي لا شريك له .
وهنا نكتفي بالإشارة إلى لمحات سريعة :
أولا : الاحتكام الى العقل الانسانى
1ـ فالله سبحانه وتعالى يحتكم إلى العقل الإنساني في إثبات زيف الادعاءات الضالة ، ويتردد في القرآن قوله تعالى" أفلا تعقلون ؟ .. أفلا تبصرون ؟ . أنى تؤفكون ؟".
وأن يحتكم رب العزة للعقل البشرى ــ فيه التكريم لهذا العقل الذي هو منبع حرية الإرادة . هذا في الوقت الذي تطالب فيه المؤسسات الكهنوتية بتعطيل العقل وحجب التفكير ومصادرة حق المناقشة لعقائدها وأفكارها.
2ـ والله تعالى ينزل في القرآن أدلة عقلية على أنه لا إله إلا الله .
يقول سبحانه وتعالى :
2 / 1 : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (22) الأنبياء )، أي لو كان مع الله آلهة أخرى لاختل نظام الكون ، ووحدة الخلق في الكون من جماد وحيوان تقطع بأن الخالق واحد ليس معه شريك ، ولو كان معه شريك لحاول أن ينازع الله تعالى في ملكه ، ولأن ذلك لم يحدث إذن فليس هناك شريك مع الله .
2 / 2 : ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) الاسراء ) ، أى ولو كانت هناك آلهة متعددة ، ولكل منهم مخلوقات لحدث بينهم تنافس وشقاق اختلف معه مصير الكون .
2 / 3 : أسئلة عقلية عن الخالق والمخلوقات ، منها :
2 / 3 / 1 : ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد ). الذين يعبدون محمدا أو الحسين أو المسيح أو بوذا ..ماذا خلقوا من البشر ؟
2 / 3 / 2 : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِاِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) الأحقاف )
2 / 3 / 3 : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) الطور )
2 / 4 : ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) المؤمنون ) . هى أدلة عقلية موجهة للبشر من الخالق جل وعلا لاقناعهم عقليا بأنه لا إله معه ولا إله غيره،وليس لاقناعهم أنه ( موجود ) ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
3 ـ مشكلة البشر فى أنهم يؤمنون بالله جل وعلا ولكن :
3 / 1 : لا يكتفون به وحده جل وعلا وليا ، ويحاورهم رب العزة جل وعلا باسلوب عقلى بأنه وحده الولى المعبود : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) الأنعام ).
3 / 2 : لا يكتفون به وحده جل وعلا إلاها ، ويحاورهم رب العزة جل وعلا باسلوب عقلى بأنه لا إله معه : ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أإله مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإله مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإله مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئإله مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإله مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) النمل )، تفكروا فى سؤاله جل وعلا الذى تكرر : ( أَإله مَعَ اللَّهِ ) .
3 / 3 : لا يكتفون بالقرآن الكريم وحده حديثا ويحاورهم رب العزة جل وعلا باسلوب عقلى بأن الايمان يكون بحديث واحد هو حديثه فى القرآن الكريم :
3 / 3 / 1 :( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) الاعراف ) .
3 / 3 / 2 :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) المرسلات ) .
3 / 3 / 3 : ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية ).
4 ـ هى أدلة عقلية يستشهد بها الخالق جل وعلا على أنه الإله الذي لا إله معه ويرد بهذه الأدلة على آراء بعض مخلوقاته من البشر الذين يعتقدون بوجود آلهة أخرى مع الله .. ولولا أن الله سبحانه وتعالى قرر لهم حرية التفكير وحرية الاعتقاد والرأي ما سمح لهم بأن يعتقدوا تلك الاعتقادات التي تسئ إلى جلال الله سبحانه وتعالى ، ولولا أن الله سبحانه وتعالى ضمن لهم هذه الحرية في دينه ما أجرى معهم هذا الحوار وما احتكم إلى عقولهم في إثبات فساد تلك العقائد .
5 ـ والله سبحانه وتعالى لم يستنكف أيضا أن ينزل بالحوار إلى مستوى عقلية البشر كي يفهموا ويعقلوا وتقوم عليهم الحجة ، فمثلا فى حوار مع أهل الكتاب يقول جل وعلا لهم :
5 / 1: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) آل عمران ) . هذا عن مزاعمهم عن إبراهيم عليه السلام .
5 / 2 : ( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) آل عمران ).
5 / 3 : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) النساء ). أعظم تقدير لحرية البشر ، أن ينزل الخالق جلا وعلا قرآنا يرد به على آراء لبعض مخلوقاته ليقنعهم في الوقت الذي يستطيع فيه أن يدمر الأرض والسماوات .
ثانيا : الله جل وعلا لا يصادر آراء خصومه بل يسجلها قرآنا ويرد عليها
هذا مع أن بعض آرائهم سباب وتطاول . ونعطى أمثلة :
1 ـ عن الكافرين من أهل الكتاب :
1 / 1 : ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) وجاء الردُّ عليهم باللعنة : ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (64) المائدة )
1 / 2 : ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) وجاء الرد تهديدا : ( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ) (181) آل عمران )
1 / 3 : ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) وجاء الرد عقليا : ( قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) آل عمران )
1 / 4 : ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) وجاء الردُّ عقليا : ( قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) البقرة )
1 / 5 : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) آل عمران ) . المحمديون يؤمنون بالخروج من النار بالشفاعة تحديا منهم لرب العزة جل وعلا وكفرا بكتابه .!
2 ـ فرعون موسى :
2 / 1 : ( فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) ) النازعات )
2 / 2 : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) القصص ) .
2 / 3 : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِفَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37) غافر )
2 / 4 : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56) الزخرف ). قال جل وعلا عن فرعون وقومه :( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ ) والفرعون الحالى فى مصر نقش فى أحدث قصر له : ( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) فهل سيتحقق فيه وفى قومه قوله جل وعلا : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) ؟ دعنا ننتظر .!
3 ـ العرب وقت نزول القرآن الكريم :
3 / 1 : الرد على جماعة منهم :
3 / 1 / 1 : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) يس )
3 / 1 / 2 : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) العنكبوت )
3 / 1 / 3 : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) النحل ).
3 / 2 : الرد على فرد واحد :
3 / 2 / 1 : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) يس ) .
3 / 2 / 2 : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80) مريم ). هذا قول شخص واحد .
4 ـ كان من الممكن أن يصادر الله سبحانه وتعالى هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئا . ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئا . ولكن بذكرها فى القرآن الكريم صارت جزءا منه ، يتعبد المؤمن بتلاوتها مع الرد الالهى عليها . ومصادرة الكتب والمؤلفات هي الهواية المفضلة للكهنوت الديني والسياسي . وكم شهد العالم في العصور الوسطى وفى كوكب المحمديين مذابح للكتب والمؤلفات والمؤلفين.
5 ـ لذا أوجب الله جل وعلا القتال الدفاعى لتقرير الحرية الدينية وصيانة كل بيوت العبادة .
التعليقات
يحيى فوزى نشاشبى
الفهم الصحيح الذي ما زال صعبا وغير مستساغ لدى الأغلبية الساحقة من المسلمين.
: ( كان من الممكن أن يصادر الله سبحانه وتعالى هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئا . ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئا . ولكن بذكرها فى القرآن الكريم صارت جزءا منه ، يتعبد المؤمن بتلاوتها مع الرد الالهى عليها . ومصادرة الكتب والمؤلفات هي الهواية المفضلة للكهنوت الديني والسياسي . وكم شهد العالم في العصور الوسطى وفى كوكب المحمديين مذابح للكتب والمؤلفات والمؤلفين. 5 ـ لذا أوجب الله جل وعلا القتال الدفاعى لتقرير الحرية الدينية وصيانة كل بيوت العبادة . )
شكرا جزيلا أستاذنا أحمد صبحي منصور، وكم تعجبني هذه الفقرة الأخيرة الواردة في المقال الهام الهادف ، لاسيما ما يلي (لذا أوجب الله جل وعلا القتال الدفاعي لتقرير الحرية الدينية وصيانة كل بيوت العبادة) ، وحسب رأيي فمن بين أصعب المفاهيم أن تقتنع الأغلبية الساحقة من المسلمين بهذا الفهم وتهضمه ). ودمتم موفقين.
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ يحيى ، وأكرمك الله جل وعلا ، وأقول:
صدقت أخى الحبيب. هى فعلا مهمة صعبة ، ولكن نتعاون معا فيها إبتغاء رضوان الله جل وعلا ، ونحن بحمد الله جل وعلا وعونه وفضله مستمرون وناجحون ومنتصرون. يكفى أننا الذين نمسك بزمام المبادرة ، وهم الأغلبية الساحقة ومعهم الموارد والمعاهد والمراكز والجاه والأموال ـ ومع ذلك فنحن نحصرهم فى دائرة رد الفعل ، ولا يملكون أمام حجتنا إلا الاتهامات والافتراءات وحجج واهية مكررة معتادة سبق الرد عليها.
أدعو الله جل وعلا أن يتم نصرنا عليهم فى الدنيا وأن ينصرنا عليهم يوم يقوم الأشهاد.
الرسول مهمته البلاغ فقط وليس مسئولا عن هداية أحد
1 ـ الهداية شأن شخصى . ومهمة الرسول الوحيدة هى تبليغ الرسالة ، والحكم لرب العالمين يوم الدين . وليس فى الدولة الاسلامية إكراه فى الدين وليس فيها ( حدُّ الردّة ) .
2 ـ نتتبع الآيات فى التنزيل المكى مع النبى داعية والمدنى معه قائدا :
أولا :
التبليغ :
ما على الرسول إلا البلاغ
صارت مثلا يقال بسبب كثرة ورودها فى القرآن الكريم . ومع هذا فالمحمديون يكفرون بها إذ يضعون فوقها إفترءاتهم بأن النبى حىُّ فى قبره تُعرض عليه الأعمال فيراجعها وأنه يشفع متحكما فى يوم الدين .
ونتتبع الآيات القرآنية الكريمة عن حصر مهمة النبى فى التبليغ . قال جل وعلا :
عن الأنبياء السابقين :
1 : ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) النحل ) . من عادات المشركين السيئة أن ينسبوا ضلالهم للخالق جل متناسين حريتهم فى الكفر ، وأن أبرز مظهر لهذه الحرية هو ذلك الإفتراء بأن كفرهم مشيئة الرحمن .
2 ـ( وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) يس ). قال هذا ثلاثة من الرسل لقومهم .
3 ـ ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) المائدة ). هذا عن كل الرسل .
4 ـ ( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) العنكبوت )
هذا عن كل الرسل .
عن النبى محمد خاتم النبيين :
( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) الغاشية )
تخصيص البلاغ بالرسول وتخصيص الحساب بالخالق جل وعلا ، ولا توسُّط :
1 ـ ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) الغاشية )
2 ـ ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) الرعد )
التبليغ مع الإعراض عنهم
فى مكة :
قبل أن تكون له دولته الاسلامية
1 ـ ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) النحل )
2 ـ ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (94) الحجر )
3 ـ ( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (199) الاعراف )
4 ـ ( سورة الأنعام )
4 / 1 : ( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
4 / 2 : ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (70)
4 / 3 :( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (106)
4 / 4 : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
4 / 5 : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
5 / 1 ـ ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) الزخرف )
5 / 2 ـ ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) المعارج )
6 ـ ( وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) المزمل ).
7 ـ ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ (30) السجدة )
8 ـ ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) النجم )
فى المدينة :
وهو قائد للدولة الاسلامية :
1 ـ عموما : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) التغابن ) .
2 ـ عن أهل الكتاب المجادلين : ( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)آل عمران )
3 ـ عن الصحابة المؤمنين سلوكيا فقط : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ) هذا من أواخر ما نزل ، وهو خطاب مباشر يعظ الصحابة المؤمنين سلوكيا بمعنى الأمن والأمان ، وقد كانوا كافرين عقيديا ، يقدسون الأنصاب ( أى القبور ) ويشربون الخمر ويلعبون القمار ، ويستقسمون بالأزلام الجاهلية . ما يهمنا إستمرارهم فى هذا ، وقوله جل وعلا لهم : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ). والتنبيه على أن مهمة الرسول هى مجرد التبليغ ، وهم يتحملون المسئولية : ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ).
4 ـ عن المنافقين : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) النور ).
عليه البلاغ فقط وليس حفيظا عليهم أو وكيلا عنهم مسئولا عنهم :
فى مكة :
قبل أن تكون له دولته الاسلامية :
1 ـ ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ )(48) الشورى )
2 ـ ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) الشورى )
3 ـ ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) ق )
4 ـ فى سورة الأنعام :
4 / 1 :( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104).
4 / 2 : ( وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) ،
5 ـ ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) يونس )
6ـ ( إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) الزمر)
7 ـ ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)الشورى )
8 ـ ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) الطور )
فى المدينة :
وهو قائد للدولة الاسلامية :
1 ـ ( مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) النساء )
2 ـ ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) البقرة )
( إعملوا على مكانتكم )
تقرير حريتهم فى الكفر وإنتظار الحكم يوم القيامة :
1 ـ ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) الانعام )
2 ـ ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) الزمر )
3 ـ ( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) هود )
4 ـ ( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى (135) طه
5 ـ ( قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ )(15) الزمر )
لا جدوى من هداية المتمسك بالضلال
فى مكة :
قبل أن تكون له دولته الاسلامية :
1 ـ ( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) النمل )
2 ـ ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) الروم )
3 ـ ( طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) طه )
4 ـ ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) يس )
فى المدينة :
وهو قائد للدولة الاسلامية :
1 ـ ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) البقرة )
2 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) الأنفال )
ثانيا :
آثار جانبية للإقتصار على التبليغ فقط ( الحزن والصبر )
الحزن :
كان يحزن بسبب كفرهم وأقوالهم وإفتراءاتهم ، وينهاه ربه جل وعلا :
فى مكة :
قبل أن تكون له دولته الاسلامية
1 ـ ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( 88 ) الحجر )
2 ـ ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) الكهف )
3 ـ ( وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) يونس )
4 ـ ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) يس )
5 ـ ( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ) (23) لقمان )
6 ـ ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر )
فى المدينة :
وهو قائد للدولة الاسلامية :
1 ـ ( وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) آل عمران )
2 ـ ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ (41) المائدة )
الصبر مع الحزن وضيق الصدر بسبب إفتراءاتهم ومكائدهم
1 ـ ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) المزمل )
2 ـ ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الحجر )
3 ـ ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) النحل )
4 ـ ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) النمل )
الأمر بالصبر
ترغيبا :
1 ـ ( وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) هود )
2 ـ ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) (77) غافر )
ترهيبا :
( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) الروم
الصبر على أقوالهم الكافرة :
1 ـ ( اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) (17) ص ).
2 ـ ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) المزمل )
أوامر الصبر والتسبيح :
1 ـ ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) طه )
2 ـ ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (55) غافر )
3 ـ ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) ق )
4 ـ ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) الطور)
5 ـ ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) الانسان )
أخيرا
هذا هو النبى محمد عليه السلام داعية وقائدا لدولة إسلامية . فماذا عن أكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين فى كوكب المحمديين فى عصرنا الحزين ؟
الفصل الثانى : التطبيق :
تطبيق حرية الدين والرأى في الدولة الاسلامية للنبى محمد عليه السلام
تطبيق حرية الدين في دولة النبى محمد عليه السلام
مقدمة :
1 ـ لم يكن النبي محمد عليه السلام مجرد قائد للمسلمين فى المدينة وإنما كان رسولا نبيا يأتيه الوحي الألهى ، ويقوم بنشر دينه سلميا داخل حدود دولته وخارجها . وكان المنافقون هم عنصر المعارضة ضد حكومة النبي ، وكانوا يعارضون الإسلام دينا ويعارضون سلطة النبي وسياسته،وقد منعهم خوفهم من التمرد المسلح ضد الدولة وكانو اضعف جندا من القيام بثورة , قال جل وعلا عن خوفهم : ( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) التوبة ) ، فاكتفوا بالكيد والتآمر ثم يقسمون بأغلظ الإيمان ببراءتهم مما يفعلون .وتمتعوا في مسيرة التآمر تلك بالحرية الهائلة التي كفلها لهم القرآن الكريم في القول والفعل ضد الدولة التي يعيشون في كنفها ويعملون ضدها .واكتفى القرآن الكريم بالرد علي مكائدهم وادعاءاتهم وفضح تآمرهم مع التنبيه المستمر علي النبي والمسلمين بالإعراض عنهم والاكتفاء بما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة.
2 ـ أساس الدولة الاسلامية ليس الاسلام العقيدى بإخلاص الدين لله جل وعلا وحده ، وبإخلاص العبادة له جل وعلا وحده . اساس الدولة الاسلامية وأساس شريعتها هو الاسلام السلوكى بمعنى السلام والإيمان السلوكى بمعنى الأمن والأمان وأن يأمنك الآخرون .
وطبقا لهذا فالمنافقون كانوا مواطنين طالما لا يرفعون السلاح ؛ تمتعوا بحريتهم الدينية المطلقة فى الدين وفى المعارضة السياسية قولا وفعلا وحركة فى الشارع ، بل وتقاعسا عن المشاركة الايجابية فى الدفاع عن الدولة التى تحميهم ، والتى صاروا فيها من الأثرياء .
3 ـ وفى حالة نادرة نهى الله جل وعلا النبى عن الاعجاب بأموالهم وأولادهم . قال له جل وعلا فى خطاب مباشر : ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) التوبة ) ( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة ). بسبب ثرواتهم فى المدينة ونفوذهم فيها بقوا فيها متمتعين بالحرية المطلقة فى الدين وفى السياسة .
4 ـ والله جل وعلا توعّد معظمهم بالنار يوم القيامة وأنهم فى الدرك الأسفل منها ،( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) النساء )
5 ـ وكانوا أصحاب نفوذ ، ومن أهل المدينة المؤمنين من كان مدمنا على السماع لهم ، ، أو ( سمّاعون لهم ) بتعبير القرآن الكريم ، حتى لو حضروا معركة مع المؤمنين أفسدوهم ، قال جل وعلا : ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) التوبة ) . كانوا من نسيج المجتمع ، منهم الأب والابن والأخ والاخت والزوجة والزوج والأصهار والجيران ، يتزاوجون من غيرهم ويزوجون غيرهم . ولو وجدوا مجتمعا أفضل لهاجروا اليه بأموالهم ، ولكن كانت دولة الاسلامية فى عهد النبى محمد عليه السلام هى الموطن الأمثل لهم .
ومن خلال القرآن نرصد إلي أي حد كانوا يتمتعون بحرية الرأي ضد الاسلام وضد الدولة الاسلامية ، والرد الإلهى عليهم بتذكيرهم بعذاب الآخرة .
أولا :
1 – كانت حرية الرأي تصل بالمنافقين إلي سب المؤمنين ووصفهم بالسفهاء ولا يرد عليهم إلا رب العزة جل وعلا فى القرآن الكريم : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) البقرة ) . هنا فضح حقيقتهم وخداعهم وفسادهم وقلبهم الحقائق وجلساتهم السرية التآمرية .
2-وكان يحلو لهم الاستهزاء بالمؤمنين خصوصا في أوقات الاستعداد للحرب فمن يتطوع بالصدقة يصفونه بالرياء إذا كان غنيا ويتندرون عليه إذا كان فقيرا ،بينما هم يمسكون أيديهم عن التطوع بالمال والتطوع للقتال وكان النبي مع ذلك يستغفر لهم ويطلب لهم الهداية فنزل قوله سبحانه وتعالي : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) التوبة )
ثانيا :
وكانو يعبرون عن رأيهم بصراحة فيما يخص القرآن الكريم ؛ يستهزئون به علنا، واتخذ ذلك صورا شتى:
1 : - كانوا يتندرون علي نزول آيات القرآن التي تحكي حالهم ، وكانوا إذا سئلوا عن هذا الاستهزاء بالقرآن أجابوا باستخفاف إنهم يلعبون ،ولا يتخذ معهم النبي وهو الحاكم أي إجراء . ويأتي الوحي يخبر بذلك ويثبت كفرهم ولكن يجعل عقوبتهم من لدن الله تعالى إن شاء: ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) التوبة )".
2 : وكانوا إذا نزلت سورة يتساءلون في سخرية عمن ازداد إيمانا بهذه الآية : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) التوبة ).
3 -ومنهم من كان يدخل علي النبي ويسمع القرآن ثم يخرج من عنده يتساءل باستخفاف عما سمع ، ويحكم رب العزة جل وعلا بكفرهم : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) ( 16) محمد ) .
4 : كان كفار قريش قبل الهجرة يعقدون مجلس للخوض فى القرآن الكريم والاستهزاء به ، وكان النبى ـ حرصا على هدايتهم ــ يحضرها ، ونزل له التنبيه ألا يحضر مجالسهم حين يخوضون فى آيات الله ، والّا يقعد معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) (70 ) الأنعام ) .
وفى المدينة أتاحت دولة النبى الاسلامية للمنافقين حرية الدين فأقاموا نفس المجالس العلنية للاستهزاء بالقرآن الكريم ،وكان يحضرها المؤمنون السّمّاعون لهم ،ونزل القرآن يحذر المؤمنين من حضور تلك المجالس . قال سبحانه و تعالي يذكّرهم بما نزل قبل ذلك فى مكة : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) النساء ) .
ثالثا :
واختصوا النبي بكثير من الأذى مع أنه الحاكم السياسي والرسول صاحب الوحي .
1 ـ كان النبي يسمع لهم ويطيع فنزل الأمر له بأن يتبع الوحى وبأن لا يطيع المنافقين والكافرين : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) الأحزاب ) . والله سبحانه وتعالى أمر النبي بأن يعرض عن أذى المنافقين ونهاه فى نفس الوقت عن طاعتهم وأن يتوكل على ربه جل وعلا ( وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) الاحزاب ).
2 ـ والله سبحانه وتعالى أمر النبي بأن يعرض عن أذى المنافقين ونهاه فى نفس الوقت عن طاعتهم وأن يتوكل على ربه جل وعلا : ( وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) الاحزاب ).
3 ـ ومع إستمرار إيذائهم للنبى والمسلمين لعنهم الله جل وعلا وتوعدهم بالعذاب : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) الأحزاب )
4 ـ وكان النبى ــ بإعتباره قائد الدولة ــ مأمورا بإقامة الشورى الاسلامية التى تعنى مشاركة الناس جميعا فى إتخاذ القرار في جمعية عمومية ، أو بالتعبير القرآنى ( أمر جامع ) يجب على الجميع حضوره ، نفهم هذا من قوله جل وعلا فى أوائل ما نزل فى المدينة ودولتها المدنية :(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) النور ) . طبقا للشورى الاسلامية كان النبى يستشير الناس جميعا ومن بينهم المنافقون الذين كانوا سادة يثرب من قبل . ولما رأوا النبي قد أوسع صدره لجميع الناس وليس هم فقط إتهموا النبي بأنه (أذن ) أي يعطي إذنه لكل من هب ودب ، وأشاعوا هذا القول الساخر عن النبي فنزل قوله سبحانه وتعالى يدافع عن النبي ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) التوبة ) . فالله سبحانه وتعالى هو الذي يدافع عن النبي ويصفه بأنه يثق بالمؤمنين ورحمة لهم ويتوعد من يؤذي النبي بعذاب أليم ، أما سلطة النبي كحاكم فلا مجال لها هنا في ذلك المجتمع الحر الذي يكفل للمعارضة ـ الكافرة المتسترة بالايمان ـ كل الحرية في أن تقول ما تشاء .
5 ـ وفي غير الشورى كانوا يلمزون النبي إذا حرمهم من الصدقة وهم غير مستحقين لها لكونهم أغنياء وكانوا يحتجون عليه ويطاردونه بأقوالهم الساخطة : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) التوبة ) ويعظهم رب العزة جل وعلا : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59):التوبة )" .
6 ـ وكانوا يصفون النبى بالأذل وأنهم الأعز ، مع قولهم إنه رسول الله ، ويتوعدون بطرد النبى والمؤمنين من المدينة وينهون عن النفقة عليهم . ( هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون ).
والخلاصة أن المنافقين في حكومة النبي عليه السلام تمتعوا بحرية الرأي والدين والتي عبروا من خلالها عن رأيهم في الإسلام و القرآن وآذوا الرسول عليه السلام ،وكان الضمان الوحيد لهذه الحرية هي تعاليم القرآن نفسه ،وكان الرسول يستغفر لهم وينزل الوحي القرآنى يخبرنا بذلك .
مظاهراتهم العلنية فى الدعوة الى الفساد
1 ـ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضة إسلامية . ولكنها :
1 / 1 : مرتبطة بالتواضع والرفق ، أى لا تتعدى حد النصيحة القولية دون إكراه أو إيذاء ودون تبرؤ من الشخص الواقع في المنكر بل من فعله المنكر . وسبق أن قال جل وعلا للنبى محمد وهو فى مكة فى تعامله مع أصحابه المؤمنين :( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) الشعراء ) . لم يقل له : فإن عصوك فتبرأ منهم ، أو إن عصوك فالعنهم أو فاضربهم بالسلاسل والجنازير .!
1 / 2 : إنها وظيفة تفاعلية يقوم بها الجميع ، ولا تنفرد أو تتخصص فيها طائفة معينة تأمر غيرها وتنهاها وتعلو عليها وتتحكم فيها ، وتستنكف أن يأمرها غيرها . هى ( التواصى ) بين الجميع بالحق وبالصبر وبالمرحمة . قال جل وعلا :
1 / 2 / 1 : ( ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) البلد ).
1 / 2 / 2 : ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر ). وهذا دستور للتعامل جاء فى آيات مكية ،
2 ـ وجاء فى سورة البقرة المدنية قوله جل وعلا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)). ونلاحظ :
2 / 1 : إنه ينطبق على أى مجتمع فيه ناس ، فحيث يوجد ناس فمن الناس من يصلون بالنفاق الى خداع الآخرين ، ويتسيدون عليهم بزعم التدين الظاهرى ، يعظون غيرهم ، ويستنكفون أن يعظهم غيرهم . ويتخذون من إسم الله جل وعلا والحلف به تأكيدا على نقاء قلوبهم ، وإذا قيل لهم : إتّق الله أخذتهم العزة بالإثم . وإذا أتيحت لهم فرصة التخلص من النفاق وإنطلقوا على سجيتهم أفسدوا فى الأرض . هذا الصنف تراه فى كوكب المحمديين حيث يسيطرون على المجتمع وأجهزته الاعلامية والأمنية والتعليمية . لا يتخيل أحد ــ مجرد تخيل ـ أن يعظ شيخ الأزهر أو مجرد خطيب فى مسجد .
2 / 2 : إن فيه إشارة لمنافقى المدينة الصحابة الذين إتخذوا أيمانهم أو حلفهم بالله جل وعلا وقاية أو ( جُنّة ) . قال جل وعلا عنهم : ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) المجادلة ) ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) المنافقون ).
2 / 3 : وفيه إشارة الى الصحابة المؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) .
3 ـ فى دولة النبى الاسلامية كانت للمنافقين حرية الفساد والدعوة إليه دون عقاب أو مساءلة جنائية ،وإذا سئلوا عن ذلك أجابوا بكل حرية أن ذلك هو الإصلاح من وجهة نظرهم ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) 2/ 11 : 12 ) .
4 ـ وبينما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، كان المنافقون في المدينة يفعلون العكس ، كانوا دُعاة للفساد فى مظاهرات تطوف بالمدينة رجالا ونساءا، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ،ويعلنون هذا في جو من الحرية يسجله القرآن الكريم : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) التوبة 67 ).
5 ـ والرد عليهم جاء :
5 / 1 : من رب العزة جل وعلا بالوعظ والتهديد فى قوله جل وعلا: ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) التوبة ) .
5 / 2 : من المؤمنين فى المدينة . كانوا في المقابل يردون عليهم بمظاهرات ، قال رب العزة جل وعلا عنهم : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ) التوبة 71 ) . وجاء مدحهم بما ينتظرهم يوم القيامة : ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) التوبة ). مشكلة المحمديين واصحاب الأديان الأرضية أن الآخرة والخلود فى العذاب أو الخلود فى النعيم غائبة تماما عنهم . هم مستغرقون فى الدنيا لا يبغون عنها حولا .
6 ـ ولأن الآخرة هى الأولى والأبقى فالوعظ بها هو الأساس . ومشيئة الهداية أو الضلالة من البشر هو الاختبار الحقيقى .ولهذا فلم ينزل عقاب للمنافقين على تبجحهم بمظاهرات الفساد ، بل جاء فى الآيات التالية جهادهم سلميا بالوعظ القرآنى تخويفا لهم من جهنم وبئس المصير . قال جل وعلا فى خطاب مباشر للنبى محمد قائد الدولة الاسلامية : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) التوبة ). كان جهاد المنافقين هو وعظهم بالقرآن الكريم إذا قالوا كفرا أو فعلوا كفرا أو همُوا بحمل السلاح . كانت كل نقمتهم أن أغناهم الله جل وعلا ورسوله ، إذ أن الهجرة للمدينة أحدثت رواجا استفاد به المنافقون وهم أصحاب رءوس الأموال . وبدلا من الشعور بالامتنان للدولة الجديدة التى تمتعوا فيها بالثراء وبالحرية المطلقة فى التعبير والمعارضة السلمية كان ردهم كفران النعمة . ومع ذلك فالتوبة معروضة عليهم وهم أحياء ، وإن تابوا فهو خير لهم ، وإن أصروا على ما هم فيه فالله جل وعلا هو وحده الذى يتولى عذابهم فى الدنيا والآخرة . وليس لقائد الدولة الاسلامية والذى يأتيه الوحى أن يعاقبهم ، بل ينزل عليه الوحى بالاعراض عنهم .
رفض الاحتكام القضائى للنبى فى الدولة الاسمية
الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية أتاحت هذا للمنافقين . ونعطى بعض ملاحظات :
1 ـ كان بعض أهل الكتاب يأتون للنبى محمد عليه السلام يحتكمون اليه . بعضهم يفعل هذا بسوء نية ، ولكن ما يهمنا أن النظام القضائى فى دولة النبى الاسلامية جعلت بعضهم من خارج الدولة يلجأون اليه . ونقرأ قوله جل وعلا : ( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) المائدة ).
2ـ على النقيض من ذلك ، كان المنافقون يرفضون الاحتكام للرسول وهو الحاكم الرسمي للمدينة تعبيرا منهم على عدم اعترافهم بسلطته ، ويسكت عنهم النبي وينزل القرآن ينعى عليهم تحاكمهم للطاغوت مع أنهم يزعمون الإيمان . إقرأ قوله جل وعلا عنهم :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)( النساء ) . ونلاحظ :
2 / 1 : كانوا يزعمون الايمان بالكتب الالهية ( القرآن وما قبله ) ومع ذلك يريدون الاحتكام للطاغوت . والطاغوت هو الدين الأرضى الشيطانى القائم على أحاديث شيطانية .
2 / 2 : كانت النصيحة تأتى لهم وعظا بالاحتكام للنبى الذى كان يحكم بالقرآن الكريم ، فكانوا يرفضون ويصدون صدودا .
2 / 3 :عقابهم المفترض لن يأتى من قائد الدولة الاسلامية الذى يستهينونه به بل من الله جل وعلا ، والله جل وعلا يهددهم بأنه إذا أصابيتهم مصيبة بسبب ذلك فسيأتون الى الرسول يعتذرون بأنهم ما أرادوا إلّا إحسانا وتوفيقا .
2 / 4 : والله جل وعلا يعلم كذبهم وما فى قلوبهم ويأمر النبى بالاعراض عنهم .
2 / 5 ـ وأنه كان ينبغى عليهم الطاعة والاستغفار أمام النبى علنا ، وعندها يتوب الله جل وعلا عليهم ، أى إن باب التوبة كان مفتوحا لهم برغم ذلك .
2 / 6 : المؤمنون هم الذين يحتكمون أمام النبى فى أى شجار بينهم ، ثم يرضون بحكمه ويستسلمون له .
3 ـ والواقع أن المنافقين من البداية كانوا يرضون الإحتكام للرسول إذا كانوا يعتقدون أنه في مصلحتهم وينتظرون الإنصاف . إما إذا كانوا ظالمين فيرفضون المثول أمام النبى . قال جل وعلا عنهم فى أوائل ما نزل فى المدينة : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (52) النور). ونلاحظ :
3 / 1 : كانوا يزعمون الايمان والطاعة ولكن أعمالهم تنفى ذلك .
3 / 2 : ويتجلى هذا فى أنه إذا تقدمت شكوى بشأنهم رفضوا المثول للمحكمة طالما هم ظالمون ، أما إن كان لهم الحق أسرعوا بالحضور طلبا للإنصاف .
3 / 3 : المؤمنون حقا هم الذين يأتون للرسول للحكم بينهم يقولون سمعنا وأطعنا .
3 / 4 : تأنيب المنافقين ووصفهم بالظالمين ، ومدح المؤمنين ووصفهم بالفوز والفلاح .
3 / 5 : قال جل وعلا : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) ، ( إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) الكلام هنا عن الله جل وعلا ورسوله . ولكن تعبير الحكم جاء بالمفرد ( ليحكم ) ولم يقل بالمثنى ( ليحكما ). والمعنى أن الرسول ينطق بحكم الله جل وعلا وليس بهواه . الرسول هنا هو الرسالة ، القرآن المجيد .
3 / 6 : لم يرد فى هذه السورة لفظ ( المنافقين ) مع إنه جاءت أعمالهم من حديث الافك فى البداية الى عدم حضور جلسات الديمقراطية المباشرة فى النهاية .
حريتهم فى التآمر وفى التحالف مع العدو
مقدمة :
1 ـ كانت دولة النبى محمد الاسلامية ( العلمانية ) جزيرة يحيط بها أعداؤها ، اليهود على تخومها ، والأعراب بقبائلهم وقريش على مدى إتساع شبه الجزيرة العربية . كانت المدينة فى موقعها الثابت تواجه هذا وذاك ، ولم يكن فيها حصون حربية بينما كانت القبائل اليهودية حولها تعُجُّ بالحصون والقرى المحصنة والأسوار :( الحشر 2 ، 14 / الأحزاب 26 ). هؤلاء كانوا قوى معادية معتدية ، يشكلون خطورة محققة على الدولة التى كانت مفتوحة الأبواب للقادمين اليها الداخلين فى دينها وهو ( الاسلام السلوكى حسب الظاهر ).
2 ـ الخطورة الأكبر كانت فى المنافقين وهم العدو الداخلى الذى يتمتع بالحرية المطلقة فى الدين وفى المعارضة السياسية . ثم فى منافقين مسلحين من الخارج كانوا أكثر خطورة من منافقى الداخل . ونتوقف هنا مع نوعى المنافقين :
2 ـ التحالف مع العدو المعتدى أو بالتعبير القرآنى ( الموالاة ) .
كانت الهجرة الى الدولة الاسلامية تعنى موالاتها فى حربها الدفاعية ضد من يهجم معتديا عليها . وبدأ هذا مبكرا ، مع تأسيسها . ثم فى التعامل مع الأعراب .
1 : سُكان الدولة كانوا من مهاجرين وأنصار ، ولا بد من أن تجمعهم الموالاة . وليست موالاة لمن يتفق معهم فى الدين إلا بأن يهاجر الى الدولة ويتمتع بالمواطنة فيها . إذا تعرضوا للإضطهاد وهم خارج الدولة الاسلامية فعلى الدولة مناصرتهم إلا إذا كان هناك معاهدة بين الدولة الاسلامية وتلك الدولة التى تضطهد المؤمنين فيها .
2 ـ قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) الأنفال ). بعدها جاءت القاعدة التشريعية بأن الكفار المعتدين يوالى بعضهم بعضا ، وفى المقابل لا بد للمؤمنين أن يوالى بعضهم بعضا لمنع الفساد ومنع الفتنة أى الاضطهاد فى الدين . قال جل وعلا : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) الأنفال )
2 : المُعضلة الكبرى كانت فى المنافقين الخارجيين من الأعراب . كانت دولة المدينة تستقبل من يأتى اليها يريد التعرف على الاسلام . إنتهز هؤلاء الفرصة فكانوا يأتون بهذه الحُجّة ، يدخلون المدينة يتعرفون على معالمها ، ثم يغيرون عليها . أو يلتقون فيها بالمنافقين فى مسجد الضرار الذى إقامه المنافقون وكرا وإرصادا لمن حارب الله جل وعلا ورسوله .
دار نقاش حول التعامل مع أولئك المنافقين الخارجيين ؛ هل بالمنع من الدخول للمدينة أو الحرب . إنقسم المؤمنون الى قسمين . نزلت الآيات تحسم الخلاف .
2 / 1 : قال جل وعلا :
( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91) النساء ).
نلاحظ :
2 / 1 / 1 : الحكم الالهى عليهم بالضلال العقيدى ولا أمل فى هدايتهم . ولكن الأمل فى إسلامهم السلوكى . وهذا يتحقق بأن يهاجروا الى المدينة ويستقروا فيها مواطنين يتمتعون مثل بقية المنافقين بالحرية الدينية وحرية المعارضة طالما لا يرفعون السلاح . فالهجرة هنا هى الأساس ، أو المواطنة هى الأساس .
2 / 1 / 2 : إن رفضوا الهجرة وإستمروا فى الإغارة على المدينة فلا بد من قتالهم . فإذا إعتزلوا وسالموا فلا سبيل لقتالهم .
2 / 1 / 3 : هناك من تردد بين المسالمة والإعتداء فلا بد من حسم الأمر ؛ إن لم يعتزلوا الاعتداء فلا بد من مواجهتهم حربيا .
تحالف منافقى الداخل مع اليهود المعتدين
تحالفوا معهم أن ينصروهم في القتال ضد المسلمين . وإذا انهزموا وخرجوا فسيخرجون معهم، وأخبر الله جل وعلا بهذا التحالف السّرّى ، وأنبأ مسبقا بأن المنافقين سيتقاعسون عن نصرة اليهود لأنهم يخافون المؤمنين . قال جل وعلا : ( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) الحشر ) .
وعن تحالفهم مع اليهود المعتدين وكذبهم وتأحيل عقوبتهم الى يوم الدين قال جل وعلا : ( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ (19) المجادلة )
تحالف منافقى الداخل مع المشركين المعتدين
1 ـ جاء هذا صراحة فى قوله جل وعلا : ( بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) النساء ). واضح هنا تأجيل عقابهم الى يوم القيامة .
2 ـ وهناك إشارة ضمنية الى اتصالهم بالمشركين المعتدين وقت الحروب. قال جل وعلا : ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) النساء ).
2 / 1 : كانوا يتربصون بالمؤمنين في أوقات الحرب ، وتلك خيانة عظمى في القوانين الوضعية ، ولكن الله تعالى جعل العقوبة عليها مؤجلة إلى يوم الدين حيث سيحكم فيه بين المؤمنين والمنافقين على قدم المساواة .
2 / 2 : وتعبير ( يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ) يعنى تآمرا واتصالات سرية مع جيش يعتدى ، ومقصدهم الاستفادة من الجانبين ، إن إنتصر المؤمنون قالوا ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نكن معكم ونمنعكم من المؤمنين. أي كانوا يلعبون على الطائفتين؛ وتلك طبيعة النفاق . فهم حتى لا يوالى بعضهم بعضا لأنهم لا يثق بعضهم ببعض . قال جل وعلا عنهم ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (67) التوبة ) ، وفى المقابل قال جل وعلا عن المؤمنين : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (71) التوبة ) ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(29)الفتح )
3 ـ ومجرد الاتصال بحكومات معادية وقت الحروب يعنى الخيانة العظمى في اعتى الديمقراطيات الحديثة . ولكنها دولة النبى محمد الاسلامية التى لا نظير لها .
التآمر
التآمر على النبى محمد قائد الدولة بصناعة أحاديث منسوبة له :
قال جل وعلا : ( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) النساء ) ، أى يدخلون عليه يقدمون فروض الطاعة والولاء ثم يخرجون من عنده يتآمرون عليه وينسبون له أحاديث لم يقلها . والله جل وعلا يفضح تآمرهم ، وفى نفس الوقت يأمر النبى قائد الدولة بالعلاج ، وهو الإعراض عنهم والتوكل على الله تعالى وكفى به مدافعا وكفى به نصيرا .
التآمر على الدولة بمسجد الضرار :
كانوا يجتمعون فى اوكار سرّيّة ، يخلو بعضهم ببعض ، وبدأ هذا مبكرا ، وأخبر به رب العزة جل وعلا فقال : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) البقرة ) .
تطور الأمر أخيرا بأن جعلوا الوكر علنيا فى شكل مسجد يؤدون فيه الصلاة ، وإنخدع النبى محمد عليه السلام بهذا المسجد فكان يقيم فيه يصلى الى أن نزل قوله جل وعلا : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(110) التوبة ).
ونلاحظ :
1 ـ إن النبى كان لا يعلم الغيب ، ولولا أن الله جل وعلا كشف له حقيقة هذا المسجد لظل يرتاده يصلّى فيه .
2 ـ تحت لافتة المسجد فقد كانت حقيقته أنه مسجد للإضرار بالدولة الاسلامية ، والكفر بمعنى الاعتداء ، ولإيقاع الخلاف والفُرقة بين المؤمنين ، ولاستقبال جواسيس المحاربين للدولة الاسلامية الذين يأتون بزعم الاسلام ، ثم يلتقون بالمنافقين فى هذا المسجد يتشاورون .
3 ـ أخبر الله جل وعلا مقدما أنه بعد إفتضاح أمرهم بهذه الآيات سيحلفون أنهم ما أرادوا إلا الحسنى. والله جل وعلا يشهد مقدما بكذبهم . وقد جاء هذا بأسلوب التأكيد ( وَلَيَحْلِفُنَّ ) ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) . ولمجرد التذكير فإن أولئك الذين يشهد الله جل وعلا على كذبهم هم صحابة ، جعلهم أرباب الدين السُنّى عُدولا منزهين عن الكذب ، أى يتهمون رب العزة جل وعلا بالكذب .
4 ـ لا عقوبة عليهم فى الدنيا ، فهى تنتظرهم فى الآخرة كما جاء فى الآية 109 .
5 ـ زعموا أن النبى محمدا أحرق هذا المسجد ، وهذا يخالف ما جاء فى بقائه فى قوله جل وعلا : ( لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا ) أى ظل لا يزال ، وهذا يتفق مع الإعراض عنهم .
اكتفى النبي والمؤمنون بمقاطعة ذلك الوكر. وتلك هي السياسة التي كان يتبعها النبي وفقا للحرية المطلقة فى الدولة الاسلامية ، ويكفى ما ينتظرهم يوم الدين .
6 ـ المقت الإلهى لهم ، والذى نستشعره من قوله جل وعلا عنهم : ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110).
أخيرا :
1 ـ وقد يقال أن تلك السياسة لا تجدي في عالم اليوم إذا لابد من اتخاذ تدابير وقائية و تشريعات استثنائية لمواجهة التآمر على الحرية . ولكن القرآن الكريم يضع العلاج الأمثل للوقاية من ذلك التآمر .وهو المزيد من الحرية مع التوكل على الله الذي خلق الإنسان حرا ولا يريد لأحد أن يتحكم في حريته أو يصادرها على مراحل بسبب التخوف من أشياء محتملة قد تكون مجرد شكوك لدى أولى الأمر . وفتح باب الاستثناء والاعتداء على الحرية ينتهي بالاستبداد المقنع ثم بالاستبداد المكشوف .
2 ـ ما رأيكم ــ دام فضلكم ـ فى المستبد الشرقى فى كوكب المحمديين الذى يزعم الاسلام ، وهو يقهر الناس بالتعذيب والسجون بتهم ملفقة ؟
تقاعسهم عن القتالالدفاعى
مقدمة
الدولة الاسلامية فى المدينة فى عهد النبى كانت لها وضع خاص ، لم تكن مثل مكة المحمية بالبيت الحرام ، ولم تكن مثل بقية المدن كالطائف ومدن أهل الكتاب المُحاطة بحصون وقلاع . ولم تكن مثل قبائل الأعراب الرُّحّل فى الصحراء . كانت المدينة مفتّحة الأبواب لمن يأتيها مهاجرا ، وفى نفس الوقت كانت هدفا ثابتا لأعدائها المتربصين بها . إستلزم هذا :
1 ـ أن يكون للنبى جهاز تجسس من المؤمنين القادمين اليه ، أن يرجعوا ليكونوا عيونا على أقوامهم ينبئون النبى بأى تحرك آت ضده .
2 ـ أنه يكون سكان المدينة جميعا على أهُبّة الاستعداد للخروج الفورى لملاقاة الغزو القادم قبل أن يقتحم المدينة ، وحتى لا تتكرر محنة الأحزاب . ولذا كان الأمر بالقتال يأت فيه تعبير ( الخروج ) و ( النُفرة ).
3 ـ أن يكون سُكّان المدينة يدا واحدة فى الدفاع عن دولتهم . والواقع المؤلم أن سكان المدينة لم يكونوا يدا واحدة . المنافقون كانوا يتقاعسون عن الدفاع . حريتهم الكاملة إستخدموها ضد الدولة التي يعيشون فيها .
ونعطى أمثلة :
أولا : معركة أحد
قال جل وعلا فى سورة آل عمران :
1 ـ ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ) 154 ). هنا وصف للانتصار الأولى للمؤمنين ، ولكن حب الدنيا وغنائم الحرب قلبت ميزان ، فانهزموا ، وضاع صياح النبى لهم بالثبات والرجوع .
2 ـ ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (154) . هذا عن المنافقين الذين تقاعسوا عن الخروج لملاقاة العدو . وبعد الهزيمة وفى جلسة الشورى التى ناقشت الأمر رأوها فرصة اللوم ، وأن على النبى والمؤمنين تقع مسئولية القتلى فى المعركة ، وجاء الرد بأن موضوع الموت من الحتميات ، وكل إنسان محدد مكان وموعد موته.
3 ـ ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155). هذا عن الذين فروا وقت المعركة .
4 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158). هذا ردُّ على الدعاية السوداء للمنافقين بشأن الخسائر البشرية .
5 ـ ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) . هذا تعليق على مجلس الشورى ، وتذكير للنبى محمد بأنه يستمد سلطته السياسية قائدا من إجتماعهم حوله ، ولذا جعله الله جل وعلا هيّنا ليّنا متواضعا معهم . ولو كان فظّا غليظا لاتركوه وانصرفوا عنه وضاعت دولته ، لذا أمره الله جل وعلا بالاستغفار لهم والعفو عنهم والتشاور معهم فى كل أمر لأنهم أصحاب الأمر . الأمّة هنا هى مصدر السلطات ، أما فى كوكب المحمديين فالتعذيب هو مصدر السلطات .!
6 ـ ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166).
هذا خطاب للمؤمنين يجب أن يعلموه ، وهذه الهزيمة درس لهم ، فهم السبب ، وجاء بإذن الله مترتبا على عصيانهم . وهنا إشارة الى أن إنتصار المؤمنين قبلها فى معركة بدر تعدل مرتين إنتصر الكافرين فى ( أُحُد ).
7 ـ ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167). قيل للمنافقين قاتلوا فى سبيل الله أو دافعوا عن وطنكم ، فردوا بأنهم لا يعرفون القتال . وهم حين قالوا هذا كانوأقرب الى الكفر منهم الى الإيمان . الذى قال هذا هو الأعلم بالسرائر وما كانوا يكتمون . والمعنى أن الايمان يزيد وينقص ، كأرض متحركة يسير عليها الانسان ، تعلو درجة الايمان أو درجة الكفر حسب ما يتخذه من مواقف ، خصوصا وقد الشّدة والمحنة مثل التضحية بالنفس .
8 ـ ( الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) . هذا عن المنافقين الذين قعدوا عن النُّفرة والخروج للقتال ونصحوا غيرهم بعدم الخروج للقتال ثم توجهوا باللوم لمن قُتل منهم . يفتخرون بأنهم ظلوا أحياء ، والرد عليهم إنهم لا يستطيعون الفرار من الموت .
9 ـ وجاء الردُّ التالى عمّن قُتل فى سبيل الله جل وعلا : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)) آل عمران ). سبق القول عمّن يُقتل فى سبيل الله جل وعلا : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) البقرة ). هنا نهى عن القول بأنهم أموات بل أحياء فى البرزخ عند ربهم يُرزقون . جاء التأكيد على نفس المعنى ردا على المنافقين مع إضافات أخرى عن نعيمهم وإحساسهم بمن هم فى الدنيا.
10 ـ ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175). هنا حقيقة تاريخية : بعد النصر السريع للكافرين أسرعوا بالفرار حفاظا عليه ، وصمّم بعض شجعان المؤمنين الجرحى على مطاردتهم برغم تخويف البعض لهم . ورجعوا لم يمسسهم سوء وقد فازوا برضى الله جل وعلا . والدرس المستفاد : إنك إذا خفت ربك جل وعلا كنت فى أمن ، أما إذا لم تخفه فإن الشيطان يُخيفك من أى شىء .
ثانيا : غزوة الأحزاب :
قال جل وعلا فى سورة ( الأحزاب )
1 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ) (9). هزمهم هو الله جل وعلا بالرعب الذى بثّته الملائكة فى قلوبهم وبالريح التى سلّطها عليهم .
2 ـ ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) ( 10 ) . تصوير للحصار .
3 ـ ( وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10)هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) . تصوير لهلع المؤمنين فى الداخل .
4 ـ ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) . سخرية المنافقين من الله جل وعلا ورسوله .
5 ( وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً (13).التخلف عن الحراسة بأعذار كاذبة .
6 ـ ( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً (14) . لو إقتحم الأحزاب المدينة لأسرعوا باعلان الكفر .
7 ـ ( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً (15). حين وصلت أنباء تحرك الأحزاب عقد الجميع عهدا مع الله جل وعلا بالصمود . ونقض المنافقون هذا العهد ، وهم عنه مسئولون أمام رب العالمين .
8 ـ ( قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (17). لا مهرب من الموت ولا مهرب من حتميات القضاء الالهى .
9 ـ ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) . كانوا يعوقون المؤمنين عن القتال ولا يقاتلون .
10 ـ ( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ) (19). كانوا عند الخوف على وشك الموت ، إذا ذهب الخوف إنطلقت ألسنتهم فى المؤمنين .
11 ـ ( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20). لو إقتحم الأحزاب المدينة لتمنوا لو كانوا بدوا من الأعراب يحتمون بالصحراء .
12 ـ ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) . قاموا بنشر الإشاعات والأراجيف ، وفكّر بعضهم فى حمل السلاح فهددهم الله جل وعلا بأنهم إذا ( ثُقُفوا ) أى اصطدموا حربيا بالمؤمنين فلن تقوم لهم قائمة .
ثالثا : غزوة ذات العسرة :
قال جل وعلا فى سورة التوبة :
1 ـ ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) . لو كانت رحلة قصيرة مأمونة لخرجوا ، وأخبر الله جل وعلا مقدما بأنهم سيحلفون بالله كذبا أنهم لو إستطاعوا الخروج لخرجوا . وبهذا الحلف الكاذب يهلكون أنفسهم .
2 ـ ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) . هذا عن إستئذانهم الكاذب المُخادع بالتخلف عن الخروج .
3 ـ ( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) . لو كانوا جادّين لاستعدوا .
4 ـ ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) (47). لو خرجوا لأشاعوا الفتنة بين المؤمنين.
5 ـ ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81). فرحوا بتخلفهم ، وجاء الردُ عليهم بما ينتظرهم من نارجهنم .
6 ـ ( فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) .
العقوبة هى ما يحبون : حرمانهم من شرف الجهاد مستقبلا وعدم الصلاة عليهم فى قبورهم . ونعرف أنه ليس فى الدولة اسلامية تجنيد إجباري، بل هو تطوع بالنفس والمال فى سبيل الله جل وعلا .
المستبد فى كوكب المحمديين يفرض التجنيد ليحمى سلطانه .
التعليقات
بن ليفانت
وجهة نظر
"... لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (154) . هذا عن المنافقين الذين تقاعسوا عن الخروج لملاقاة العدو . وبعد الهزيمة وفى جلسة الشورى التى ناقشت الأمر رأوها فرصة اللوم ، وأن على النبى والمؤمنين تقع مسئولية القتلى فى المعركة ، وجاء الرد بأن موضوع الموت من الحتميات ، وكل إنسان محدد مكان وموعد موته." القصد كما أفهمه من قول المنافقين "ما قتلنا هاهنا" هو "لو لم نكن هنا لما قُتل منا من قُتل".
في الرد جاءت عبارة "لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم". الكلام هنا على ما أفهمه عن القتلة "أنهم برزوا" وليس على المقتولين. فعل "كُتب" فعل مبني للمجهول. من الفاعل؟ هل الله تعالى هو من كَتب على القتلة (أمر القتلة) أن يبرزوا إلى مضاجع الذين قُتلوا ليقتلوهم؟ إذا كان كذلك، فالقتلة قتلوا بأمر الله وليس بإرادتهم (يعني بيطلعوا براءة كمن قتل الغلام في الآية 74 من سورة الكهف). بصراحة لا أعتقد ذلك، وإنما المقصود من"كُتب عليهم القتل" تعني من "سُجِّلت عليهم جريمة القتل"، أي أنها ليست أوامر إلاهية. إذا كان الأمر كذلك، فالمقصود هنا هو علم الله تعالى بالغيب، بأن من قُتلوا في المعركة كانوا سيُقتلون لو بقوا في بيوتهم – مع العلم أن هذا لم يحصل. الله يعلم متى وكيف سنموت ولكن ليس بقرار. طبعًا مع إعطاء الضوء الأخضر. من الصعب على العقل الأنساني أن يتصور أحدًا يعلم المستقبل (الغيب)، بغير دلالة عليه، دون أن تكون له يد في صنعه. لهذا فعلم الله بالغيب هو مستحيل للبشر.
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ بن ليفانت وأقول :
الحتميات المكتوبة التى لا مهرب منها هى الميلاد والموت وما بينهما من الرزق وما يصيب الانسان مما يقع عليه من خير او شر . الانسان له دخل فى هذه الحتميات فى خضم تعامل البشر مع بعضهم البعض ، ولكن الانسان لا يعلم الغيب كما انه يتصرف بحريته . الانسان لا يستطيع الافلات من الحتميات كما هو حاله مع الجاذبية الارضية ، كما ان الجاذبية الارضية لا ترغمه على تصرف لا يريده . هو موضوع غاية فى التعقيد وشغل الفلاسفة والمفكرين ، ولا يزال . ونحن نقول وجهة نظرنا من القرآن الكريم.
حرية المنافقين فىالبخل فى الدولة الاسلامية
أولا : فى الدولة الاسلامية :
1 ـ حرية الإنفاق فى سبيل الله جل وعلا جهادا ، والانفاق على المحتاجين ، ولا إلزام فى هذا وذاك .
2 ـ حرية الحركة الإقتصادية بما يوفّر سرعة دوران رأس المال ، خصوصا مع كثرة السكان حيث يكون البشر عاملا أساسا فى خلق الرخاء الاقتصادى .
3 ـ فى الدولة الاسلامية الناهضة إستفاد المنافقون وهم أصحاب الأموال.
عن وصفهم بالغنى والثراء قال جل وعلا :
3 / 1 : ( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (74) التوبة )
3 / 2 : ( يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ) ( 93 ) التوبة ) .
3 / 3 : ( كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً )(69) التوبة ).
3 / 4 : ( لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) المجادلة )
5 ـ الغريب أن النبى محمدا كان مُعجبا بثرائهم الفاحش فنهاه الله جل وعلا مرتين عن الاعجاب بأموالهم وأولادهم ، وكرّر أنه جل وعلا سيعاقبهم بأموالهم وأولادهم فى الدنيا وسيموتون بها كافرين . قال جل وعلا :
5 / 1 : ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) التوبة )
5 / 2 : ( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة).
6 ـ ثراؤهم وأولادهم أو ( جاههم ) لم يجعلهم يشعرون بالقوة بل كانوا فى خوف مستمر. بعد نهى النبى عن الاعجاب بثرائهم قال جل وعلا عن مدى خوفهم : ( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) التوبة ). عالجوا هذا الخوف بالتقرب نفاقا للمؤمنين الأقل منهم فى الثروة .
7 ـ وحرصا منهم على مصالحهم وثرواتهم وأملاكهم رفضوا مغادرة المدينة الى خارجها إذ سيكونون تحت سيطرة غيرهم حتى لو إتفقوا معهم فى الكفر .
8 ـ بخلهم بالأموال وتقاعسهم عن القتال جعلهم يحتكرون ملامح خاصة بهم أزرت بمكانتهم ، وهى :
8 / 1 : فى إضطرارهم الى مُداراة المؤمنين والنبى كانوا يحلفون كذبا ، لحق بهم وحدهم التعبير القرآنى ( إتّخذوا أيمانهم جُنّة ). قال جل وعلا عنهم :
8 / 1 / 1 : ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) المجادلة )
8 / 1 / 2 : ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (2) المنافقون )
8 / 2 ـ كان رب العزة يخبر مقدما بأنهم سيحلفون كذبا ويؤّكد شهادته عليهم بأنهم كاذبون . قال جل وعلا :
8 / 2 / 1 : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) التوبة )
8 / 2 / 2 : ( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) )
8 / 2 / 3 : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) المنافقون )
8 / 2 / 4 : ( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) التوبة ) .
8 / 3 ـ فى تقاعسهم عن الخروج للقتال لحق بهم وصف أنهم رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع الخوالف القاعدين عن القتال من الأطفال وكبار السن . قال جل وعلا :
8 / 3 / 1 : ( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) التوبة )
8 / 3 / 2 : ( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) التوبة )
9 ـ كانت قوة المؤمنين الحقيقيين تزداد بتفاعلهم فى مجالس الشورى وفى التبرع للمجهود الحربى وفى القتال ، بينما تتضاءل مكانة المنافقين مع فضح القرآن الكريم لهم وحديثه عنهم بإحتقار يتضح فى قوله جل وعلا للمؤمنين عنهم :
9 / 1 : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) . أى لا يستحقون الاهتمام بهم وبأيمانهم الباطلة .
9 / 2 : ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) التوبة )
9 / 3 : ( يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) التوبة )
10 : زاد من وقع هذا الاحتقار نزول القرآن بكفرهم ( على المستوى الدينى ) ومخالفتهم للأعراف العربية التى تمتدح الكرم والمروءة والشجاعة والنجدة .
ثانيا : بخلهم فى الانفاق على المحتاجين
1 ـ حديث الإفك فى سورة ( النور ):
لا علاقة له بعائشة بل بفقراء المهاجرين ومن يحسن اليهم من الأنصار
فى البداية إزدحمت بالمهاجرين ، ومنهم فقراء تركوا أموالهم وبيوتهم فى مكة ، وإحتضنهم المؤمنون الأنصار ، وآثروهم على انفسهم مع ما فيهم من خصاصة وفقر ، ولهذا كان لهم نصيب فى الفىء ( أى ما يفىء الى بيت المال بلا حرب دفاعية ) ل: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )(9) الحشر ).
فى هذا الوقت أشاع بعض المنافقين إتهامات كاذبة فى قذف المؤمنين والمؤمنات من المهاجرات والأنصار. آيات سورة النور تتحدث عن اتهام جماعة من أهل المدينة لجماعة من المؤمنين الأبرياء، في ذلك يقول الله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين جميعا في المدينة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ فالخطاب هنا عام للمؤمنين جميعاً ، فليس ذلك الحديث الإفك شراً للمؤمنين بل هو خير لهم لأنه بسببه أنزل الله جل وعلا في السورة التشريعات التي تنظم الحياة الاجتماعية للمسلمين حتى لا يتكرر المجال للتقولات والإشاعات. ثم تقول الآية التالية تتحدث عن عموم المؤمنين أيضاً ﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ إذن هي تهمة عامة تمس مجتمع المسلمين جميعاً وكان ينبغي عليهم أن يرفضوها وأن يظنوا بأنفسهم خيراً، وتمضى الآيات على نفس الوتيرة تخاطب جموع المسلمين ، تقول الآيات ﴿ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
2 ـ لم يرد لفظ النفاق ومشتقاته فى سورة النور ، ورد كثيرا فى سورة النساء ، وورد فيها عنهم ضمنيا فيما يخصُّ بخلهم وتواصيهم به قوله جل وعلا : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (38) النساء ).
3 ـ وجاء فى سورة المنافقين عنهم : ( هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) (7)). أى كانوا يتواصون بالبخل ويأمرون به .
4 ـ وكانوا يقومون بمظاهرات تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وتدعو للبخل . قال جل وعلا : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) (67) التوبة )
5 ـ بعض فقراء المنافقين كان :
5 / 1 : يتسابق فى الحصول على الصدقات ، بل ويلمز النبى يطلبها ، إذا أعطاه النبى رضى وإن لم يعطه سخط . قال جل وعلا :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) التوبة ) قال جل وعلا يعظهم : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) التوبة ) جاء بعدها توزيع الصدقات الرسمية على مستحقيها : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) التوبة ) .
5 / 2 : عاهد الله جل وعلا إن جعله غنيا أن يتصدّق ويكون من الصالحين . أى نذر نذرا مشروطا . فلما حقق الله جل وعلا له أمنيته بخل فكانت عقوبته أنه لا توبة مقبولة له ، وسيلقى الله جل وعلا بنفاقه يوم القيامة . قال جل وعلا : ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) التوبة ).
ثالثا : بخلهم فى الانفاق فى سبيل الله جل وعلا مع تقاعسهم عن القتال
1 ـ قال جل وعلا : ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) التوبة )
2 ـ بل كان بعضهم يتصدّى لمن يتبرع للمجهود الحربى ، إذا كان فقيرا سخر منه ، وإن لم يكن فقيرا لمزه بالسوء من القول . قال جل وعلا : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) التوبة ) . وبسبب هذا قال جل وعلا للنبى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) التوبة ).
أخيرا
1 ـ ولأنه لا إلزام فى القتال الدفاعى ولا إلزام فى التبرع له فقد قال جل وعلا :
1 / 1 : ( قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) التوبة ).
1 / 2 : : ( فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)التوبة )، أى إن عقوبتهم مؤجلة الى يوم الدين .
حرية المؤمنين الحقيقيين فى دولة النبى الاسلامية
أولا :
مفهوم الايمان وتقسيم المؤمنين
1 ـ التقسيم السهل هو أن المؤمنين نوعان :
1 / 1 ـ مؤمنون مسالمون وعقائدهم تخالف عقيدة الاسىم . والتعبير عنهم ب ( آمن ل ) بمعنى وثقق وإطمأن . الذى يوثق فى عدم إعتدائه يكون مؤمنا بسلوكه السلمى . وفى الدولة الاسلامية يحظى بالمواطنة القائمة على الاسلام السلوكى . وفيها فى عهد النبى محمد فى المدينة كانوا اكثرية فى تصورنا .
1 / 2 : مؤمنون مسالمون ، وأيضا هم مؤمنون بالله جل وعلا وحده لا شريك له ، ولا تقديس عندهم لبشر أو حجر . أى جمعوا بين الاسلام السلوكى بمعنى السلام والإيمان السلوكى بمعنى الأمن والأمان مع الايمان القلبى بالله جل وعلا وحده لا شريك له وبالاسلام القلبى بمعنى التسليم للخالق جل وعلا وحده ، وإخلاص الدين والدعاء والعبادة له جل وعلا وحده .
2 ـ يجمع بينهما قوله جل وعلا عن النبى محمد عليه السلام : ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (61) التوبة ) ( يؤمن بالله )أى الايمان القلبى بالخالق جل وعلا وحده ، و( يؤمن للمؤمنين ) أى يثق فيهم ويطمئن اليهم .
ثانيا : ديناميكية الايمان
1 ـ ليس الايمان شيئا ثابتا . فالكفر فى داخله إيمان بالله وإيمان بغيره ، وهو إيمان قليل لا ينفع صاحبه يوم القيامة . قال جل وعلا : ( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ) (29) السجدة )، بل يستحق عليه. اللعنة . قال جل وعلا : ( بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) البقرة ) ( وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46 ) النساء ) .
2 ـ ويتقلب بعضهم بين إيمان حقيقى الى كفر ، قال جل وعلا :
2 / 1 : عن المنافقين : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) المنافقون )
2 / 2 : عموما :
2 / 2 / 1 : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90) آل عمران )
2 / 2 / 2 : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) النساء ).
3 ـ ويزداد المؤمن إيمانا ، ويزداد الكافر كفرا ، فالايمان يزداد وينقص . ليس ثابتا . قال جل وعلا :
3 / 1 : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الانفال )
3 / 2 : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) التوبة ).
4 ـ عدم الثبات هذا سببه المواقف التى يتخذها الانسان . أى ( العمل ) .
4 / 1 : فى حياتى عرفت أشخاصا آمنوا بالله جل وعلا وحده إلاها وبالقرآن الكريم وحده حديثا ، وصحبونى ثم إتخذوا مواقف مشينة بمحض إرادتهم ، وترتب عليها سقوطهم أخلاقيا . كنت فى حيرة ، كيف يحدث هذا مع إيمانهم وثقافتهم القرآنية ؟ وجدت الاجابة فى قوله جل وعلا : ( ثم كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون (10) الروم ). أنبأت الآية الكريمة بما سيحدث منهم ، وحدث . إذ تنكروا لما كانوا يؤمنون به ، وإستهزأوا بما كانوا يؤمنون به .
4 / 2 : هذا يذكّرنا بمن راق له أن يكون قرآنيا ، ولم تكن خلفية فى التدين ، لم يكن يُصلّى . ووجد هواه فى أن يرفض التراث وأن يرفض الصلاة أيضا بحُجّة أن تفصيلاتها لا توجد فى القرآن الكريم . فأصبح دينه هو إنكار الصلوات الخمس والعبادات . ولا يملُّ من الدعوة لهذا الإفك . وهو بهذا كافر بالقرآن الكريم لأنهما مهما توضّح له أن القرآن الكريم نزل لتصحيح ملة ابراهيم ، لم يذكر الموروث المتواتر الصحيح بل تصحيح الخطأ ، وهذا ليس فى العبادات فقط من صلوات وصدقات وحج ، بل أيضا فى الزواج والطلاق والمعاملات .
4 / 3 : إنه الموقف الذى يختاره الانسان بمحض إرادته ، وبه يتغير إيمانه . حدث هذا مع بعض المنافقين ، قال جل وعلا عنهم : ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ )167) آل عمران ). حين قالوا هذا وحين إتخذوا هذا الموقف كانوا للكفر أقرب منهم للإيمان .
ثانيا :
ضرورة الإبتلاءات والإختبارات للمؤمنين :
1 ـ الابتلاء بالخير والشر هو للعموم من البشر ، وقد خلقهم الله جل وعلا ليختبرهم ، ومن ينجح فى الاختبار سيكون مصيره الخلود فى الجنة ، ومن يرسب فيه يخلد فى الجحيم . يقول جل وعلا :
1 / 1 : ( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) (2) الانسان ). هذا عن خلق الانسان لابتلائه .
1 / 2 : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الانبياء ).
2 ـ جاءت للمؤمنين بأسلوب التأكيد تنبىء مقدما بما ينتظرهم من إبتلاءات ، قال لهم ربهم جل وعلا :
2 / 1 : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) آل عمران ).
2 / 2 : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157) البقرة )
2 / 3 : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) محمد )
2 / 4 : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) البقرة )
2 / 5 : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران ).
2 / 6: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) التوبة ) .
3 ـ كان المؤمنون فى دولة مُحاطة بالأعداء المعتدين ، وهذا أعظم إختبار تميّزوا فيه . هم جميعا كانوا مُسالمين ، ولكن توجّب عليهم أن يهبوا دفاعا عن دولتهم وحياتهم ضد غارات تقع عليهم . قال جل وعلا : ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) البقرة ) . فى البداية كانوا مأمورين بكفّ اليد وعدم المواجهة حتى يستعدوا . فلما نزل عليهم الأمر بالدفاع ضجّوا وإحتجوا مع إن القتال الدفاعى هو الخير لهم . قال جل وعلا :
3 / 1 : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) النساء )
3 / 2 : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) البقرة ) . القتال الدفاعى كان هو الخير لهم وإن كرهوه .
4 ـ قبلها نزل الأمر بالاستعداد الحربى للردع وليس للإعتداء ومعه الأمر بالإنفاق المالى تبعا للمجهود الحربى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) الأنفال ).
5 ـ بعدها تعين عليهم القتال الدفاعى ، ونزل الأمر به إذنا لهم وفيه حيثيات القتال لمن يقع عليه القتال : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج ).
ثالثا :
نصائح للمؤمنين للنجاح فى الابتلاءات
قال لهم ربهم جل وعلا :
فى إختبار القتال الدفاعى :
1 ـ ( إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160) آل عمران )
2 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) محمد )
3 ـ ( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) آل عمران )
4 ـ ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التوبة )
5 ـ ( انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) التوبة )
فى إختبار القتال الدفاعى والتطوع للمجهود الحربى معا :
1 ـ ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) البقرة ) . ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) لا علاقة لها بالانتحار ، بل هى فى سياق القتال الدفاعى الذى يتطلب إنفاقا فى سبيل الله جل وعلا ، بدونه تكون التهلكة للمؤمنين التى يحاصرها أعداؤها .
2 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13) الصف )
فى إختبار التطوع للمجهود الحربى معا :
1 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعفو ا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) التغابن )
2 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) المنافقون ) .
كيف كانت إستجابة المؤمنين الحقيقيين ؟
مواقف المؤمنين الحقيقيين فى دولة النبى الاسلامية
أولا : من هم ؟
1 ـ نقصد بهم الصحابة الذين جمعوا بين الاسلام القلبى والاسلام السلوكى معا .
2 ـ كان منهم أثرياء ضحوا بأموالهم وبيوتهم ومكانتهم وهاجروا ليعيشوا فقراء فى المدينة ، يبتغون فضلا من الله جل وعلا ورضوانا ، وظلوا ينصرون الله جل وعلا ورسوله فاستحقوا مبكرا أن يصفهم الله جل وعلا بالصدق . وجعل لهم وللأنصار الذين آووهم نصيبا فى الفىء ، قال جل وعلا : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) الحشر ) وقال جل وعلا عن المؤمنين الصادقين من الأنصار الذين آووهم ونصروهم : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )(9)الحشر ).
ثانيا : مواقف المؤمنين الحقيقيين فى إبتلاء ( المعارك )
فى معركة بدر
1 ـ المهاجرون الذين كانوا أثرياء فى مكة صادرت قريش أموالهم وبيوتهم ، كما صادرت أسهمهم التجارية فى رحلتى الشتاء والصيف . كانت قريش تهاجم دولة النبى فى البداية وقت أن كان المؤمنون فيها مأمورين بكفّ اليد عن الدفاع الى أن يستكملوا تدريبهم العسكرى وإعدادهم للقوة العسكرية ومستلزماتها . فلما إستكملوها نزل لهم الإذن بالقتال . كان الهدف الأول هو إسترداد أموالهم التى تتاجر بها قريش فى قوافلها ، وهى فى طريقها الى الشام تمر قريبا من المدينة . لذا حدثت معركة بدر . وبالوحى التوجيهى للنبى محمد عليه السلام جاءت البشرى بالحصول على القافلة واسترداد أموالهم أو بالانتصار على قريش . ولأنهم مُسالمون ولا عهد لهم بالحروب ،فقد كانوا يفضلون الهجوم على القافلة بجيشهم القليل واسترجاع أموالهم . عرف أبوسفيان بترصّد النبى وصحبه ، فقام بتغيير مسار القافلة ، وأرسل لقريش يستنفرها ضد النبى . وفوجىْ النبى والمؤمنين بأنه تعين عليهم أن يواجهوا جيشا قريشيا يفوق عددهم ثلاث مرات ، وأنه لا سبيل الى تفادى المواجهة لأن هذا الجيش لو تفادوه فسيغزو المدينة . مع وضوح الحق فإن فريقا من المؤمنين الحقيقيين إرتعب مقدما وأخذ يجادل النبى فى الحق الذى تبين وفى الصدام المُقبل الذى تحتم . أروع تصوير لهذا جاء فى قوله جل وعلا للنبى وعن المؤمنين : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) الانفال ). هذا يخالف ما رواه الملعون إبن إسحق الذى زعم حماس المهاجرين والأنصار لمواجهة الجيش القرشى . أى إنه يكذّب قوله جل وعلا : ( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) الأنفال ).
2 ـ كان تقسيم الأنفال ( الغنائم ) وضعا جديدا ، هل يستحقها الذين صادرت قريش أموالهم وبيوتهم ؟ ومنهم من لم يشارك فى المعركة ؟ وهل يشارك فيها الأنصار المشاركون فى المعركة ولم تُصادر قريش لهم شيئا ؟ سألوا النبى محمدا فانتظر حتى نزل الوحى بالاجابة : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)الأنفال )، وبعدها كيفية التوزيع ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (41)الانفال)، وتحليلها ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ (69) الانفال ).
3 ـ من الجديد أيضا موضوع الأسرى. لم يكن هناك تبادل أسرى ، فكان الحل هو إطلاق سراحهم بالمال . جاءهم لوم شديد بسبب هذا : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) الأنفال ).
فى معركة أُحُد :
جاءت قريش تنتقم لهزيمتها وهيبتها ، وتحمّس المؤمنون لملاقاتهم ، كان منهم من يطمع فى الغنائم وحُطام الدنيا ، وكان منهم من يريد الآخرة والجنة. تسبب الطامعون فى الغنائم فى الهزيمة بعد إنتصار أولى ، أسرع الجيش القريشى بالمغادرة حفاظا على النصر السريع . صمّم بعض المؤمنين الحقيقيين الجرحى على مطاردتهم . نزلت الآيات فى التعليق لوما وعتابا ومدحا حسب المواقف ( آل عمران 152 : 158 ، 174 : 175 ).
فى موقعة الأحزاب
حوصرت المدينة وكان المؤمنون فى موقف عصيب . قال جل وعلا : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) الاحزاب ). فى هذه المحنة ظهرت عظمة المؤمنين الحقيقيين وصدقهم . قال جل وعلا : ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) الاحزاب ). موصوفون هنا بالصدق ، وسبق نفس الوصف فى سورة الحشر ( الآية 8 ).
فى موقعة ذات العسرة
1 ـ تخلف عنها المنافقون بينما خرج مع النبى المؤمنون الحقيقيون برغم كل الصعوبات . قال جل وعلا عنهم : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) التوبة ). بعضهم كاد قلبه يزيغ ، وتاب الله جل وعلا عليهم جميعا بما فيهم النبى. وهذه الآية تصفع من يزعم عصمة النبى محمد عليه السلام .
2 ـ وجاء عتاب آخر رقيق بأنه لا ينبغى : ( مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) التوبة )
3 ـ المرضى والضعاف كان لهم العذر فى التخلف ، فاكتفوا بالنصيحة ، وإعتبرهم رب العزة جل وعلا محسنين . وبعضهم كان فقيرا يريد الجهاد ولكن لا يملك راحلة يركبها فجاء للنبى يطلب راحلة ، ولأنه لم يتحقق طلبه فقد رجع باكيا . قال جل وعلا : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) التوبة )
4 ـ ولأنه موقف يتخذه الانسان فإن بعض المؤمنين الحقيقيين تخلف عن موقعة ذات العسرة ، ثم ندم وتاب ، واستحقوا أن يذكرهم رب العزة جل وعلا : ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) التوبة )
ثالثا :
مواقف المؤمنين الحقيقيين فى التبرع للمجهود الحربى
1 ـ فى الوقت الذى بخل فيه المنافقون الأثرياء بادر الأغنياء من المؤمنين الى التبرع ، فلاحقهم المنافقون بالهمز واللمز ، وبادر الفقراء منهم بالتبرع فلاحقهم المنافقون بالسخرية : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ) (79) التوبة )
2 ـ بعضهم كان يتبرع بالمال للمحتاجين ، ولكن مع المنّ والأذى ، فنزلت آيات فى تشريعات إعطاء الصدقة منها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى) (264) البقرة )
رابعا :
مقارنات :
إختلاف المواقف المُختارة بالحرية الانسانية أتاحت للجميع التصرف بمشيئتهم دون إلزام . وترتب عليه مقارنات :
1 ـ بين المؤمنين الحقيقيين والمنافقين فى :
1 / 1 : الاحتكام والتقاضى أمام النبى . قال جل وعلا : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51) النور)
1 / 2 : فى بناء المساجد وارتيادها .
1 / 2 / 1 : عن مسجد الضرار للمنافقين جاءت هذه المقارنة : ( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) التوبة ).
1 / 2 / 2 : جاء قبلها عن مساجد أقامها المؤمنون الحقيقيون : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) النور). عبادتهم فى المساجد لم تمنعهم من السعى للرزق ، وإيتاء الزكاة المالية . كانت لهم تجارتهم وتنمية أموالهم ، ولم يكن تلهيهم عن عبادتهم .
2 ـ بين المؤمنين الحقيقيين أنفسهم فى الجهاد وفى التبرع للمجهود الحربى
كانت لهم مواقف مختلفة نتج عنها عدم تساويهم فى الدرجة . فى هذا قال جل وعلا :
2 / 1 : ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) النساء
2 / 2 : ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد ).
خامسا :
تنوع سكان المدينة فى أواخر ما نزل من القرآن الكريم فى سورة التوبة :
1 ـ كان منهم السابقون من المهاجرين والأنصار : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100). نلاحظ أن الآية الكريمة تصفهم بهذا وهم أحياء . فالمعنى إنهم سيحافظون على هذا السبق تمسكا بالاسلام حتى موتهم . يعنى لن يشاركوا فى الفتوحات أفظع كفر بالاسلام . ولهذا فلا ذكر لهم فى التاريخ الذى ينام فى أحضان الطُّغاة .
2 ـ الأعراب وهم قسمان مؤمن وكافر . قال جل وعلا : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ )101 )
3 ـ صحابة تابوا ، إعترفوا بذنوبهم أمام النبى وكان عليهم أن يقدموا صدقة عسى أن يتقبل الله جل وعلا توبتهم : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) . نلاحظ كلمة ( عسى ) أى إن التوبة متوقفة على عملهم المستقبلى ومدى صدقهم القلبى . لذا جاء فى الآية التالية الأمر لهم بالعمل الصالح : ( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) .
4 ـ أخطر المنافقين الذين مردوا على النفاق : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101). هم صحابة الفتوحات ، وقادتهم الخلفاء الفاسقون : أبو بكر وعمر وعثمان وعلى .
5 ـ صحابة أرجأ الله جل وعلا الحكم عليهم تبعا لسلوكياتهم ، إذ لم يتوبوا ، وربما يتوبون : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) التوبة )
حرية المؤمنين المسالمين الكافرين عقيديا فى دولة النبى الاسلامية
مقدمة :
1 ـ هناك مهاجرون دخلوا الاسلام بمعناه السلوكى ، مع تمسكهم بتقديس الأنصاب ( القبور المقدسة ) وما يرتبط بها من عادات جاهلية . وأصبحوا جزءا من التركيبة السكانية فى الدولة الاسلامية . ونزل فى القرآن الكريم خطاب وعظى فيه التأكيد على حريتهم ، دون إيقاع عقوبة عليهم من الدولة الاسلامية . فطالما لا يرقعون السلاح فلهم حرية الكفر العقيدى وحرية العصيان .
2 ـ حين تتخيل واعظا يعظ الناس فالمعنى أنه لا يملك إلزامهم فيكتفى بوعظهم . وحين تقرأ هذا الخطاب الإلهى الوعظى للمؤمنين فى دولة اسلامية فالمعنى حريتهم الكاملة فى الدين وفى السلوك طالما لا يرفعون سلاحا . ولا تملك إلا الإعجاب بالدولة الاسلامية فى هذا العصر التى تتمسك بهذه الحرية غير المسبوقة بينما تكتنفها الأخطار فى الداخل والخارج . وحين تدرك أنها إنتصرت وتغلبت على تلك الأخطار تدرك أن الحرية هى الحل ، وتدرك سبب التخلف والشقاء وسفك الدماء الذى يعانيه كوكب المحمديين .
ونعطى تفصيلا بآيات قرآنية نزلت فى المدينة :
أولا :
وعظهم بالايمان العقيدى والاسلام العقيدى :
قال جل وعلا :
1 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) النساء ). الخطاب للذين ( آمنوا ) سلوكيا بمعنى الأمن والأمان أن ( يؤمنوا ) عقيديا بالله جل وعلا ورسوله والقرآن الكريم وما سبقه من كتاب . وإلا فالكفر يعنى الضلال البعيد . ليس هنا حدُّ للردة . أليس كذلك ؟
2 ـ ( وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ) (8) الحديد ). أى مع ذلك لم يؤمنوا عقيديا فجاءهم وعظ توبيخى : لماذا لا تؤمنون بالله جل وعلا وحده عقيديا مع أن الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ؟
3 ـ ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ). نزل عليهم الأمر بإجتناب الأوثان التى يعبدونها وبإجتناب أقوال الزور عن معجزاتها و ( كراماتها ) و ( شفاعتها) . الأمر بالاجتناب يعنى الابتعاد ، يعنى الإبتعاد عن الأوثان وليس تدميرها . فهى مجرد أحجار ومواد بناء مثل مثيلاتها فى أى مبنى . المشكلة فى قلوب من يقدسها ، فالمطلوب هو محو هذا التقديس لتظل مجرد أحجار ومواد بناء . كان هذا فى بداية التنزيل القرآنى فى المدينة. فلم يطيعوا.
4 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ). هذا فى أواخر ما نزل فى المدينة ، ونعرف منه أن أولئك الصحابة كانوا مشركين كافرين عقيديا ، ومصممين على العكوف على الأنصاب ( القبور المقدسة ) ومستلزماتها من الخمر والميسر والأزلام ( الزعم بعلم الغيب ). جاءهم الوعظ بصيغة مؤثرة وسؤال مباشر من رب العزة جل وعلا : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ، وإذا لم ينتهوا فلا عقاب من الدولة عليهم ، وليس الرسول سوى البلاغ .
ثانيا :
الوعظ تنديدا بموالاتهم العدو المعتدى :
الموالاة تكون فى حالة الحرب ، بأن توالى وتتحالف وتناصر وتوادّ خصما ضد خصمه . فى الدولة التى تعيش فيها متمتعا بحقوقك قد تواليها إذا كانت معتدية ضد الطرف المعتدى عليه . وبالتأكيد ستواليها ضد خصمها المعتدى عليها . لكن هنا وضع غريب ، فالدولة الاسلامية تواجه إعتداءا ، ومع ذلك فبعض ( المؤمنين سلوكيا ) يوالون المعتدى ضد دولتهم . الأغرب أنه لا إتهام لهم بالخيانة العظمى . بل مجرد وعظ إستنكارى . والأشد غرابة هو إدمانهم على هذه الخيانة العظمى وتكرار وعظهم . ونتتبعه كالآتى :
1 ـ فى أوائل ما نزل فى المدينة كان المهاجرون من المؤمنين سلوكيا يشعرون بالحنين لمكة وأهلهم الكافرين الذين أخرجوهم من مكة ، وتحول هذا الحنين الى موالاة للعدو . قال جل وعلا لهم يذكّرهم ويعظهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) الممتحنة ). وتوالت الآيات وعظا ( الممتحنة 2 : 9 ).
2 ـ عصوا ولم يتعظوا ، فتوالت الآيات :
2 / 1 : ( لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) آل عمران )
2 / 2 : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) (22) المجادلة ).
2 / 3 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) النساء ).
3 ـ فى أواخر ما نزل فى المدينة :
3 / 1 : فى حروب ضد معتدين من أهل الكتاب ـ لم تأت تفصيلاتها فى القرآن الكريم ـ تحالفوا مع المعتدين من أهل الكتاب ، فوعظم رب العزة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) المائدة ) ، وتوالت الآيات ( المائدة 52 : 57 ) .
3 / 2 : هذا مع تحالفهم مع ذويهم الكفار المعتدين . فقال لهم جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) التوبة ) .
ثانيا :
جُملة من المعاصى
1 ـ فى أوائل ما نزل فى المدينة جاءهم هذا الوعظ بعد إنتصارهم فى موقعة ( بدر ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) الانفال ). أى كانوا لا يستجيبون لله جل وعلا ورسوله ، بل كانوا يخونون الله جل وعلا ورسوله .!
2 ـ كان هناك من يتحرّش بالنساء فى الطرقات ، لا فارق بين نساء النبى وبناته ونساء المؤمنين . نزل الأمر لهن بالتمسّك بالحشمة فى الملبس منعا لذلك : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) الاحزاب )
3 ـ كانوا يؤذون النبى ويتهمونه بمثل كان بنو إسرائيل يؤذون موسى ويفترون عليه ، فقال لهم رب العزة جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) الاحزاب ).
4 ـ منهم من إحترف الربا . أى ربا الصدقة. يأتيه الفقير محتاجا لقرض فيعطيه قرضا بربا ، هذا مع إن للفقير حقا عنده فى الصدقة الواجبة عليه ، أى يجب أن يعطيه حقه فى الصدقة ، أو على الأقل يعطيه قرضا بلا فائدة . تراكمت الديون على الفقراء بفوائدها وعجزوا عن السداد ، فقال جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) البقرة ). ومنشور لنا هنا مقال ( معركة الربا ) ، فيه التفصيلات .
5 ـ كانوا يقولون ما لا يفعلون ، فقال لهم رب العزة جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) الصف ).
6 ـ بسبب التجارة واللّهو تركوا النبى فى صلاة الجمعة وهو يخطب فقال لهم جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) الجمعة ).
7 ـ كانوا يتثاقلون عن الخروج للقتال الدفاعى فقال جل وعلا لهم مؤنّبا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) التوبة) ، ( انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) التوبة )
8 ـ كان بعضهم يسارع بالهرب أثناء القتال ، فجاءه التهديد بالخلود فى النار :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) الانفال ) .
9 ـ كانوا يبخلون عن التبرع للمجهود الحربى برغم الدعوات المتكرّرة فقال لهم رب العزة جل وعلا مهددا : ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد ).
أخيرا :
تضاءلت الفوارق بينهم وبين المنافقين . ونعموا جميعا بحرية التعبير وحرية الدين . وانتصرت الدولة الاسلامية بهذه الحرية ..
الباب الثالث :
الشورى ( الديمقراطية المباشرة )
مقدمة / الشورى فريضة إسلامية / الشورى الاسلامية هى حُكم الشعب وليس حكم الفرد / أولو الأمر فى الشورى الاسلامية / القرار للأغلبية فى الشورى الاسلامية / ثقافة الشورى الاسلامية )
مقدمة :
عدم استغلال الدين فى السياسة والمطامع الدنيوية
1 ـ المتقون هم أفضل الخلق عند الله سبحانه وتعالى ، ولكن لا يصح للمؤمن أن يصف نفسه بالتقوى ، لأن تزكية النفس بالتقوى معصية لله تعالى . قال جل وعلا :
1 / 1 : عن بعض صفات المجتمع المسلم : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32) النجم 32 ). هنا نهى عن تزكية النفس بالتقوى
1 / 2 : فى التنديد ببعض أهل الكتاب الذين زكُّوا أنفسهم قال جل وعلا يعتبرهم قد إفتروا على الله جل وعلا كذبا وارتكبوا إثما مبينا : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) النساء )
2 ـ لن يدخل الجنة إلا المتقون ، قال جل وعلا : ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63) مريم ) .ومعرفة من هو المتقى لن تكون الا لله سبحانه وتعالى يوم القيامة والحساب، حين يساق الذين كفروا الى جهنم زمرا ، ويساق الذين اتقوا الى الجنة زمرا ، قال جل وعلا ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) (71) الزمر ) ، ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) (73) الزمر).
3 ـ وفى هذه الحياة الدنيا ـ فلا مجال لأحد أن يزايد على الناس بالتقوى ، أو ان يتظاهر بالتقوى ليخدع الناس متخذا عهدا الله تعالى أى الاسلام وسيلة للوصول لأى نفع دنيوى زائل . الذى يرتكب ذلك يكون خصما للخالق جل وعلا . قال جل وعلا :
3 / 1 : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) النحل ) ، ( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) النحل)
3 / 2 : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) آل عمران ).
الحرية الدينية المطلقة فى الاسلام :
1 ـ ليس فى الاسلام كهنوت أو مؤسسة دينية او دولة دينية او حزب دينى أو رجال دين.بل هى حرية البشر المطلقة فى العقيدة والايمان والكفر، وحسابهم على حريتهم فى الدين ستكون يوم الدين . والقرآن الكريم كله كتاب فى الهداية ، وفيه حوالى الف آية تؤكد بطريق مباشر أو غير مباشر على حرية الانسان المطلقة فى عقيدته ومسئوليته أمام الله تعالى فقط يوم الدين على ما اختاره من عقيدة وسلوك. ويلفت النظر تركيز آيات القرآن على العذاب ونعيم الجنة تأسيسا على تقرير مسئولية الانسان بعد اعطائه الحرية الكاملة فى الرفض والقبول.
2 ـ ليست فى الاسلام عقوبة جنائية فيما يخص حقوق الله تعالى، وهى الايمان به وحده وتقديسه وحده وعبادته وحده. انما العقوبة ــ فقط ــ فيما يخص حقوق البشر والمجتمع، فمثلا فان من انتهك حقوق الآخر فانه يعاقب عما ارتكبه . الا انه اذا سبّ الله سبحانه وتعالى فليست عليه مؤاخذة عقابية فى الدنيا ، ويكفى ما سيصير اليه حاله فى الآخرة اذا لم يتب.
الدين لله جل وعلا يحكم فيه يوم الدين ، أما الوطن فلجميع المواطنين
1 ـ لأنها دولة الديمقراطية المباشرة التى تقوم على رعاية حقوق الانسان والموازنة بين الحرية والعدل ، والموازنة بين الفردية والتفاعل مع المجتمع، وتكفل للمواطن حقوق المواطنة بالعدل المطلق بغض النظر عن عقيدته ودينه.
2 ـ هى دولة الدين لله والوطن للجميع : بمعنى حرية التدين المطلقة بدون تدخل من أحد ليكون كل فرد مسئولا عن اختياره أمام الله تعالى وحده يوم الدين ، وحتى لا يجد حجة بالاضطهاد أو مصادرة الحرية. وهى دولة الوطن فيها للجميع على حد سواء وفق عدل الله تعالى المطلق.
3 ـ وهى دولة: (الآخر) فيها ليس المختلف فى الجنس أو العقيدة أو المذهب أو اللغة أو الفقير، بل الآخر فيها هو المجرم الارهابى الخارج عن القانون الى أن يتوب ويعطى حق المجتمع.
4 ـ وهى دولة لا تكره ذلك الآخر المجرم المعتدى ، وانما تسعى لاصلاحه وتهذيبه، تكره فعله واجرامه دون أن تبغضه هو. بل ان عملها على اصلاحه يعنى حرصا عليه وحبا فيه باعتباره انسانا قبل كل شىء, ولذلك فانها تعطيه فرصة أخرى ليتوب وبالتوبة ترتفع عنه العقوبة. والعقوبات فى الشريعة الاسلامية الحقيقية ليست للإنتقام بل للإصلاح ، لذا تسقط بالتوبة . وأى عقوبة دنيوية ليست بشىء مقارنة بالخلود فى الجحيم .
5 ـ نتذكر قوله جل وعلا للنبى محمد عليه السلام : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) الشعراء ). إن عصوه فلا يتبرأ من أشخاصهم بل فقط من عصيانهم .
الفصل الأول :
الشورى فريضة إسلامية ( الديموقراطية المباشرة )
1 ـ هناك فرائض اسلامية غائبة صادرها المسلمون عمدا حين أقاموا لهم امبراطوريات تقلد الحكم البيزنطى والفارسى بقدر ما تناقض الاسلام وتشريعاته وقيمه الأخلاقية. الشورى الاسلامية –أو الديمقراطية المباشرة – هى احدى تلك الفروض الاسلامية الغائبة أو المغيبة عمدا. ديمقراطية الاسلام تحولت الى طغيان فى تاريخ الخلفاء الفاسقين ، فتم تثبيت معنى الشورى بمفهوم الراعى والرعية لتسويغ تسلط الخليفة على الناس بحجة أنه يستمد سلطته السياسية من الله تعالى ،وأنه مسئول امامه فقط عن الرعية يوم القيامة ، وأنه يملك الأرض وماعليها ومن عليها ، ومن حقه أن يقتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين .
2- الشورى – أو الديمقراطية الاسلامية – لها جذور فى عقيدة التوحيد الاسلامية: لا اله الا الله جل وعلا الذى لا شريك له فى حكمه .
2 / 1 : فالله الخالق جل وعلا وحده : هو الذى لا يسأل عما يفعل ، وليس مسئولا أمام أحد من خلقه، وما عداه من مخلوقات هى تتعرض للمساءلة . قال جل وعلا : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)الأنبياء ). وعليه فالحاكم الذى يستنكف ان يسائله شعبه يكون مدعيا للألوهية كافرا بعقيدة الاسلام حيث رفع نفسه الى مستوى الله تعالى الذى لا يسأل عما يفعل.
2 / 2 : خاتم النبيين عليه وعليهم السلام قد أمره ربه جل وعلا بأن يشاور الناس ، انه نبى يأتيه الوحى الالهى ومع ذلك فالوحى الالهى نفسه يأمره بالشورى ، وعليه فان أى حاكم مسلم يستنكف من ممارسة الشورى انما يرفع نفسه فوق مستوى خاتم النبيين ، أى يدعى الألوهية ، وهو بذلك يخرج عن الاسلام ويكفر به.
2 / 3 : القرآن الكريم ردد قصة فرعون موسى وجعله نموذجا لعقلية الحاكم المستبد الذى يصل به استبداده الى ادعاء الألوهية ويصل به فساده الى اهلاك نفسه ومملكته وجنده وقومه . حين تتدبر القصص القرآنى عن ذلك الفرعون تجد كل ملامح العقلية الاستبدادية وانعكاسها على الملأ المحيط بالفرعون وترديدهم لما يحب أن يسمعه ، واكثر من ذلك تجد مستبدى عصرنا يرددون نفس التعبيرات ويعيشون نفس العقلية. كل ذلك يؤكد على ان الاستبداد قرين الكفر والظلم .
2 / 4 : كما إنّ الديمقراطية الاسلامية لها جذور فى عقيدة الاسلام فإنّ القسط هو سبب انزال الكتب الإلهية وارسال الرسل عليهم جميعا السلام . قال جل وعلا : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (25) الحديد ). وعليه فان الظلم هو خصم لدين الله تعالى وشرعه ، والديمقراطية الاسلامية أو الشورى هى العدل السياسى فى الاسلام بينما يكون الظلم هو أساس الاستبداد المناقض للاسلام حين ينفرد شخص واحد أو أسرة أو حزب او قبيلة باحتكار السلطة والثروة دون بقية الشعب.
3- فى ديمقراطية الاسلام تجد الأمة هى مصدر السلطات وليس الحاكم .
لقد جاء النبى محمد هاربا بحياته ودينه من اضطهاد قريش فأقام له سكان المدينة له دولة ، هى أول وآخر دولة اسلامية حقيقية . قال له ربه جل وعلا يخاطبه مباشرة وهو الحاكم لتلك الدولة : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ) .
3 / 1 : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) : أى بسبب رحمة من الله سبحانه وتعالى جعلك لينا معهم ورحيما فى التعامل معهم.
3 / 2 : فماذا اذا لم يكن لينا هينا معهم ؟ : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) فماذا اذا انفضوا من حوله ؟ سيفقد قوته، وسيفقد الحماية، وسيعانى الاضطهاد الذى كان فيه وربما يتشرّد بين القبائل .!. اذن هو يستمد السلطة والقوة والنفوذ والمنعة والدولة من اجتماعهم حوله ، أى أنهم مصدر السلطة له فى الدولة التى أقاموها له ، أى أنه لا يستمد سلطته من الله تعالى وأنما يستمدها من الشعب .
3 / 3 : ، ولأنها سلطة الشعب فلا بد أن يستميل اصحاب السلطة اليه- أى الشعب - كى لا ينفضوا عنه . فماذا يفعل ؟ يقول له ربه جل وعلا فى التشريع السياسى للنبى الحاكم وبالتالى لكل حاكم للدولة الاسلامية : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) ، أى يعفو عنهم اذا أساءوا اليه ، ويستغفر لهم اذا أذنبوا فى حقه، ويشاورهم فى الأمر – كل أمر – لأنهم أصحاب الأمر.
3 / 4 : الأمر بالشورى جاء هنا يأمر النبى بأن يشاورهم ( جميعا ) فى ( أى أمر ) يهمهم ( جميعا ) ، أى يشاوركل المواطنين رجالا ونساء ، أغنياء وفقراء دون تفرقة من أى نوع أو استثناء لأى نوع - وفق الديمقراطية المباشرة التى لا مجال فيها للتمثيل النيابى أو الديمقراطية غير المباشرة.
4 ـ المعتاد أن المستبد يستمد سلطته بالتعذيب الذى يقهر به الشعب ، وهو المعروف بهيبة الدولة، وهو ( الدولة ) وهو صاحب السيادة وصاحب الهيبة .
5- ومن العجب ان الشورى الاسلامية كفريضة اسلامية جاء الأمر بها - فى سورة مكية قبل قيام الدولة الاسلامية فى المدينة ، هى (سورة الشورى ) . يقول الله جل وعلا فى بعض أوصاف المجتمع المسلم : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38).
5 / 1 : أى جاء الأمر بالشورى مقترنا بالصلاة وايتاء الصدقة ، لتؤكد أن فريضة الشورى مثل فريضة الصلاة ، فكما لا يصح الاستنابة فى الصلاة – اى لا يصح أن يصلى أحد عنك – فلا يصح أيضا أن ينوب عنك غيرك فى حضور مجالس الشورى ، وكما لايصح أن يدفع عنك أحد الصدقة فلا يصح أن ينوب عنك أحد فى حضور فريضة الشورى . وهى جمعية عمومية فى كل قرية وفى كل حى ومنطقة سكنية تضم كل المواطنين بغض النظر عن عقائدهم وأى وضع اجتماعى آخر . وبالتالى فالشورى الاسلامية هى الديمقراطية المباشرة وليست الديمقراطية النيابية والتمثيل النيابى ، أى أن الشورى الاسلامية او الديمقراطية الاسلامية تتفوق على أغلب الديمقراطيات الغربية النيابية .
5 / 2 : واذا كانت الصلاة فرضا عينيا على كل مسلم فى الصحة والمرض وفى الاقامة والسفر وحتى وقت الحرب فان فريضة الشورى كذلك يمارسها المسلم فى جماعة المسلمين أو المواطنين ، كما يمارسها فى بيته وعمله .
5 / 3 : من المهم هنا التأكيد على أن مصطلح المسلم هو كل مواطن مسالم بغض النظر عن عقيدته وايمانه .
التعليقات
بن ليفانت
وجهة نظر
وجهة نظر حول ما جاء في المقالين الأخيرين :
قبل كل شيء: لا يوجد شيء معين يمكن تعريفه بأنه "سعادة" وإنما يوجد شعور بالارتياح والفرح والسكينة و و وبما نطلق عليه اسم سعادة. هذا الشعور بالسعادة ليس له مسبب ثابت وإنما يتوقف على شخصية ونفسية الإنسان، وكثيرا ما يكون مستقلًا عن المحيط.. من وجهة نظري هناك عاملان أساسيان يؤثران على شكل الاديولوجيات والأنظمة في المجتمعات واستمراريتها: العامل الأول هو الفكر المتًبنّى في المجتمع، وفعليًا ليس هو الفكر بحد ذاته وإنما ما يفهمه الناس تحت هذا الفكر، فالشيوعية في عهد ستالين مثلًا لا تتطابق مع الشيوعية كما يفهمها ماركس، وهناك أمثلة عديدة أخرى.
ثانيًا: النظرة إلى طبيعة الإنسان (الفرد) في المجتمع، فنظرة الشيوعية إلى الفرد هي أنه يخدم المجتمع ويتساوى مع غيره وأن دخله يتناسب مع حاجته وحالته الإجتماعية في الدرجة الاولى (فرد، عائلة، أولاد) مع مراعاة إمكاناته في الدرجة الثانية. الشعور "بالسعادة" يأتي حسب الفكر الشيوعي من خلال سعادة المجتمع ككل ومن أن الفرد هو جزء من هذا المجتمع. في النظام الرأسمالي يتساوى الأفراد تجاه القانون، أما دخل الفرد ومركزه الاجتماعي فيتوقف بالدرجة الاولى على أمكاناته، مع مراعاة حالته الاجتماعية – يعني العملية عكسية. الشعور بالسعادة هنا هي مسألة فردية، كل حسب إمكاناته وإنجازاته، وأحيانًا على حساب غيره .
يتبين لنا من خلال هذه المقدمة أن البشر يصيغون الأنظمة حسب تصورهم وفهمهم ويفترضون طبيعة للإنسان، ومن الطبيعي أيضًا أن لا تسير الامور حسب القواعد النظرية دائمًا. لأن الأمر يرجع لطبيعة وتفكير هذا الإنسان. هذا يعني أنه لو وجد نظام مثالي (إلاهي)، فلن ترى منه سوى ما يطبقه البشر من خلال تفسيرهم وتأويلهم وتصرفاتهم. حتى دولة المدينة كان فيها مشاكل كثيرة ذكرت في سورة التوبة.ما نستطيع فعله هو تتبع شعور الناس الذين يعيشون تحت نظام ما ومقارنة ذلك مع الأنظمة الأخرى.
الديموقراطية المباشرة في العلمانية الاسلامية
أتفق مع ما جاء في المقال مع الإختلاف النسبي في تطبيق الديموقراطية: صحيح أن الشورى وابداء الرأي يجب أن يقوم بها كل فرد كما هو الحال في أداء الصلاة: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿الشورى ٣٨﴾. من الواضح أن الصلاة لا يمكن إقامتها دون أن يركع الشخص نفسه ويسجد، بينما يمكن الإنفاق (ومعناه إعطاء المحتاج) عن طريق منظمة – المهم في الأمر أن يصل مالك إلى الشخص المحتاج وأنت هنا المانح وليس المنظمة. كذلك أفهم الشورى أو إبداء الرأي، فالمهم في ذلك أن يصل صوتك مباشرة أو عبر شخص آخر وأن يمثلك هذا الشخص كما كنت ترغب. هناك أمور معقدة لا يستطيع الفرد العادي فهمها، حتى لو شرحت له، وفيها وجهات نظر مختلفة، ومن العبث أن يصوت الفرد على شيء لم يفهمه، وإن صوت فهو يأخذ برأي الشخص أو الجهة أو الحزب الذي يثق به .
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا اخى بن ليفانت . واقول:
1 ـ ـ ورد مصطلح السعادة مقابل الشقاء ( فى القرآن الكريم ) عن أصحاب الجنة وأصحاب النار فى سورة ( هود ) التعبير المناسب عن سعادة الدنيا هو ( راحة البال ) كما جاء فى سورة ( محمد ) أو الاطمئنان القلبى كما جاء فى سورة ( الرعد ).
2 ـ قلت باختلاف مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والشيوعية نظريا وتطبيقيا . هناك إختلاف دائم بين النظرية ( حتى لو كانت موحدة ) وتطبيقاتها . فى هذا البحث عن ماهية الدولة الاسلامية العلمانية أحاول إستخلاص معالم الدولة الاسلامية من القرآن الكريم وحده ، ليس فقط من ناحية الأسس النظرية بل وما جاء من إشارات عن تطبيقها وعوائقها ، مع إشارات الى تبدّل مفاهيمها بحيث تحولت الى إستبداد تحت مسمى الشورى وأولى الأمر والحكم بم أنزل الله. البحث لم يكتمل نشره ، وهو أول بحث فى هذا الموضوع ، وليس هو الكلمة الأخيرة فيه. نحن روّاد علينا أن نطرق الأبواب ، ومن يأتى بعدنا يضيف ويصحح . .
الفصل الثانى
الشورى الاسلامية هى حُكم الشعب وليس حكم الفرد
لا وجود لحاكم فرد فى الشورى الاسلامية
مقدمة
من الأعاجيب السياسية أن بعض الدول الديكتاتورية تسمى نفسها بالشعبية والديمقراطية أو الجماهيرية ، هذا مع إن الذى يديرها ويملكها فرد واحد ، يعاونة ملأ من كلاب حراسته يقهر بهم الشعب ، أى إنه هو الشعب وهو الدولة وهو الوطن . الدولة الاسلامية على النقيض تماما . هى دولة يحكمها شعبها ، والشعب فيها هو مصدر السُّلُطات طبقا لقوله جل وعلا للنبى محمد القائد : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَ لِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ). ونتوقف مع آيات نرجو التدبر فيها ، عن أن الشورى الاسلامية هى حُكم الشعب .
أولا :
1 ـ لم يأت لفظ ( الحكام ) فى القرآن الكريم إلا مرّة وحيدة فى موضوع سلبى يدُلُّ على الفساد ، فى قوله جل وعلا : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) البقرة ). بمعنى أنه لو كنتم محكومين بحُكّام فاسدين فلا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل وتدفعوا رشوة الى حكامكم الفاسدين .
ثانيا :
مصطلح ( حكم ) فى القرآن الكريم فيما يخصُّ موضوعنا ، وهو كالآتى :
الحكم الدينى التشريعى لله جل وعلا ، ومجال الحرية مفتوح فيه للمشيئة البشرية طاعة أو عصيانا :
فى ( لا إله إلا الله ) .
قال يوسف عليه السلام لصاحبيه فى السجن : ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يوسف )
فى الاحتكام الى شرع الله جل وعلا فى القرآن الكريم :
1 ـ هذا فرض دينى . قال جل وعلا للمؤمنين عند الوقوع فى خلاف أو نزاع أن يرجعوا الى كتاب الله :
1 / 1 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) النساء )
1 / 2 : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) الشورى )
2 ـ كان بعض أهل الكتاب يُدعون الى ذلك ، فيرفضون ، ولم تقع عليهم عقوبة من السلطة . قال جل وعلا :
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) آل عمران )
3 : نفس الحال مع المنافقين ، ولم تقع عليهم عقوبة من السلطة . قال جل وعلا :
3 / 1 : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) النور) وإختلف الوضع مع المؤمنين : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51) النور )
3/ 2 : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) النساء )
الحكم لله جل وعلا على الناس فى إختلافاتهم الدينية يوم الفصل
قال جل وعلا :
عموما :
1 ـ ( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) الرعد ). وهذا ما يكفر به من يؤمن بشفاعة البشر يوم الدين .
2 ـ ( قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) الزمر )
عن بنى إسرائيل وخلافاتهم : ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) النحل )
عن النصارى فى طبيعة المسيح : ( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) آل عمران )
عن الخلاف بين النصارى واليهود وغيرهم : ( وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) البقرة )
عن الخلاف بين النبى محمد والكافرين : ( وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) الحج ).
فى كل ما سبق فإن مصطلح ( حكم ) لا يعنى الحكم السياسى ، بل الحكم ( بين ) خصمين .
الحكم القضائى بين الناس فى الدولة الاسلامية
هنا يتجلّى بوضوع الحكم القضائى ( بين ) الخصوم
1 ـ ونبدأ بالنبى داود وقد قال له ربه جل وعلا : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) ص ).
2 ـ وهو نفس الأمر الذى أمرنا به : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) النساء ).
3 ـ وخدع بعضهم النبى محمدا فحكم ظلما ، فنزل قوله جل وعلا فى خطاب مباشر له : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) النساء ).
4 ـ الاخوان المسلمون وأشباههم يزعمون جهلا وكفرا أن ( حكم ب ) تعنى الحكم السياسى ، ولا يعلمون أنها تعنى الحكم القضائى . ويحلو لهم الاستشهاد بقوله جل وعلا فى سورة المائدة : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (45) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)) .
الخطأ هنا فى شيئين :
4 / 1 : هم يقتطعون هذا من السياق الذى نزل عن أهل الكتاب فى إحتكامهم .
نقرأ الآيات كاملة : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47) المائدة ).
4 / 2 : الآيات تتحدث عن الاحتكام الى كتاب الله جل وعلا ( القرآن الكريم ) . والوهابيون ومن على شاكلتهم يريدون الحكم بشريعتهم السنيّة ، وهى فقط لا تتناقض مع القرآن الكريم ، بل هم أيضا لا يحددون أى مذهب منها ، وكل مذهب فيه خلافات ، بل تجد الخلافات فى الكتاب الواحد ، بل فى الصفحة الواحدة ، على مستوى كتب الفقه والأحاديث . وأثبتنا هذا كثيرا الى درجة الملل .
باختصارفان فعل " حكم" لم يأت فى القرآن الكريم متعديا أى بمعنى الحكم السياسى أى " يحكم الناس أو يحكم الشعب "، ولكن جاء لازما يحتاج الى ظرف أو جار ومجروربمعنى " يحكم بين الناس" ويكون هنا بمعنى القضاء والتقاضى أى يقضى بين الناس، أو " يحكم ب " أى يحكم فى القضاء بشرع الله تعالى أو شرع غيره .
ثالثا :
1ـ الخطاب التشريعى فى القرآن الكريم لم يأت يخاطب حاكما فردا على الاطلاق وانما جاء يخاطب عموم المؤمنين بأوامر تشريعية عقيدية وأخلاقية وسياسية وحربية، على اعتبار انهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم.
يقول لهم مثلا فى سورة البقرة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ (254) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِوَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ...(282 ).
الفصل الثالث :
( أولو الأمر ) فى الشورى الاسلامية
أولا :
1 ـ يأتي معنى (الأمر) في القرآن بمعنى الشأن أو الموضوع المفهوم من السياق، وبمعنى الخلق والحتميات ، وبمعنى الأمر التشريعي.
2 ـ ونستدل بآيات قرآنية نرجو التدبر فيها:
الأمر الحتمي :
مرتبط بالخلق والحتميات التي يخضع لها البشر، وليسوا مساءلين عنها يوم القيامة. وفي هذا يقول رب العزّة : ( وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)( البقرة 117 ) ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( يس 82 ).
الأمر التشريعي :
1 ـ وهو يشمل الامر والنهي معاً، ويأتي هذا بلا لفظ الأمر والنهي مثل ( إتبعوا ولا تتبعوا) في قوله جل وعلا ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )( الأعراف 3 ).
2 ـ وقد يأتي الأمر والنهي معاً بلفظهما كقوله جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) ( النحل 90 ).
3 ـ وقد يأتي الأمر التشريعي للنبي بلا إستعمال للفظ الأمر كقوله جل وعلا :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )( محمد 19).
4 ـ وقد يأتي للمؤمنين بلا إستعمال للفظ الأمر كقوله جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الأحزاب 40 : 43 ) .
5 ـ وقد تأتي أوامر مباشرة للناس باستعمال لفظ الأمر كقوله جل وعلا :(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )( النساء 58)( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ )( الطلاق 5 ).
6 ـ وقد تأتي أوامر مباشرة للرسول باستعمال لفظ الأمر ويعلنها الرسول مثل : ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزمر 11)
7 ـ ويأتي الأمر والنهي للرسول وقومه معاً: ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا) (هود112). ويأتي الأمر للرسول وقومه معاً: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه 132) .
8 ـ وطاعة أوامر الله جل وعلا وإجتناب نواهيه متروك للبشر إختباراً لهم في هذه الحياة الدنيا. وعلى أساس حريتهم في الطاعة أو المعصية في هذه الدنيا سيلقون يوم الحساب جزاءهم، ولكن فى الدين الأرضى ترى المستبد هو الآمر ، ومنه ( أمير المؤمنين ) أى الذى يأمر فتجب طاعته ، وبهذا جاءت أحاديث بطاعة ( ولى الأمر ). ويحلو لهم الاستشهاد بطاعة ( أولى الأمر ) ، مع ان ( الأمر ) هنا يعنى الشأن والموضوع .
( الأمر ) بمعنى الشأن الخاص بالموضع المراد في السياق:
وهنا تنوع :
بعض الآيات يأتى فيها الأمر بالمعنيين
1 / 1: ( التشريعى ) و ( الشأن الخاص الموضوعى ) ، مثل :
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) الاحزاب ). ( أمرا ) بمعنى التشريع . ( أمرهم ) بمعنى الموضوع أو الشأن الخاص فى سياق الآيات .
1 / 2 : ( الحتميات والشأن الخاص الموضوعى) فى موقعة أُحُد : ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (154)) ﴿آل عمران ﴾. ( هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) أى الشأن الخاص بموضوع القتال فى غزوة أُحُد ، ومن قّتل فيها . ( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ). الأمر هنا عن حتمية الموت ، بدليل ما جاء بعدها : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ).
2 ـ بمعنى الشأن ، وبمعنى الأمر واجب النفاذ : فى قصة سليمان وملكة سبأ : ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) النمل ) ( فِي أَمْرِي ) أى الموضوع المطروح للاستفتاء . ( وَالأَمْرُ إِلَيْكِ ) أى الأمر أو الشأن اليك . (مَاذَا تَأْمُرِينَ ) أى ينتظرون أوامرها .
آيات فيها ( الأمر ) مفردا بمعنى الشأن ، و (الأمور) جمعا :
1 ـ ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (44) الانفال )
2 ـ ( وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) (48) التوبة )
( الأمر ) بمعنى الشأن ( مفردا )و ( الأمور ) جمع تكسير.
آيات فيها ( الأمر ) مفردا فقط :
عن إهلاك الأمم السابقة :
(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) (15) الحشر )
( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) التغابن )
( فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) الطلاق )
أما عن المتقين : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) الطلاق )
عن الأمم التى تفرقت فى الدين : ( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) (93) الانبياء ) ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) المؤمنون )
عن المحمديين المتفرقين فى الدين : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ )(159)الانعام ).
فى قصة نوح عليه السلام . قال لقومه : ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً)(71) يونس ).
عن يوسف وأبيه وإخوته : ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15))( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ) (83) ) ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)) يوسف ).
فى قصة موسى : ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) طه ) ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) طه ) (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) (62) طه ) ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ) (44) غافر)
عن الأنبياء السابقين المقاتلين وأتباعهم : ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ) ﴿آل عمران: ١٤٧﴾
عن أهل الكهف ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) الكهف ).
عن النبى محمد عليه السلام :
عن علاقته بكفار قريش فى مكة : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف )
موقعة بدر :( إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ )(43) الانفال ).
موقعة أُحُد : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ)(آل عمران 152).
فى موضوع الغفران أو العقاب ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) ﴿آل عمران: ١٢٨﴾.
عن المنافقين: ( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ )(50) التوبة ). ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ ) (26) محمد )
عن النبى والمؤمنين :( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) (7) الحجرات )
عن موضوع الربا : ( فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ) ﴿٢٧٥﴾ البقرة ).
عن مكائد الكفار : ( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) الزخرف )
ثانيا :
الأمر بمعنى الشأن فى موضوع أو ( أمر الشورى )
1 ـ ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (38) الشورى )، أى ( جميع ) أمورهم العامة شورى بينهم ( جميعا ). هذا يشمل الرجال والنساء البالغين . أى جمعية عمومية .
2 ـ ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ﴿آل عمران: ١٥٩﴾. أمر للنبى محمد أن يشاورهم جميعا ، هذا يشمل الرجال والنساء البالغين . أى جمعية عمومية .
3 ـ ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) (62) النور ). ( الأمر الجامع ) أى أمر ذو شأن عام .
ثالثا :
ندخل على مفهوم (أولي الأمر)
أي أصحاب الشأن المتخصصين في الموضوع المراد.
وقد جاء مرتين في سورة النساء :
1 / 1 : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء 59). هنا عن طاعة أولى الأمر الخبراء فى الشأن المطروح للنقاش . وطاعتهم مرتبطة بطاعة الله جل وعلا ورسوله . والرسول هنا يعنى القرآن الكريم ، أى الرسالة بعد موت الرسول محمد عليه السلام . وإذا حدث تنازع فى موضوع أو شأن فالاحتكام الى كتاب الله ، هذا إذا كانوا فعلا مؤمنين بالله جل وعلا ويخشون اليوم الآخر .
1 / 2 : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء 83) . ).هنا فى سياق الحديث عن المنافقين ، وقيامهم بنشر الشائعات الخبيثة دون الرجوع الى أولى الأمر المتخصصين فى الشئون الأمنية .
رابعا :
ومن خلال بعض ألايات القرآنية نجد إشارة ضمنية لدور الخبراء أصحاب التخصص فى الأمر المعروض للبحث وللتنفيذ .
1 ـ فى الموضوعات الأمنية
فى سورة الممتحنة ـ وهى من أوائل السور المدنية ـ قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (10) الممتحنة ). توافدت نساء مهاجرات ، وهناك إحتمال وارد أن تكون من بينهن جاسوسات ، لذا كان لا بد من عقد إختبار أمنى لهن ، فى إسلامهن السلوكى ، وليس القلبى . فإن ثبت أنهن مأمونات الجانب مسالمات فلا سبيل لارجاعهن الى الكفار . إذا ثبت غير ذلك فيجب إرجاعهن . من الطبيعى أن الذى يقوم بهذه المهمة لا بد أن يكون خبيرا أمنيا .
فى تطبيق الشريعة الاسلامية :
فى قتل الصيد فى الحرم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (95)المائدة )
فى محكمة الأسرة :
( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) (35) النساء ).
فى الطلاق والرضاعة ولوازمها :
( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) (233) البقرة )
( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ )(2) الطلاق )
( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) (7) الطلاق )
أخيرا :
أولو الأمر فى الاسلام هم الخبراء فى الأمر المطروح مناقشته حيث يتعذر على جمهور المسلمين أن يتخصصوا فى كل شىء ، لذا فان طاعتهم واجبة فى حدود تخصصهم وفى اطار طاعة المولى جل وعلا والرسول اى القرآن أو الرسالة. ويتعرضون للمساءلة من الجمعية العمومية .
الفصل الرابع :
القرار للأغلبية فى الشورى الاسلامية
أولا : الأغلبية بين الاسلام القلبى والاسلام السلوكى :
1 ـ فى الايمان القلبى والاسلام القلبى تجد الأكثرية كافرة لا تعقل ولا تفقه ولا تؤمن بالله جل وعلا إلا وهى مشركة . ومصطلح ( الأكثرية ) يؤكد هذا ، وهو يرد ( كثيرا ) فى القرآن الكريم ، ونكتفى منه قوله جل وعلا للنبى محمد نفسه : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الأنعام )، أى أكثرية البشر ليسوا فقط ضالين ، بل هم مُضلُّون ، يستطيعون إضلال النبى محمد نفسه لو أطاعهم .
فى المقابل فإن أقلية البشر هم أصحاب الجنة من السابقين وأصحاب اليمين : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ (14) ) ( لأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ (40) الواقعة ).
وهذه التقوى القلبية أو عدمها مرجع الحكم لرب العزة جل وعلا مالك يوم الدين .
2 ـ التعامل بالاسلام السلوكى ( السلام ، والأمن ) هو أساس المواطنة ولا علاقة له بالاسلام القلبى والتقوى . وبهذا يكون إتخاذ قرارات مجالس الشورى بأغلبية الحاضرين ، على أساس المساواة المطلقة بين الناس . والناس هنا هم كل المؤمنين سلوكيا بمعنى الأمن والأمان ، وهذا يشمل كل بلغ التكليف والرُّشد من الذكور والاناث . لكل فرد منهم صوته ، والأغلبية التى تُصوّت لقرار هو الذى يتم ، وعلى الأقلية الانصياع لرأى الأغلبية .
3 ـ هنا يكون معيار الأغلبية والأقلية فى الاسلام السلوكى فى قرارات مجالس الشورى مختلفة عن الأغلبية والأقلية فى معيار الاسلام القلبى .
ثانيا : أمثلة فى قرار الأغلبية فى الشورى الاسلامية
1 ـ فى موقعة بدر :
طردت قريش المؤمنين وصادرت ممتلكاتهم وبيوتهم وأسهمهم التجارية فى رحلتى الشتاء والصيف ، ثم تابعت الهجوم عليهم ، وكانوا مأمورين بكفّ اليد عن رد العدوان الى أن يتم إستعدادهم القتالى ، وبعده نزل الإذن بالقتال . وكانت القافلة التى تتاجر بأموالهم تمر قريبا ، فكانت موقعة بدر . كان المؤمنون يأملون فى الاستيلاء على القافلة التى تحمل أموالهم ، ويخشون أن يتورطوا فى قتال مع قريش التى كانت أعتى وأقوى قبيلة . هرب أبو سفيان بالقافلة ، وفوجىء النبى والمؤمنون بجيش أقوى وأكثر عددا منهم يتحتم عليهم مواجهته . عقد النبى محمد عليه السلام مجلس شورى ، وفيه إعترض بعض أهل بدر، ولكن الأغلبية كانت مع المواجهة لأن الفرار مقدما يعنى أن يطاردهم عدوهم ، وتكون لهم هزيمة فعلوها بأنفسهم . كان قرار المواجهة للأكثرية هو الذى إنتصر ، وهو الذى تمّ تنفيذه ، وانخرط الجميع فى القتال وهم يستغيثوب بربهم فاستجاب لهم ونصره . نقرأ قوله جل وعلا : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) الانفال ).
2 ـ فى موقعة أُحُد
كانت هزيمة بدر صفعة مؤلمة لقريش ومكانتها فكان لا بد أن تثأر لكرامتها ، جهزّت جيشا قويا زحف نحو المدينة . جاءت الأخبار مقدما للنبى محمد عليه السلام ، فعقد مجلسا للشورى . كان هناك رأيان : رأى المنافقين أنه يجب أن ننتظرهم الى أن يصلوا المدينة ، ورأى الأكثرية من الشباب المتحمس أن يبادروا سريعا بمقابلتهم فى الطريق ، وأن يجهزوا مسرح المعركة لهزيمة عدوهم . إنتصر رأى الأغلبية ، غضب المنافقون وامتنعوا عن الخروج للقتال . كان واضحا أن المتحمسين للخروج للقتال هم الشباب الذين لم يحضروا موقعة بدر ، وظنوا أن النصر فى هذه الموقعة سهل ميسور كما حدث فى بدر ، وكانت الغنائم دافعا إضافيا لهم . كانت أوامر النبى للرماة أن يظلوا فى أماكنهم سواء إنتصر جيشهم أم انهزم . خالفوا أمر النبى وتركوا موقعهم الحصين ، وهبطوا الى ساحة المعركة حين رأوا إخوانهم يهزمون الجيش القرشى ، ويطاردونه ، أرادوا الحصول على غنائم . إنكشف ظهر جيش المؤمنين ، وإستدار الجيش القرشى وقام بهجوم مضاد ، وحصل على نصر سريع ، بعده غادرسريعا حتى لا يفقد النصر السريع ، وحاول بعض المؤمنين ( الجرحى ) اللحاق بهم فلم يدركوهم . قال جل وعلا فى ذلك :
2 / 1 : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ) ( 154 ) آل عمران ) . نلاحظ قوله تعالى لهم : ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ) وكان هذا سبب الفشل والتنازع والهزيمة بعد أن كانوا منتصرين يطاردون الجيش القرشى . وعن الفوضى وقتها : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ). من المهم أن نذكر أن المؤمنين تعلموا درسين : طاعة القائد الحربى ، وأن يكون القتال الدفاعى فى سبيل الله جل وعلا وليس فى سبيل الغنائم .
2 / 2 : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران ). هذا عن شجعان المؤمنين الجرحى الذين صمموا على مطاردة جيش قريش .
3 ـ بعدها كان عقد مجلس الشورى لتقييم ما حدث ، وحضره الجميع ومنهم المنافقون الذين تخلفوا عن القتال ، والذين قال فيهم رب العزة جل وعلا : ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) آل عمران ) . فى مجلس الشورى وجدها المنافقون فرصة للهجوم بزعم أن الهزيمة سببها أنه لم تعد لهم مكانة ، وأنه ليس لهم من الأمرشىء ، وأنهم لو أطاعوا رأيهم ما خسروا أولئك القتلى . كانوا فئة قليلة مستكبرة يرون أنفسهم أصحاب الأمر . نفهم هذا من إيراد قولهم وردّ رب العزة عليهم ، فى قوله جل وعلا : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) ال عمران ) . نلاحظ الوصف الالهى لهم ( ظنّ الجاهلية )، والمعنى إن المؤمن بالله جل وعلا وقضائه وقدره و ( الحتميات ) يعلم أن موعد ومكان موته أو قتله محدد سلفا ، وبالتالى لا يخشى الموت أو القتل . وبالتالى أيضا يستبسل فى القتال فى سبيل الله جل وعلا لا يخشى غيره.
ثالثا : تفعيل وتنشيط الأغلبية الصامتة من المؤمنين
1 ـ نفهم من نزول فريضة الشورى فى مكة أنه طبقها المسلمون فيما بينهم سرّا وقت أن كانوا أقلية مستضعفة فيها ، ثم بعدها فى المدينة كانت تؤدى علانية كفريضة اسلامية فى المسجد الذى يتحول الى مجلس عام أو جمعية عمومية تشمل كل افراد المسلمين رجالا ونساءا . ولأنها فريضة جديدة لم يكن لأهل المدينة من الأنصار عهد بها من قبل فقد حدث أن تخلف بعضهم بعذر أو بدون عذر ، فقال لهم رب العزة جل وعلا :
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)النور ) .
2 ـ الواضح هنا أن الخطاب الالهى هو عن المؤمنين الحقيقيين الذين إذا دعاهم الرسول الى مجلس الشورى الذى هو ( أمر جامع ) فعليهم المبادرة بالحضور ، إّذ إن من الملامح الأساس للإيمان الحقيقى ألا يتخلفوا عن حضور مجالس الشورى لأنها فريضة إسلامية ، لا يكون التخلف فيها إلا بعذر قهرى يقبله الرسول محمد عليه السلام . والله جل وعلا يهدّد من يتسلّل من المؤمنين بالعذاب والمحن .
3 ـ الأرضية التاريخية هنا أن أمور ( يثرب ) قبل الهجرة كانت فى يد الأثرياء أصحاب الجاه ، بينما إنصرف أكثرية السكان الى شئونهم الخاصة ، كانوا أغلبية صامتة ، أصفارا على الشمال . بتأسيس دولة النبى الاسلامية فى المدينة أصبح معظم أصحاب الجاه الأثرياء منافقين ، يريدون الإحتفاظ بجاههم فى الوضع الجديد . وهذا يناقض المساواة بين الجميع فى إستحقاق المواطنة ، وبالتالى كان لا بد من تنفعيل وتنشيط الأغلبية الصامتة ، وكانت فريضة الشورى وحضورها هى الطريق الأمثل . ولهذا نزلت هذه الآيات فى أواخر سورة النور ـ وهى من أوائل ما نزل فى المدينة وحفلت بتشريعات جديدة إجتماعية وعقابية وسياسية .
4 ـ وبمرور الوقت نجحت الأغلبية الصامتة فى أن تحضر وتجهر بصوتها وتصوّت بأغلبيتها تؤكد أن الدولة ملكية للجميع ، وهم أغلبية الجميع . لم يكن هذا سهلا ، واجهته عقبات ، ولكن ثقافة الشورى التى تعلموها بالقرآن أنجحتهم .
5 ـ ومن أسف أن مجالس الشورى لم يتم تسجيلها فى العصر العباسى ، ظلت الايات الخاصة بها بلا تأريخ . وهذا لأن التاريخ ينام فى أحضان المستبدين من الخلفاء والسلاطين .
الفصل الخامس
ثقافة الشورى الاسلامية
مقدمة
1 ـ كتبنا كثيرا أن تأسيس الديمقراطية لا بد له من تعليم وممارسة وتجذير ثقافة الديمقراطية ، وهذا يحتاج وقتا ، ربما يحتاج الى جيلين . القفز على هذا وعمل هياكل ديمقراطية فى شعب يعتنق ثقافة العبيد لا ينتج سوى الفساد والخراب والمزيد من الاستعباد تحت قشرة ديمقراطية أو ديكور ديمقراطى يكون أسوا من الاستبداد الصريح . تعليم ثقافة الديمقراطية يستلزم وعيا تقوم به نُخبة إصلاحية ، إن تطوعت بالدعوة بدون سماح المستبد فالويل لها ، وهذا ما عانيناه فى مصر ، ولا يزال المصلحون من أهل القرآن وغيرهم يعانون الاضطهاد .
دعنا نتخيل وجود حاكم مستنير مصلح ـ أو على الأقل ـ لا يعادى المصلحين ، هنا تبدأ عمليات إصلاح تشريعى بتغيير القوانين التى تعوق حرية الفكر والرأى والدين والابداع ، واصلاح تعليمى للمناهج وفى كيفية التدريس لتنتقل من عملية التلقين الى عملية التفكير والنقاش وعصف الذهن بين المدرس والطلبة ، ثم إنهاء سيطرة الدولة على الاعلام ليكون حُرّا فى إنتقاد أى مسئول بلا أى مساءلة ، ثم توزيع السلطة بين التنفيذية والتشريعية والقضائية ، تتقاسم السلطة وتراقب بعضها ، وهذا تحت رقابة الاعلام الحُرّ . ويكون مفهوما أن الدولة يملكها الشعب ، وأن من يعمل فى السُّلطة ليس سوى خادم لهذا الشعب .
2 ـ لم يكن سهلا أن تصل أوربا الى هذا بديمقراطيتها الحالية . إستلزم الأمر قرونا وحروبا وأنهارا من الدماء وجبالا من الجماجم والأشلاء . ومع هذا فإن ما وصلت اليه معظم أوربا والولايات المتحدة الأمريكية ليس إلا الديمقراطية النيابية التمثيلية ، أى إنتخاب ممثلين ينوبون عن الشعب . الديمقراطية المباشرة قليلة ونادرة . الشورى الاسلامية هى الديمقراطية المباشرة . ونعطى لمحة هنا عن ثقافتها والتى جعلتها ممكنة فى هذا الوقت من العصور الوسطى فكانت جزيرة وسط محيط من الاستبداد .
أولا :
فى مكة
1 ـ مع كون المسلمين أقلية مضطهدة إلا إن فرضية الشورى نزلت ضمن صفات المجتمع المسلم المأمول تأسيسه ـ بالطبع خارج مكة وبعيدا عن الملأ القرشى المتحكم الفاسد . ونقرأ السياق القرآنى الذى جاء فيه ( أمر ) أو ( موضوع ) الشورى ، قال جل وعلا : ( فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43) الشورى ).
2 ـ فى ضوء الثقافة ( الشورية ) نلاحظ :
2 / 1 : اسلوب الآيات الذى يجعل المسلمين المضطهدين يحلمون بهذا المجتمع القوى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) .
2 / 2 : الخيارات المتاحة بين العدل ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) ( وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) والاحسان ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) والعفو عند المقدرة (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور )
2 / 3 : التحذير من الظلم : ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ومن كبائر الإثم والفواحش : ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ).
2 / 4 : ثم تأتى الشورى ليس بصيغة الفعل : ( إفعلوا ) ولكن بالجملة الاسمية ، وهى أشد دلالة على الأمر من الصيغة الفعلية ، فلم يقل جل وعلا : أقيموا الشورى بينكم ، وإنما قال : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ). الجملة الفعلية محصورة بزمنها حين تقول ( نجح فلان ) فهذا يعنى أنه نجح فى الماضى فقط . وقولك ( ينجح فلان ) أى نجاحه فى الحاضر فقط ، و ( سينجح فلان ) أى نجاحه فى المستقبل وحسب . أما عندما تقول : ( فلان ناجح ) فهذه الجملة الاسمية تجعل النجاح لازما ثابتا بلا تقييد فى الزمن . وبهذا نفهم الروعة فى الجملة الاسمية ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ). ليس هذا فقط ، بل عمومية الموضوع فى كلمتى ( أمرهم ) التى تشمل كل الأمور الخاصة بالمجموع ، و( شورى بينهم ) أى كل أفراد المجتمع البالغين الراشدين على قدم المساواة . وهذا يعنى أيضا أن تكون الشورى فريضة على جميع المستويات ، من الأسرة الى الحىّ والبلدة والمدينة وحتى فى أماكن العمل .
2 / 5 : بهذه الممارسة العملية تتجذّر ثقافة الشورى .
3 ـ تركّز التنزيل المكى على تربية المؤمنين على ( لا إله إلا الله ) وعلى الأخلاق العليا ، وهذه هى ثقافة الديقراطية المباشرة( الشورى الاسلامية ). وتكرر هذا فى سور ( المؤمنون 1 : 11 ) ( النحل 90 : 97 ) ( الاسراء 22 : 39 ) ( الأنعام 151 : 153 ) ( الفرقان 63 : ـ ).
ثانيا :
فى المدينة :
1 ـ نتصور أن المهاجرين الذين عايشوا التنزيل المكى يحلمون بدولة لهم لم يكونوا من أولئك الذين كانوا يتخلفون عن حضور مجالس الشورى ، وجاء ذكرهم فى سورة النور من أوائل ما نزل فى المدينة مع الجلسات الأولى للشورى الاسلامية .
نذكّر بقوله جل وعلا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)). فى الايات الكريمة ربط الايمان الحقيقى بحضور فريضة الشورى وجعل التسلل منها أو عدم حضورها عصيانا يستلزم التهديد بالعذاب ، بل ويجعل إستئذان بعضهم الرسول مستوجبا أن يستغفر لهم الرسول .
2 ـ كانت هناك تكرار للنواهى ، ولكن هذا لم يحدث فى موضوع الشورى ، إذ إلتزمت الأغلبية الصامتة بالحضور ، وبرزوا فى النقاش ، وفى التصويت . واصبحوا قوة تتصدّر المشهد فى المدينة على حساب المنافقين الذين تراجعت مكانتهم .
وهنا نرى رد الفعل عند المنافقين كالآتى :
2 / 1 : الهجوم على النبى وإتهامه بأنه ( أّذُن ) أى يعطى أُذُنه لكل من هبّ ودبّ . وتحمل النبى بكل نُبل وصبر ، ونزل قوله جل وعلا يدافع عنه ويهددهم بعذاب أليم : ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) التوبة ).
2 / 2 : حاولوا الكيد لمجالس الشورى بأن أقاموا مجالس للثرثرة يتناجون فيها ضد النبى والمؤمنين . ونزل فى هذا آيات نرجو تدبرها . قال جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (10) المجادلة )
2 / 3 : بينما شاركت الأغلبية المؤمنة فى القتال الدفاعى تخلّف عنه المنافقون ، زاد هذا من إنحسار نفوذهم وشعورهم بالخوف الشديد بعد أن كانوا الملأ المسيطر من قبل . الآيات كثيرة فى سورة التوبة . نكتفى منها بما جاء عن عادتهم فى الحلف كذبا ليرضوا المؤمنين ( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)) .
3 ـ وسط هذه الممارسة للشورى لم تنقطع التوجيهات فى تدعيم ثقافة الشورى . ونأخذ أمثلة قرآنية مما نزل فى المدينة :
3 / 1 : فى نظام الجلوس فى مجالس الشورى ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) المجادلة )
3 / 2 : فى آداب الكلام ومنع المزايدات ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) الحجرات )
3 / 3 : فى التحذير من الاندفاع ، بل الهدوء وانتظار رأى الخبراء ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) الحجرات ).
3 / 4 : فى السّمُوّ الأخلاقى ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)الحجرات )
أخيرا
كم هو عظيم الاسلام .. وكم هو وضيع كوكب المحمديين .!
الباب الرابع
علمانية الدولة الاسلامية
أولا : مقارنات :
الفصل الأول : الاسلام السلوكى هو جوهر العلمانية الاسلامية الفصل الثانى : قضية السيادة فى العلمانية الاسلامية وما يترتب عليها . الفصل الثالث : بين ( ضنك ) العلمانية الدنيوية و( سعادة ) العلمانية الاسلامية . الفصل الرابع : العلاقات الخارجية للدولة الاسلامية العلمانية . الفصل الخامس: التناقض بين الدولتين: الإسلامية والدينية .
ثانيا : الدولة الاسلامية وحقوق المواطن
الفصل الأول : الثروة بين المجتمع والفرد فى الدولة الاسلامية . الفصل الثانى : الحق المطلق للمجتمع فى الحكم وفق الشورى فى الدولة الاسلامية . الفصل الثالث : الحق فى القسط والحرية بين الجتمع والفرد . الفصل الرابع : الحق فى الأمن بين المجتمع والفرد .
أولا : مقارنات
الفصل الأول : الاسلام السلوكى هو جوهر العلمانية الاسلامية
مقدمة
1 ـ الاشكالية الكبرى هنا أن الدولة الاسلامية الحقيقية تجدها فى النظم السياسية الغربية التى تتصور الاسلام عدوا لها، وأن الذى يناقض الاسلام ودولته المدنية هو نظم المحمديين السياسية الدينية كما فى ايران والحركات الساعية للحكم كالاخوان المسلمين.
2 ـ لذا لا بد من تحديد المفاهيم أولا ، فنحن نتحدث عن الاسلام وليس عن المحمديين . والاسلام عندنا هو القرآن الكريم فقط ، وليس المصادرالبشرية المزورة التى نسبها أئمة المحمديين لله سبحانه و تعالى ورسوله محمد باسم الحديث النبوى أو الحديث القدسى . الاسلام ليس له علاقة بأديان المحمديين ( السنة أو النتشيع أو التصوف ) ومذاهبها وطوائفها وطُرُقها التى انتشرت ونسبت أقوالها بالتزوير لله سبحانه وتعالى ورسوله عبر منامات وأحلام وعنعنات واسنادات لا تصمد للمنهج العلمى.
3 ـ اذا نحن هنا نتحدث عن الاسلام كما جاء فى القرآن ، ومنهجنا فى فهم القرآن هو المنهج الموضوعى فى فهم أى كتاب بشرى؛ فنحن لا ندخل على القرآن الكريم بأفكار مسبقة نريد اثباتها أو نفيها بالقرآن عن طريق انتقاء ما يوافق هوانا من الآيات ، بل نقرأ كل الآيات المتصلة بالموضوع ونستخلص منها حقائق القرآن ونقبلها سواء اتفقت أو اختلفت مع السائد فى أفكارنا ومعتقداتنا ، بل نضحى بهذه الأفكار انحيازا منا للاسلام العظيم والقرآن الكريم .
كما أننا لا ندخل على القرآن ونفهمه بمصطلحات التراث المختلفة فيما بينها والمختلفة عن مصطلحات القرآن. ان للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة التى يمكن معرفتها بمراجعة تلك المصطلحات خلال سياقها القرآنى. باختصار هذا هو منهجنا فى فهم حقائق الاسلام ، وتناقض تلك الحقائق مع مفتريات المحمديين .
4 ـ وقد درج المحمديون على تكفير العلمانية لمجرد أنها منتج غربى. وبالرجوع للقرآن الكريم تبين لنا ان الاسلام السلوكى هو جوهر العلمانية ، وقد تحتلف علمانية الاسلام عن العلمانيات الغربية .
5 ـ على ان العلمانية الغربية ليست مذهبا واحدا بل هى مذاهب واتجاهات مختلفة ، ولا يزال فيها متسع للاجتهاد والاختلاف والتجديد مع وجود حراك فكرى مستمر فى الغرب الذى يرفع شعار حرية الفكر والمعتقد ، ويمارس من خلالها كل صور النقد والنقاش للثواب حتى ما كان منها متصلا بالعلمانية أو بالكنيسة.
6 ـ حسنا . لسنا هنا فى معرض المقارنة بين علمانية الاسلام وعلمانية ـ أو علمانيات ـ الغرب . انما هدفنا هو توضيح عاجل للعلمانية الاسلامية كما جاءت فى القرآن الكريم . تلك العلمانية الاسلامية الى نزلت وحيا قرآنيا منذ أربعة عشر قرنا فى العصور الوسطى المظلمة ، فى عصر الاستبداد السياسى والدينى والسيطرة الكنسية فى أوربا المسيحية.
أولا :
عموما : الاسلام السلوكى هو جوهر العلمانية الاسلامية
1 ـ دعنا نعتبر ( العلمانية ) مشتقة من هذا العالم المادى الميتافيريقى وليس لها صلة بما وراء الطبيعة ( الميتافريقى ). وبالتالى فهى مهمومة ومهتمة بالبشر الآن فى هذه الحياة الدنيا ، ولا شأن لها بهم فى اليوم الآخر .
2 ـ هذه العلمانية هى بالضبط ( الاسلام السلوكى ) وشريعته التى تنحصر فى الانسان المُسالم الذى يأمنه غيره ، وله تمام الحرية فى معتقداته ، لأن الهداية للحق مسئولية شخصية ، من إهتدى فلنفسه ومن ضل فعلى نفسه ، والمسئولية الشخصية تعنى ألّا تزر وازرة وزر أخرى . والاسلام القلبى العقيدى بعباداته له اليوم الآخر ، وليس هذا اليوم ، وهو يوم الدين حيث يحكم الرحمن جل وعلا بين البشر فيما هم فيه مختلفون ، يشمل هذا جميع الأنبياء على قدم المساواة مع البشر .
3 ـ لذا تجد مستويين من الخطاب : خطاب تشريعى حسب السلوك الظاهرى الذى يستطيع البشر الحكم عليه ، ومستوى غيبى لا يستطيع الحكم عليه إلا علّام الغيوب ، والذى مرجعيته له جل وعلا وحده يوم الدين . القاضى بين الناس لا يعلم سرائرهم وليس له أن يحكم على نواياهم ، هو يحكم على الظواهر ويطلب أدلة مادية مثبتة .
4 ـ الدولة الاسلامية كانت جزيرة مُحاطة بأعداء يتربصون بها من كل جانب ، وكانت مفتوحة لكل قادم بشرط أن يكون مسالما مأمون الجانب . بعض النساء هاجرن ، وكان هناك إحتمال وارد أن تكون هجرتهن للتجسس ، كان المطلوب هو إختبار ( أمنى ) لهن ، وليس اختبارا بإيمانها القلبى الذى لا يعلمه إلا الله جل وعلا . قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (10) الممتحنة ) . نلاحظ هنا :
4 / 1 : أن الايمان القلبى ليس واردا فى هذا الامتحان لأنه لا يعلمه إلا الرحمن . المطلوب هو الايمان السلوكى بمعنى الأمن والأمان .
4 / 2 ـ الدخول فى الاسلام لا يعنى مطلقا الدخول القلبى خضوعا للخالق جل وعلا وتسليما له وإنقيادا لطاعته ، فهذا لا يعلمه إلا الذى يعلم الغيب والشهادة . و إنما هو الدخول فى السلام دين الله جل وعلا فى تعامل البشر فيما بينهم .
5 ـ عاش العرب فى غارات متبادلة وكانت لهم ( أيام العرب ) وأشعارهم فيها . ثم فى النهاية تركوا هذا الى السلام ودخلوا دين الدولة الاسلامية ورآهم النبى محمد عليه السلام يدخلون فيه أفواجا ، فقال له ربه جل وعلا : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر ). محمد عليه السلام لم ير مافى قلوبهم من الاسلام القلبى من اخلاص الدين لرب العالمين ، لأنه عليه السلام لم يكن يعلم الغيب عموما ولم يكن سرائر القلوب خصوصا ، ويكفى أن المنافقين الذين مردوا على النفاق كانوا الأقرب اليه ولم يعرفهم ، إنهم الخلايا الجاسوسية النائمة التى أرسلتها قريش ، على أن تكتم نفاقها ، فإذا نجح محمد فى دعوته أسرعوا بقطف ثمار نجاحه بعد موته ، وهذا ما حدث فعلا بالخلفاء الفاسقين وصحابة الفتوحات ، وهو الذى أثّر فى تاريخ العالم بعد موت النبى محمد وتدمير دولته الاسلامية ، ولقد أخبر الله جل وعلا عنهم فقال : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التوبة ). لم يكن النبى يعلمهم وهم الأقرب اليه ، وأخبر رب العزة جل وعلا بعذاب دنيوى مستقبلى لهم ثم ينتظرهم عذاب عظيم يوم القيامة . وقع هذا فى طاعون عمواس ومجاعة الرمادة عام 18 هجرية فى خلافة عمر بن الخطاب .
6 ـ شريعة الدولة الاسلامية العلمانية تتطلب دليلا مثبتا فى إيقاع العقوبات سواء باعتراف صريح بلا أكراه ، أو بأدلة جازمة ( مثبتة ) ( مُبينة ) فىيما يمكن مشاهدته ، أو ( عالم الشهادة ) .
7 ـ شريعة الدولة الاسلامية العلمانية تتعرف على عدوها الخارجى بالسلوك الظاهرى ، بأنه الذى يهاجمها حربيا وعليها أن تدافع عن نفسها ، قال جل وعلا : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ). فإذا انتهوا عن الاعتداء توقف الدفاع. ، قال جل وعلا : ( فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) البقرة ).
8 ـ الدولة الاسلامية تتعرف على الفارق بين عدو يعتدى وآخر لا يؤمن مخلصا بالله جل وعلا لكنه سلوكيا لا يعتدى ، وبالتالى فطبقا للاسلام السلوكى يختلف التعامل ، قال جل وعلا : ( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة ).
ثانيا :
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بين الاسلام القلبى العقيدى والاسلام السلوكى بمعنى السلام
1 : المحمديون أفسدوا معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .
الخلفاء الفاسقون مثل أسلافهم الجاهليين كانوا ( يؤدون ) الصلاة وبقية معالم ملة ابراهيم المتوارثة من حج وصيام ولكن مع تقديس البشر والحجر وإقامة للقبور المقدسة فى المساجد . اضاف الخلفاء الفاسقون فسقأ أفظع ، هو إستخدام الصلوات الخمس فى أفظع الموبقات ، وهى الفتوحات وحروبهم الأهلية . لم ينقطعوا عن تأدية الصلوات الخمس أثناء حروبهم وسلبهم ونهبهم وسفكهم الدماء ، أى جعلوا تأدية الصلوات الخمس وسيلة لأفظع الآثام ، بل جعلوا الوالى على البلاد المفتوحة هو ( والى الصلاة ) ، وكان بناء المساجد أول ما يفعلون . وحتى الآن تجد الأكثر تدينا من المحمديين هو الأكثر فسادا فى أخلاقه وتعاملاته . وحتى الآن تجد أكابر المجرمين فى كوكب المحمديين يتنافسون فى إقامة المساجد بأموال السُّحت ، ويحتلون الصفوف الأولى فى صلاة الجمعة أمام الكاميرات . يتناسون أن :
1 / 1 : العبادات فى الاسلام هى مجرد وسائل للتقوى ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) البقرة ) .
1 / 2 : الصلاة وسيلة لاجتناب الفحشاء والمنكر ، قال جل وعلا عن إقامة الصلاة : ( وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) العنكبوت ).
2 ـ قرآنيا : تختلف ( إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ) بين الاسلام القلبى العقيدى والاسلام السلوكى بمعنى السلام .
2 / 1 : إقامة الصلاة والمحافظة عليها فى الاسلام القلبى العقيدى جاءت فى قوله جل وعلا : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) المؤمنون ) .
2 / 1 / 1 : المفهوم هو أنه ليس كل المؤمنين مفلحين يستحقون جنة الفردوس يوم الدين . المؤمنون المفلحون هم فقط الخاشعة قلوبهم أثناء صلواتهم ، والفاعلون فى زكاة أو تطهير قلوبهم ، الذين يجتنبون الفواحش ، والذين يراعون العهود . بهذا هم على صلاتهم يحافظون . وبهذا هم الوارثون للفردوس الخالدون فيها .
2 / 1 / 2 : المؤمنون سلوكيا فقط ليسوا مقيمين للصلاة وليسوا ممّن يؤتون الزكاة وطهارة القلوب .
2 / 1 / 3 : الذى يحكم على هذا هو عالم الغيب والشهادة ، وسيكون هذا يوم الحساب .
2 / 2 : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يختلف معناها فى الاسلام السلوكى . إنها ببساطة تعنى التوبة عن الاعتداء الحربى دخولا فى السلام .
بعد أن دخلت قبائل العرب فى الاسلام السلوكى أفواجا أصبحت قريش منعزلة ، فاضطرت الى الدخول فى الاسلام السلوكى بمعنى السلام والأمن والأمان . عقدوا عهدا مع النبى محمد عليه السلام ، ثم نقضوا العهد وإعتدوا ، وهمُّوا بإخراج النبى من مكة . نزلت سورة ( التوبة ) بالبراءة منهم ، ومنحهم الأشهر الحُرُم مهلة لهم ليتوبوا . ومعنى توبتهم هو الكفُّ عن العدوان ، وهذا هو ما يمكن مشاهدته والحكم عليه . قال جل وعلا : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ )( 5) التوبة )، ( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) التوبة ).
أخيرا
الاسلام السلوكى بمعنى السلام هو جوهر علمانية الاسلام وجوهر شريعته.
الفصل الثانى : قضية السيادة فىالعلمانية الاسلامية وما يترتب عليها
أولا :
الانسان هو سيد هذا العالم الدنيوى.
1 ـ الله سبحانه وتعالى قد خلق كل هذا العالم للانسان، ليكون ذلك اختبارا لنا فى الحياة الآخرة. قال جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) هود ) .
2 ـ العالم هنا يشمل السماوات والأرض وما بينهما أى الأرض بما فيها من نبات وجماد وحيوان ومن مادة وطاقة. ومابين السماوات والأرض يعنى كل الكون المادى من كواكب ونجوم و مجرات وسدوم، تبلغ المسافات بينها بلايين السنين الضوئية. وفى نفس الوقت فان تلك النجوم والمجرات ليست الا زينة للسماوات .إقرأ قوله جل وعلا عمّا بين السماوات والأرض :
2 / 1 : ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا )( 18 )(17) المائدة ).
2 / 2 : ( رَبُّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) (5) إالصافات ).
2 / 3 : وعن الإحكام فى الدقة والتقدير إقرأ قوله جل وعلا :
2 / 3 / 1 : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) الملك ).
2 / 3 / 2 : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) الفرقان )
2 / 3 / 3 : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) القمر )
3 ـ يرتعب العقل البشرى حاليا وهو يكتشف الدّقة والأبعاد الهائلة بين بلايين المجرات والثقوب السوداء والبيضاء ، وما أصبح يقال عنه العوالم الموازية ( 13 )، أو ما سبق القرآن الكريم بتسميته بالبرزخ ( برازخ ستة لأرضنا المادية يتخلل بعضها بعضا ثم تتخللها على التوالى برازخ السماوات السبع ) .
4 ـ وهذه كلها فى هذه الدنيا ، وهى ( اليوم الأول ) ،وسيتم تدميرها بقيام الساعة ليأتى اليوم الآخر بأرض بديلة وسماوات بديلة خالدة ، حيث سيكون لقاء البشر بالرحمن جل وعلا : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم ). وبيوم القيامة تنتهى سيادة الانسان فى هذا اليوم الأول ( الحياة الدنيا )، ويتعين عليه أن يلقى الله جل وعلا فى ( اليوم الآخر ) ليحاسبه عن حريته فى ذلك ( العالم / اليوم الأول ) الذى كان فيه سيدا ، وأخضع وسخّر له فيه كل وجميع ما فى السماوات والأرض ، قال جل وعلا : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) الجاثية ) .
5 ـ نعيد التأكيد بأن الله جل وعلا خلق كل هذا الكون الحالى المرئى منه وغير المرئى لمجرد اختبار الانسان فى هذه الحياة الدنيا. وحين ينتهى الوقت المعين لهذا العالم ويأتى موعد حساب الانسان ( القيامة ) يقوم الله تعالى بتدمير هذا الكون بالأرض والسماوات وما بينهما، ويخلق الله تعالى بدلا منها أرضا جديدة وسماوات جديدة خالدة لا تفنى بما فيها من جنة للفائزين ونار للخاسرين، وأن كل هذا الكون قد سخره الله جل وعلا للانسان بمعنى أن يكون الانسان سيد هذا العالم ، فالتسخير يعنى ان الله سبحانه وتعالى أخضع هذا الكون للانسان ليستغله كيف شاء، وهو مسئول عن ادارته لهذا الكون المسخر له. وموعد المساءلة هو يوم القيامة.
6 ـ ونضيف :
6 / 1 : إن حريةالانسان فى هذا الكون ومسئوليته عما يفعل تعنى "الأمانة "فى مصطلحات القرآن الكريم . قال جل وعلا : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) الأحزاب ) .
6 / 2 : نفهم بهذا معنى الأمر الالهى للملائكة بالسجود لآدم . فبهم يدبر الله جل وعلا هذا الكون المادى والمرئى خلال اليوم الأول ( يوم الدنيا ) وتصعد الملائكة بهذا الكون كله خلال ( اليوم الأول ) الى الله جل وعلا فى زمن متحرك ، طوله 50 ألف سنة بالتقدير الالهى ، قال جل وعلا : ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)المعارج ). أما تدبيره جل وعلا الأمور فى هذا اليوم الأول فبسرعة ألف عام بتقديرنا . قال جل وعلا : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) السجدة )
7 ـ ونؤكد مجددا : الانسان سيد هذا العالم خلال هذا اليوم الأول ، وفى زمن متحرك . ثم بقيام الساعة يأتى زمن الخلود ( اليوم الآخر ) وحساب هذا الانسان الذى ( كان ) سيدا فى اليوم الأول . فهل يفهم الانسان هذا ؟ وهل يفهم وحريته المطلقة فى هذا اليوم الأول ومسئوليته عنها فى اليوم الآخر ؟
ثانيا :
لا سيد للانسان الا الله سبحانه وتعالى وحده :
1 ـ فى الوقت الذى يشاء معظم البشر أن يمتطيهم بشر مثلهم فى دول إستبداد علمانى أو دينى فإن مبنى العلمانية الاسلامية على أنه ليس فى الاسلام اله الا الله سبحانه وتعالى وحده، وليست هناك واسطة بين الانسان وربه جل وعلا، فهو قريب منهم إذا دعوه :( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي ) (186) البقرة )، هو الأقرب لهم : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) ق ). وحيث لا واسطة بين الناس ورب الناس فلا تقديس لبشر أو حجر . وبالتالى فليس فى الاسلام كهنوت ولا مؤسسة دينية أو دولة دينية . فى الاسلام نرى الباب مفتوحا للتدبر فى القرآن الكريم ، لمن يكون راسخا فى العلم ، وليست لهم قداسة ، وآراؤهم بشرية تقبل الخطأ والصواب والنقاش والرفض والقبول.
ثالثا :
بالتالى يترتب على ذلك :
1 : كل البشر متساوون من حيث الانسانية ، فمعنى أن يكون الانسان عبدا للخالق وحده ان يتساوى البشر جميعا باعتبارهم عبيد الله سبحانه وتعالى وحده ، لذا فقد أكّد الله سبحانه وتعالى على المساواة التامة بين البشر فى النشأة والانتماء، فقد خلق البشر جميعا من أب واحد وأمّ واحدة ، أى هم اخوة ينتمون لنفس الأب ولنفس الأم، وقد جعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا لكى يتقاتلوا ، والتعارف يعنى المعرفة والصداقة ؛ معرفةالتنوع البشرى فى الجنس والعنصر واللغة والثقافة واللسان والاستفادة منه فى اثراء الحضارة الانسانية .
وهذا التعارف بمعنى الصداقة لا يكون الا بالاتصال السلمى والعلاقات السلمية.
وبعد المساواة بين البشر فى الأصل والانتماء أكّد الله تعالى على أن أفضل البشر عنده ليس بالثروة أوالجاه أو الجمال أو الشباب أو القوة والصحة أو الذكورة أو الأبيض أو الأسود أو الأعلم او الأذكى ، بل الأفضل عند الله تعالى هو الأكثر تقوى لله سبحانه وتعالى وهو يخاطب الناس جميعا فيقول : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات ) .
والتقوى تأتى نتيجة عمل الصالحات والايمان الخالص الذى يدفع ابن آدم للتمسك بالقيم الانسانية العليا.
2 : كل البشر السكان فى الدولة الاسلامية متساوون فى المواطنة باعتبارهم سكانا لها ، يملكونها على قدم المساواة . والوطن هنا ليس مجرد الأرض والنظام الحاكم بل إن الوطن أساسا هو الانسان المواطن ، والذى بدونه لا تكون الأرض شيئا مذكورا . يتقسّم الوطن على كل المواطنين بالتساوى ، بغض النظر عن الذكورة والأنوثة ، اللون والعرق والجنس ، الدين والملل والنحل ، المستوى الإقتصادى ، لا فضل لأحد على أحد . الأفضلية سيكون الحكم فيها لله جل وعلا ، ليس فى هذه الدنيا ، ولكن للخالق جل وعلا يوم الدين ، وهذا بعلم الله جل وعلا الذى هو الأعلم بمن إتقى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات )
3 ـ كل نظم الحكم المستبدة عدوة للاسلام العلمانى ، ليس فقط لأنها تقهر الانسان لصالح فرعون مستبد وقومه ،لكن أيضا لأنها تستعبد هذا الانسان وتجعله رعية مملوكة لمن يحكمه ويمتطى ظهره . ولا يتم لها هذا إلا بالتعذيب والارهاب والقمع ، أى بظلم مهما إشتدّ فهو أقل من ظلم أكبر هو إستعباد الانسان الذى إستخلفه الله جل وعلا فى هذه الأرض ، وسخر له ما فى السماوات والأرض ، أى جعل له السيادة ، ولم يجعل له ربا سواه جل وعلا.
المستبد العلمانى يزعم الألوهية لنفسه صراحة أو ضمنا . الأسوأ منه هو المستبد السياسى الكهنوتى فى الدولة الدينية الفرعونية ، والتى أرساها الخلفاء الفاسقون من أبى بكر ( الزنديق ) وإستمرت فى خلفاء بعده . هؤلاء الملاعين هم الذين جعلوا ظلمهم دينا ، وأسموه ( الاسلام )، وبسببهم ضاعت حقيقة الاسلام العلمانية طيلة هذه القرون ، وتوارث المحمديون بكل ما يملكون من جهل لعن العلمانية وعداءها ، لا يعلمون انها هى الاسلام السلوكى فى التعامل بين الناس .
4 ـ حواجب الدهشة ترتفع حين نقول علمانية الاسلام . هذا أكبر دليل على ما نقول .
التعليقات
بن ليفانت
وجهة نظر
أولًا : مرة أخرى عن الإسلام السلوكي الذي جاء في المقال السابق. انتهز هنا الفرصة (ولست انتهازي) لأكرر رأيي في الموضوع، طبعًا مع التعرض لبعض ماجاء في المقال: "المؤمنون سلوكيا فقط ليسوا مقيمين للصلاة وليسوا ممّن يؤتون الزكاة وطهارة القلوب"، "إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يختلف معناها فى الاسلام السلوكى . إنها ببساطة تعنى التوبة عن الاعتداء الحربى دخولا فى السلام" .
لو كانت هنا إقامة الصلاة وايتاء الزكاة تعني التوبة فقط، فعندي سؤال: كلمة التوبة جاءت مباشرة في الآية فلماذا إذًا "إقامة الصلاة وايتاء الزكاة"؟ وتكرار كلمة التوبة – ربما كيف تكون التوبة (بالصلاة وايتاء الزكاة).
ثم هناك شي آخر مهم: بالنسبة للمشركين جاءت الآية 11 من سورة التوبة مع ذكر إقامة الصلاة وايتاء الزكاة ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) بينما لم تأتي العبارة في الآية 29 التي تخص أهل الكتاب، بل جاء عوضًا عنها عبارة "يعطوا الجزية" ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿٢٩﴾. لماذا لم تأتي هنا عبارة "الصلاة وايتاء الزكاة"، فيصبحون تبعًا لريأيكم "مسلمون سلوكيًا" بمعنى مسالمون. أنا أعتقد أن طلب الصلاة وايتاء الزكاة من مشركي مكة، الذين نكثو بعهودهم، هو طلب استثنائي لأنهم كانوا يدَّعون الاسلام، أو ربما لسبب آخر، لكني لست مقتنعًا بأنها تعني التوبة ولو طفت حول كعبة المنطق سبعة أشواط.
كلمة أخيرة مختصرة: بودي لو كان معكم حق ولو كنت مقتنعًا بذلك.
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ بن ليفانت وأقول :
1 ـ نحن نكتب وجهات نظر تقبل المناقشة والتصحيح ، ولا نزعم الحق المطلق ، إنما هو ما نفهمه من تدبرنا فى القرآن الكريم .
2 ـ واضحت وجهة نظرى وهو أن الاسلام السلوكى بمعنى السلام والأمن هو ما يمكن للبشر الحكم عليه فى حياتهم الدنيا. الاسلام القلبى غيب والذى يحكم عليه هو علام الغيوب يوم القيامة . ومن الاسلام السلوكى توبة المعتدين عن العدوان ، وهى إقامتهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة . أما عن إقامة الصلاة وايتاء الزكاة وتزكية النفس بالتقوى بالمحافظة على الصلاة التى تنهى عن الفحشاء والمنكر فجزاؤها الخلود فى الفردوس كما جاء فى أوائل سورة المؤمنون .
3ـ أهل الكتاب المعتدون جاء توصيفم فى أوائل الآية 29 من سورة التوبة . توبتهم بترك هذه الصفات والتوبة رجوعا للسلام . .
الفصل الثالث : بين ( ضنك ) العلمانية الدنيوية و( سعادة ) العلمانية الاسلامية
أولا :
( ضنك ) العلمانية الدنيوية
الدولة الدينية ضنك لا حدود له . نتوقف مع نوعى الدولة العلمانية : العلمانية المؤمنة للدولة الاسلامية ، والعلمانية الدنيوية السائدة فى العالم اليوم ، ونرى موقع كليهما من السعادة أو الضنك .
1 ـ العلمانية الشيوعية:
1 / 1 : تسحق الفرد لمصلحة المجموع ، ويتكشف الأمر على أن المجموع ليس سوى القائد الأعلى الذى احتكر السلطة والثروة والمجتمع ، أما بقية المجتمع فأغلبهم يعيش على الكفاف ، وممنوع عليه التعبير . فى النهاية فشل الاتحاد السوفيتى وسقط بدون طلقة رصاص ، بسبب فشله فى تنافسه مع أمريكا .
1 / 2 : علمانية بلا أيدلوجية . ورث الاتحاد السوفيتى فى آسيا الوسطى شيوعيون كانوا فى السلطة فغيروا رداءهم ، واستمروا فى الحكم الاستبدادى الفاسد بلا أيدلوجية ، مستخدمين نفس أدوات القهر .
1 / 3 : ينافسهم فى الفساد والاستبداد فراعنة المحمديين العلمانيين . يشتركون جميعا فى النفاق السياسى ، يرفعون شعارات مختلفة ( الوطن / الأمة / القومية )، والفرعون الفرد هو الوطن والقوم والأمة . أمّا الشعب فهو مملوك للفرعون الذى يملك الأرض ومن عليها .
2 ـ العلمانية الغربية الديمقراطية النيابية التمثيلية الرأسمالية ( الولايات المتحدة الأمريكية ):
2 / 1 : على مستوى القمة :
تتركز الثروة فى عدد من الأشخاص ، وهم الذين يديرون المشهد السياسى . المنافسات الانتخابية عالية التكاليف ، ولا بد للطامح سياسيا من متبرعين له ، ويكون عليه ردّ الجميل ، . الذى ينجح ويخرج عن السياق تتم إزاحته بالاغتيال ( لينكولون ، جون كيندى ) أو بالهزيمة ( كارتر ، ترامب ) . الذى يسير على الخط المرسوم يبقى مدتين حتى لو كان من الملونين ( أوباما )
2 / 2 : الطبقة المتوسطة :
المفترض أنها دعامة النظام الرأسمالى من أصحاب المشروعات الصغيرة من مزارع ومصانع ومتاجر ..الخ . هؤلاء فى سباق محموم وتنافس فيما بينهم بين توسيع ( البيزينيس ) والخوف من الخسارة . فى خضم هذا التنافس الذى لا يرحم يظل يجرى لا يلتفت خلفه ، كالذى يلهث خلف أتوبيس مسرع يريد أن يقفز اليه ولا يستطيع ، وفى نفس الوقت لا يستطيع التوقف خوف أن يدهسه الأتوبيس القادم خلفه .
2 / 3 : الطبقة العاملة :
يستنزفها صاحب العمل الساعى للربح بكل المُستطاع . يستخدم صاحب العمل العامل ويستغنى عنه حسب مصلحته دون أى إعتبارات إنسانية .
2 / 4 : الفرد عموما :
2 / 4 / 1 : يتربى الفرد على أساس الاستقلالية والأنانية ، سرعان ما يترك أسرته ويبحث عن أسرة بديلة مصطنعة فى النوادى والتجمعات ،ممّا يوهن من الترابط الأُسرى . الحصول على عمل له الأولوية ، والاحتفاط به هو كل المسئولية . فى مجتمع إستهلاكى يدمن الفرد فيه على الشراء ـ حتى بدون حاجة ـ يكون التقسيط هو الحل . يعيش فى بيت بالتقسيط ويركب سيارة بالتقسيط ويشترى الأساسيات بالتقسيط معتمدا على راتبه الشهرى ، ويظل طيلة حياته يدفع أقساط البيت وغير البيت . إذا أدمن المخدرات ( وهذا شى معتاد ) أو خسر عمله ( وهذا شىء وارد ) خسر بيته ، وأصبح فى الشارع بلا مأوى . وتمتلىء المدن الكبرى بناطحات السحاب وبملايين المشردين المتسولين ، من الجنسين ؛ منهم الشباب ومنهم كبار السّن . طبعا هناك بعض الرعاية الاجتماعية ، ولكنها لا تكفى .
2 / 4 / 2 : فى التنافس على الرزق فى المستوى الأدنى والتنافس على الثروة والسلطة فى المستوى الأعلى ومع توارى الوازع الأخلاقى يصبح الوصول للهدف مشروعا بأى طريقة. المهم أن تصل وأن تنجح ، وليس مهما كيف ، وليس مهما مصلحة المجتمع أو المجموع ، وليس مهما عدد الضحايا . الدين العملى هو البراجماتية ( فنّ الحصول على المنفعة ) ، والقاعدة الذهبية أن الغاية تبرر الوسيلة بغض النظر عن مطابقتها أو مخالفتها للقانون . والقانون لا يعنى العدل ، وهناك محترفون فى التحايل عليه بطرق قانونية ، وفى النهاية فالفجوة موجودة بين نصوص القانون وإنفاذه وتطبيقه . والخاسر لا يجد مجتمعا يحنو عليه أو ينتشله .
3 ـ تشترك كل المجتمعات العلمانية فى ( الضّنك ) . حتى على مستوى أهل القمة وأكابر المجرمين . فكلما إرتفع أحدهم زادت همومه وعايش القلق ، وما يرتبط به من آلام جسدية ونفسية . ربما ينام بمنوم ويصحو على مهدّىء . السبب فى المنافسة والمكايد والتآمر . برغم الرفاهية المظهرية والحشود والأتباع والجنود فإن الفرعون يعيش المعادلة الصفرية ، إما أن يبقى فى السلطة أو يهوى فى الحضيض . لا يأمن أحدا ، ولا يثق فى أحد . يتآمر ويتوهم الجميع يتآمرون عليه . فى حياة كهذه يصطنع الابتسام ويخفى المرض والقلق ويدارى ويوارى ويناور وينافق .
4 ـ ( الضنك ) هو العنوان المناسب للعلمانية الدنيوية . نتذكر قوله جل وعلا عمّن تشغله هذه الدنيا عن ربه جل وعلا : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) طه ).
ثانيا :
راحة البال والإطمئنان فى العلمانية الاسلامية التى ينبغى أن تتحصّن بالايمان
1 ـ العلمانية الاسلامية تجعل الأسرة هى اللبنة الأولى للمجتمع ولذلك فان التفصيلات القرآنية لم تأت إلا فيما يخص الأسرة حتى تتأسس فى جو صحى.وحتى ينشأ فى ظلها أفراد أصحّاء.
2 ـ ومع ذلك :
2 / 1 : فإن القرآن الكريم يوازن بين الفرد والمجتمع ، فالانسان يولد فردا ويموت فردا ويأتى يوم القيامة للقاء ربه فردا ، ولا ينفعه ولا يضره يوم الحساب الا عمله ان كان صالحا أو فاسدا ، وفى كل الأحوال فان عمل صالحا فلنفسه وإن أساء فعلى نفسه ، ولن ينفع الآخرين يوم القيامة ، كما أنه ليس مسئولا عن أوزار غيره ، فليس له إلا ما سعى أثناء حياته : ( الانعام 94 ) ( مريم 80 ) ( فصلت 46 ) ( الاسراء 15 ) ( فاطر 18 ) ( النجم 39 ـ )
2 / 2 ـ هذا الانسان الفرد مطالب فى الاسلام بالعمل الصالح النافع للمجتمع ، وأن يكون متقيا لله سبحانه و تعالى بمعنى أن يكون مخلصا فى عقيدته لله تعالى وأن يكون فاعلا بالخير للناس ، وأن يكون آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر ليس بمعنى التسلط ولكن بالنصيحة .
2 / 3 ، وبالتالى :
2 / 3 / 1 : لا بد أن يكون هو قدوة للآخرين ، وإلا كان من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ( البقرة 44) و كان من الذين يقولون ما لا يفعلون وتلك خطيئة تستوجب مقت الله تعالى ( الصف 2 ـ3 ) .
2 / 3 / 2 : فالفرد مع مسئوليته الشخصية أمام الله تعالى فان من ضمن مسئوليته أن يكون عنصر خير فى المحيط الذى يعيش فيه بدءا من أسرته وزوجته واولاده ووالديه وأقاربه وجيرانه و محيط عمله الى المستوى الأعم الذى يشمل كل المجتمع والانسانية.
3 ـ التنافس هو سبب الشقاء والضنك فى العلمانيات الدنيوية ، لأنه على حُطام الدنيا الزائل . هذا التنافس هو فى الخيرات فى العلمانية الاسلامية .
3 / 1 : وجاء التعبير عنه :
بالمسارعة الى رضا الله جل وعلا فى الدنيا ليفوز بالجنة فى الآخرة . قال جل وعلا : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) آل عمران )
3 / 2 : بالتسابق للحصول على رضى رب العزة جل وعلا فى الدنيا ليفوز بالجنة فى الآخرة ، قال جل وعلا :
3 / 2 / 1 :( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) الحديد )
3 / 2 / 2 : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) البقرة ) أى التسابق فى الخير
3 / 2 / 3 : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة ). أى إنه مع إختلاف العقائد فالواجب التنافس فى الخير .
3 / 2 / 4 : الأمربالتعاون على البرّ والتقوى . قال جل وعلا : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) المائدة ). لاحظ التهديد بالعقاب الالهى إن لم يتعاونوا على البر والتقوى .
3 / 3 : كل ما سبق هو فيما يفعله الإنسان بإرادته الحرة ، وسيكون مسئولا عن حريته وعمله يوم الحساب . هناك حتميات مقدرة سلفا ومكتوبة ولا فرار ولا مهرب منها . هذه الحتميات ( القضاء والقدر ) لا حساب عليها ، وعلى الانسان أن يتقبلها برضى ، لا يفرح بها ّ ولا يحزن ، بل يقف منها موقفا متوازنا . قال جل وعلا : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الحديد ).
3 / 4 : هنا تكون راحة البال فى الدنيا . قال جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) محمد ).
3 / 5 : هذا لأن العلمانية هنا فيها ذكر الله جل وعلا والايمان بالآخرة .
قارن بين قوله جل وعلا عن الاطمئنان القلبى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد )وقوله جل وعلا عن ( الضنك ) : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) طه ).
التعليقات
يحيى فوزى نشاشبى
قال جل وعلا : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الحديد ). رائع ودمتم موفقين- والسؤال: إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ، الضمير ( نبرأها) يرجع إلى ؟ وشكرا.
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ يحيى ، وأكرمك الله جل وعلا
الله جل وعلا هو البارىء . والبارىء يعنى الخالق ، وهو جل وعلا خالق الموت والحياة ، فالموت مخلوق فينا ، وبيده جل وعلا حتميات الولادة والموت والرزق والمصائب . وهى مكتوبة مقدرة قبل أن تنزل باصحابها . وفى ليلة القدر ينزل الروح جبريل بالأقدار للعام التالى . و ( بالتالى ) فالمؤمن يجب أن يتخذ موقفا محايدا لما يحلُ به من حتميات ، لا يغتر بها إذا كانت خيرا ولا يحزن إذا كانت شرا.
الفصل الرابع :
العلاقات الخارجية للدولة الاسلامية العلمانية
أولا :
من الناحية النظرية :
الأساس هنا أن الدولة الاسلامية لا بد أن تجمع بين صفتين : أن تكون قوية عسكريا ، وأن تكون مسالمة . بقوتها تحمى نفسها وتردع من يطمع فى الاعتداء عليها . وهذا الردع يأتى بمعنى الارهاب فى قوله جل وعلا : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) الأنفال ).
من الناحية الواقعية فى عهد النبى محمد عليه السلام :
1 ـ قبل أن تستعد دولة النبى محمد عليه السلام حربيا كما جاء فى الآية 60 من سورة الأنفال ، إلتزم المؤمنون بكفّ اليد وتحمُّل الغارات القرشية عليهم . إذ إعتادت قريش الاغارة عليهم فى المدينة ليردوهم عن دينهم . نفهم هذا من قوله جل وعلا : ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا ) (217) البقرة )، فلمّا إستكملوا الاستعداد العسكرى نزل فرض القتال ، قال جل وعلا :
1 / 1 : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )(40) الحج ).
1 / 2 : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ).
2 ـ المسلمون بالاسلام السلوكى والذين يخشون الحرب كرهوا الأمر بالقتال ، قال جل وعلا : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) البقرة ) ، وبعضهم طلب مُهلة ، قال جل وعلا عنهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) النساء ).
من الناحية الواقعية فى عصرنا :
1 ـ الشعب الذى يقع تحت إحتلال ظالم لا يستطيع مقاومته حربيا عليه المقاومة السلمية ، فللضعف قوة تؤثر فى القوى ، وبقوة الضعف يحصل على إستقلاله وحقوقه . حدث هذا مع غاندى فى الهند ، ومع مارتن لوثر كنج وحقوق الأمريكيين الأفارقة ، ومع نيلسون مانديلا فى جنوب أفريقيا . كلهم كفّ اليد عن العنف ، وجاهد سلميا مستعملا قوة الضعف ، ونجح ، ودون أن يدرى طبّق الأمر الاسلامى .
2 ـ المحمديون المتطرفون ـ وهم الأكثر غباءا وكفرا ـ لم يطبقوا هذا . لجأوا للعنف فى مواجهة قوة أكبر وأعتى . عجزا منهم عن مواجهة الجيوش لجأوا الى قتل المدنيين عشوائيا ، أو ما يسمى حاليا بالارهاب .
2 / 2 : الفلسطينيون أشهر من ارتكب ذلك بخطف الطائرات والعمليات الانتحارية بزعم ان الحور العين تنتظر المجرم الذى يفجّر نفسه . وتطوّر الأمر ب ( حماس ) التى يتركز جهادها فى جعل المدنيين ينتحرون رغم أنوفهم ، إذ تتخذهم دروعا بشرية تضرب وتختفى بينهم وتجعلهم عرضة للقصف الاسرائيلى ، تجهز لها الأنفاق وتجعل مداخلها تحت المستشفيات والمساجد ، تحريضا لاسرائيل على قتل من يلجأ لها . فى نفس الوقت ترفض حماس أن تنشىء ملاجىء لأهالى غزة يحتمون فيها من القتل . والنتيجة عشرات الألوف من القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ فى بضعة أسابيع ( حتى الآن ) ، وهو أضعاف أضعاف القتلى من الأطفال فى أوكرانيا ، والتى يواصل بوتين تدمير مدنها خلال سنوات ، ولكن دولة أوكرانيا جهزت ملاجىء للأهالى .
2 / 3 : ومن المضحك أن الهند التى حررها غاندى بطريقته السلمية إنفصل عنها المحمديون ، وتكونت بهم باكستان ، بجزء شرقى وجزء غربى ، وبينهما بُعدُّ ساحق ، وكانت السيطرة لباكستان الغربية ، والتى يغلب عليها الدين السنى الوهابى ، بينما تدين باكستان الشرقية بالتصوف الذى يعتبره الوهابيون كفرا . أقام الجنرال محمد أيوب خان مذبحة فى باكستان الشرقية وصل ضحاياها الى نحو 3 مليون شخص من المدنيين ، سارعت أنديرا غاندى رئيسة الهند بنجدتهم ودخلت فى حرب مع باكستان الغربية إنتهت بهزيمة باكستان الغربية وإستقلال باكستان الشرقية تحت إسم بتجلاديش . إحتكرت باكستان الغربية إسم باكستان لنفسها ، وحملت فى داخلها الدين الوهابى ، وحتى الآن لا تزال التفجيرات فيها خبرا عاديا ، وتنال المساجد والمستشفيات ، وفى منطقة بيشاور بين باكستان وافغانستان تعلم الطلبة الجهاد الباكستانى فأصبحوا ( طالبان ) ، وما أدراك ما طالبان .!
ثانيا :
عن التعامل مع الدول الأخرى :
1 ـ هو وفق الاسلام السلوكى بمعنى السلام ، وهو أيضا أساس التعامل داخل الدولة الاسلامية ، واساس المواطنة فيها ، فكل السكان فى الدولة الاسلامية هم المُسالمون فيها ، وهم مالكو الدولة . أما ما يخض العقائد والعلاقة بالخالق جل وعلا فمرجعه لرب العزة جل وعلا ( يوم الدين ).
2 ـ هناك دولة مخالفة فى الدين ولكن مُسالمة . وهنا يجب التعامل معها بالبرّ والقسط . قال جل وعلا : ( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة ).
3 ـ هناك دول كافرة سلوكيا بالاعتداء والتعدى . يكون تحاشى إعتدائهم بعقد معاهدات معهم لحقن الدماء . وبينما يتوجب على الدولة الاسلامية الوفاء بالتعهدات فإن نقضها يأتى من الطرف الآخر . وتعرض القرآن الكريم لهذا فى سياقات شتى . قال جل وعلا :
3 / 1 : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) الانفال ). أدمنوا على نفض العهود والاعتداء . لذا يجب مواجهتهم بحزم ليكونوا عبرة لأمثالهم .
3 / 2 : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) الانفال ). هنا دولة تضطهد داخلها المؤمنين فى الدين ، يستغيثون بالدولة الاسلامية ، فإن كان هناك معاهدة عدم إعتداء فلا يجوز للدولة الاسلامية أن تنتصر للمؤمنين المضطهدين داخل هذه الدولة الكافرة . بالتالى فعلى المؤمنين فيها أن يبذلوا جهدهم فى الهجرة للدولة الاسلامية لتحميهم .
3 / 3 : ( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) النساء ). جاء هذا فى سياق التعامل مع الأعراب المنافقين وتقلباتهم ( النساء 88 : 91 ). منهم من إعتزل القتال الهجومى وكانت له علاقة سلمية بمن عقدت الدولة الاسلامية معهم معاهدة سلام ، وسالموا ـ أيضا ـ الدولة الاسلامية . هؤلاء يحرم على المسلمين قتالهم .
3 / 4 : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) التوبة ). المشركون المعتدون إذا عقدوا معاهدة سلام فيجب على المسلمين الالتزام بها طالما هم ملتزمون بها. إن نكثوا العهد وطعنوا فى دين السلام بالاعتداء فيجب قتالهم دفاعيا .
ثالثا :
على المستوى الواقعى فى عصرنا :
1 ـ الأخبار السيئة تأتى من الدول المعتدية ، ورؤساؤها بسبب هذا هم المشاهير . وهناك دول مسالمة تعيش فى سلام داخلى ، وتعيش فى سلام مع جيرانها وغير جيرانها . تجد هذا فى دول استونيا ولاتفيا ولتوانيا والسويد والنرويج والدانمارك وهولندة وبلجيكا وسويسرا ولوكسمبرج وكندا .. قلّما يعرف أحد حُكام هذه الدول . هذه هى الدول المسلمة فى عصرنا .
2 ـ هل مستحيل أن تتحارب هذه الدول ؟
فى الحرب العالمية فُرضت الحرب على بعضها فحاربت دفاعيا . وهذا نفس ما حدث مع دولة النبى محمد عليه السلام .
3 ـ هل مستحيل أن تتحارب دولتان مسالمتان ؟ وإذا تحاربتا فما هو الحل ؟
ممكن أن تقع نزاعات بسبب الحدود أو غيرها . وقرار الحرب صعب فى دولة ديمقراطية ، ولكن قد يوافق البرلمان على حرب إذا كان هناك إعتداء أو ظُلم واضح بيّن لا يوقفه إلا الحرب . ووصل نُضج البشر الى تكوين عُصبة الأمم لحل الخلافات سلميا ، وكان هذا نتيجة لمعاهدة فرساى بعد الحرب العالمية الأولى . وانتهت عصبة الأمم عام 1946 بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، وتكونت ( الأمم المتحدة ) أكثر نضجا من سابقتها ، ولكن لا بد من أن تساير العصر بنضج أكثر وعدل أكثر يوقف هيمنة القوى الكبرى المعتدية ، ويجعل للأمم المتحدة وأجهزتها سُلطة أكبر فى عقاب الدول المعتدية مهما كانت قوتها .
4 ـ المواثيق الدولية لحقوق الانسان هى أقرب كتابة بشرية للاسلام وشريعته . وحتى فى القتال بين دولتين مسالمتين جاء التشريع الخاص به فى القرآن الكريم ، قال جل وعلا : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) الحجرات ) فى حالة إقتتال بين دولتين مسلمتين فلا بد من تدخل دولة ثالثة بالاصلاح . إذا تبين بغى إحداهما فيجب قتال الدولة الباغية حتى ترجع عن بغيها ، ويتم الصلح بينهما ليعودوا أُخوة . هذه الدولة الثالثة يمثّلها فى عصرنا الأمم المتحدة ، ليس بحالتها الآن ولكن بتعديل يجعلها أكثر قوة وحزما ، بحيث تمثّل الضمير العالمى للانسانية .
الفصل الخامس : التناقض بين الدولتين: الإسلامية والدينية
مقدمة :
1 ـ نضطر لهذا لأن الدول الدينية فى كوكب المحمديين تتمسح بالاسلام ، بل قد تجعل هذا فى إسم دولتها مثل ( الجمهورية الاسلامية ) فى إيران ، ويضع الساعون للحكم الاسلام لافتة وعنوانا ، يزعمون أنهم ( الاخوان المسلمون ) ( حركة المقاومة الاسلامية ) ( داعش : الدولة الاسلامية للعراق والشام ) ( حزب الله ) ( أنصار الله )..الشريعة التى يحكمون بتطبيقها أولئك أو التى يطبقونها فعلا تناقض الاسلام ، ولكن يتم تطبيقها بسفك الدماء لضحايا معظمهم من الأبرياء . لا يقتصر الأمر على هذا ، بل تجد المستبد العسكرى ( كما فى مصر ) أو الحزبى ( كما فى سوريا والعراق وليبيا ) لا يتردد فى إستخدام إسم الاسلام . هذا جعل الخلط شائعا بين دولة الاسلام والدولة الدينية .
2 ـ هنا نناقش سريعاً التناقض بين الدولة الإسلامية فى عصر النبى والدولة الدينية فى العصر العباسى وما تلاه.
أساس التناقض بين الدولتين: الإسلامية والدينية:
1 ـ سبق ابن خلدون فى الإشارة إلى الاختلاف بين الدولة الدينية والدول التى نعرفها الآن بالعلمانية، ففى فصل فى المقدمة بعنوان "معنى الخلافة والأمامة" يقسم النظام الملكى إلى نوعين وهما الملك الطبيعى وهو الذى يحكم بالهوى والشهوة، ويراه فجوراً وعدواناً، والملك السياسى وهو الحكم بالعقل فى جلب المصالح ودفع المضار. ويراه أيضاً مذموماً لأنه على حد قوله : ( ينظر بغير نور الله ) . أى يحكم بغير الشريعة .! وفى النهاية يرى ابن خلدون أن نظام الخلافة هو الأفضل، لأنه إرغام الكافة بالشرع للنظر فى مصالحهم الدنيوية والأخروية "أى هى خلافة عن صاحب الشرع فى حراسة الدين وسياسة الدنيا به".
باختصار يرى ابن خلدون أن أساس الدولة الدينية هو إكراه الناس فى الدين وإلزامهم بإقامة الشرع، ليس شرع الله سبحانه وتعالى الحقيقى ولكن الشرع الذى يكتبه فقهاء السلطة الاستبدادية. ومع انه يعترف بأن هدف الدولة غير الدينية العاقلة ( أى الدولة العلمانية بتعبيرنا ) هو جلب المصالح للناس ودفع الضرر عنهم إلا إنه باعتباره قاضياً شرعياً ينحاز للدولة الدينية التى يعيش فى كنفها ويسيطر عليه تراثها، ويرى الدولة العلمانية شيئا مذموما لا تنظر بنور الله سبحانه وتعالى .
2 ـ ونحن هنا نختلف معه ومع الآخرين. فليس إدخال الناس الجنة وهدايتهم إلى الحق هو الأساس فى إقامة الدولة الإسلامية أو من مهامها ومسئوليتها. لأن الهداية مسئولية شخصية لكل إنسان . قال جل وعلا : ﴿مّنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ﴾ (الإسراء 15) بل إن الهداية ليست وظيفة النبى حتى حين كان حاكماً، يقول سبحانه وتعالى له : ﴿لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ (البقرة 272) ويقول له: ﴿إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ (القصص 56) ويقول له يؤكد عدم الإكراه فى الدين : ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾ (البقرة 256) ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 99).
3 ـ الحرية والعدل هما أساس الدولة الاسلامية . والدولة الدينية التى كان ابن خلدون أسيرا لها لم تعرف العدل ، ولم تكن فيها حرية . الفرعون المستبد ـ خليفة كان أو سلطانا ـ كان أعتى وأشرس أكابر المجرمين ، كان الأظلم للناس ، والأظلم لرب العالمين ، حيث كان يقتل الآلاف باسم الاسلام ، وهو أعدى عداء الاسلام . وينتشر هذا الإفك على أنه الاسلام ، وأن الدولة الدينية هى الدولة التى تحكم بنور الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا . هذا الإفك وقع ضحية له عالم فريد هو ( عبد الرحمن بن خلدون ) فى مقدمته . فإذا كان هذا حال العبقرى إبن خلدون فماذا عن الأميين محترفى الكتابة فى عصرنا الردىء ؟!
4 ـ إن القسط بين الناس هو اٍلأساس فى إقامة الدولة الإسلامية . القسط هو العدل .وهذا متعلق بالحقوق .
4 / 1 : هناك حق الله جل وعلا وحقوق الانسان . حق الله سبحانه وتعالى هو الإيمان به جل وعلا وحده وعبادته وحده والتمسك بكتابه وحده . والناس هنا أحرار ، وصاحب الحق جل وعلا هو الذى سيحاسبهم علي هذا الحق يوم الحساب ، وفى النهاية فهى مسئولية فردية شخصية ، وكل فرد سيؤتى به للحساب . قال جل وعلا : ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) مريم ) .
4 / 2 : حقوق الأفراد والمواطنين فى هذه الحياة الدنيا هى مسئولية الدولة فى هذه الدنيا. قد تكون الدولة مملوكة لفرعون والملأ التابع له ، أو أن تكون الدولة مملوكة للشعب بالعدل والقسط بين الناس / المواطنين .
5 ـ والله سبحانه تعالى يقول : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ (الحديد 25) أى أن الهدف الأساس من إنزال الكتب السماوية وإرسال الأنبياء والرسل هو أن يقيم الناس القسط في التعامل فيما بينهم.
والقسط نوعان :
4 / 1 ـ القسط أو العدل فى التعامل مع الله تعالى بحيث لا نشرك به أحدا، والله تعالى يقول ﴿إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان 13). والحكم فى هذا الموضوع مرجعه لله تعالى يوم القيامة فى كل ما يخص تصورات البشر عن ربهم جل وعلا، يقول سبحانه وتعالى :
4 / 1 / 1 : ﴿قُلِ اللّهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (الزمر 46) .
4 / 1 / 2 : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) الحج )
4 / 2 ـ أما النوع الثانى : فهو القسط أو العدل فى التعامل مع البشر، وذلك يستلزم تأسيس الناس نظام حكم سياسى دنيوى ، ويقدر نجاح ذلك النظام فى إقامة العدل تكون إسلاميته، وذلك معنى قوله تعالى ﴿لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ ، أى ليقوم الناس جميعا من الرجال والنساء بالتعاون والترابط بينهم فى تحقيق هدف واحد هو العدل والقسط . البديل هو ( الحديد ) أى السلاح . يقول جل وعلا : ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ، أى إن الله جل وعلا ( أنزل ) الميزان كتابا إلاهيا نزل على كل الرسل ليقوم الناس بالقسط ، وأيضا ( انزل ) الحديد ، وهو المادة الأساس فى صناعة السلاح . وعلميا فإن الحديد نزل لتتكون منه الأرض . إن أقام الناس القسط كما أمر الرحمن جل وعلا ففى الدولة سلام ورخاء . يحدث الفساد والظلم وسفك الدماء إن قامت فئة أو مجموعة لتأسيس دولة ما أو إقامة نظام حكم ونجحت بالقوة وسفك الدماء فى فرض هذا على البقية من الناس ، فهى دولتهم الظالمة التى يملكونها ، وحظُّ بقية الناس أن يكونوا ( رعية ) مملوكة للأقلية الحاكمة . وهذا الظلم قد يدفع للثورة ، ولو قام بهذه الثورة مجموعة أخرى فسيتكرر نفس الطغيان ، وستسيل أنهار أخرى من الدماء . ليس هناك حل سوى أن يقوم الناس جميعا وباخلاص شديد لتأسيس دولة العدل والقسط . هذا التلاحم بين الشعب كله فى سبيل العدل مستحيل تحقيقه إلا بتوعية تشمل الجميع ، وإحساس عام بأن الظلم يؤدى الى سفك الدماء ، وأنه طالما لا يوجد عدل فلا يوجد سلام . هذا الوعى الجمعى بأهمية العدل لا يتحقق بين عشية أو ضحاها ، بل يلزمه نضال أو جهاد إسلامى بالكلمة والدعوة يقوم به أفراد ضد إرادة المستبد وقومه ، بل ضد إرادة الأغلبية من الشعب التى قام المستبد بتغييب وعيها وغسيل مُخّها، لذا يتعرض دعاة العدل والاصلاح للاضطهاد من المستبد ويتمتعون بسخط الأغلبية المقهورة المغيبة . إنهم المقصودون بقوله جل وعلا : ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ). بإصرارهم تنتشر دعوتهم ، ويحدث تحوُّل تدريجى ، بطىء ولكن متحرك . وبزيادة الدعاة وانتشار الدعوة يصل المجموع الى أنه لا سبيل للسلام والتقدم إلا بالتوافق على إقامة دولة القسط والعدل ، وفيها يعيش الحاكم السابق بعد قضاء مهمته آمنا مطمئنا فى شيخوخته .
5 ـ فى دولة القسط الاسلامية تهدف العقوبات أساساً لحقوق العباد أو حقوق الإنسان فى الحياة والمال والعرض والشرف. ومن إقامة القسط تتفرع كل حقوق الفرد وحقوق المجتمع والتوازن بين العدل والحرية فى منظومة رائعة نتعرض لها لاحقا .
6 ـ أما فى الدولة الدينية فالأمر مختلف.
بعيدا عن رذيلة التمسح بالاسلام فكل دولة دينية تتبنى ديناً أرضيا أو أحد المذاهب المتفرعة من ذلك الدين الأرضى كالوهابية المتفرعة من الدين السنى و الاثناعشرية الحاكمة فى ايران وهى متفرعة من الدين الشيعى . وكل دولة دينية ترغم الناس على قبول دينها الأرضى أو مذهبها الرسمى وتستخدمه فى تدعيم سلطتها، وفيها يتمتع الحاكم وحده بالسلطة والثروة ويعاونه رجال الدين فى اخضاع الشعب لاستبداده ، بحيث يصير انتقاده خروجاً على الدين. وبطبيعة الحال تعاونه قوة عسكرية يستخدمها لارهاب الناس ، وبالكهنوت الدينى والعسكر يصير الحاكم المستبد المتأله فى اعتقاد الناس متحكماً فى الدين والدنيا والآخرة . وبينما يكتفى الاستبداد العادى بقتل المعارضين فإن الاستبداد فى الدولة الدينية يصادر حق الخصوم فى الدنيا وفى الآخرة أيضاً ، اذ يقتلهم باسم الشرع متهما اياهم بالكفر وحد الردة، ويزعم انهم أيضا من أهل النار منتزعا سلطة الله سبحانه وتعالى فى الآخرة بعد أن انتزع سلطة الشعب فى الدنيا. وكل ذلك تحت لافتة الشرع وإقامة الدين. وفى ذلك ظلم عظيم لله سبحانه وتعالى ورسوله ودينه.
7 ـ وهذه هى خلاصة التاريخ الواقعى للدول الدينية فى الشرق والغرب فى كل العصور القديمة والوسطى والحديثة والمعاصرة فى تاريخ المسيحية والاسلام ـ كلها استغلت دين الله سبحانه وتعالى فى ظلم الناس وارهابهم وأكل أموالهم بالباطل . وهذا ينافى إقامة القسط، وهو الهدف الأساس للدين الالهى الحقيقى.
التعليقات
حمد حمد
إقامة العدل والقسط في المحاكم
دكتورنا المحترم حفظكم الله جل وعلا وبارك بعلمك وعمرك ، وددت أن أعرف عن إقامة العدل والقسط بالمحاكم او كقانون بالدستور للدول الإسلاميه هل سوف يكون هناك باب لشرح هذا الجانب خاصة إذا كانت الدولة تضم أديان متعدده وشرائع ومذاهب مختلفة ام يكتفي فقط في تطبيق الأحكام الشرعية حسب ما أنزل بالقرآن العظيم مع خالص التقدير لكم.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا أستاذ حمد ، واقول :
1 ـ قلنا ان الاسلام السلوكى هو أساس المواطنة بمعنى السلام ، والايمان السلوكى هو أساس المواطنة بمعنى الأمن والأمان ، ولا شأن للدولة الاسلامية بمعتقدات المواطنين وعباداتهم لأنه ليس مهمتها إدخال الناس للجنة أو هدايتهم ، فهذه مسئولية شخصية ، والمرجع للحكم فيها لمالك يوم الدين فى يوم الدين. . بالتالى فالمواطنون سواء . ومن يخرج عن الأمن ويعتدى فجزاؤه بالشريعة الاسلامية ، وسيأتى فصل عن الشريعة الاسلامية العلمانية وتطبيقها.
2 ـ هذا الكتاب سبق تأليفه فى أوائل التسعينيات فى عصر مبارك ، ويعاد نشره مقالات بعد التنقيح . والله جل وعلا هو المستعان.
ثانيا :
العلمانية الاسلامية وحقوق المواطن
الفصل الأول :
الثروة بين المجتمع والفرد فى الدولة الاسلامية
مقدمة
1 ـ فى دول الديمقراطية التمثيلية النيابية :
فى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر دليل على تحالف السلطة مع الثروة فى إطار القانون ، حيث مسموح لجماعات الضغط التأثير فى السياسة الداخلية والخارجية . بل هناك ( لوبيات ) قانونية تعمل بتصريح قانونى فى خدمة دول خارجية . ومن يريد الترشح للكونجرس ومجلس الشيوخ لا بد أن يجد من يتبرّع لحملته الانتخابية ، وهذا تحت مراقبة القانون ، وعلى مستوى المجالس النيابية للحكومة الفيدرالية والولايات . نفس الحال فى التنافس على حكم ولاية أو حكم الولايات المتحدة الأمريكية . وبالتالى :
1 ـ فمن يتبرع من أصحاب الثروة يكون له نصيب فى النفوذ والسلطة .
2 ـ هناك ثوابت أمريكية من يخرج عنها ـ حتى لو كان ساكن البيت الأبيض ـ يتم عزله والتخلص منه . الأمثلة : ( لينكولن ، جون كيندى ، نيكسون ، ترامب )
3 ـ تختلف شعارات الترشيح المرفوعة عمّا يتم تنفيذه فعلا . أوباما نسى شعاراته وإلتزم بثوابت السياسة الأمريكية ، وإعترف لاحقا عن مسئوليته والآخرين فى موضوع غزة وفلسطين .
2 ـ فى دول الإستبداد : لا حاجة لكل هذا العناء ، فالمستبد يملك الأرض ومواردها ومن عليها من بشر ( الرعية ) والأنعام ، لا فارق بينهما فهم ممتلكاته . هنا تعانق الثروة والسلطة . وفرعون موسى هو المثال الواضح ، قال عنه جل وعلا : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) الزخرف )، أى عقد مؤتمرا لقومه ليتندر على موسى ، وهتف له قومه الذين يستخفّ بعقولهم . وهذا ما يحدث فى مؤتمرات الحكام العسكر فى مصر حتى الآن .
أولا :
عنهم قرآنيا
وصف أصحاب الثروة والسلطة هو :
1 : أكابر المجرمين ، وهم دائما يعارضون الاصلاح ، ودائما أعداء الرسل ومن يدعو دعوتهم للإصلاح . قال جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) الأنعام ). ولنا كتب منشورة هنا عن أكابر المجرمين قرآنيا ، وعن تطبيق شريعتهم فى عصر السلطان برسباى والسلطان قايتباى . وهذا ردا على المواشى التى ترفع لواء تطبيق الشريعة دون علم بمفهومها القرآنى أو التراثى أو تطبيقها التاريخى .
2 : المترفون :
نتتبع هذا المصطلح فى آيات قرآنية نرجو تدبرها :
هم معارضو الرسل :
تكبرا :
الملأ المترفون من قوم عاد قالوا عن النبى هود عليه السلام : ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (34) المؤمنون ).
تمسكا بالسلفية وما وجدوا عليه آباءهم
فالسلفية هى التى تكونت بها مكانتهم وثرواتهم .
قالتها قريش لخاتم النبيين : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) الزخرف ) وجعلها رب العزة جل وعلا قاعدة عامة تنطبق حتى على عصرنا ، فقال جل وعلا فى الآية التالية ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) الزخرف ). لاحظ مقالتهم ( أجمعت الأمة ) و ( ثوابت الأمة )، و ( المعلوم من الدين بالضرورة ) .
وإفتخارا بأموالهم وأولادهم .
قال جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) سبأ )
ظلمهم هو السبب فى هلاكهم وأتباعهم :
1 ـ عن ساعة إهلاكهم قال جل وعلا : ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15) الأنبياء )
2 ـ كان يأمرهم المنذرون المُصلحون بالعدل فيردون بالرفض والفسق . قال جل وعلا :
( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) الشعراء )
3 ـ لو أطاعوا المنذرين لنجوا من الهلاك . قال جل وعلا : ( فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) هود )
4 ـ وجعلها رب العزة جل وعلا قانونا ساريا قبل القرآن الكريم وبعده ، قال جل وعلا : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) الاسراء ).
هلاكهم فى الدنيا لا يعفيهم من عذاب الآخرة .
5 ـ قال جل وعلا : ( حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66)المؤمنون )
ثانيا :
منع وجود طبقة مترفة فى الدولة الاسلامية
تتكون الطبقة المترفة حين تتركز الثروة فى الأثرياء فيتحولون الى مترفين بينما تتضاءل الطبقة الوسطى ، ويزداد الفقراء فقرا وعددا ، ويعم الفساد ويتغوّل وينتشر وتتأهل البلاد لحرب أهلية أو على الأقل إنتفاضات عشوائية للجوعى والمحرومين . وحتى لا يحد ث هذا فللقرآن الكريم قواعده ، وهى كالآتى :
1 ـ الموارد الاقتصادية مملوكة لله جل وعلا الذى خلقها ، وهى من حق من يسعى اليها مجتهدا فى إستغلالها وفق تكافؤ الفرص . قال جل وعلا عن خلق الأرض : ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) فصلت )
أقوات الأرض أو مواردها هى سواء ( مساواة ) أى مُتاحة لمن يسعى فى إستخراجها وإستثمارها ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) . بالتالى فالدولة الاسلامية تفتح سُبل الإستثمار للمؤهلين له من المواطنين ، ويدفعون مقابل هذا للدولة. وهذا الاستثمار يستلزم تشغيلا للأيدى العاملة ، وتوزيعا للسلع ، وتدويرا للمال . وكل هذا يمنع تكون طبقة مترفة وينعش الطبقة المتوسطة من الخبراء والموظفين .
2 ـ المال مال الله الخالق جل وعلا ، والبشر ( مُستخلفون فيه ) ، قال جل وعلا :
2 / 1 :( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) (7) الحديد )
2 / 2 : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) (33) النور )
2 / 3 : ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ )(7) الطلاق ).
3 ـ حق المجتمع المطلق فى الثروة:
قلنا إن الثروة فى الأصل ملك لله تعالى، وقد جعلها حقاً مطلقاً للمجتمع، وهى حق نسبى للأفراد بحسب العمل وحسن الاستغلال والاستثمار، وهى حق للورثة طالما أحسنوا الاستغلال والاستثمار، فإذا تصرفوا بسفاهة قام المجتمع بالحجر عليهم والالتزام بالإنفاق عليهم وحسن معاملتهم. نستفيد هذا من قوله سبحانه وتعالى : ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً.) ( وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىَ حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ (النساء 5: 6)
3 / 1 : فالمال حق مطلق للمجتمع ولهذا كان الخطاب للمجتمع فى الإشراف على الثروة ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ والمجتمع هو القائم على تنمية الثروة ﴿الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾
3 / 2 : فإذا أحسن الفرد القيام على تنمية ثروته كانت حقاً له ﴿فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ويتجلى هذا فى الفرق بين كلمتى "أموالكم" و"أموالهم" فى الآية.
3 / 3 : من أسف ففى كوكب المحمديين يتحكم السفهاء فى مال الدولة .!
4 ـ حتى لا يتحول الأغنياء الى مترفين :
4 / 1 : لا حق لهم فى أموال الفىء الذى يفىء الى بيت مال الدولة . توزيعه قاصر على الجهاد فى سبيل الله ( الله ورسوله ) وذوى القربى للمقاتلين دفاعيا فى سبيل الله جل وعلا واليتامى والمساكين وابن السبيل . قال جل وعلا : ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) (7) الحشر ). رائع تعبير ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ).
4 / 2 : وبالنسبة لمن يعجز عن الكسب فإن له حقاً فى ثروة الأمة، والله جل وعلا يؤكد على "حق" السائل والمحروم وحق المسكين واليتيم وابن السبيل فى الصدقات الفرية والصدقات الرسمية كقوله سبحانه وتعالى ﴿وَالّذِينَ فِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ مّعْلُومٌ. لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج 24: 25)، ﴿وَفِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (الذاريات 19) ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ﴾ (الإسراء 26) ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ﴾ (الروم 38) ﴿وَآتُواْ حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (الأنعام 141).
4 / 3 : ويلاحظ هنا ان حقوق الفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل لا شأن لها بالعنصر والدين والايمان والكفر والملة والطائفة والذكورة والأنوثة. يكفى أن يكون أحدهم فقيرا أو مسكينا أو ابن سبيل أو يتيما ليأخذ حقه . ونعيد التذكير بأن الاسلام السلوكى هو أساس المواطنة .
4 / 4 : المهم هنا أن من يأخذ الصدقات هم المستهلكون . يعطيهم القادرون أصحاب المصانع والمزارع الصدقة فينفقونها فى شراء الطعام واللباس وبقية المنتجات ، أى تعود الأموال الى أصحاب المشروعات ، وتتسع الأعمال والتوظيف وتشغيل القوة العاملة ، ويدور المال سريعا ينشر الرخاء ، وتنتعش الطبقة المتوسطة ، وهى صمام الأمن للمجتمع .
5 ـ وهذا يستلزم :
5 / 1 : ضبط السوق : فى الكيل والميزان . وتكرر الأمر بذلك فى قوله جل وعلا : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) ( 152) الأنعام ) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) الاسراء ) (أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) الرحمن ).
5 / 2 : العمل الاقتصادى هو دور الأفراد ، وبالتالى حصر دور الدولة فى تسهيل الحركة الاقتصادية بقوانين تسرى على الجميع وفق القسط وحرية السوق . الموظف فى الدولة لا يصلح للعمل الاقتصادى . لهذا سقط الاتحاد السوفيتى ذاتيا بدون طلقة رصاص واحدة .
التعليقات
حمد حمد
جزاك الله خير الجزاء بالدنيا والآخرة
بارك الله جل وعلا بعمرك وعلمك دكتور أحمد فصل رائع في تفصيل موضوع الثروة بين المجتمع والفرد في الدولة الإسلامية. لدي ملاحظة دكتور حسب تجربتي فترة معينة وغيري كثير بالعمل بالقطاع الخاص فيه نوع من الظلم خاصه إذا كان صاحب الشركة او المصنع هو المتحكم بكل شيء هناك حلات كثيرة تعرضت للظلم وأغلب التوضيف فيها يكون للمقربين وذو علاقة بصاحب المصنع او الشركة وغيرها الكثير أما التوظيف الذي يكون تحت الإشراف الحكومي يكون أكثر عدالة نوعا ما وسهل الحصول عليه إذا كانت الرواتب مناسبة للفرد وفيها نوع من العدالة وهذا ماجربناه، أنا ابنائي يعملون بالقطاع الحكومي ورفضوا أغلب مؤسسات القطاع الخاص كالبنوك والشركات وإن كانت مدعومه من الدوله بجزء من الراتب تحت بند دعم العمالة نظرا لسمعتها السيئه.
احمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، وأقول :
الدولة الاسلامية تتأسّس على قيم أخلاقية عرضنا لها من قبل ، فهى دولة العدل والاحسان وحقوق المواطنة والأخلاق الحميدة فى التعامل . هناك تفصيلات من الدولة الاسلامية يمكن وجودها فى غيرها . ولكن الدولة الاسلامية هى بناء متكامل قابل للتطبيق ، بالوعى الجمعى والتمسك بالقيم الأساس . ولا يعنى ذلك أن تكون يوتوبيا ملائكية ، ولذا فإن شريعتها العلمانية فيها عقوبات وضوابط ، وسنعرض لها لاحقا . حيث يوجد البشر يوجد الفساد وغواية الشيطان ، ولكن المهم هو نسبة الفساد ، هل هو هامشى يمكن إصلاحه أم هو الأصل الحالكم المتحكم فى الدولة الشعب . فى المجتمعات المتحضرة توجد درجة من الرشاد تجعلهم رابحين على المدى الطويل ، وهذا سرُّ متاجر عريقة فى انجلترة وغيرها . الفساد يبحث عن المكسب السريع والخداع . وهذا شائع فى كوكب المحمديين ، والناس على دين ملوكم.
الفصل الثانى :
الحق المطلق للمجتمع فىالحكم وفق الشورى فى الدولة الاسلامية
مقدمة:
1 ـ الاختبار الأكبر للانسان هو ( ملكية الأرض وما عليها من موارد تدرُالأموال ) . بهذا كانت خديعة الشيطان لأدم . قال جل وعلا : ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) طه ). بنو آدم يتقاتلون بسبب المال الناتج عن هذه الأرض ، تهون عليهم الحياة ويموتون فى سبيل هذا المال ، وكل منهم يعتقد أنه سيظل خالدا لا يموت ، يموت حوله الناس وهو لايتعظ . بالضبط هى نفس الخدعة الشيطانية لآدم : ( شجرة الخُلد ومُلك لا يبلى ) . كل الإمبراطوريات قامت وسقطت بسبب المال ، لا فارق بين امبراطوريات الفراعنة واليونان والرومان والفرس والعرب والعثمانيين والكشوف الجغرافية والاستعمار وحتى قيام إسرائيل . وكل الحرب المحلية والاقليمية والعالمية كانت ـ ولا تزال ـ بسبب المال . من أجل المال أزهق ابناء آدم البلايين من أنفسهم ، عدا أصناف من المعاناة .
2 ـ ولهذا :
2 / 1 : فإذا كان المال هو معبود معظم أبناء آدم فإن الاسلام يجعل المؤمن يضحى بالمال فى الصدقة ويدعو المؤمنين للجهاد فى سبيل الله جل وعلا بأموالهم وأنفسهم . والأموال مقدمة على الأنفس .
2 / 2 ـ كما قلنا ، فالمال فى الأصل ملك للخالق جل وعلا مالك السماوات والأرض ، وهو الذى إستخلفنا فى ماله ، وبتعبير آخر هو جل وعلا الذى ( خوّلنا ) فيه . ويوم القيامة سيقول لنا جل وعلا :( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) (94) الأنعام ). كل ما خوّله الله جل وعلا لنا من أراض وأموال وعقارات وأسهم وسندات سنتركها بالموت ، يعنى لا وجود لشجرة الخلد والمُلك الذى لا يبلى .! وسيؤتى بنا يوم القيامة أفرادا ليس معنا سوى كتاب أعمالنا . وسيتحقق قوله جل وعلا : ( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) مريم ).
2 / 3 : نفهم موضوع المال فى الدولة الاسلامية كما أوضحنا فى الفصل السابق . ونفهم أن حلّ مشكلة المال له أهميته ، خصوصا فى موضوع الشورى الاسلامية أو الديمقراطية المباشرة . ندخل بهذا على ( حق المجتمع المطلق فى السلطة السياسية: أو الشورى ) .
أولا :
لمجرد التذكير:
لا نتحرّج من التكرار للتأكيد على حقائق إسلامية غائبة فى موضوع الشورى :
1 ـ إن الله جل وعلا وحده هو الذى لا يُسأل عما يفعل، وما عداه يتعرض للمساءلة (الأنبياء 23) وعليه فإن المستبد بالسلطة والذى يتعالى عن المساءلة من الشعب إنما يجعل نفسه مدعياً للألوهية، ولذلك فإن الاستبداد يقترن بادعاء الألوهية صراحة أو ضمنا، وهذا ما يؤكد التناقض بين الاستبداد والاسلام فى مجال العقيدة، وفى نفس الوقت يوثق الصلة بين الشورى ـ أو الديمقراطية الاسلامية المباشرة وعقيدة أنه لا اله الا الله تعالى. وإن الله جل وعلا قد جعل من فرعون موسى مثلا للمستبد الذى أوصله استبداده لادعاء الالوهية، وتكررت قصته فى القرآن للتأكيد على هذا المعنى للأجيال القادمة بعد نزول القرآن الكريم.. ويعزز ذلك أنه إذا كان النبى محمدعليه السلام مأموراً بالشورى فى قوله تعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ (آل عمران 159) فإن أى حاكم يستنكف من الشورى يكون قد رفع نفسه فوق مستوى النبى، أى يكون مدعياً للألوهية.
2 ـ قوله جل وعلا : ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ يؤسس حق المجتمع المطلق فى السلطة، أو أن الأمة مصدر السلطات، وهذا يشمل كل الأمة من رجال ونساء وأغنياء وفقراء على قاعدة المساواة. تقول الآية الكريمة فى خطاب النبى محمد عليه السلام : ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ﴾. أى بسبب رحمة من الله جعلك ليناً معهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، وإذا انفضوا من حولك فلن تكون لك دولة ولن تكون لك سلطة، لأنك تستمد سلطتك من اجتماعهم حولك، وإذن فهم مصدر السلطة والقوة لك، وبهم تكونت لك دولة وانتهت قصة اضطهادك فى مكة، ولأنهم مصدر السلطة فاعف عنهم إذا أساءوا إليك واستغفر لهم إذا أذنبوا فى حقك وشاورهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر، فإذا عزمت على التنفيذ فتوكل على الله. أى إن النبى محمدا عليه السلام حين كان قائدا فلم يستمد سلطته من الله كما يدعى أصحاب الدولة الدينية، وإنما يؤكد رب العزة جل وعلا على أنه كان يستمد سلطته من الأمة ومن اجتماعها حوله، ولذلك جعله الله تعالى برحمته ليناً هيناً معهم، ولو كان فظاً غليظ القلب لتركوه وانفضوا عنه وانهارت دولته. وهذا هو النبى وتلك دولته الإسلامية..!!
3 ـ الخطاب السياسى والتشريعى فى القرآن لا يتوجه إلى حاكم مسلم أو سلطة حاكمة مميزة تختص بالحكم والتشريع والتطبيق. وإنما يتوجه إلى الأمة التى تحكم فعلاً نفسها بنفسها وفق ما يسمى بالديمقراطية المباشرة. وقلنا إن أولى الأمر هم أصحاب الخبرة أو الاختصاص فى ( الأمر ) المعروض للنقاش ، وأمرهم مُطاع فى حدود التشريع القرآنى ، وهم مُساءلون أمام الجمعية العمومية التى تمثل شعبها فى كل منطقة ، من المحليات الى الحكومة الكبرى ( الفيدرالية ) .
4 ـ : أنه لكى تمارس الأمة هذا الحق المطلق لها فى السلطة فإن الله جل وعلا جعل الشورى حقا وفريضة ملزمة واجبة وقرنها بالصلاة والزكاة، وذلك فى سورة "الشورى" قبل أن يقيم المسلمون لهم دولة، وسورة الشورى مكية، وفيها يقول تعالى يصف المجتمع المسلم المدنى فيقول من ضمن ملامحه ﴿وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الشورى 38) فجاءت الشورى بين الصلاة والزكاة لتؤكد أنها فريضة كالصلاة تماماً، فإذا كانت الصلاة فرض عين فالشورى كذلك، وإذا كانت الصلاة لا تصح فيها الاستنابة والتمثيل النيابى فالشورى أيضاً كذلك. كما أن الحديث عن الشورى جاء وصفاً للمجتمع القوى الذى يمسك زمام أموره بنفسه، فقال تعالى ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ﴾.وكون أمرهم شورى بينهم يؤكد على اشتراكهم جميعا فى مسئولية القيام بالأمر على قاعدة المساواة، بلا فرق بين غنى أو فقير ، رجل أو امرأة.
5 ـ : وهنا يتأكد نفس الخطاب القرآنى فى التوجه للمجتمع بأسره دون حاكم. فى التشريع الإسلامى فى الدولة الإسلامية يأتى الخطاب دائماً للمجتمع وعن المجتمع عندما يكون التشريع عاماً وغير مختص بعصر النبى وحده، واقرأ مثلاً ﴿وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ﴾ (الأنفال 60) ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ (البقرة 178) ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَآ﴾ (النساء 35) ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىَ﴾ (النساء 5،6).
6 ـ : وعندما انتقل المسلمون إلى المدينة وأقاموا لهم دولة "مدنية" كانت مجالس الشورى تعقد ليحضرها الجميع ( جمعية عمومية ) وفى بداية الأمر تثاقل بعض الأنصار عن حضور مجالس الشورى، وبعضهم كان يعتذر للنبى قبل الحضور، وبعضهم كان يعتذر بعد الحضور وبعضهم كان يتسلل لواذاً بعد الحضور دون استئذان. وذلك التثاقل يعنى أن ينفرد بالأمر قلة لا تلبث أن تحتكر السلطة، وتتعطل فريضة الشورى ويضيع حق الأمة بسبب تهاون أبنائها وتحولهم إلى "أغلبية صامتة"، من أجل ذلك نزلت الآيات الثلاث الأخيرة من سورة النور، وهى من أوائل السور المدنية، نزلت الآيات تجعل حضور مجالس الشورى فريضة إيمانية تعبدية وتهدد وتحذر من يتهاون فى الحضور، والتزم المسلمون بعدها فى حضور مجالس الشورى.
7 : ـ ولأنه ليس فى الدولة الاسلامية حاكم فرد، ولأن المسلمين كانوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم بالشورى الاسلامية فإن النبى محمدا عليه السلام حين مات لم يرشح بعده حاكماً بل ترك الأمة تحكم نفسها بنفسها وفق ما تعودوا عليه فى عصره . وأول خروج عن تعاليم الاسلام حدث حين أقام المهاجرون أبا بكر حاكما بالغلبة والقهر ، وبدأ أبوبكر بحرب الممتنعين عن دفع الاتاوة لقريش ، ثم الفتوحات ، والتى إستمرت بعده ، بقتل مئات الالوف وسبى للنساء والأطفال وسلب للأموال وإحتلال وظلم هائل تحت إسم الاسلام . فى مناخ كهذا أصبح الاستبداد دينا .
ثانيا :
بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية
عرضنا للتناقض بين الدولة الاسلامية العلمانية والدولة الدينية التى لا تزال راسخة الأركان فى كوكب المحمديين . نتوقف فى لمحة سريعة عن الفارق بين الدولة الاسلامية والدولة العلمانية الغربية . تتفق الدولتان فى أن الأمة أو المجتمع هو مصدر السلطات. وتختلف الدولتان (الإسلامية والعلمانية) فى :
1 ـ المرجعية :
الديمقراطية الغربية : مرجعيتها نظرية العقد الاجتماعى، وهو أن الأمة تتنازل عن جزء من ( سيادتها ) لمجموعة من الناس لكى يكونوا ( سادة ) بحجة أنهم يحكمون بالنيابة عنهم ، وتنتخب الأمة مجموعة تمثلها فى البرلمان وتنوب عنها فى التشريع ومساءلة الحاكم، باختصار فالأمة فى الدولة العلمانية لا تحكم وإنما تنيب عنها من يحكمها وتنيب عنها من يمثلها ويتحدث باسمها.
الدولة الاسلامية :
هو عقد وعهد وميثاق وبيعة لله جل وعلا ، على أساس المساوة الحقيقية وأن تكون عبودية الناس لرب الناس وحده جل وعلا ـ . قال جل وعلا :
1 ـ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) الممتحنة ). هذا فى بيعة النساء للنبى محمد عليه السلام فى أوائل ما نزل فى المدينة .
2 ـ ( وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) الحديد ). هذا فى أواسط ما نزل وعظ وتذكير للجميع .
3 ـ وفى أواخر ما نزل قال جل وعلا :
3 / 1 : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) المائدة )
3 / 2 :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التوبة )
فى موضوع الثروة :
1 ـ خلافا للدولة الاسلامية فإن الديمقراطية الغربية بدأت بالبرجوازية والتى تحولت الى رأسمالية عالمية إرتبطت بالاستعمار وإستعباد الشعوب وإستنزاف مواردها ، ثم الآن الشركات الكبرى متعددة الجنسيات ، والتى لا تسيطر فقط على مجتمعاتها بل على العالم كله . الأخطر أنها تسيطر على صناعة وتجارة السلاح ، وهذه صناعة تحتاج الى أسواق ، أى الى حروب محلية وإقليمية ، يتم فيها تصريف الراكد من السلاح ، وتجربة الجديد منه . وكوكب المحمديين هو المشترى الأكبرى . المستبد الشرقى يشترى السلاح ليرهب به شعبه ، ولا يجرؤ أن يفكر ــ مجرد تفكير ـ فى إستخدامه ضد إسرائيل . المسموح فقط هو إستخدامه فى الحروب بينهم وفى قتل شعوبهم . بالتالى فإيرادات كوكب المحمديين ـ من نفط وغيره ـ تذهب الى الديموقراطيات الغربية .
2 ـ ديمقراطية الغرب تجعل العالم ساحة لأنهار من الدماء وتقيم جبالا من الأشلاء . أما الشورى الاسلامية فهى تؤسس دولة مُسالمة قوية لا تبدأ حربا ، بل تقاتل فقط للدفاع .
3 ـ الشورى الاسلامية هى الحل لأنها الشورى التى يملكها المجتمع بأسره ، وليس نخبة من المترفين أكابر المجرمين .
التعليقات
حمد حمد
شرع مميز ووافي ومتكامل
بارك الله هذه الجهود الجبارة وهذا الكتاب المميز عن (ماهية الدولة الإسلامية ) ويبقي شيء بسيط إن أمكن دكتورنا الغالي في نهاية او ختام الكتاب صفحة بها يبين هيكل الدولة الإسلاميه بشكل مبسط مع خالص
أحمد صبحى منصور
إقتراح هام ومفيد أستاذ حمد ، وسأعمل به بعون الرحمن جل وعلا ، واقول:نحن نكتب فى موضوعات لم يسبقنا فيهأ أحد ، وبمنهج فريد فى التدبر القرآنى ، ولنا كتب مثل هذا كثيرة جدا مصدرها الوحيد هو القرآن الكريم . الكتابات الرائدة تحتاج الى توجيهات وأسئلة كاشفة ، وتحتاج الى أبحاث لاحقة تبنى عليها . وبهذا يتطور العلم ، وهذا ما أرجوه من أحبتى أهل القرآن ، أن يكون منهم جيل ــ لا يكرر ما كتبت ـ بل يضيف ويبنى . ولنعلم أننا جميعا لا زلنا على ساحل المعرفة بالقرآن الكريم ، ولا زلنا تلاميذ يتعلم بعضنا من بعض ، لا فارق بين عجوز مثلى وشاب مثل حمد حمد.
الفصل الثالث : الحق فى القسط والحرية بين الجتمع والفرد
مقدمة
1 ـ المستبد يملك الوطن ومن يعيش فيه ، وهو أيضا المتحكم فى أفكار الناس ومعتقداتهم ، ومن يخرج عن رأيه يراه تهديدا لفرعونيته وحاكميته ، ومأواه السجن أو القتل . وفى دولة المستبد لا وجود للقسط ولا وجود للحرية الدينية وغيرها ، والدولة الدينية أشدُّ ظلما من الدولة المستبدة العادية .
فى دول الديمقراطية الغربية يتحكم فى الثروة المجلس التشريعى . الكونجرس الأمريكى هو الذى يوزع المستحقات المالية ، وهو الذى يراقب صرفها ، ويناقش المسئولين . بل إختيار المسئولين فى السلطتين التنفيذية والقضائية تكون بموافقته . هذا فى الوقت الذى لا يملك مخلوق فى مصر أن يناقش ميزانية الجيش أو شركاته أو أن يقول لأى مسئول : من أين لك هذا ؟!.
2 ـ الشورى بإيجاز هى ( فنُّ ) القوة .
2 / 1 : المستبد يتحكم فى الشورى . الملأ التابع له يفكر له فيما يرضيه . لأنه الذى يحتكر القوة . نرى هذا فى التناغم بين فرعون موسى والملأ التابع له ، وبين ملكة سبأ والملأ التابع لها . أما الشعب فهو صفر على الشمال ، أو ملايين الأصفار على الشمال. لا تقل إن عدد البشر فى كوكب المحمديين بليون ونصف . العدد الفعلى هو عدد الفراعنة .
إذا ناضل الشعب وحصل على بعض مكاسب يقتطعها من المستبد فإن نصيبه من الشورى أو الحكم والقوة هو بقدر مكاسبه. قد يقيّد الملكية لتكون ملكية دستورية تتقاسم الحكم مع ممثلى الشعب ، ويتأرجح الأمر بمن يحصل بالنضال على المزيد . والأمثلة كثيرة ـ ودامية ـ فى الصراع من أجل الديمقراطية فى أوربا ، والذى استمر قرونا . وفرنسا خير مثال على ذلك ، منذ ثورتها ( 1790 : 1792 )، والتقلبات التى حدثت الى عودة الملكية البوربونية ثم الجمهوريات المتلاحقة .
2 / 2 : فى الديمقراطية الغربية التمثيلية تجد لُعبة الانتخاب ومموليها فى إعلاء أتباع البليونيرات ، ضمن ثوابت الدولة العميقة . ولكن الذى يخفّف الوضع هو الحرية للصحافة والاعلام وحرية التعبير فى نقد المسئولين مهما كانوا ، فهم ( خدم الشعب ) وفق التعبير الأمريكى الشائع ( Public services) ، مع عدم المساس بالمواطن العادى ( المواطن الخاص ) ، أى الشخص العادى . لو هاجمته بالقول يمكن أن يرفع عليك قضية تشهير. أما لو هاجمت الرئيس الأمريكى فلا يملك لك شيئا. ( قارن هذا بما يحدث فى كوكب المحمديين ).
2 / 3 : الوضع فريد فى الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة . فالثروة ملكية مطلقة للمواطنين ، وللافراد حسبما شرحنا من قبل ، والشورة هنا تعنى أن لهم الحكم المطلق ، ولهم أن يستخدموا أولى الأمر أصحاب الاختصاص تحت المساءلة . وأساس الحكم هنا هو القسط والعدل بين المواطنين بلا أدنى تفرقة ، ومع الحرية الدينية المطلقة للأفراد والجماعات . أما حرية الكلمة فهى مقيدة فيما يخص حقوق الأفراد .
ونعطى تفصيلا .
أولا :
حق الفرد المطلق فى القسط:
1 ـ لن نتوقف بالتفصيل مع الآيات القرآنية التى توجب إقامة العدل والقسط فى التعامل مع العدو أو الصديق مثل قوله جل وعلا : ﴿إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ (النحل 90) ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء 58) ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ﴾ (الأنعام 152) ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ﴾ (النساء 135)
﴿يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة 8).
2 ـ لن نتوقف مع هذه الآيات الكريمة إلا فى تقرير حقيقة قرآنية واحدة، وهى أن الحكم المقصود فى الآيات هو الحكم القضائى، أو الحكم بين الناس، وإقامة ذلك الحكم بالقسط يعنى أن الوظيفة الأساس للدولة الإسلامية هى إقامة العدل والقسط، أو الحكم بين الناس بالعدل، وليس حكم الناس أو التحكم فيهم. والمعنى المقصود أن يكون واجب الدولة الأساس هو إقامة القسط بين الناس .
3 ـ ولكن إلى أى حد؟
نقول إلى حد القسط المطلق بحسب إمكانية القاضى . وتتعرف على ذلك من التفرقة الدقيقة بين كلمتين قرآنيتين وهما "المقسطين"، و"القاسطون" والمقسط هو تعبير مبالغة يفيد تحرى القسط دائماً، بقدر المستطاع . ويتكرر فى القرآن قوله سبحانه وتعالى ﴿إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة 42، الحجرات 9، الممتحنة 8) فهذا المسقط يحبه الله جل وعلا .
أما القاسط فهو الذى يتحكم فى القسط حسب الهوى ، أى الذى لا يراعى العدل ، ومصيره جهنم، يقول جل وعلا : ﴿وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ (الجن 15).
4 ـ على أن القاضى ــ مهما كان مخلصا فى تحرّى العدل ـ فهو بشر لا يعلم الغيب ، ومن الممكن خداعه ، بالتالى فإن تحقيق العدل المطلق يستحيل فى هذه الدنيا . هو فقط فى الآخرة أمام الله جل وعلا الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور . قال جل وعلا :
4 / 1 : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء ).
4 / 2 : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) غافر ).
يكفى القاضى المسلم تحرّى العدل فى أحكامه عالما أنه سيؤاخذ يوم القيامة لو أهمل أو ظلم . ونتذكر أن الله جل وعلا لا يؤاخذنا إذا نسينا أو أخطأنا بلا قصد ، ولا يكلفنا إلا وسعنا . قال جل وعلا : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة ).
ثانيا :
حق الفرد المطلق فى الدين ( عقيدة وعبادة ودعوة ) :
1 ـ قلنا إن فى القرآن الكريم أكثر من ألف آية قرآنية تؤكد حرية العقيدة وحرية التعبير عنها وحرية الفعل العقيدى إيماناً وكفراً وإرجاع الحكم فى العقائد لله تعالى يوم القيامة، وأن ذلك يسرى على النبى نفسه. ونكتفى من مئات الآيات القرآنية التى تؤكد حرية العقيدة ببضع آيات قلما يستشهد بها الناس.
1 / 1 : فالله سبحانه وتعالى يقول للبشر : ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ مّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ﴾ (الزمر 7) إذن هى حرية مطلقة فى الإيمان والكفر، ومسئولية شخصية والحساب عليها أمام الله تعالى يوم القيامة.
1 / 2 : والله جل وعلا يقرر أيضاً حرية الفعل الإلحادى مع آيات الله، ويجعل العقوبة عليه يوم القيامة، ويؤكد حفظ كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول سبحانه وتعالى : ﴿إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.) ( إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت 40: 42).
1 / 3 : يوم القيامة يكون البشر قسمين حسب تصوراتهم عن الله جل وعلا وعقائدهم فيه ، كل منهما خصم للآخر، وأحدهما فى النار والآخر فى الجنة، والله سبحانه وتعالى يقول : ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ ﴾ (الحج 19) والملفت للنظر أن القرآن الكريم ساوى بينهما فى وصف الخصومة، ولم يجعل أحد الخصمين حكماً على الآخر، إذ كيف يكون الشخص خصماً وحكماً فى نفس الوقت، هذا مع أن أحد الخصمين سيكون ناجحا وفائزا يوم القيامة، بل أن النبى محمدا نفسه عليه السلام سيكون يوم القيامة خصماً لأعدائه الذين اضطهدوه فى مكة وماتوا على كفرهم وبغيهم دون توبة ، والله سبحانه وتعالى يقول للنبى محمد وخصومه ﴿إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ. ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ (الزمر 30: 31) فالنبى محمد عليه السلام سيختصم معهم أمام الله تعالى، والآية تساوى بين النبى وبينهم فى الخصومة واستحقاق الموت.
2 ـ حرية الفرد الدينية تشمل الاعتقاد والعبادة والدعوة . وليس مألوفا أو مسموحا فى كوكب المحمديين أن تدعو أقلية دينية الى دينها خارج محيطها ، ليس على مستوى الاختلاف الدينى ( محمديين ومسيحيين ) بل على المستوى المذهبى ( سنة وشيعة ) . القوانين فى كوكب المحمديين تحرّم وتجرّم الدعوة لغير الدين المسيطر ، ولأتباعه تكفير غيرهم وإضطهادهم بل والاعتداء المادى عليهم وعلى بيوت عبادتهم . لا تجد هذا فى أمريكا حيث يمكن أن تشترى كنيسة وتحولها الى مسجد . حرية الدعوة الدينية والتبشير به بين الآخرين هى قمة الحرية الدينية ، وهى فى الدولة الاسلامية حق متاح للأشخاص والجماعات على قدم المساواة . حساسية هذا فى أن الدعوة لدين أو مذهب تعنى تكفير ما عداه ، ولا بأس بهذا إسلاميا . بل هو لصالح الاسلام . ففى ظل الحرية الدينية وإحترام حق الاختلاف الدينى تكون النتيجة :
2 / 1 : تآكل سلطة الكهنوت الدينى إذ لا يستطيع أن يصمد فى أى نقاش عقلى ، لذا لا بد له من سُلطة تحمله على كاهلها تقيه شرّ النقاش ، ولهذا لا وجود لنفوذ الكهنوت فى الدولة الاسلامية ، لم يكن النبى محمد عليه السلام كهنوتا ، فقد كان لا يملك لنفسه ـ فضلا عن غيره ـ نفعا ولا ضرا . وحتى فى الحرية الدينية فى الديمقراطية الغربية لا وجود للنفوذ السياسى للكنيسة ، مجرد خدمات إجتماعية تطوعية .
2 / 2 : الفائز فى أى حوار عقلى هو الاسلام ، والقرآن هو حجة الله البالغة . قال جل وعلا : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (149) الأنعام ).والكثير من الآيات القرآنية تدعو للتعقل والتفكر والتفقه وتطرح أسئلة وتجيب على أسئلة ببراهين عقلية . أما الكهنوت فليس إلا خُرافات تتطلب الإيمان الأعمى .
3 ـ وهناك حق مصون للأفراد ومن ينتهكه فعليه عقوبة القذف . ونستشهد بقوله جل وعلا : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ، ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) النور ) .
مع تعلقها بالنساء العفيفات فالذكور لهم فيها نصيب ، لأنّ من يسُبُّ أم شخص أو إخته أو زوجته يكون من حقه الشكوى وإحالة القاذف للمحكمة .
التعليقات
حمد حمد
أهم باب في الكتاب المميز.
جزاك الله جل وعلا خير الجزاء بالدنيا والآخرة وبارك بعلمك وعمرك دكتورنا المحترم ، لا شك وأنا أقرأ هذا الباب وجدت إنه أهم باب بل أهم مادة في دستورها وهو الحق بالقسط والحرية المطلقة بالإعتقاد، وقد تذكرت في أحد مقالاتك كيف أن النبي محمد عليه السلام عندما حكم وعاقب إنسان بريء بعد أن تم خداعه لولا أن الله جل وعلا أنزل آية لتبرأته
الظلم في عالم المحمديين يحتاج إلى جهاد مضن والله المستعان.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا استاذ حمد ، واقول :
ما تفضلت بذكره يؤكد ما قلناه من أن القاضى من البشر لا يعلم الغيب ويمكن خداعه . المهم أن يتحرى العدل ما أمكنه ، ولا يكلف الله جل وعلا نفسا إلا وسعها.
الفصل الرابع : الحق فى الأمن بين المجتمع والفرد
أولا :القاعدة الأساس : ( الأمن المطلق يعنى الخوف المطلق )
تجربة شخصية :
1 ـ فى أوائل نوفمبر 1987 وقبيل الفجر جاء جيش من الأمن المركزى توقف فى أول شارع المعاهدة بالمطرية بالقاهرة وحتى آخر الشارع عند كوبرى مسطرد . والغرض هو عمارة قرب كوبرى مسطرد ، يسكن فى الشقة الأرضية بها كاتب مسالم لا يملك سوى قلمه ، فى حياته لم يلمس بيده مسدسا أو رصاصة . إحتل الجنود العمارة ، ووقف أمام كل شقة مجموعة يحذرون سكانها من الخروج . إقتحم بعضهم شقتى ومدافعهم الرشاشة فى وجهى ، ووجهوها الى أولادى الصغار النائمين ، عبثوا بمكتبتى وأوراقى وأخذوا منها عشوائيا ما أرادوا . واصطحبونى الى المجهول . كانت سيارة الأمن المركزى التى أركبها تسبقها سيارات وبعدها سيارات . كان الفرعون حسنى مبارك يحكم بمنطق الأمن المطلق . يملك الجيش وأجهزة المخابرات والشرطة ويحتكر السلاح وإستعماله . أورثه هذا الأمن المطلق الخوف المطلق ، بحيث إنه إرتعب من كاتب مثلى مسالم قليل الحيلة يدعو بكل أدب الى الاصلاح . رأى حسنى مبارك دعوة الاصلاح خطرا محققا على أمنه المطلق . لأن الخوف المطلق قرين إحتكار الأمن مطلقا . وأنا فى سيارة الترحيل للسجن كنت أستعين ضد الخوف بقوله جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الأنعام ) .
2 ـ خرجت من السجن لأجد حملة صحفية تدعو لقتلى ، بدأت قبل السجن وإستمرت ضارية بعده . هربت بحياتى الى أمريكا ، ولبثت فيها تائها عشرة أشهر ، ثم عدت عارفا بأنهم سيقبضون علىّ فى المطار . لم يخيبوا ظنى . ورأيت نفسى فى سيارة الترحيلات للسجن الأسوا فى ( أمن الدولة ) ، موكب من السيارات قبل وخلف السيارة التى أركبها . قلت لنفسى ضاحكا : نفس ( التشريفة ) . مثل موكب حسنى مبارك وحراسته . أنا سجين وهو أيضا سجين . إحتكاره للأمن المطلق جعله سجين الخوف المطلق . ولأنى كنت أتوقع السجن فكنت وأنا فى سيارة الترحيل أستعين ضد الخوف بقوله جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الأنعام ) .
فرعون موسى إمام المستبدين
1 ـ هو النموذج الكلاسيكى للمستبد الذى يحتكر الأمن المطلق لنفسه والملأ التابع له ، وأورثه هذا خوفا مطلقا . أجبر بنى إسرائيل على عبادته ( الشعراء 22 )، ومع ذلك لم يثق فيهم ، وخافهم وهم عبيد سلطانه وتحت قهره ، أو كما قال له الملأ ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الأعراف ). قبلها ووقت مولد موسى كان هذا الفرعون يذبح الأطفال الذكور من بنى إسرائيل ، جواسيسه يرقبون أى مولود ، وزبانيته يذبحونه . إمتلاكه الأمن المطلق جعله فى خوف مطلق على سلطانه وخوف مطلق من طرده من البلد الذى يملكه ، وعندما رأى وقومه معجزة موسى كان تفسيرهم أنه : ( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) الاعراف ) ( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) طه ). وقالها له فرعون : ( أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) طه ). هنا التناغم بين فرعون والملأ .
وحين آمن السحرة إعتبر فرعون هذا تآمرا ، وعاقبهم أفظع عقوبة : ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) الأعراف ).
أوصله خوفه المطلق الى أنه رفض السماح لهم بمغادرة مصر ، وطاردهم وهم يهربون . وغرق وقومه نتيجة الخوف المطلق الذى جاء نتيجة إحتكاره الأمن المطلق .
2 ـ كوكب المحمديين ملىء بفراعنة لا شك أنهم يعرفون ما جاء فى القرآن عن فرعون موسى ، ولكنهم يكفرون بالقرآن ، ولا عذر لهم . هناك مستبدون لا علم لهم بالقرآن فى كوريا الشمالية والصين وروسيا .. ولكن ماذا عمّن يزعم الاسلام والايمان بالقرآن ؟
فى الديمقراطية الرأسمالية
لأنها ديمقراطية نسبية فليس فيها أمن مطلق للحكام ، بل أمن نسبى ، لهذا فالعدالة نسبية وكذا الأمن والسلام . والشعار الأمريكى للمتظاهرين المحتجين هو ( No justice , no peace). أى حيث لا توجد عدالة فلا وجود للسلام . وهى حكمة بليغة لو كنتم تفقهون .!
فى الديمقراطية الاجتماعية
1 ـ هذه توجد فى شمال أوربا وشمالها الغربى ( إسكندنافيا ). حيث :
1 / 1ـ الجمع بين الديموقراطية وأكبر قدر من العدالة الاجتماعية فى مجتمعات متماسكة من عرق وإثنية واحدة .
1 / 2 ـ لا تعرف إسم الحاكم ، لأن الحاكم هو الشعب . والمسئول يسير آمنا فى الشارع ، يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ، ويركب المواصلات العامة بلا حراسة .
1 / 3 ـ قلة السجون والمساجين مع ضخامة الانتاج بالنسبة لعدد الأفراد .
2 ـ إختلف الحال فيها بعد كثرة هجرة المحمديين الى هذه البلاد ، وهم يحملون أوزار أديانهم الأرضية . ومع ذلك تبقى هذه الدول الأقرب الى الدولة الاسلامية .
ثانيا : فى الدولة الاسلامية :
1 ـ الوظيفة الأساس للدولة الإسلامية نحو أفرادها هى إقامة القسط وضمان حرية العقيدة وحمايتهم داخليا وخارجيا بتوفير الأمن الداخلى والخارجى. الأمن ضد الخطر الخارجى يعنى أن يكون للمجتمع جيش قوى يرهب الأعداء من الاعتداء عليه . نتذكر قوله جل وعلا : ﴿وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ﴾ (الأنفال 60) وهذا الاستعداد لإرهاب العدو يعنى ردعه عن التفكير فى الاعتداء وبالتالى حقن الدماء ـ دماء العدو ودماء أبناء الدولة الاسلامية ـ وهذا يقع ضمن مشروعية القتال فى الدولة الإسلامية. انها دولة تعتنق السلام كفريضة دينية فى تعاملها الدولى، اذ لا مجال فى شريعة الاسلام للاعتداء على أحد بل مجرد رد العدوان بمثله. وشان الدولة المسالمة أن يتشجع المعتدون على الاعتداء عليها اذا اقترن السلام عندها بالضعف، ولذا كان لا بد من أن يقترن السلام بالقوة الحربية لتخويف المعتدين وردعهم. وبذلك فان القرآن الكريم فى تشريعاته قد سبق سياسة الردع النووى التى استعملها المعسكران الغربى والشيوعى فى النصف الثانى من القرن السابق. و العدل والقسط هما أساس التعامل مع العدو الخارجى ويكون بتكوين دولة قوية بجيشها وأهلها، لتؤكد حق المجتمع المطلق فى الأمن.
2 ـ كما أن من حق الأفراد أن يعيش كل منهم آمناً وعلى أساس التساوى وبحيث لا يستأثر فرد واحد بالحماية دون الآخر، حتى لو كان ذلك الفرد هو رئيس الدولة، وفى الدولة الدينية والدولة المستبدة العلمانية والعسكرية ، وحتى فى الدولة الديمقراطية التمثيلية نرى نصيب الحاكم فى الأمن يفوق ما للفرد العادى من الحماية. بل ان الدول المستبدة ـ علمانية أو دينية ـ تنفق على الأمن السياسى الذى يعنى أمن الفرد الحاكم وزمرته أضعاف ما تنفق على الأمن الجنائى الذى يحمى المجتمع كله.
3 ـ ان الأمن هو مقياس لمدى ما يتمتع به الحاكم من سلطات. فى دول الديمقراطية المباشرة يكون الحاكم أجيرا حقيقيا للمجتمع لا يتميز عن الشخص العادى بشىء ، وهكذا كان النبى محمد عليه السلام فى حياته فى مكة والمدينة ، يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق بدون حراسة، شأن كل شخص عادى. وكانت بيوته مفتوحة للضيوف بدون حراسة ، يأتون يأكلون بلا إستئذان ويتكلمون مع زوجاته بلا تكلف ، وكان يستحى من منعهم فنزل قوله جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) الأحزاب ) . وكان الأعراب من خارج المدينة يأتون الى بيوته يدقون الأبواب وينادونه لا ينتظرون خروجه لهم ، فقال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحجرات ).
ثالثا :
بإيجاز :
1 ـ عندما يزداد نفوذ الحاكم فى الديمقراطية التمثيلية يكون ذلك على حساب الشعب الذى تنازل عن جزء من سلطته للحاكم وأعوانه، وبالتالى يحتاج الى حماية أمنية وحراسة بوليسية ظاهرة ومستترة تتساوى وما أخذه من حقوق الناس بالرضا أو بالظلم.
2 ـ اذا وصلنا الى الحاكم المستبد الذى يسرق حقوق شعبه الاقتصادية والسياسية والانسانية نجده فى حالة رعب من الناس اعترافا منه بما ارتكبه فى حقهم . لا بد له من ارهابهم وتعذيبهم ليسكتوا عن المطالبة بحقوقهم خوفا من هيبة الدولة التى هى هيبة الحاكم الفرد نفسه. وبزيادة الظلم والتعذيب يزداد خوف الحاكم أكثر من انتقام قادم لا محالة وتطارده صرخات ضحاياه ، فيحاول التخلص من تلك الكوابيس بالمزيد من اجراءات الأمن فيزداد الارهاب على المواطنين ويزداد بالتالى هلع الحاكم من انتقام أفظع على أعتاب بابه ، وهكذا يدور المستبد فى حلقة مفرغة متزايدة من الظلم والارهاب والخوف من الانتقام القادم أو احتمال الثورة بحيث لا تكفى قوى الجيش والبوليس وأجهزة الأمن المختلفة فى أن تجعل المستبد المذعور الملعون يحس بالأمن.
ولو أنصف لأعطى الناس حقوقهم بالعدل والمساواة وتمتع معهم بالأمن والحرية ، وعاش حياته بين الناس متنمتعا بالحب والاحترام أثناء فترة عمله رئيسا وبعد تركه العمل يعيش آمنا بين الناس متمتعا بحبهم وإحترامهم ، شأن كل خادم للشعب أو حاكم فى نظام الديمقراطية المباشرة حيث لا يمتاز عن غيره من المواطنين فى الحراسة والأمن.
أخيرا :
نرجو تدبر قوله جل وعلا :
1 ـ ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) آل عمران )
2 ـ ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران ).
ودائما : صدق الله العظيم .!
التعليقات
حمد حمد
أكرمك الله جل وعلا وبارك بعمرك وعلمك دكتورنا المحترم.
كالعادة دكتورنا الغالي تتحفنا بهذا الموضوع باب حقوق المواطن في الأمن بين المجتمع والفرد , خاصة عندما تطرقت في موضوع ماتعرضت له من إضطهاد أنت وأسرتكم الكريمه والمعانات النفسية التي تضاهي الجسديه وخاصه الأبناء ومن تهجير قسري مع سلب جميع الحقوق الاجتماعيه والماديه بلا رحمه من حكم قائم على الاستبداد ولازالت أسرتكم هناك تعاني الاضطهاد تحت حكم العسكر الذي يعيش كما تفضلت مرتعبا من شعبة لأنه يعلم إنه ظالم ومستبد، الشعوب دكتور أحمد هي السبب الضعف والخوف من المستبد سمة هذه الشعوب التي تعلي الحاكم إلى مرتبة الإلوهيه في دستور دولتي( الذات الأميرية مصانة ) وأعتقد هذه المادة موجوده في أغلب دساتير كوكب المحمديين. ما أعظم هذه الآية الكريمة(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الأنعام ) حفظكم الله جل وعلا من كل سوء.
أحمد صبحى منصور
اكرمك الله جل وعلا استاذ حمد وجزاك خيرا ..وأقول:
مع هذا فإنى فى أحيان كثيرة أتعاطف مع المستبد لأنه يعيش فى رعب وذعر فى حياته تطارده أشباح ضحايه ، ويتوقع الغدر من أقرب الناس اليه ، ثم يوم القيامة سيكون خالدا فى النار ، حيث لا وقت لديه فى حياته الدنيا ليكفر عن جرائمه ويتوب توبة مقبولة. يعنى هو خاسر للدنيا والآخرة برغم المواكب والثروات والسلطة . كل نعيم الدنيا لا يساوى لحظة نعيم فى الجنة الخالد ، وكل عذابات الدنيا لا تعدل لحظة عذاب فى جهنم وهو خالد
اللهم جل وعلا لك الحمد على نعمة الهداية.
بن ليفانت
وجهة نظر
معالجة المشاكل تبدأ دائمًا بحلول نظرية، ثم يجري اختبارها ضمن الواقع، ويتم تعديلها حتى تتناسب معه ويكتب لها النجاح. الإصرار على العلاج طبقًا للنظريات مكتوب له الفشل، ولتجنب الفشل تجري تعديلات وتغييرات اضطرارية غير مدروسة، فقط لتهدئة الوضع وليس لعلاج المشكلة.
ماذا يمكن أن نفهم تحت مصطلح "الواقع"؟ من أهم العوامل التي تفرض الواقع هو طبيعة الإنسان بشكل عام – الإنسان يعني هنا النفس البشرية. الآيات من 7 إلى 10 من سورة الشمس تقول: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾. هذا يعني أن كل شخص وبلا استثناء يمتلك الفجور والتقوى. هذا يعني أيضًا عدم وجود أشخاص فاجرين فقط أو أتقياء فقط. النتيجة عند الفرد تتعلق بمدى تعامله مع هذه القوى الموجودة في نفسه. نتيجة التعامل مع النفس ليست دائمًا ثابتة، فهي تتعلق بكل ما يدور حول الفرد. هذه المقدمة تبين لنا أن البشر ليسوا شياطين وليسوا ملائكة ولهذا فقراراتهم لا يمكن اعتبارها دائمًا صحيحة، وأن النفوس يمكن أن تتأثر بوضع ما وتصريحات ما لتتشكل إغليبة يمكن أن تفضي إلى كارثة، لو كان لها القرار النهائي والمباشر.
لقد فكر الغرب، أو بالأحرى فرضت عليه ملايين القتلى أن يفكر في هذا الأمر ويصل إلى ما وصل إليه الآن. برأيي ليست الديموقراطية بكل ماتحتويه هو الحاسم في الأنظمة الغربية، وإنما تعدد القوى التي لها كلمة في اتخاذ القرار، وكل منها يقف بالمرصاد للقوى الأخرى التي تناقضها. في ألمانيا على سبيل المثال هناك الحكومة (السلطة التنفيذية)، البرلمان (السلطة التشريعية)، السلطة القضائية، الإعلام بتعدداته، الأحزاب (ليس فقط حزبان كما في أمريكا)، الجمعيات التي تشتهر ألمانيا بكثرتها وقوتها، النقابات القوية التي تقوم دائمًا بالتفاوض مع أرباب العمل، الكنيسة ووو. هذه الجهات تستمد وزنها وقوتها من عدد المنتسبين لها ومن الإمكانات المعرفية لديها، وهذه القوة متواجدة دائمًا، بينما يكون تأثير الفرد محدودًا بشخصه. هذه القوى تستطيع أن تجند طاقاتها (العددية والمعرفية) لكي تؤثر فى السياسة لخدمة أفرادها وبطبيعة الحال بشكل غير مباشر، إذ يفوض أعضاؤها من ينوب عنهم في اتخاذ القرار – هذه الإمكانية وبهذه الكثافة ليست موجودة عند الفرد كفرد. المهم في الأمر وجود توازن بين هذه القوى وأن لا تستفرد إحداها بالرأي. عند حدوث ذلك تستنفر القوى الاخرى طاقاتها.
كل هذا يبين لنا أن الديموقراطية بما تفترضه من عدل ومساوات وحرية إلخ تبقى نسبية، ولا يوجد شيء من هذا مطلق لأن تركيبة البشر لا تسمح بذلك، وبرأيي، من يريد أن يجعل من البشر ملائكة لن يصل إلى مأربه، بل ربما يجعل منهم شياطين الإنس .
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا اخى بن ليفانت . واقول :
1ـ فعلا . النفس البشرية ألهمها خالقها جل وعلا الفجور والتقوى . وللانسان أن يسمو بنفسه الى التقوى أو يهبط بها الفجور . ولهذا كتبنا بأن تخاطب فى عدوك جانب الخير فيه ليكون مثل ولى حميم . ولكن موضوع التوبة المقبولة له شروط حتى يأتى الغفران يوم القيامة . وهذه الشروط لا تتأتى لمستبد قتل وعذّب خلال حكمه آلافا وملايين ، وسرق البلايين ، كيف له من وقت يحياه ليرد المظالم ـ على فرض أنه يريد التوبة فعلا.
2 ـ الديمقراطية نضال ومعاناة . ليست الحل السحرى ، ولكنها الحل الممكن . العداء بين أبناء آدم هبط مع أبيهم آدم لهذه الأرض ، والشيطان لهم بالمرصاد ، والتنافس والصراع بينهم على حطام الدنيا مستقر ومستمر ، خصوصا مع عدم الايمان بالآخرة التى هى خير وأبقى. فى هذا المناخ تكون الديمقراطية الحل الأنجح . وبها يتحقق الأمن حتى جزئيا .
الباب الخامس :
علمانية الشريعة فى الدولة الاسلامية
الفصل الأول : التوازن بين الفرد والمجتمع فى الشريعة الاسلامية
الفصل الثانى : مقدمة عن محدودية الإلزام للفرد فى الشريعة الاسلامية
الفصل الثالث : ثلاث مقالات عن الإلتزام الفردي فى تطبيق التشريع الاسلامى
الفصل الرابع : محدودية تدخل الدولة الاسلامية فى بيوت العبادة
الفصل الخامس : مدى تدخل الدولة الاسلامية فى عبادة الصلاة
الفصل السادس : لا تدخل مطلقا للدولة الاسلامية فى عبادة الصيام
الفصل السابع : حدود تدخل الدولة الاسلامية فى الزكاة المالية
الفصل الثامن : حدود تدخل الدولة الاسلامية فى فريضة الحج
الفصل الأول : التوازن بين الفرد والمجتمعفى الشريعة الاسلامية
أولا : عن المواطن الفرد
1 ـ الوطن ليس مجرد قطعة أرض ومكان ، بل هو فى الأساس المواطن الانسان ، أى هو جميع المواطنين بلا إستثناء ، وبالمساواة المطلقة يتقسّم عليهم . فإذا كان عدد المصريين مائة مليون فكل فرد مصرى هو واحد على مليون من الوطن ، هذا بغض النظر عن الطفولة والكهولة والشباب والشيخوخة والذكورة والأنوثة والدين والمذهب والعرق واللون والغنى والفقر . لا أحد يعلو على أحد ، لأن العلو هو للخالق سبحانه و ( تعالى ) وحده ، جل و ( علا وحده )، وكل البشر سواء فى عبوديتهم لمن خلقهم ، جل وعلا .
2 ـ ولأن الوطن في الشريعة الاسلامية هو المواطن الفرد فاذا صودرت حقوق المواطن الانسانية والثقافية والدينية فى وطنه ولم يستطع المقاومة تحتم عليه الهجرة الى بلد آخر اذا استطاع. إن لم يهاجر من دولته الظالمة مع قدرته على الهجرة ومات فى وطن يقهره بشرته ملائكة الموت بالجحيم لأنهم ( ظلموا أنفسهم ) بالرضى بالذُّل فى وطن يملكه غيرهم . قال جل وعلا ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) النساء ) .
3 ـ لهذا أساس فى العقيدة الاسلامية بالإيمان باليوم الآخر. إذ يعنى أنه مهما عشت فستموت . عمرك محدد سلفا ، وهو يتناقص مع كل دقيقة تمر من عمرك . فى مقابل ( الزمان المقدر لك ) أو هذا العمر المحدد الذى يتآكل ويتسرب منك فإن الكرة الأرضية ( المكان ) واسع لا نهاية له . تخيل نملة تسير فوق بطيخة هل تصل الى نهايتها ؟ أى أمام الانسان حياة قصيرة وحيدة فى هذه الدنيا بعدها موت يقترب منه بسرعة 60 دقيقة فى الساعة، وتحت قدميه أرض واسعة . لماذا يضيّع عمره القصير فى وطن لا يعطيه حقه ؟ لا بد أن يهجره ـ ما إستطاع ــ الى غيره قبل أن يدركه الموت . نتدبر قوله جل وعلا : ( يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) العنكبوت ) . لماذا تعيش مقهورا لفرد مثلك يمتلك دونك الوطن ، بل يجعل نفسه الوطن والقوم والمجتمع والدولة ؟
3 ـ الفرد في الشريعة الاسلامية يولد فردا، ويتم تكليفه بمسئوليته الفردية الشخصية :
3 / 1 : ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ، قال جل وعلا :
( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) 18 ) فاطر ) ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الزمر )( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) النجم ) ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (15) الاسراء ) ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) الأنعام )
3 / 2 : ومن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ، ومن اهتدى فانما يهتدى لنفسه ومن ضل فانما يضل على نفسه. قال جل وعلا :
3 / 2 / 1 : ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا )ً (15) الاسراء ) ( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) (18) فاطر )
3 / 2 / 2 :( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) (46) فصلت )( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) (15) الجاثية )
3 / 2 / 3 : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) المدثر ) ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور ) ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41) النجم )
3 / 2 / 4 : ( وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ )(22) الجاثية ) ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (286) البقرة )( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ) 164 ) الأنعام )
4 ـ وليس النبى نفسه وكيلا عن أحد ولا مسئولا عن أحد . قال له ربه جل وعلا : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) يونس )( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ (92) النمل )( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) الأنعام ) ( إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) الزمر ).
5 ـ وكل منا سيؤتى به يوم القيامة فردا . قال جل وعلا : ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) النحل ) ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) مريم )( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (94) الأنعام )
6 ـ كل فرد يعيش وسط مجتمع . ويتم تسجيل أعماله بأقواله وأفعاله وما فى قلبه ، سواء مع نفسه أو مع تعامله مع غيره . ولكل جماعة عاشت مع بعضها كتاب أعمال جماعى ، ولكل فرد منها نسخة بكتاب أعماله الفردى .
6 / 1 : عن كتاب الأعمال الفردى قال جل وعلا : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) الاسراء ). ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) الانشقاق )( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21))( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) الحاقة)
6 / 2 : وعن كتاب الأعمال الجماعى قال جل وعلا : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) الكهف )
6 / 3 : وعن العلاقة بين كتاب الأعمال الفردى وكتاب الأعمال الجماعى قال جل وعلا : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8) الزلزلة )( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) الاسراء ) ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) الجاثية )
6 / 4 : وعن عموم التسجيل للمجتمعات والأفراد ، قال جل وعلا : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) النبأ )( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) يس )
ثانيا :
عن الفرد المواطن فى مجتمعه
الفردية الشخصية ترتبط بالتفاعل الايجابى بالمجتمع وفق :
1 ـ التعاون على الخير . قال جل وعلا : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) المائدة )
2 ـ التنافس فى الخيرات :
2 / 1 :يقول جل وعلا للمؤمنين :( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) الحديد ) ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران )
2 / 2 : حتى مع الاختلاف الدينى فى الدولة الاسلامية التى تسع الجميع، قال جل وعلا : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة )( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) البقرة )
3 ـ فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهى وظيفة مفروضة على الجميع من رجال ونساء وليست مرتبطة بطائفة واحدة أو طبقة معينة أو مجالا للتوظيف . وفى نفس الوقت لا تعنى الاكراه والاجبار والتدخل الرسمى أو الشخصى فى حياة الآخرين ، بل هى هى مجرد نصح قولى وتوجيه يقوله كل شخص للآخر اذا وجده مستحقا للنصح والارشاد. والمعروف هو كل القيم العليا المتفق عليها ، والمنكر هو كل الشرور والرذائل المنهى عنها.
نقرأ قوله جل وعلا :
3 / 1 : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104آل عمران ـ 104 ). هذا خطاب للأمة كلها بدليل ما قبل الآية وما بعدها .
3 / 2 : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)الشعراء) . لا إرغام فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . ولم يكن للنبى محمد عليه السلام أن يتبرأ ممّن يعصيه ، بل يتبرأ من عصيانه فقط .
3 / 3 : ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر ).الجميع يتواصون بالحق وبالصبر .
3 / 4 : وفى نفس الوقت فان حرية الفكر فى الشريعة الاسلامية تسمح بوجود حرية مطلقة للجماعات التى تسير فى الطريق المضاد للاسلام ؛ تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، وكان فى دولة المدينة مؤمنون ومؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وكان فيها أيضا منافقون ومنافقات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، ولا تدخُّل من الدولة فحساب هؤلاء وهؤلاء عند ربهم جل وعلا . قال جل وعلا :
3 / 4 / 1 ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) التوبة )
3 / 4 / 2 : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) التوبة ) .
أخيرا
الوطن فى الدولة الاسلامية يملكه كل الأفراد على السواء فى حياتهم القصيرة . وهم فى إختبار الايمان والعمل الصالح ، ويجب أن يتمتعوا بحرية الاختيار فى هذا الاختبار . وبعد هذه الحياة الدنيوية القصيرة الفانية الزائلة سيأتى اليوم الآخر بحساب وخلود فى الجنة أو فى النار . وبهذا فإن عقيدة الاسلام هى التى تغلّف مسئولية الفرد المواطن ، سواء آمن أم كفر . المهم هو الاسلام السلوكى ، أو السلام أساسا للمواطنة .
التعليقات
حمد حمد
جزاك الله خير الجزاء بالدنيا والآخره دكتور أحمد المحترم.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " الأنفال 73 " هذه الآية دكتور أحمد إضافه لماذكرته من آيات المنافقين بعضهم من بعض ، والمؤمنين بعضهم أولياء بعض. هذه الآيات تكشف الحالات النفسيه والإنفعاليه وكذلك الإجتماعيه في حال إذا كانت هناك حرية مطلقه بالمجتمع الذي يحكم بالديمقراطية المباشره وبالتالي تستطيع أن تعرف مؤامراتهم وخيانتهم اي تعرف نواياهم العدائيه لإتقاء شرهم. أما إذا كانت الدولة تحكم بالحديد والظلم والقهر فسيكون الأمر أشبه بكابوس على الجميع ويحدث إنهيار لقيم المجتمع وفوضى قد تقضي على الجميع والله أعلم.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول :
صدقت استاذ حمد .!
. حكم المستبد ينتج ثقافة الاستبداد والاستعباد وثقافة العبيد، يُظهر أسوأ ما فى الانسان، يجعل الناس يتظالمون ، الأقوى يظلم من دونه ، والضعيف يستأسد على من هو أضعف منه. بهذا يصبح المجتمع أسوأ من الغابة، لأن الحيوانات المفترسة غريزتها أن تفترس لتعيش ، وهى لا تعذب ضحيتها ، والضحية لا تشعر بالألم . أما الانسان فى غابة المستبد فهو يقهر ويقتل ويعذب ويظلم ..وفى كل هذا شقاء وبؤس لا يسعد به سوى ابليس .!
الفصل الثانى : مقدمة عن محدودية الإلزام للفرد فى الشريعة الاسلامية
أولا :
محدودية التشريعات القرآنية وإعتماد تطبيقها على الفرد وليس الدولة
تشريعات القرآن الكريم محدودة لا تتجاوز مائتى آية، بكل تنوعها من أوامر ونواهى ثم قواعد تشريعية ثم مقاصد تشريعية ، وايضا بالتفصيلات والتكرار فيها . ثم فى تطبيقات معظمها تكون المرجعية للفرد ومسئوليته أمام ربه جل وعلا الذى يملك عقابه وثوابه فى الدنيا والآخرة .
ونأخذ مثالا فى تشريع المحرمات فى الطعام :
1 ـ جاء إباحة الأكل من الطيبات مع ذكر المحرمات والاستثناء عند الاضطرار فى قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة )
2 ـ جاء شرح المحرمات فى قوله جل وعلا :
2 / 1 : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) الأنعام )، هنا تعريف الدم المحرم وهو المسفوح من حيوان حى .
2 / 2 : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) ( فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) المائدة ). هنا تفصيل الميتة المحرمة : ( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ).
3 ـ جاء النهى عن تحريم الحلال فى قوله جل وعلا : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) يونس )
4 ـ جاء الأمر بأكل الطيبات وتحديد المحرمات مع النهى عن تحريم الحلال فى قوله جل وعلا : ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) النحل ).
5 ـ هذا مع التفرقة بين صيد البرّ وصيد البحر وتحريم صيد البر فى الاحرام والحرم فى قوله جل وعلا:
5 / 1 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) المائدة )
5 / 2 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) المائدة )
فى كل ما سبق من تشريعات ليس للدولة الاسلامية ان تُلزم الفرد أو أن توقع عليه عقوبة ( أو غرامة ) إذا عصى . هناك حالة وحيدة عند قتل الصيد فى الاحرام ، وفيها يحكم إثنان من العدول بأن يقدم من قتل الصيد حيوانا مماثلا هديا لمن فى البيت الحرام . هذا مع ملاحظة أن الفرد نفسه هو الذى يبادر بهذا ، فالأمر هنا على ( التعمد ) ، أى يرجع للفرد نفسه . والعقوبة تأتى من الرحمن جل وعلا.
ثانيا :
فى التطبيق يكون الاحتكام الى المعروف ، أى المتعارف على أنه عدل . ونعطى أمثلة ، قال جل وعلا :
1 ـ فى الدية بديلا عن القصاص : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) البقرة )
2 ـ فى الوصية : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) البقرة )
3 ـ فى عدة المطلّقة : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) البقرة )
4 ـ عدم منع من تطلقت من الزواج : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) البقرة )
5 ـ فى الرضاعة :( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) البقرة )
6 ـ فى زواج الأرملة بعد عدتها : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) البقرة )
7 ـ فى خطبة النساء : ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) البقرة )
8 ـ فى متعة المطلقة قبل الدخول بها : ( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) البقرة )
9 ـ فى زواج الأرملة بعد تركها بيت زوجها : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) البقرة )
10 ـ فى متعة المطلقة : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) البقرة )
11 ـ فى أجر الوصى على اليتيم : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) النساء )
12 ـ فى معاشرة الزوجة بالمعروف حتى لو كرهها زوجها : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) النساء )
13 ـ فى الصداق ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) (25) النساء ) .
ثالثا :
ونلاحظ مما سبق :
1 ـ إختتام أو تذييل الآيات بالتقوى وأنه جل وعلا الرقيب الحسيب . وهذا يعنى المسئولية الفردية الشخصية فى التطبيق، وأن الانسان مسئول أمام الله سبحانه وتعالى. وهذا هو معنى التقوى الذى يجعل المسلم ـ الحق ـ يخشى الله قبل أن يخشى الناس ، ويجعله يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه ربه ، ويجعله حتى فى سريرته قبل علانيته يتحسب لما يفعل . وبهذه العقيدة الحية فى اليوم الآخر الذى لا مكان فيه لشفاعة بشر فان تطبيق الشريعة الاسلامية الحقة يخضع أولا وأخيرا لضمير المسلم المؤمن لأنه حريص على رضى الله تعالى ويخشى إغضابه جل وعلا. وبينما تؤمن العلمانية الغربية بالضبطية القضائية ويكون فيها المتهم بريئا الى أن تثبت إدانته فان المسلم الذى يتقى ربه ويعمل لليوم الآخر يهتم بضبط نفسه وكبح جماحها فى السر والعلن. ناهيك عن دول المحمديين الاستبدادية حيث يكون فيها البرىء متهما الى أن تثبت بالتلفيق إدانته.
2 ـ فى تطبيق الأحوال المشار اليها يحتاج المعروف الى قوانين تفصيلية ، والى قاض يحكم بها . ومثلا يقول جل وعلا : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (البقرة )، لم يقل جل وعلا مقدار الرزق أو الكسوة كذا دينارا أو كذا درهما ، مع أن الدينار والدرهم من مصطلحات القرآن الكريم ( آل عمران 75 ، يوسف 20)، ولكن صيغة المعروف تحمل فى طياتها العموم والخصوصية معا . ففى كل زمان ومكان يكون المتعارف عليه على أنه عدل ، ثم فى خصوصية الوضع ، وإختلافه ليس فقط حسب الزمان والمكان ، بل أيضا فى نفس المكان والزمان ، إذ يختلف الناس من حيث الثروة . يختلف الوضع فى تقدير تكلفة الرضاعة والكسوة بين مترف يعيش فى قصره مع خدم له . ويحتاج الأمر الى قاض يحكم حسب هذا المعروف ، وهم يحكم بقانون فى تفصيل هذا المعروف .
3 ـ وكل قانون يراعى القيم العليا فهو قانون اسلامى فى أى زمان ومكان لأن غاية التشريع الاسلامى ومقاصده هى التيسير والتخفيف ورفع الحرج وحفظ حقوق العباد أو حقوق الانسان.وبهذا تستمر الشريعة الاسلامية صالحة للتطبيق مع إختلاف الزمان والمكان والأجيال .
أخيرا :
الشريعة الاسلامية العلمانية مجالها محدود فى الزام الفرد وفى عقابه، وتطبيق الشريعة الاسلامية تقوم به الدولة الاسلامية ذات الحكم الديمقراطى المباشرفان الأفراد هم الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم ، وما يسمى بالحاكم ليس سوى خادم للمجتمع بعقد معين ، وهو مسئول أمام المجتمع الذى يملك عزله ومحاكمته ومكافأته. ومن هنا فان الفرد شريك فى السلطة وفيما يصدر عنها من تشريعات ، وهو أولى الناس بالالتزام بما يشارك فى اصداره من قوانين تحمى حقوق الأفراد وتحفظ حق المجتمع. ومع ذلك فان الدولة لا سلطة لها فى علاقة المواطن بربه فيما يخص العبادات والعقائد ، وليس لها سلطة الالزام فى شىء سوى الجانب العقابى الذى يحفظ حقوق الفرد فى الحياة وفى السمعة والعرض والمال والكرامة.
وحتى فى الجانب العقابى فان العقوبات ـ أو الحدود ـ تسقط بالتوبة التى تعنى الاعتراف بالذنب والتعهد بالكف عنه ، ورد الحقوق لأصحابها.
التعليقات
حمد حمد
جزاك الله خير الجزاء بالدنيا والآخره دكتور أحمد المحترم
مقدمة رائعة عن محدودية الإلزام للفرد في الشريعة الإسلامية والتي تجعل التقوي هي الفيصل والضمير الحي للمسلم في حساب نفسه وتحييدها وعقابها (لاأقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) آية عظيمة في تهذيب النفس الانسانية ، ويبقى دكتورنا المحترم مثال بسيط حول كما تفضلت إن بالدول العلمانيه المتهم بريء حتى تثبت إدانته والفرق فيها بالدولة الإسلاميه ، وبارك الله بعمرك وعلمك.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول |
1 ـ عشت تجربة حية مع القضاء الأمريكى حين كنت شاهدا خبيرا فى قضية فيدرالية . وأنبهرت حقيقة بما شاهدت ، وكان حاضرا فى ذهنى دور القضاء المصرى ( الشامخ ) فى ترسيخ الظلم إن وصلت لأعتابه قضية ، والأغلب أن يتم السجن والتعذيب والقتل بلا قضية أصلا.
2 ـ أفخر بدينى الاسلام وهو يعلو على القضاء الأمريكى ـ الذى مع هذا ـ لا يخلو من تجاوزات . دين الله يعلو لأنه دين العلى العظيم . ولكن أين له بمسلمين حقيقيين لا يخشون إلا الخالق جل وعلا.
3 ـ ليس فى إمكاننا إلا أن نبشّر بالاسلام الذى ظل قرونا مجهولا منكورا من المنتسبين اليه . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.!
الفصل الثالث : عن حدود الإلتزام الفردي فى تطبيق التشريع الاسلامى
المقال الأول : مقدمة :
1 ـ للدين جانب قلبى باطنى هو الايمان . وهو نوعان :
1 / 1 : إسلامى : الايمان بالله جل وعلا وحده إلاها وربّا ووليا وشفيعا ونصيرا .
1 / 2 : الكفر والشرك ، وهما بمعنى واحد: الايمان بغير الله مع الله جل وعلا .
2 ـ للدين جانب عملى منظور ، هو التطبيق العلمى للإيمان القلبى الباطنى . وله ثلاثة مظاهر : الدعوة والعبادة وإقامة بيوت العبادة .
3 ـ الدولة الاسلامية طبقا لشريعتها :
3 / 1 : لا تتدخل مطلقا فى الجانب القلبى الباطنى ( الايمان ) ، وتكرّر الاستشهاد بالآيات القرآنية فى هذا الخصوص .
3 / 2 : لا تتدخل مطلقا فى العبادات ، سواء ما إتفق منها مع الاسلام أو إختلف .
3 / 3 : تدخلها محدود جدا فى الدعوة والتبشير الدينى . وهذا هو موضوعنا :
أولا : مشكلة التكفير
1 ـ التكفير أساس فى الاسلام وفى الأديان الأرضية الشيطانية . مع إختلاف بينهما .
2 ـ فى الاسلام : نرى أكثر المصطلحات شيوعا فى القرآن الكريم هو ( كفر ، شرك ، فسق ، ظلم ..) وما يلحق بها من ثواب وعقاب وجنة ونار ، وهو ما سيحدث يوم الدين .
3 ـ فى الأديان الأرضية : ترى تفرقها الى مذاهب وطوائف كما فى أديان المسيحيين والمحمديين ، والتكفير بين هذه الأديان على مستوى :
3 / 1 : اُفُقى : فاليهود يكفّرون النصارى ، والنصارى يكفرون اليهود ، وهى عادة سيئة سارية ، كما قال جل وعلا : ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) البقرة ).
3 / 2 : رأسى فى داخل كل دين ، ومثلا فإن طوائف النصارى ( كاثوليك / بوتستانت / ارثوذكس ..الخ ) يتبادلون تكفير بعضهم بعضا بكل سخاء ، وطوائف المحمديين ( من سنّة وشيعة وصوفية )لا يتوانون عن تكفير بعضهم البعض بكل أريحية . وعلى هامش التكفير تُقام محاكم التفتيش وعقوبة الهرطقة و ( حدّ الردة ) وقتل الزنديق حتى لو تاب ، كما شرحنا فى كتابنا عن حد الردة ، والأخطر من ذلك الحروب الدينية أو الفتوحات التى ترفع لواء الدين ، مثل فتوحات الخلفاء الفاسقين ، والحروب الصليبية .
4 ـ الكهنوت يحتاج الى التكفير لأنه قائم على الاحتراف والتكسب ، هو صراع على حُطام الدنيا ، وهم يزعمون ملكيتهم للآخرة بأكاذيب الشفاعات ، ويبيعون الأوهام وصكوك الغفران ، وفى موالدهم وأعيادهم وبيوت عبادتهم تمتلى خزائنهم من النذور والقرابين .
ثانيا :
طبيعة التكفير فى الدعوة الاسلامية :
1 ـ التكفير ليس للأشخاص بل لما يقولون ويفعلون . والدليل إن باب التوبة مفتوح ، لمن يتوب .
2 ـ التكفير هو للوعظ والهداية لينجو الناس من عذاب يوم القيامة .
3 ـ الداعية المسلم لا يطلب أجرا ممّن يدعوه الى الاسلام . وتكرر هذا فى قصص الأنبياء ، وقال الرجل المؤمن لقومه الكافرين : ( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) يس )
4 ـ هناك حدود للدعوة ، وهى عدم الإكراه فى الدين والاعراض عن المخالف المعاند وتقرير حريته الدينية . نرجو تدبر الآيات الكريمة التالية ، قال جل وعلا :
4 / 1: ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) الانعام )
4 / 2 : ( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) هود )
4 / 3 : ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) الزمر ) .
ثالثا :
التكفير يأتى فى القرآن الكريم بصيغة التبشير والانذار
نضع عناوين للآيات الكريمة ، والتى نرجو تدبرها :
1 ـ القرآن الكريم نفسه هو النذير والبشير ، وجاء هذا وصفا له فى قوله جل وعلا :
1 / 1 : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) هود )
1 / 2 : ( تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً ) (4) فصلت )
2 ـ الله جل وعلا أرسل رسوله بالقرآن الكريم بشيرا ونذيرا للعالمين من عصر النبى محمد وبعد موته والى قيام الساعة . قال جل وعلا :
2 / 1 : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الفرقان )
2 / 2 : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) (28) سبأ )
2 / 3 : ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) الاسراء)
2 / 4 : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) الفرقان ).
3 : وظيفة النبى فى حياته مختصرة فى التبشير والانذار . قال جل وعلا :
3 / 1 : ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)الاحقاف )
3 / 2 : ( إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) ص ) .
4 ـ الدعاة بعد النبى محمد يواصلون الدعوة ، ومعهم القرآن الكريم الى آخر الزمان ، قال جل وعلا :
4 / 1 : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) فاطر )
4/ 2 : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) يس)
5 ـ التبشير يأتى إنذارا . . قال جل وعلا للنبى محمد عليه السلام : ( بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) النساء )،
6 ـ ويأتى الانذار والتبشير بالجنة أو بالنار . قال جل وعلا :
6 / 1 : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) الكهف)
6 / 2 : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) الحج )
6 / 3 : ( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) الانشقاق )
6 / 4 :( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)الاحقاف )
7 ـ ويأتى الأمر بالتبشير بالعذاب فقط لأصناف محددة للبشر :
7 / 1 : الذين يقتلون المُصلحين السائرين على هدى الأنبياء . قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) آل عمران )
7 / 2 : أئمة الأديان الأرضية والذين يكتنزون الأموال السُّحت . قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة )
7 / 3 : الذين ينشرون ويذيعون الأحاديث الضّالة ( لهو الحديث ) لإلهاء الناس عن القرآن الكريم . وهم موجودون فى كل مجتمع أو ( ناس ) . قال جل وعلا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) لقمان )
7 / 4 : الذين يؤمنون بحديث آخر غير حديث الله جل وعلا فى القرآن الكريم . ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) الجاثية )
8 ـ كل هذا فى الدنيا إنقاذا لهم من عذاب الجحيم . قال جل وعلا :
8 / 1 : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) فاطر )
8 / 2 : ( وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) الملك ) .
8 / 3 : ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) الزخرف )
8 / 4 : ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) المؤمنون ).
أخيرا
فى ضوء ما سبق فدور الدولة الاسلامية هو حماية حرية الدعوة . وفى نفس الوقت تمنع وصول التكفير الى إستحلال دم المخالف فى الدين . لا بد من سنّ قانون بعقاب من يقع فى هذا ، وإذا ترتب على دعوته قتل فيكون شريكا فى جريمة القتل .
التعليقات
سعيد على
الدين لله عز و جلا و الوطن للجميع.
حفظكم الله جل و علا.. كما أشرتم في كتابات سابقة فالدولة الإسلامية هي دولة علمانية مؤمنة.. و مبدأ الدين لله عز و جلا و الوطن للجميع من أساس هذه الدولة.. متى نرى هذه الدولة؟ من المضحك حقا أن يقال أن للدولة ديانة و مذهب!! و هذا بند غريب في دساتير الدول العربية تحديدا فالدولة كيان يضم شعب تحت مسمى مواطن و الدولة لن يحاسبها الله جل و علا و كلنا سنأتيه فردا.. حفظكم الله جل وعلا .
أحمد صبحى منصور
جملة رائعة ابنى الحبيب سعيد على .
( الدولة لن يحاسبها الله جل و علا و كلنا سنأتيه فردا.. )
أكرمك الله جل وعلا .
د عثمان محمد على
الإسلام العظيم سبق الجميع في الحرية الدينية.
الإسلام منذ 1450 سنة قرر الحُرية الدينية وحافظ عليها وحماها ودافع عنها بالرغم من أن المُسلمين الأوائل تعرضوا لألوان وصنوف من الإيذاءلإثنائهم عن دينهم ،أقلها طردهم من بلدتهم لأنهم يؤمنون بالله وحده جل جلاله ووصلت للإعتداء الحربى العسكرى عليهم وعلى مدينتهم ،ورغم ذلك جاء القرءان العظيم ينهاهم عن التعرض لأحد بسبب دينه ويأمرهم بالإعراض عنه وترك حسابه على المولى جل جلاله .....ولقد فهمت هذا أوروبا بعد حروب طاحنة بينها وبعد سيطرة الكنيسة على شعوبها قرون وقرون ،فتخلصت من سيطرة أديانها الأرضية المسيحية ومنعت الكنيسة من العمل السياسى والسيطرة على المجتمع .فانطلقت اوربا فى مجال التقدم والتحضر والقوة . وكانت مصرعلى وشك اللحاق باوربا لولا حكم العساكروسيطرة الوهابية . لأن العسكر يحتاج إلى كهنوت دينى يُمهد له الطريق بتخديرالشعوب بروايات تحريم الخروج على الحاكم الفاسد والصبر عليه حتى لو قتل ثلث الرعية . .
فشكرا لك أستاذنا دكتور منصور- على هذا الكتاب والكنز المعرفى الذى يُنصف الإسلام ويدعو المسلمين لمعرفة الحرية الدينية في الإسلام وحمايتها من دواعش العصر الحديث وتراثهم الشيطانى الخبيث . فكتابكم (ماهية الدولة الإسلامية) يثبت أن الاسلام سبق الجميع فى تقدمه وحقوق الانسان والمواطن والدفاع عنها .
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا د عثمان ، واقول
هذا أكبر دليل على أن المحمديين شرّ أمّة أُخرجت للناس . ويكفى ما نلقاه منهم فى دعوتهم الى القرآن الكريم الذى إتخذوه مهجورا ، ويزعمون الايمان به خداعا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . نحمد الله جل وعلا على نعمة الهداية.
المقال الثانى :
حدود الإلتزام الفردي فى تطبيق التشريع الاسلامى
أولا :
فى الزام الفرد المؤمن لنفسه:
1 ـ المؤمن بالله جل وعلا وحده هو الذي يقوم بإلزام نفسه في تأدية الفرائض والعبادات وسائر الحقوق والالتزامات، وذلك بدافع ذاتي ولا رقيب عليه إلا الله جل وعلا الذي يعلم السر وأخفى، وهو يعلم أن الله جل وعلا قريب منه برحمته في الدنيا والآخرة ، وإنه إذا عصى وتكاسل فلن يجيره أحد من عذاب الله في الدنيا والآخرة. وقد يقوم العذاب الدنيوي بتقويم بعض الناس فيرجعون للصواب ، قال جل وعلا متوعّدا : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )( السجدة 21 ).
2 ـ ولأن الطاعة والإيمان موقف اختياري في الأساس لا شأن لسلطة بشر فيهما. فقد يختار المؤمن الفقير التركيز على الصلاة في ركعاتها وخشوعها وأن يحافظ عل قيام الليل، لأن ظروفه لا تساعده على الصدقة، قد يتمنى أن يتصدق وأن يكون قادراً على الاحسان المالي ولكن لا يملك إلّا نيته الطيبة. هذا الفقير في المال الغني بالرغبة في العطاء يعتبره رب العزة محسناً حسب نيتّه، طالما ينصح بالخير ويأمر بالمعروف. وفى الدولة الاسلامية فى عهد النبى محمد عليه السلام حدث في غزوة ذات العسرة أن جاء فقراء للخروج للجهاد ولكن ليس لديهم دواب يركبونها ويأملون في أن يجد النبي لهم ما يركبونه، ولم يتحقق طلبهم فرجعوا باكين حزناً على فقرهم، فاعتبرهم رب العزة محسنين حسب نيتهم وإخلاصهم. قال جل وعلا : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) (التوبة 91 : 92)، فالمؤمن يقدر ظروفه ويتحرك على أساسها وهو يعلم أن الله مطلع على سريرته.
3 ـ وهذا في الطاعات، أما في المعاصي فهو يتقي الله الذي يعلم خائنة الأعين ما تخفي الصدور، وهو يخشى الله في سريرته وفي خلوته حيث لا تدركه سلطة حاكم من البشر. قال جل وعلا : (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (يس 11)، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )( النازعات 40 : 41).
3 ـ هذا المؤمن يجعله رب العزّة حكماً على نفسه:
3 / 1 : إذا أقسم ثم لم يف باليمين الذي أقسم به، وعندها يجب عليه دفع الكفارة، و هو الذي يوجب على نفسه الكفّارة ويدفعها . قال جل وعلا : ( لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة 89)، قوله جل وعلا: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ) يرجع تحديدها للمؤمن نفسه وليس لسلطة المجتمع، ويقول جل وعلا في نفس الموضوع (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (البقرة 225). فالمؤمن هنا هو الذي يعلم ويقدّر قوله جلّ وعلا (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، فهو يعلم سريرة نفسه وما يدور في قلبه، وهو الذي يحاسب سريرته ونيته إذا كان يمينه لغواً أو غير لغو، وهو أدرى بإمكاناته في أداء كفارة اليمين وهو في كل ذلك يعلم أن الله مطلع على خبايا نفسه وإنه إذا خدع الناس فلن يستطيع أن يخدع رب الناس وإلا كان من المنافقين الذين يخادعون الله وهو خادعهم. هنا لا تتدخل سلطة المجتمع في تلك العلاقة الخاصة بين المؤمن وربه ، ولا تستطيع .!
3 / 2 : وعلى نفس النسق تأتي الغرامة عقوبة لمن يقتل الصيد ـ متعمداً ـ في الحرم وهو يحج إلى البيت الحرام . قال جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ)(المائدة 95). هل يستطيع حاكم أن يقرر ما إذا كان فلان من الناس قد قتل الصيد في الحرم عمداً أم خطأ؟ لا يعرف خبايا القلوب إلا الله. والله تعالى أوكل الحكم في تحديد العمد من عدمه إلى نفس الجاني وإذا كان قد قتل الصيد عمداً فعليه أن يدفع الفدية إذا كان يخشى الله وإلا فالله عزيز ذو انتقام وهو الذي ينتقم لحرمة بيته الحرام والأشهر الحرم.
4 ـ وهكذا تنتقل سلطة الإلزام في تأدية الفرائض من الحاكم إلى شخص المؤمن نفسه هو الذي يلزم نفسه ، وهو الذي يقدم الإيمان الخالص والطاعة الخاشعة لله رجاء الثواب في الدنيا والآخرة، وهذا يذكرنا بالمقصد الأسمى للتشريع القرآني وهو إيجاد المؤمن التقي وتعليم المؤمنين أن يعيشوا متقين.
5 ـ ولذلك فإن آيات التشريع غالباً ما يتم تزييلها بالتقوى، أي دعوة المؤمن لكي يتقي الله ويطبق التشريع خوفاً من الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
5 / 1 : يقول جل وعلا : (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (البقرة 231). الآية الكريمة تنقسم إلى : الأمر التشريعي والمقصد التشريعي الذي لا بد من توافره لتطبيق الأمر التشريعي بكل دقة واخلاص ودون تدخل من سلطة المجتمع.
5 / 1 : الأمر التشريعي هو قوله جل وعلا (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا) أي إذا طلقت زوجتك وانتهت عدتها وهي في بيتك فلك الخيار إما أن تبقيها بالمعروف وتعود زوجة لك وتصبح عليكما طلقة، وإمّا أن تخرج من بيتك وتنتهي علاقتك بها ويتم الانفصال التام بينكما بحيث لو أردت استرجاعها فلا بد أن يكون ذلك بزواج جديد، وبحيث يمكن أن تتزوج بعد خروجها مباشرة من تشاء. هنا أمر تشريعي بالأمر والنهي (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا). وقد يحدث أن يرفض الزوج الانفصال النهائي ويقرر أن تظل زوجة له كي يضطهدها، أي يمسكها وفي نيته وفي قلبه الاضرار بها. هذه نيّة و سريرة لا تعلمها السلطة الاجتماعية، ولكن يعلمها رب العزة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
5 / 2 : لذلك، فإنه بعد الأمر التشريعي يأتي المقصد التشريعي في التحذير والوعظ من رب العزة إلى قلب الزوج مباشرة يقول جل وعلا له في خطاب مباشر للمؤمن : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). كل هذا لحثّ المؤمن على تنفيذ الشرع باخلاص، وحتى تكون تقوى الله هي المقصد الأعلى في التشريع. وحيث توجد تقوى الله فلا خوف من بشر ولا مراعاة لبشر. ويتكرر هذا في قوله جل وعلا في نفس الموضوع : (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) ( الطلاق 2 : 3).
6 ـ في العهود والمواثيق والنذور مع الله جل وعلا . وهى تقوم على المبادرة الفردية الحرة ولكن يلتزم الفرد المؤمن بالوفاء بها. من نذر لله سبحانه وتعالى نذراً على شكل صدقة أو صلاة أو صيام لا بد من الوفاء به ، وإلّا كان ظالما . قال جل وعلا : (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (البقرة 270)، لذا كان من صفات أهل الجنة : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (الانسان 7)، ومن عاهد عهداً أو عقد ميثاقاً فلا بد من الوفاء به، وتلك إحدى الوصايا العشر في القرآن الكريم . قال جل وعلا : (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الانعام 152). وتكرر الأمر بالوفاء بالعهد والميثاق ضمن صفات المؤمنين الأبرار المفلحين . قال جل وعلا : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ )(الرعد 20) (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)(المؤمنون8)،(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) (الاسراء 34).
ثانيا :
تدخل الدولة بإلزامها الفرد فيما يخص حقوق الآخرين
1 ـ قد يعقد المؤمن عقداً في معاملات مالية أو اقتصادية فلا بد للدولة الاسلامية من إلزامه بالوفاء بالشروط والنصوص المكتوبة في العقد، فى خطاب إلاهى مباشر قال جل وعلا للمؤمنين ودولتهم الاسلامية : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (المائدة 1) وهذا يشمل سائر العقود بين الأفراد أو بين الدولة والفرد أو بين المؤسسات وبعضها أو بينها وبين الأفراد. ومن يرفض يتعرض لعقوبات مالية يفرضها القاضى الذى يحكم بين الناس بالعدل .
2 ـ ليس فى الدولة الاسلامية تجنيد إجبارى ، بل هو تطوعى . وحين رفص المنافقون الخروج للقتال الدفاعى كان عقابهم سلبيا بمنعهم من شرف القتال الدفاعى مستقبلا . قال جل وعلا للنبى محمد عليه السلام : ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) التوبة ). لم يأت قرآنيا فرض التجنيد إجباريا ، ولم يرد أيضا تحريم أن يكون الانخراط فى الجيش بعقد وأجر . بالتالى للدولة الاسلامية أن تجعله احترافاً و مقابل أجر وبعقد. وعندها يتعين على الفرد المتعاقد مع الدولة أن يلتزم بالشروط التي وقّع عليها. إن أخلّ بالشروط فعليه مؤاخذة وعقاب .
3 ـ ويدخل في ذلك عقد الدولة الاسلامية مع من يخدم الناس من الموظفين وأصحاب الخبرة ـ أي أولو الأمر ـ بالمفهوم القرآني. كل منهم يخدم الناس بعقد محدد لا بد من الالتزام به وبشروطه وعلى أساسه يستمر أو يتعرض للفصل أو للشروط الجزائية وفقا لبنود العقد.
4 ـ نفس الحال فى حقوق المطلقة والأرملة واليتيم . تتدخل الدولة الاسلامية لإعطائهم حقوقهم إذا تعرضت للضياع أو الاهمال .
أخيرا
1 ـ المواطن في دولته الاسلامية هو كامل الأهلية ومسئولاعما التزم به من عقد أو عهد من واقع حريته في القبول والرفض. والحرية أساسها المسئولية وليس الفوضى.
2 ـ وإذا كان الفرد هو اللبنة الأولى للمجتمع والدولة فإن الفرد الحرّ المسئول الناشط الفعّال ذا الضمير اليقظ هو تعبير عن أمة ودولة حرّة مسئولة نشطة قائمة بالخير والعدل والقسط وحرية الأفراد والشعوب. وليس هذا حديث وعظ و(ينبغيات): أي (ما ينبغى أن يكون)، بل حقائق كانت موجودة في دولة النبي محمد عليه السلام في المدينة، وتوجد ما يقاربها في دول العالم المتحضر في الغرب وأمريكا واليابان، ويتم هذا بدون علمهم بالقرآن، ولكن باتباعهم الفطرة داخل ضمير الانسان ..
3 ـ ويمكن تحقيقها بكل سهولة في كوكب المحمديين في أحلام اليقظة... وفقط .!!
التعليقات
حمد حمد
حفظكم الله جل وعلا دكتور أحمد المحترم
بارك الله جل وعلا بعمرك وعلمك دكتورنا المحترم هل الإلتحاق بالخدمة الإلزامية العسكرية وأنا أعرف إنها ليست من ضمن قوانين الدولة الإسلامية فهم يعتبر تلبية هذا النداء له إثم على الملتحق بالخدمة.هل الدفاع عن الأرض في حال نشوب حرب التي يحكمها المستبد الظالم بالعالم العربي هو دفاع عن الباطل أليس هذا كفر لأنه حماية لباق هذا النظام الجاثم على هذه الشعوب المغلوبة على أمرها .
أحمد صبحى منصور
شكرا جزيلا استاذ حمد ، وجزاك الله جل وعلا خيرا، وأقول :
1 ـ ليس هناك إثم على المجبر على الخدمة العسكرية طالما لا يستطيع الافلات منها .
2 ـ المستبد يملك الأرض ، وله جيشه وقواته الأمنية التى تضمن له الاستمرار فى ظلمه وإستبداده . هو يدفع أجرا لجنوده وأتباعه ، وهم يدافعون عنه دفاعا عن أنفسهم لأن بقاءهم من بقائه . المواطن المستضعف المقهور لا يملك شيئا فى وطن يملكه المستبد ، فلا عذر له إن دافع عن وطن المستبد . حين يدخل المستبد فى حرب فهى حربه دفاعا عن شىء يملكه ضد طامع آخر فيما يملكه المستبد . المواطن المقهور لا ناقة له ولا جمل فى هذه الحرب . هو يدافع عن نفسه وبيته إذا هوجم فى عُقر داره فقط .
المقال الثالث
أولا :
لمجرد التذكير
1 ـ الشورى الاسلامية / الديمقراطية المباشرة هى أساس هيكل الدولة وشكلها ، إذ تعنى وجود جمعية عمومية تجتمع ضمن نظام متكامل للادارة المحلية أو الحكم المحلى اللامركزى الذي يصل الى كل قرية وضاحية وحى فى المدن الكبرى ، فكل مجتمع صغير يدير ويباشر شئونه بنفسه ، فى جمعية عمومية تتكون من كل افراده البالغين من الذكور والاناث ، لهم سجل حضور وغياب ، وتوقيع بالحضور ، وتسجيل للمناقشات ، وحفظ لها لتكون مستندا . وهناك من يقوم على هذا ، وهناك من تعينهم الجمعية العمومية فى الوظائف الادارية والأمنية ، وفى الوظائف التى تستلزم خبرة وتخصصا ، أو ( أولو الأمر ) ولا بد من شخص مسئول يدير المشهد ، ليس حاكما بالمنصب المعروف المألوف ، ولكن يدير ويشرف ، وهو تحت رقابة الجمعية العمومية تملك محاسبته وعزله ، شأن باقى الموظفين . أما الشئون العامة للدولة من العلاقات الخارجية والدفاع عن الدولة فهو مقسوم بين أهل التخصص " أهل الذكر أولو الأمر " وبين المشاركة الشعبية بالرأى ، أى ترسل قرية او كل ( حى ) بالرأى الذي ترتضيه في الأمور المطروحة للمشورة الجماعية فيما يخص الوطن كله .
2 ـ ولا ريب ان التقدم التكنولوجى في وسائل الاتصال والاعلام المرئى والمسموع والمقروء قد الغى المسافات بين الدول وليس فقط بين بلاد الوطن الواحد ، وعليه فان عصرنا الراهن هو انسب العصور للمشاركة الشعبية الكاملة ، حيث أصبح من الصعب اخفاء الحقائق عن الشعب ، وحيث اصبح من السهولة بمكان معرفة اتجاهات الرأى العام في اسرع وقت ، واذا تدخلت وسائل الاتصال الحديثة في اجراءات الشورى الكاملة لكل ابناء الوطن فسيكون ذلك سهلا وميسورا ومتاحا في نفس الوقت لكل بلد . اذن فالشورى الاسلامية التى لا تقبل التمثيل النيابي هى التى توافق عصرنا الراهن المفتوح ، عصر الفرد العادى وحقوق الانسان الذي لم يعد فيه مقبولا أن يفكر أو يتحدث شخص او جماعة بالنيابة عن الشعب.
3 ـ مع هذا فإن تدخل الدولة الاسلامية محدد ، ويتيح مشاركة فعّالة للأفراد والجمعيات الأهلية . خصوصا مع محدودية إلزام الدولة للافراد . وهذا هو موضوعنا .
ثانيا :
مدى إلزام السلطة الاجتماعية للمواطنين
1 ـ السلطة الاجتماعية هى التى تقوم بإدارة شئون الدولة الاسلامية ، وليس الحكم، لأن الحاكم هو الشعب الذي يعين موظفين ينفذون ما يريده الناس.
2 ـ نظام الحكم في الدولة الاسلامية حقوقي، يضمن تحقيق :
2 / 1 : العدل بأعلى مستوى بشري ممكن بين الأفراد، لذا فإن منصب القاضى هو الأهم ، لأنه الذى يقيم القسط ، وهو الأساس فى الشرائع الالهية كلها .
2 / 2 : الحرية المطلقة في الدين لجميع الأفراد: (عقيدة وعبادة ودعوة).
2 / 3 : العدل السياسي بالديمقراطية المباشرة بدءاً من القرى إلى المدن الكبرى.
2 / 4 : أمن المواطنين وأمن الوطن . والوطن هنا ليس مجرد الأرض بل كل المواطنين على قاعدة المساواة الكاملة والتامة.
3 ـ والدولة الاسلامية ـ في نظام الحكم والشعب ـ هي التي تملك الأرض ومواردها الاقتصادية وما فيها من ثروات ، ولكنها لا تقوم بالانتاج، فالانتاج هو مهمة الأفراد، فلكل فرد حق السعي في الارض والتملك والانتاج طبقاً لتكافؤ الفرص، ويدفع ضرائب للدولة . وللورثة حق طالما يحسن الوريث إستغلال حقه، فلو تبين سفهه وعجزه تعود ثروتهم للسلطة لتديرها له وتعطيه ما يكفيه. وعلى الدولة ممثلة في نظام الحكم تيسير الاستثمار وسبل التملك وضمان الحقوق الاقتصادية وضبط المكاييل والموازين ومنع كل وسائل الفساد، ولها أن تسنّ القوانين التي تؤكد الشفافية وتطارد الفساد، وتضمن بالضرائب كفالة العدل الاجتماعي بإعطاء حقوق الفقراء والمساكين وابناء السبيل واليتامى والارامل والسائلين والمحتاجين. وجهاز الدولة الإداري ضئيل، ومسئوليته في الاشراف والتيسير والأمن والعدل ومكافحة الفساد، وسلطته في الالزام هي فيما يخص حماية الناس وحقوقهم ويخدم مصالحهم الشرعية. ويقوم بهذه السلطة مسئولو الأمن والقضاء والهيئات التنفيذية ..وغيرها . ومن المستحسن الاستفادة من التشريعات الغربية التى لا تتناقض مع القرآن الكريم وشريعته القائمة على التيسير والتخفيف ومنع الضرر .
4 ـ تتشكل السلطة الاجتماعية من هيئات يختارها المواطنون ــ وفق نظام الشورى ـ من أهل الاختصاص، قاضياً أو ناظراً أو مديراً أو مفتشاً في الاسواق أو جندياً أو قائداً ، كل في مجال تخصصه ، سواء بتقدير الأمر أو بإصداره، أو بتنفيذه، وهو مساءل أمام الشعب في الجمعية العمومية التي تم أفراد القرية أو المدينة أو الحي. هذا بالاضافة إلى المسئولين على مستوى الأمّة والمجتمع كله في الدفاع والأمن العام والعلاقات الخارجية والاجراءات المالية والاقتصادبة العامة والقومية والوطنية مثل سك العملة والتعليم ومواجهة الأخطار والري والصرف على مستوى الوطن.
ثالثا :
إلزام السلطة الاجتماعية
1 ـ بالإجراءات العقابية الايجابية :
وهذه تشمل عقوبة الزنا وقذف المحصنات وعقوبة قتل النفس وقطع الطريق والسرقة والشذوذ الجنسي. وتشديد التحريم فى الزنا يوجب منع المواخير وبيوت الدعارة .
وتسقط العقوبة بتوبة الجاني، وبالاضافة إلى التوبة تستلزم جريمة القتل تقديم الدية بديلا عن القصاص. ومن لوازم التوبة إرجاع المظالم والاعتذار للمظلوم ودفع الغرامات المترتبة على جريمته. وذلك ما يدخل في إطار التقدير البشري، أما صدق التوبة والعزم على عدم العودة للمعصية وتصحيح الإيمان فهي أمور قلبية تخرج عن تقدير البشر، ويترتب عليها الغفران يوم القيامة أو الخلود في النار.
2 ـ بالعقاب السلبي بالمنع والتفريق:
2 / 1 : قد يشاع عن امراة بأنها سيئة السلوك ولكن يتعذر ضبطها متلبسة، ولكن القرائن والشواهد تؤكد احترافها أو إدمانها للفاحشة، وتصل بشأنها عريضة للقاضى المختص ، فيكون له أن يطلب شهادة أربعة شهود على سوء سلوكها فإذا شهدوا أمامه يأمر بالتحفظ عليها مخصص لمنعها من إشاعة الفاحشة وتظل كذلك إلى أن تتوب و تتزوج أو تموت . (النساء 15).
2 / 2 : وقد يرمي الزوج زوجته بالزنا ولم يكن معه شهود يثبتون عليها التهمة، وحينئذٍ يكون التلاعن بين الزوجين أمام القاضى ، وبعده يتم التفريق بينهما وتسقط عقوبة القذف عن الزوج وعقوبة الزنا عن الزوجة. (النور6: 9).
3 ـ إلزامها بالإجراءات الاقتصادية:
3 / 1 : اليتيم :
3 / 1 / 1 : تلتزم برعاية اليتيم عموما تنفيذا لأوامر قرآنية كثيرة : منها: (البقرة 220)، وتلتزم برعاية مال اليتيم ( الأنعام ( 152 )( الاسراء 34 )( النساء ( 2 )،( 10 )
3 / 1 / 2 : الحجر على مال اليتيم إذا ظهر أنه سفيه ،لأن المال حينئذٍ يكون حقاً للمجتمع. فى البداية فعلى السلطة الاجتماعية مراقبة موضوعات الميراث ، وفى حالة وجود يتيم وارث يعين القاضى المختص لجنة لحفظ ورث اليتيم وتعيين وصى لتنميتها ، تحت الاشراف والمتابعة . فإذا بلغ اليتيم الحُلُم يعقد له لجنة لاختباره راشدا أو سفيها ، فإذا تبين رشده تسلم إرثه ، وإذا ظهرت سفاهته عيّن القاضى وصياً على مال السفيه ، ويكون للسفيه حق الربح من تشغيل المال ، ويقرر القاضى المختص محاسبة الوصي وتقدير أجره عن الوصاية إذا كان محتاجاً للأجر، وإذا تم تسليم اليتيم ماله كان ذلك على يد شهود : ( النساء 5 : 6).
3 / 2 ـ وتلتزم بإقامة المكاييل والموازين بالقسط ، تنفيذا لأوامر الله جل وعلا : (الانعام 152). ( الاسراء35)، (المطففين :1 : 3 )، (الرحمن 8: 9).
3 / 3 : إلزامها بالتدخل في الحالات الزوجية الشخصية:
3 / 3 / 1 : إذا خيف حدوث شقاق بين الزوجين تدخل القاضى لمنع ذلك الشقاق بإختيار حكم من أهل الزوج وحكم آخر من أهل الزوجة ليتعاونا في تقريب وجهات النظر والصلح بين الزوجين : (النساء 35).
3 / 3 / 2 : والمطلقة في فترة العدة يتدخل القاضى في تقدير حقها في النفقة والسكن بالمعروف ، (الطلاق6: 7).
3 / 3 / 3 : يشمل هذا منع القاضى للعضل أو منع الأرملة أو المطلقة البائن من الزواج ( البقرة 232 ) ( النساء 19 )، كما يشمل سائر حقوق المرأة . وهذا موضوع شرحه يطول .
رابعا :
هل للسلطة الاجتماعية أن تُلزم الناس باجتناب الخمر:
1 ـ مالم يصدر قانون يعبر عن رأي الأغلبية ويكون تنفيذه ملزماً للجميع فليس من حقها إلزام الناس باجتناب الخمر. ولكن يبقى العلاج القرآني هو الأمثل.
ليس في القرآن عقوبة دنيوية على تناول الخمر وإن كان تحريمها جاء في صورة التغليظ والأمر بالاجتناب: ( المائدة 90: 91.) والأمر بالاجتناب والنهي عن الاقتراب هما أشد أنواع التحريم. لقد قرن تشريع القرآن الخمر والميسر بلوازم الشرك من الأنصاب والأزلام واعتبر الجميع رجساً من عمل الشيطان وأمر المؤمنين باجتنابه والابتعاد عنه إذا أرادوا الفلاح، وأوضح أن هدف الشيطان من نشر إدمان الخمر والميسر هو إيقاع العداوة بين المؤمنين وصدهم عن ذكر الله والصلاة. ومن المتوقع أن يكون علاج القرآن لإدمان الخمر والميسر بنفس المنطلق العقلي الذي أرساه في موضوع اتخاذ القبور المقدسة، ليس بإلزام السلطة وعقابها ولكن بتوضيح خطورتها لينأى الإنسان عنها بدافع ذاتي.
2 ـ والواقع ان التربية السليمة هي الأسلوب الأمثل في إبعاد النشء عن هذا الرجس، أما العقاب فلا يُسهم الا في انتشاره خلسة بين الناس ، فالممنوع محبوب . وطالما تتعلق الخمر والميسر بصناعة الشيطان فهو الذي يزين للناس تناولها في غيبة القوانين التي تعاقب عليها، ولكن إذا تربي المؤمن على تقوى الله وطاعته في السر والعلن كان في مأمن من غواية الشيطان وصناعته، وهكذا فمهما تكاثرت قوانين العقوبات في موضوع الخمر وملحقاتها فلن تزيدها إلا انتشاراً طالما غفل الناس عن حكمة القرآن في ترك قضية التحريم في إطار علاقة الإنسان بربه وإذا كان يخشى الله حقاً فيكفيه أن الخمر والميسر من عمل الشيطان شأنهما شأن الأنصاب والأزلام، وإن فلاح المؤمن في الدنيا والآخرة مرتبط باجتنابه هذه الصناعة الشيطانية . والاجتناب من أشد تعبيرات التحريم إذ يعني الابتعاد عن كل ما له صلة بالخمر والميسر لقطع الطريق بينها وبين حواس المؤمن، ويبدأ اجتناب الخمر والميسر بقطع الطريق على الشيطان حين يوسوس للإنسان أن يذوق التجربة الأولى أو أن يحضر مجالس الأنس، وغالباً ما يبدأ الإدمان بهذه الخطوة البسيطة ويظل الإنسان يدفع الثمن من صحته وكرامته وأمواله وسعادة أسرته طيلة حياته. إن الخمر والميسر والأنصب والأزلام من أشد أعداء العقل. وكل منها يحاول تغييب العقل وتدميره بطريقة مختلفة وبنفس القدر يحاول القرآن حماية العقل ويوجه المؤمن لاحترامه.. ومن هذا المنطلق كان تحريم الخمر والميسر بتلك الصورة التي تحترم الإنسان وعقله، إذ نجعله حارساً على عقله دون إلزام من حاكم قد يكون هو نفسه من السكارى في غير أوقات العمل الرسمية.
أخيرا
1 ـ في إطار مقاصد التشريع في حفظ الحقوق والتيسير والتسهيل يمكن للهيئة التشريعية أن تسنّ القوانين، مثل منع التدخين في بعض المناطق ومنع المخدرات، وتنظيم تعاطيها للعلاج مثلا .. كما يمكن أن تنشىء وتستحدث وظائف لتتمكن من خدمة الفرد والأفراد .
2 ـ ولا شك أن مجتمعا حيويا متفاعلا بالتعاون على البر والتقوى والتواصى بالحق والصبر جدير بتحقيق هذا .
التعليقات
حمد حمد
جزاك الله خير الجزاء على هذا الشرح الوافي في حدود تدخل الدولة في حياة المواطنين
بارك الله فيك دكتور أحمد المحترم اتمنى فقط أن تبين مدى تدخل الدولة في حرية اللباس مثل حرية لبس المايوه او البكيني او شاطيء خاص وحمامات سباحه خاصة بهم فهل يسمح بذلك بالدولة الإسلاميه. ماذا عن مصانع الخمور والمتاجرة بها هل هناك قوانين تسمح او تمنع إقامتها.ما اسم من يمثل الدولة في المؤتمرات العالميه وتوقيع المعاهدات وغيرها. أليس له مسمى معين لمثل الدولة الإسلاميه دوليا.
احمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، أسئلة هامة ، واقول |
1 ـ فى صناعة الخمور وفى تناولها : بعض الدول التى تنتشر فيها الخمور تضع قيودا ، بل تم منعها فى فترة فى أمريكا . هذا مع إن الخمر جزء من الثقافة المسيحية . المقصود إن ضرر الخمر والميسر معروف مع وجود منافع تجارية ولكن إثمهما أكبر من نفعهما كما قال رب العزة جل وعلا فى سورة البقرة. بالتالى فمهما كان النفع فالأولى هو المنع التام ، مع التوعية اللازمة اسلاميا وصحيا واجتماعيا.
2 ـ العُرى الجزئى للمرأة حرام ، وهو ضمن اللمم وليس من الكبائر. والأكثر حُرمة هو النقاب الذى يعتبرونه دينا . عُرى المرأة إنتقاص من آدميتها وتحويلها الى سلعة . لا بد من ان يكون الوجه سافرا وكذلك شعر المرأة للتعرف عليها . والأمر بالحشمة للنساء جاء فى سورة الأحزاب . هو ضمن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فيه التواصى بالحق والصبر والتعاون على البر والتقوى . وليس فيه إلزام ، وليس فيه عقوبة.
3 ـ الدولة الاسلامية متفاعلة مع العالم ولها علاقات ومعاهدات ، وقد تعرضنا لهذا فى بعض الفتاوى . هناك أصحاب الاختصاص ( أولو الأمر ) ، ولهم مسمى تختاره الدولة لهم . وهم يتصرفون ضمن الأُسُس الموضوعة لهم ، من السلطة الاجتماعية.
الفصل الرابع :
محدودية تدخل الدولة الاسلامية فى بيوت العبادة
أولا :
1 ـ نوعان فقط لدور العبادة :
1 / 1 ـ بيوت عبادة إسلامية ، الدعوة والأذان والصلاة للخالق جل وعلا وحده . لا يُذكر فيها سوى إسمه جل وعلا وحده ، ولا دعاء فيها لغيره ، قال جل وعلا :
1 / 1 / 1 :( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) الجن )
1 /1 / 2 : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) النور )
1 / 1 / 3 : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (18)التوبة ).
1 / 2 ـ بيوت عبادة شيطانية : وهى نوعان :
1 / 2 / 1 : شيطانية صريحة تتم فيها عبادة الشيطان ، وقد تُقدّمُ فيها الضحايا البشرية . وعبادة الشيطان موجودة علنا أو سرّا ، ولا يمكن إنكار وجودها .
1 / 2 / 2 : شيطانية ضمنية : وهى التى تنتسب لأصحاب الديانات الأرضية ، حيث تقديس البشر الأحياء والموتى ، وحيث تنتشر فيها أحاديث شيطانية . وجاءت الإشارة اليها فى قوله جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الانعام ).
وتلك البيوت تؤسس بوحى الشيطان ، أو هى من ( عمل الشيطان ). قال جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)المائدة ). الشيطان لا يقوم بنفسه ببناء الأنصاب أو ما يعرف الآن باسم الأضرحة، ولكنه هو الذي يوهم الناس بأن مواد البناء في الضريح مقدسة وتختلف عن أي مواد أخرى تبنى بها البيوت والمساكن والمصانع، وهو الذي يوهم الناس بأن المقبور تحت الرماد لا يزال حياً ولكنه معتقل تحت الأرض يرى ويحس بمن يطوفون بالضريح من فوقه، وطبعاً فلا يشكو من طول فترة اعتقاله في زنزانة انفرادية تحت الأرض ولا يتضرر من آلاف الأقدام التي تسير دائماً فق رأسه. الشيطان يحجب العقل عن التفكير السليم ويجعل الناس يؤمنون بأن هناك إلاها محبوسا تحت الرماد يستجيب لهم ويرفع عنهم الضرر. والشيطان هو الذي يقنع الناس بأن مملكة الأموات هي التي تتحكم في مملكة الأحياء.
2 ـ ليس للدولة الاسلامية أن تتدخل فى إقامة أو منع إقامة بيوت العبادة ، سواء كانت إسلامية أو شيطانية . حتى بيوت عبادة الشيطان . التدخل الوحيد هو منع ذبح القرابين البشرية فى طقوس عبادة الشيطان . ولنتذكر:
2 / 1 : أن الآيات السالفة من سورة المائدة ــ وهى من أواخر ما نزل فى المدينة ـ تعظ بعض المؤمنين بعدم تقديس الأنصاب ، وهى القبور المقدسة ، أى هو مجرد وعظ ، لعلهم ينتهون ، وإن لم ينتهوا فما على الرسول ــ وهو القائد ــ سوى البلاغ المبين .
2 / 2 : مسجد الضرار الذي أقامه المنافقون في المدينة للتآمر على الاسلام والنبي محمد عليه السلام والمسلمين. وكشف الله تعالى في الوحي القرآني دور هذا المسجد ونهى النبي عن الاقامة فيه : (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ). لم يأمره بتدميره أو حرقه أو اعتقال المتآمرين أصحابه والدليل ضدهم ثابت لاجدال فيه وهو كلام رب العزة جل وعلا. فقط أمر النبى والمسلمين بعدم الذهاب اليه. وظل هذا المسجد مقاماً بدليل كلام الله تعالى عنه (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة 107: 110).
ثانيا :
ليس من حق الحاكم المسلم هدم الأوثان:
1 ـ قال ابراهيم عليه السلام لقومه: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(الصافات95: 96) وأنها أساطير وإفك مصنوع : (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) (الصافات 86)، (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا)(العنكبوت17). وينطبق ذلك على الأصنام كما ينطبق على الأنصاب وهي القبور المقدسة. وحين كسّر ابراهيم عليه السلام الأصنام عدا واحدا ـ فقد كان القصد هو الإثبات لهم أنها مجرد أحجار ، وقد إعترفوا فى المحاكمة التى عقدوها له بذلك : ( قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) الأنبياء )
2 ـ رب العزة جل وعلا فى كتابه العزيز:
2 / 1 : ناقش أُولئك الذين يعبدون الأولياء الموتى فأكد انهم مجرد موتى لا تشعر بما حولها ولم تخلق شيئاً بل هي مخلوقة ولا تشعر متى ستبعث يوم القيامة (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(النحل 20: 21).
2 / 2 : وفي مواجهة الأساطير التي تزعم خوارق لتلك الالهة المعبودة الميتة فقد أمر رسوله ً أن يتحدى تلك الآلهة والأولياء الميتة في قبورها مؤكداً أنها لا تنفع ولا تضر، وأن الولي الوحيد للمؤمن لا يكون سوى الله سبحانه وتعالى وحده: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ) ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)(الاعراف 194: 197 ).
2 / 3 : وأن الولي المقصود بالعبادة والتقديس لا يكون إلا الله سبحانه وتعالى . قال جل وعلا.
2 / 3 / 1 . (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(الشورى9)،
2 / 3 / 2 : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام 14)
2 / 4 : وأن أحداً من المخلوقات لا يشاركه تعالى في الحكم في الدنيا وفي الآخرة . قال جل وعلا : (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف 26) .
2 / 5 : وأنه وحده جل وعلا الخالق والآمر (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(الاعراف : 54).
3 ـ وعلى هذا الأساس العقلي حاور الله سبحانه وتعالى ـ فى خطاب مباشر ـ المشركين ممن يعبد الأولياء والآلهة :
3 / 1 : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ) (فاطر 40)،
3 / 2 : (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) ( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الاحقاف4: 6)،
3 / 3 : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) ( إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر 13: 14).
4 ـ واستخدم إيمانهم بالله الخالق حجة عليهم، فكيف يتركون رب السماوات والأرض ويطلبون المدد من غيره الذي لم يخلق شيئاً والذي لا يملك شيئاً : (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(الرعد 16) وكل هذه الآيات موجهة للمحمديين وغيرهم ممن يقدسون القبور في عصرنا. بهذا تتبين حقيقة الأصنام والأنصاب والقبور المقدسة في موضعها الحقيقي، وأنها خرافة لا تستقيم مع العقل السليم، وأنها مجرد أحجار لا تختلف عن أية أحجار أخرى وإن ما يدور حولها أساطير تستحق السخرية لا التقديس..
5 ـ بعدها أمر المؤمنين باجتنابها والابتعاد عنها ، قال جل وعلا : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج 30) والأوثان كل ما هو مقدس من بشر وحجر ومواد طبيعية، والزور هو كل الأكاذيب وأقطعها ما كان منسوباً لله افتراءً على الله جل وعلا . أمر رب العزّة جلّ وعلا باجتناب الأوثان والأضرحة ولم يأمر بهدمها أو تدميرها ، ولكن أمر فقط بالابتعاد عنها و اجتنابها وأن تتطهر منها بيوت الله والمساجد لكي تكون العبادة لله خالصة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)( الجن 18).
6 ـ أى أمر جل وعلا بهدم الأوثان في عقول الناس واعتقادهم واكتفى بذلك، وهي نظرية صائبة. فالضريح مثلاً يتكون من مواد بناء معروفة: أسمنت وطوب وأخشاب ومسامير وزجاج ورخام وأجهزة كهربائية وستائر وأقمشة وهذه المواد توجد في كل مكان ولا تختلف أحجار الضريح عن أي أحجار أخرى، وكلها تأتي من نفس المصدر، والذي جعل لأحجار الضريح قدسية إنما هو الاعتقاد فيها الذي أوهم الشيطان به جموع الناس. فإذا تهدم ذلك الاعتقاد الخرافي من قلوب الناس تصبح هذه الأضرحة مجرد أبنية وتتحول الأصنام إلى مجرد تماثيل صخرية، يتندر بها الناس على قلة عقولهم حين قدسوها. أما إذا بادر حاكم مسلم بتدمير أحجار الأضرحة وتسويتها بالأرض فإن من يعبد الأضرحة ويعتقد فيها سيقيم في قلبه ألف ضريح وضريح، ولا تلبث أن تعود أضرحة أخرى وتتكاثر الأساطير والكرامات الخرافية التي تدّعي أن الأولياء قد انتقموا من ذلك الذي هدم قبورهم، وكل ما يمكن أن يحدث له من أمور عادية سيتحول تفسيرها إلى أنه غضب الآلهة المزعومة عليه !!
7 ـ يتسق هذا مع أنه ليس للدولة الاسلامية أن تتدخل في الحرية الدينية إلا فى فيما يخص حقوق الأفراد، وظيفتها اقامة العدل بين الناس وتوفير الأمن لهم وتوفير أقصى قدر متاح لهم في حرية العقيدة والعبادة حتى يكون كل فرد مسئولا مسئولية مباشرة أمام الله تعالى يوم الدين عن اختياره العقيدي.
التعليقات
حمد حمد
مسيرات الطقوس الدينيه
جزاك الله خير الجزاء بالدنيا والآخرة معلمنا المحترم وبارك بعمرك وعلمك , إضافة لما تفضلت به دكتور أحمد هل تكفل الدولة الإسلامية لمظاهر الطقوس الدينيه مثل المسيرات الحسينية واللطم وإراقة دمائهم وشج رؤوس أطفالهم كتعبير عن الحزن وحصول الأجر وهذا نراه حاليا بشكل واضح تقريبا بجميع الدول العربيه او الاسلاميه بل حتى الغربيه. وغيرها من إحتفالات ومسيرات الأديان الأخرى. التي تعرقل حتى الأعمال اليوميه مع خالص التقدير لكم.
احمد صبحى منصور
جميل هذه الإضافة استاذ حمد حمد
أى أذى وأى مساس بجسد الانسان ممنوع ، وتمنعه الدولة الاسلامية وشريعتها .
التطبير بالضرب وإسالة الدم نوع من العبادة الشيطانية الصريحة . هذا جنون جعلوه دينا . سحقا لهم.
الفصل الخامس : مدى تدخل الدولة الاسلامية فى عبادة الصلاة
أولا :
لا تدخل للدولة الاسلامية فى تأدية الصلاة :
1 ـ قال جل وعلا : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج ). هنا حيثيات أول تشريع بالقتال الدفاعى فى الاسلام للدولة ، وهو ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ). يهمنا هنا :
1 / 1 ـ المقصد التشريعى ، وهو حصانة بيوت العبادة للجميع : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ).
1 / 2 ـ ذكر المساجد التى يُذكر فيها إسم الله جل وعلا ( كثيرا ) ولم يقل يذكر فيها إسم الله ( وحده )، لتشمل كل المساجد حتى للمشركين .
1 / 3 ـ قوله جل وعلا : ( وَصَلَوَاتٌ ) ، وتعنى أى بيوت للصلاة ، سواء كانت لعبادة الله جل وعلا أو حتى لعبادة الشيطان صراحة أو ضمنا. فى التأكيد على الحرية الدينية المطلقة لا بد من حصانة بيوت العبادة كلها ، حتى يكون البشر أحرارا فى الدين ومسئولين أمام مالك يوم الدين فى يوم الدين . ولنتذكر أن تطبيق الشريعة الاسلامية تكون بالاسلام السلوكى أى السلام ، وليس بالاسلام القلبى الذى مرجعيته للواحد القهّار جل وعلا .
2 ـ وعموما :
2 / 1 : فإنّ حقوق الله جل وعلا التعبدية على عباده لا مجال فيها لأحد من الناس التدخل فيها وإلا كان مدعياً للالوهية وجاعلا نفسه واسطة بين الناس ورب الناس، وهذا يناقض عقيدة الاسلام في أنه ليس لله تعالى شريك أو معين أو واسطة. ليس من حق الحاكم أن يلزم أحداً بالصلاة والزكاة والصدقات والصيام والحج وقيام الليل وذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، أو أن يعاقب أحداً على التهاون فيها أو تركها، فهذه الفرائض تعامل خاص ومباشر بين العبد المسلم وربه، ولا مجال فيها لأحد الناس أن يتدخل بين الله وعباده أو أن يغتصب لنفسه حق الله في مراقبة عباده في تأدية فرائضه وفي حسابهم عليها .
2 / 2 ـ جوهر العبادة الاسلامية هو الإخلاص ، وبدونه تكون تأدية العبادة مجرد حركات بدنية ساخرة. والله سبحانه وتعالى يأمر عباده بالإخلاص في عبادته. قال جل وعلا : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)، ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ)، (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي)(الزمر2، 3، 11، 14). ومنه اجتناب الرياء . قال جل وعلا : ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ) ( الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) ( الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون 4: 7) . وقد كان المنافقون يؤدون الصلاة بدون إخلاص بل لمجرد المراءاة والنفاق فاعتبرها رب العزة خداعاً لله سبحانه وتعالى . قال جل وعلا : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء142) . والله وحده هو الذي يعلم حقيقة الإخلاص أو الرياء في القلوب. والله جل وعلا وحده هو الذي يجازي على الإخلاص أو الرياء وذلك يوم القيامة الذي يختبر فيه رب العزة سرائر الناس: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق 9) وليس في إمكان البشر العلم بغيب السرائر وخطرات القلوب.
ثانيا :
مدى التدخل فى ( إقامة الصلاة ) و ( المحافظة عليها )
1 ـ إقامة الصلاة تعني :
1 / 1 : الخشوع والاخلاص أثناء أداء الصلاة في القيام والركوع والسجود والقنوت والتسبيح وقراءة القرآن. وهذا الخشوع وذلك الاخلاص في الصلاة تعامل خاص بين المؤمن وربّه لا دخل لبشر فيه.
1 / 2 : فى غير أوقات الصلاة تكون إقامتها سلوكاً سامياً في التعامل اليومي مع الناس طيلة النهار واليقظة، يقول جل وعلا في إقامة الصلاة:
1 / 2 / 1 : (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود 114)، فالحسنات بالمدوامة عليها تشغل الانسان عن الوقوع في السيئات، وبذلك تكون إقامة الصلاة، وفي ذلك ذكرى للذاكرين كما قال رب العالمين.
1 / 2 / 2 : ( وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(العنكبوت 45). إن عدم إقامة الصلاة تعنى : أن ترتكب المعاصى مع صلاتك .
2 ـ هذا الجانب السلوكى يشهده الناس ، ويحكمون عليه ، وإذا إقترف فرد جريمة فى حق غيره فلا بد من عقابه.
3 ـ حدث هذا من السابقين :
3 / 1 ـ قريش:
3 / 1 / 1 : كانت تصلي وتفسق فوصف رب العزة صلاتهم بالمكاء والتصدية والكفر . قال جل وعلا : (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون) (الأنفال 35).
3 / 1 / 2 : توارثوا الصلاة والصيام والحج والزكاة من ملة ابراهيم، وكانوا يؤدون الصلاة بنفس ما نعرفه اليوم من مواقيت وركعات، ولكنهم عبدوا الأولياء وأقاموا لهم القبور المقدسة في المساجد ورفعوا لهم الأذان فيها تعظيما لأوليائهم . قال جل وعلا عنهم وعن موقفهم من النبى محمد عليه السلام : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) الجن ).
3 / 2 ـ السلف من أهل الكتاب. قال جل وعلا عنهم : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ) (مريم 59 ). لم يحافظوا على صلاتهم ولم يقيموها تقوى فى سلوكهم ، فأضاعوا ثمرتها. وتأتى إمكانية التوبة فى الآية التالية : ( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ) ( مريم : 60). أي يستطيع أن ينجو لو تاب وآمن وعمل عملا صالحاً يعوّض به سيئاته السابقة .
4 ـ وجاء التقرير الالهى العام للمفلحين من المؤمنين الذين سيكونون أصحاب الجنة فى قوله جل وعلا : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ )( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) ( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) ( إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) ( فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ )( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ ) ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون 1 : 11). أي ليس كل المؤمنين مفلحين. لا يفلح ذلك المؤمن الذي لا يقيم الصلاة بالخشوع أثنائها وبالتقوى والخلق الرائع فيما بين أوقاتها . وجزاؤهم الفردوس .
5 ـ إعتبروا تأدية العبادات هى كل المراد ، لم يؤمنوا بأنها مجرد وسيلة للتقوى . قال جل وعلا للناس جميعا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) البقرة ). والتقوى هى المقصد فى الصيام وفى الحج وتقديم الصدقات . هم إعتبروا العبادات هدفا ، فإذا قاموا بتأديتها ظاهريا وسطحيا فلهم أن يعصوا الله جل وعلا ما شاء لهم الشيطان الذى إتخذوه وليا من دون الخالق جل وعلا ، أى يقترفون الفحشاء ويجعلونها دينا يعتادون عليه وينسبونه الى شرع الرحمن جل وعلا . وجاء الردُّ الالهى عليهم مقدما فى قوله جل وعلا : ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الأعراف ). بدأ الخلفاء الفاسقون بجعل العصيان عبادة بالفتوحات الظالمة التى زعموها جهادا ، ولا يزال هذا دينا أرضيا ، مرتبطا بتقديس الخلفاء الفاسقين وصحابة الفتوحات . ولا يزال المحمديون هم الأكثر ضلالا ، تمتلىء بهم المساجد ، وتمتلىء حياتهم نفاقا وفسادا وفجورا وعصيانا .
ثالثا :
التوبة فى موضوع إقامة الصلاة :
1 ـ لها جانبان :
1 / 1 ـ جانب الاخلاص والصدق القلبي في التوبة، وهذا يحكم عليه فقط رب العزّة يوم القيامة، فيقبل توبته ويدخله الجنة. هذا يتبع الاسلام القلبى .
1 / 2 ـ جانب سلوكي مظهري ( يتبع الاسلام السلوكى ) ، وهذا يحكم به المجتمع ظاهرياً على صدق توبة التائب، هو تأدية الحقوق لمن أذنب في حقهم وردّ المظالم والاعتذار لمن ظلمهم والتعهد بالاستقامة وعدم الرجوع للجريمة التي وقع فيها. هنا يكون المجتمع شاهداً على قبول توبته. ولو تاب مجرم وقع في جريمة تستحق عقوبة كالزنا والسرقة وقطع الطريق وقذف المحصنات فإن توبته السلوكية هذه تسقط عنه العقوبة (النور 2: 5)،(المائدة 33 : 34 ، 38 : 39) (البقرة 178)،(النساء 15 : 16). والمجتمع يكون شاهداً على هذه التوبة مراقباً لعمل ذلك التائب، يقول جلّ وعلا للعصاة التائبين في المدينة : (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة 105).
2 ـ دخل العرب فى الاسلام السلوكى بمعنى السلام ، وهذا ما رآه النبى محمد عليه السلام : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر). لم ير الاسلام القلبى لأنه غيب وهو عليه السلام لم يكن يعلم الغيب . الذى رآه كان الاسلام السلوكى بمعنى السلام ، والذى صاروا به أُخوة فى الاسلام ( السلوكى ) فى هذه الدنيا . أما ( الأخوة ) الحقيقية فستكون لأصحاب الجنة الذين جمعوا بين الاسلام السلوكى والاسلام القلبى فى حياتهم الدنيا. قال جل وعلا عنهم : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) الحجر ).
3 ـ وبعد دخول مكة سلمياً في الاسلام ( السلوكى ) وأصبحوا أُخوة فيه تمرّد فريق ونقضوا العهد وإعتدوا وهمُّوا بإخراج الرسول حين كان هناك . وقد أعطاهم الله جل وعلا مهلة أربعة أشهر للتوبة الظاهرية، أى بالعودة للسلام أو الاسلام السلوكى ، وهى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، هذه توبتهم السلوكية طبقا للاسلام السلوكى ، وبها يصبحون إخواناً للمسلمين ، قال جل وعلا : (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)،(لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)( التوبة 5، 10: 11).
4 ـ وهذا من الصفات التي تدخل في السلوك الذي يمكن للبشر الحكم عليه. وفي حالة أولئك المعتدين تعني أن يتركوا العدوان ويستبدلوه بالسلم وكف اليد عن الأذى. هنا دليل على طاعة أولئك الثائرين ودخولهم في إطار الدولة. أما إذا تركوا الخشوع في الصلاة أو تكاسلوا فيها أو سهوا عنها أو أهملوها تماماً فلا يملك المجتمع عقابهم، فذلك مرجعه لله جل وعلا يوم الحساب . فليس في القرآن آية واحدة تبيح للحاكم أن يعاقب تارك العبادات، وإن كان من واجب الأفراد أن يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وبالصلاة والزكاة أمراً قولياً وبالنصح : (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ) (ابراهيم 31) كما أن واجب كل إنسان أن يأمر أهله بالصلاة : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) ( طه 132).
الفصل السادس : لا تدخل مطلقا للدولة الاسلامية فى عبادة الصيام
أولا :
1 ـ قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).183 ) البقرة ).
2 ـ التقوى هنا هى ضمير الصائم الذى يمتنع عن الطعام والشراب والعلاقة الجنسية مع الزوجة ابتغاء مرضاة الله تعالى . هو بذلك يتعامل مباشرة مع ربه فيخشى الله جل وعلا بالغيب ،أى حين يكون وحيدا منفردا يتمسك بصومه حيث لا رقيب ولا حسيب عليه سوى مولاه عز وجلّ. ولذلك كانت عبادة الصيام وسيلة لتعلم التقوى. أى إن الصيام فى رمضان والصيام الطوعى تتمثل فيه التقوى تعاملا بين الصائم وربه جل وعلا ، وبالتالى لا دخل للبشر فيها ، ولا دور للدولة الاسلامية مطلقا فى التدخل فيها . قد يكون هناك دور لبعض المؤسسات الأهلية غير الحكومية فى إعلان بداية رمضان ، وعموما ، هناك فضاء متسع فى الدولة الاسلامية للجمعيات الأهلية والمنظمات الحكومية فى شتى مناحى الحياة سياسيا ودينيا وإجتماعيا ، خصوصا وعملها يقوم على تقديم خدمات دون إلزام لأحد .
ثانيا :
1 ـ تحول الصيام الى طقس إجتماعى لمجرد التجويع والانفلات الخلقى وقضاء النهار فى كسل وغضب ، وقضاء الليل فى مجون و سهر ، فأضحى رمضان شهر الامتلاء والمسلسلات والفوازير والوعظ السلفى بالتكفير والنكير والجهاد السلفى بالتفجير والتدمير ، وإنقطعت صلته بالتقوى . كما أصبح شهر مناسبة يتسلط فيه المتطرفون على الناس ، يعاقبون من يُفطر ، بغض النظر إذا كان يمارس رُخصة تشريعية مذكورة فى القرآن ، أم يمارس حريته الدينية التى منحها الله جل وعلا للبشر ، وهو وحده جل وعلا الذى سيحاسبهم على إيمانهم وعلى عبادتهم وعلى عملهم يوم الدين .
2 ـ إن حق الله جل وعلا فى الايمان به وحده لا شريك له وفى عبادته وحده ــ هذا الحق مرجعه الى الله جل وعلا وحده يوم الدين ليحكم فيه بين الناس فيما هم فيه مختلفون . أما حقوق البشر ( حق العباد ) فقد نزلت فيه تشريعات الاسلام لتحفظ حقوقهم وتمنع من الظلم والبغى والعدوان . ولذا ، فليس فى الاسلام ــ على الاطلاق ـ إكراه فى الدين ، فى الايمان أو الكفر ، فى إقامة العبادة أو تركها ، فى الدخول فى الاسلام أو فى الخروج منه . وليس فى فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الاسلامية تسلط على الناس . إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو التواصى بين أفراد المجتمع كلهم بالحق والخير والصبر، وليس لفئة أن تتخصص فى هذا تأمر الناس بالبر وينسون أنفسهم ، كما أن حدود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا تتعدى النصيحة القولية ، وإذا أصرّ الفرد على ما هو عليه فرب العزة يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المائدة ) . وإصراره على المنكر لا يعنى التبرؤ منه بل من عمله السىء فقط ، يقول جل وعلا لخاتم المرسلين : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) ) الشعراء ) لم يقل له أن يتبرا منهم بل من عملهم ، ولم يقل إضربهم بل مجرد البراءة من عملهم ليتحملوا هم وزره يوم الدين . وبالتالى فإن من يتدخل فى إرغام الناس على الصيام وتأدية العبادات ، ويعاقب بالقتل تارك الصلاة ويعاقب بالضرب و( التعزير ) من يفطر علنا فى نهار رمضان إنما يعتدى على حقّ رب العزة جل وعلا فى التشريع ، وهو جل وعلا الذى خلق البشر أحرار فى الطاعة أو العصيان وجعل للدين يوما هو يوم الدين . أما هذا المتسلط على الناس فقد نصب نفسه إلاها على الناس ، يقيم لهم يوما للحساب والعقاب قبل مجىء اليوم الآخر ، ويمارس سلطة دينية ودنيوية عليهم باسم الخالق جل وعلا إفتراءا على الخالق جل وعلا . هم أعداء لله جل وعلا الذين يرفعون أنفسهم فوق منزلة خاتم المرسلين ـ عليهم السلام . تدبر ما قاله رب العزة جل وعلا للنبى محمد عليه السلام : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) الغاشية ) وقال له جل وعلا : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) يونس ) وقال له جل وعلا : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) القصص )
3 ــ والعادة السيئة فى أى دين أرضى أنه يملكه أربابه ورجال كهنوته، وهم يتخذون من هذا الدين الأرضى وسيلة للاستعلاء على الناس وأكل أموالهم بالباطل والتحكم فيهم . ويحتاج المستبد الى رجال الدين الأرضى يركبهم ويركب بهم الناس . وإذا كان هذا الدين الأرضى مؤسسا على العنف فالويل للناس من عسفه ، وهذا ما نراه فى شعوب يسيطر عليها الكهنوت الوهابى ، ويقوم بإكراه الناس فى الدين ، وتتخصص طوائف من كهنوتهم تطارد الناس فى الشوارع والأسواق بالإثم والبغى والعدوان المنهى عنه فى دين الله جل وعلا . ومن الطبيعى أن ينال المفطر فى هذه البلاد عقابا من أولئك الظالمين المفترين . الله جل وعلا أنزل دينه على أساس التخفيف والتيسير ورفع الحرج وتشريع الرخص وقبول الأعذار كما يتجلى فى آيات التشريع فى الصيام . ولكن من يملكون الدين السنى أسسوا دينهم على التزمت والتعنت والغلو والتطرف والتعصب والتسلط . وفى عصرنا البائس سيطرت الوهابية بالنفوذ الأمريكى البترودولارى ، وبالنفوذ الوهابى ظهر فقهاء يمتلكون الدين الأرضى الجديد ، ويزايدون على من سبقهم من أئمتهم فى العصرين العباسى والمملوكى فأفتوا بضرب من يفطر فى رمضان .
4 ـ قال هذا الشيخ محمد متولى الشعراوى فى كتابه الفتاوى،( الجزء الثالث ص 45 ) إذ أفتى بتعزير من يفطر جهرا فى رمضان ، وفسّر التعزير طبقا للدين السنى ـ هو التأديب بالضرب أو الشتم أو المقاطعة أو النفى . مع ملاحظة ان مصطلح التعزير فى الدين الاسلامى طبقا للقرآن الكريم هو : التكريم والإعزاز والمناصرة ، يقول جل وعلا : (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ (12) المائدة )( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157) الاعراف) (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) الفتح ) هذا ( التعزير ) فى دين الاسلام تحول معناه الى النقيض فى الدين السُّنّى دليلا على التناقض بينهما ليس فقط فى أُسُس التشريع بل أيضا فى ألفاظه ومصطلحاته ، ولمن يريد المزيد عليه بالرجوع لمقالنا عن ( التأويل )، وهو منشور هنا. .
5 ــ وسار فقهاء آخرون فى عصرنا البائس على طريقة ابن تيمية فى تحقير وتكفير من يفطر علنا ، فقالوا : ( ومن جاهر بالفطر في نهار رمضان، قاصداً أو مستهزئاً فيخشى أن يكفر بذلك، لأنه يستهزئ بركن من أركان الإسلام، ويجب على ولي الأمر منع المجاهر بالفطر، ويستحق عقوبة تعزيرية من القاضي، والعقوبة التعزيرية أية عقوبة يقدرها القاضي، وينبغي أن يكون هناك نص على حكم من أفطر في نهار رمضان بغير عذر وجاهر بالأكل أو الشرب أمام الناس.) أى تحريض للحاكم المستبد بإصدار عقوبات جديدة يكون فى يد الفقهاء الحكم بها وتنفيذها ليتسلطوا بهذا على الناس، ويشاركوا سيدهم المستبد فى سلطانه .
6 ـ ولقد سارت على الدين الوهابى السعودى دول أخرى ، فالكويت أصدرت القانون رقم 24 لعام 1986م بشأن المجاهرة بالإفطار في شهر رمضان الفضيل». وينص القانون في مادته الأولى على أن يعاقب بالغرامة التي لا تتجاوز مائة دينار «حوالي 350 دولارا» وبالحبس لمدة لا تتجاوز شهرا أو إحدى هاتين العقوبتين كل من جاهر بالإفطار في مكان عام في نهار رمضان، وكذلك كل من أجبر أو حرض أو ساعد على تلك المجاهرة، مع جواز إضافة عقوبة غلق المحل العام الذي استخدمه لهذا الغرض لمدة لا تتجاوز الشهرين. ولوزير الداخلية سلطة إصدار قرار بإغلاق ما يرى ضرورة إغلاقه من المحال في نهار رمضان؛ تحقيقا لأغراض هذا القانون ومعاقبة المسؤول عن إدارة المحل . ويتعرض المفطر فى رمضان للضرب المبرح فى افغانستان بدون الحاجة لقانون . وفي جزر القمر يتعرض المجاهر بالفطر لعقوبة السجن، وقررت الصومال، معاقبة المجاهرين بإفطارهم، حيث حذر اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال عام 2006م من المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان، واتخذ إجراءات لمعاقبة المخالفين.
7 ـ وفي مصر هناك مشروع قانون طرح على مجلس الشعب منذ عدة سنوات لمعاقبة المجاهرين بالإفطار،ينص على عقاب كل من يجاهر بالإفطار في نهار رمضان بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أيام، وغرامة لا تقل عن مائة جنيه، مع الحبس شهرا لمن يفتح مطعما، أو يسهل تناول الطعام جهارا في نهار هذا الشهر. ولكن مشروع القانون لم يشاهد النور حتى اليوم. مع تأييد الشيوخ له .
وقامت حملة أمنية باعتقال المجاهرين بالإفطار في رمضان لأول مرة بمصر محاكاة للسعودية ، حدث هذا يوم الإثنين 17 رمضان 1430هـ - 07 سبتمبر 2009م. وفى محافظة أسوان ألقت الشرطة المصرية القبض على 150 مصرياً وأودعتهم السجن وحررت لهم محاضر جنحة الجهر بالافطار في نهار رمضان. وفي مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر ألقت الشرطة المصرية القبض على العديد من المصريين خلال إفطارهم في نهار رمضان، وأغلق محافظ البحر الأحمر المقاهي والمطاعم في نهار رمضان علماً بأن هذه المحافظة من المحافظات السياحية. وألقت كذلك مباحث طلخا بمحافظة الدقهلية بدلتا مصر القبض على سبعة شباب يجاهرون بالافطار في نهار رمضان ويدخنون السجائر في الشارع العام، وحرّر لهم رئيس مباحث طلخا محضراً بالواقعة وتم عرضهم على النيابة التي أمرت بالافراج عنهم بكفالة 500 جنيه . كما لو أنه قد تم حلُّ كل مشاكل وأزمات مصر ، ولم يعد فى مصر سلب ولا نهب ولا فساد ولا قهر ولا تعذيب ولا فقراء جوعى يأكلون من القمامة والنفايات . أصبحت مصر فى نقاء سويسرا ، ولم يبق فى مصر سوى أزمة بعض المفطرين فى رمضان ، والذين يٌسبب إفطارهم خطرا داهما على النظام وتكديرا للأمن العام وتهديدا للسلم الاجتماعى والوحدة الوطنية ..والوحدة العربية .
8 ــ ولم تتخلف الإفتاء المصرية عن هذا التخلف. اصدرت بيانا تم نشره فى 19 رمضـان 1433 هـ 7 اغسطس 2012 يتهم المجاهر بالإفطار في نهار رمضان بأنه ( مستهتر وعابث بشعيرة عامة من شعائر المسلمين»، وطالبت «الإفتاء» ولي الأمر في مصر باتخاذ ما يلزم لمنع المجاهرين من الإفطار في الأماكن العامة والشوارع، وتبارى شيوخ أزهريون فى تحريض العسكر على إصدار قوانين تعاقب من يفطر فى رمضان بغير عذر ، أى تتفرغ الحكومة المصرية ـ المثقلة بالمشاكل والعاجزة عن حلها أصلا ـ للقبض على المفطرين والتحقيق معهم هل إفطارهم بعذر أم لا ، وإثبات هذا العذر بالطب أو بالقرائن ، وبالتفتيش على مكنون الصدور ..
التعليقات
حمد حمد
بارك الله جل وعلا بعلمك وعمرك دكتور أحمد المحترم.
من سن تلك القوانين بالدولة ووضع لها عقوبات وأسندها لأحاديث شيطانيه وإنها من شرع الله جل وعلا فإنه بلا شك الهدف منها تشويه دين الإسلام الحنيف والإفتراء على الله جل وعلا وعلى نبيه محمد عليه السلام زورا وبهتانا وتنفير الناس من الإسلام لدرجة أن المريض يداري نفسة أمام أسرته حتى يراعى مشاعرهم بشكل مبالغ لكي يأكل أويشرب حتى من لديه رخصه للإفطار يحسب لها الف حساب هذا وهو مسلم فما بالك بمن ليس مسلما في أحد الدول العربيه شاهدت جلد رجل من شرق آسيا وجدوه يشرب ماء وكان بشكل عابر وكانوا فرحين متشمتين بهذا المسكين .
أحمد صبحى منصور
شكرا استاذ حمد ، جزاك الله جل وعلا خيرا ، واقول :
أحزننى ما ذكرته عن عقاب الرجل الآسيوى لأنه أفطر فى رمضان . ليس حزنى عليه فقط ، ولكن أيضا على جهل من أوقع به العقوبة . الله جل وعلا فرض الصيام على الذين آمنوا . فهل هذا الآسيوى منهم ؟ يعنى إذا كانت هناك عقوبة فعلي على الذين آمنوا إذا أفطروا فى رمضان.
حمد حمد
نعم دكتورنا المحترم بالسعودية تطبق هذه العقوبةعلى من يجهر بالإفطار بنهار رمضان بالجلد والسجن سواء مسلم او غير مسلم .
أحمد صبحى منصور :
شكرا مجددا استاذ حمد ، واقول :
هناك محاولات للخروج من نفق الوهابية وتخلفها فى السعودية . ولكنها بطيئة وإنتقائية وتخضع لهوى الحاكم . الاصلاحات تتركز فى لجم دعاة الوهابيين أصحاب التاثير ، ليكون التأثير للحاكم وحده ، ثم إنها لا تصل أبدا الى حقوق الانسان ومن أبرزها حرية التعبير وحرية الدين . لا تصل الى المساس بالعقوبات وإصلاح القضاء ، ليظل هذا إرهابا للناس . ولكن عموما تغيير هائل يحدث فى الترفيه نرجو أن يليه اصلاح فى الأمور الجدية ، ونرجو أن ينتقل التخلص من الوهابية وسيطرة الدين الأرضى من السعودية الى مصر وغيرها . تنحسر الوهابية عن موطنها الأصلى ، ولكن لا تزال راسخة فى مصر وغيرها الذين إبتلتهم السعودية سابقا بالوهابية.
الفصل السابع : حدود تدخل الدولة الاسلامية فى الزكاة المالية
مقدمة :
1 ـ المال هو المعبود الأكبر لأغلب البشر ، بسببه يتصارعون ويتقاتلون ، وتتأسّس أديانهم الأرضية وإحترافها الدينى وخلط دينها الأرضى بالسياسة والحُكم . للاسلام تعامل مختلف مع المال ، فهو وسيلة للخير ، والحصول عليه بالحلال ، وإنفاقه فيما يُرضى الخالق جل وعلا ، وليس المال هدفا ، بل الهدف هو الفوز فى الآخرة .
2 ـ وسبق تقرير أن الديمقراطية المباشرة فى الدولة الاسلامية مرتبطة بالنظرة للثروة ، فالموارد الطبيعية هى فى الأصل مملوكة للخالق ، وهى فى المجتمع مملوكة للناس ، وإستثمارها متاح لمن يستطيع دون إحتكار . وبهذا تفترق الديمقراطية الاسلامية المباشرة ( الشورى ) عن الديمقراطية الغربية الجُزئية حيث يتحكم فى الانتخابات أكابر الأثرياء فى الدولة ويوجهون السياسة الخارجية لمصلحتهم ، ويقع التناقض بين المبادىء المعلنة وبين التطبيق خصوصا فى العلاقات الخارجية ، فتجد أمريكا ـ مثلا ـ تغزو وتحتل فيتنام وأفغانستان والعراق وتساند إسرائيل ، وتضيع أموال دافعى الضرائب وحياة البشر فى سبيل مصلحة البليونيرات . والأصل أن مصلحتهم تأتى من إنتاج السلاح وتجارته ، وهذا يحتاج الى خلق حروب مستمرة ، لبيع ما انتهى عصره وتجريب الجديد . ولذا فلا بد للغرب من عملاء يحكمون الدول الأخرى لصالحه . وهذه قصة معروفة ومألوفة .
3 ـ من نظرة الاسلام للثروة تتأسس حدود تدخل الدولة الاسلامية فى الزكاة المالية ، ونعرض لها كالآتى :
أولا : موارد الدولة الاسلامية :
1 ـ الفىء :
الفىء الذى يفىء الى بيت مال الدولة من الخارج أى يأتى اليه بلا قتال . وتوزيعه قاصر على الجهاد فى سبيل الله ( الله ورسوله ) وذوى القربى للمقاتلين دفاعيا فى سبيل الله جل وعلا واليتامى والمساكين وابن السبيل . قال جل وعلا : ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) (7) الحشر ). رائع تعبير ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ).
2 ـ جمع الصدقات التطوعية العامة ، وتوزيعها : قال جل وعلا :
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) التوبة ).
ونلاحظ أن :
2 / 1 : التوزيع هنا على المواطنين المستحقين بحسب الوصف ( الفقر ، المسكنة .زالخ ) بغض النظر عن النوع والجنس والدين والمذهب . يأخذ الموظفون العاملون منها مرتباتهم حسب ما تحدده الدولة ، ثم الفقراء المحتاجون للعلاج والرعاية ، والمساكين أفقر الفقراء الذين يجدون مشكلة فى الحصول على الطعام ، ومن ترى الدولة إستمالتهم ، وفى الجهاد الحربى دفاعيا وفى الدعوة للقيم الاسلامية سلميا ، وفى تعويض الغارمين ( الذين ضمنوا مدينا ثم تعين عليهم السداد عنه ) وفى إستضافة الأغراب ، وفى عصرنا إقامة مساكن للمحتاجين . وفى كل حىّ أو قرية أو مدينة يكون جمع الصدقات وتوزيعها .
2 / 2 : التوزيع هنا على طوائف ، ولكن هناك صدقات يتطوع بها الأفراد على الأقارب والقريبين منهم ، قال جل وعلا : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 215). بهذا تتم تغطية المحتاجين فى الدولة أُفُقيا ورأسيا .
3 ـ جمع الضرائب :
طالما أن الدولة الاسلامية هى المالكة لموارد الأرض التابعة لها فلها حق الإشراف على إستغلالها وحق تحصيل ضرائب على أرباح هذا الاستغلال . والحصيلة تعود الى بيت المال ، وتنفق منه على العاملين فى أجهزتها الأمنية والديوانية .
ثانيا :
من ناحية الإلزام
1 ـ الدولة الاسلامية مُلزمة بمنع الفساد فى التعاملات المالية لأن هذا الفساد يتأسس عليه تكون طبقة تستأثر بالثروة والسلطة وتدمر الدولة والمجتمع من أساسه . أى عليها الاشراف والرقابة فقط فيما يخص حقوق الناس والمجتمع والأفراد ، مثل الحجر على اليتيم الذى تثبت سفاهته ومراقبة الوصى على أمواله والرقابة على الأسواق والأسعار والوفاء بالعهود .
قال جل وعلا :
1 / 1 : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) النساء ). المال من حقه إذا تبين أنه راشد ، إذا ثبت بالامتحان أنه سفيه لا يكون المال ماله ، بل له فيه ما يكفى متطلباته . الدولة هى التى ـ عن طريق موظفيها المختصين ـ تختبر اليتيم الذى بلغ الحُلُم ، وهى التى تراقب الوصى عليه ، وهى التى تعين من يشهد . طبعا كل أولئك الموظفين لهم مرتبات من إيراد الدولة . ونفس الحال مع الموظفين الذين يراقبون الأسواق ، ويشهدون على العقود أو يكتبونها ، ومنه كتابة الديون فى :.( البقرة 282 )
1 / 2 : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) الأنعام )
1 / 3 : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) الاسراء )
1 / 4 :( أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)الرحمن ).
1 / 5 : ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) المطففين ) .
2 ـ الدولة الاسلامية :
2 / 1 : دولة لا مركزية لأن الشورى فيها أو الديمقراطية المباشرة تفرض حكما محليا ذاتيا ، يقوم كل حى بإدارة أموره ، والإشراف ، ويترك الأمور العامة لسلطة إتحادية بعد التشاور مع القواعد الشعبية .
2 / 2 : ليس من مهمتها الانتاج أو التوزيع ، هذه مهمة الأفراد والشركات والمؤسسات ، ولكن تحت الرقابة والمحاسبة .
2 / 3 : بهذا يوجد فراغ هائل يملؤه الأفراد والجمعيات والمنظمات غير الحكومية ، وأيضا يكون تحت الرقابة والمحاسبة .
2 / 4 : قلة تدخل الدولة يعنى عدم كثرة القوانين والروتين والتعقيدات وما ينتج عن ذلك من تعطيل ورشاوى وفساد كما يحدث فى كوكب المحمديين .
ثالثا :
من ناحية التطوع إبتغاء مرضاة الله جل وعلا ، ويتضح هذا من :
1 ـ معانى المصطلحات القرآنية عن الزكاة والصدقة والانفاق
1 / 1 : أصل معني الزكاة : التطهر والسمو والتقوى ، والتزكية بمعني التقوى تبدأ بالنفس فمن أخذ نفسه بالتقوى فقد سما بها وطهرها : (الشمس 7 : 10)، وهذا الذي أفلح في تزكية نفسه فى الدنيا يكون مصيره فى الآخرة إلى الجنة (النازعات 40 ـ ) وهناك وسائل للتقوى أو التزكية أشار إليها القرآن منها الزكاة المالية أو إنفاق المال في سبيل الله جل وعلا لتزكية النفس ، قال جل وعلا : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) ( التوبة 103) ، (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) ( الليل 17 : 18 )
1 / 2 : معنى الصدقة: من ( الصدق ) فى التعامل مع الناس ومع رب الناس جل وعلا ، وبهذه الصفة العامة فإن ( الصدقة ) المالية جزء من صدق التعامل مع الله جل وعلا ، مثل التوبة ، قال جل وعلا : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة 102 ـ ).
1 / 3 : معنى الإنفاق:منه إنفاق المال ، وهو على نوعين :
1 / 3 / 1 : فى سبيل الله جل وعلا ، قال جل وعلا : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال 60).
1 / 3 / 2 : الإنفاق على المحتاجين فى الصدقة الفردية ولها مستحقوها ، يقول تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 215). نلاحظ فى الآيتين الحثّ على الانفاق فى سبيله جل وعلا . وهذا يستحق بعض التفصيل :
2 ـ التحذير الالهى من البخل والمثوبة على الإنفاق .
قال جل وعلا :
2 / 1 : ( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) البقرة )
2 / 2 : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ )( محمد 38 ).
2 / 3 : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) آل عمران )
2 / 4 : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (38) النساء ).
2 / 5 : ( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال 60).
2 / 6 : (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )( البقرة 261 ـ ) .
2 / 7 ـ (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)( البقرة 272 )
2 / 8 : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )(سبأ 39)
2 / 9 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) المنافقون ) .
أخيرا
لا ننسى أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من خلود فى الجنة أو فى النار هو الأصل .
التعليقات
حمد حمد
جزاك الله جل وعلا خيرا دكتور أحمد المحترم
دكتور أحمد لدي سؤال في بلدي تفرض الزكاة من أموال القصر سنويا وبنسبة٢،٥% وهي تأخذ حتى لو كان المبلغ زهيدا دون الرجوع للوصي بإعتبار أنها من ضمن قوانين الدوله ثم تجمع تلك المبالغ لتوزيعها للمحتاجين من أسرالقصر الفقيره وهي متنوعه فهل في ذلك إشكال شرعي في اتخاذ مثل هذه الإجراءات مع خالص التقدير لكم.
أحمد صبحى منصور
شكرا جزيلا استاذ حمد ، وجزاك الله جل وعلا خيرا، وأقول:
لا علاقة بين نظام الضرائب فى الدولة الاسلامية ونظام الضرائب فى الدول الاستبدادية فالدولتان نقيضتان . الاسلامية دولة يملكها المواطنون والأخرى يملكها المستبد . يسرى هذا على الضرائب ، فالمستبد لا يدفع ضرائب بل هو الذى يجبى لنفسه الضرائب ، ومنها إنه يفرض ضريبة على مال اليتيم ، وهذا ظلم أليم . وأعتقد أنه من المحمود التهرب من دفع ضرائب للمستبد ، وتوجيهها للفقراء والمحتاجين.
الفصل الثامن : حدود تدخل الدولة الاسلامية فى فريضة الحج
أولا :
الحج للبيت الحرام والحج لغيره
1 ـ طبقا للحرية الدينية المطلقة فى الدولة الاسلامية فالمواطنون أحرار فى الحج أو عدم الحج الى البيت الحرام ، وأن يحجوا الى القبور المقدسة ( زيارة ما يسمونه بقبر النبى ) وقبور الأئمة والأولياء أو ما يسمونهم بآل البيت ، والاحتفالات الدينية المسماة بالموالد ، والحج للكنائس والأديرة ..الخ .
2 ـ التدخل الوحيد هو فى حفظ الأمن والأخذ على من يعتدى ، وعقوبته بالعقوبة الشرعية ، هذا فى كل بيوت العبادة سواء كانت إسلامية أو لتقديس البشر.
3 ـ وإذا كان البيت الحرام فى الدولة الاسلامية فيحرم على الكفار المعتدين دخوله لإنه مثابة للناس وأمنا ، ومن دخله كان آمنا ، هذا هو المفروض .
ثانيا :
الحج الاسلامى للبيت الحرام والتقوى .
التقوى تلازم فريضة الحج للبيت الحرام ، وهى أكبر دليل على أن الحج تعامل خاص للمؤمن برب العزة جل وعلا ، لا دخل ولا تدخل للبشر فيه . وقد فصلنا صلة الحج بالتقوى فى كتابنا المنشور هنا عن الحج ، ونعطى بعض الملامح :
التقوى أساس فى الدعوة للحج :
نتدبّر قول الله سبحانه وتعالى:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ(97)آل عمران). قوله جل وعلا :(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) وفيها معنى الأمر اللازم لأي مؤمن يحرص فى قلبه على تقوى الله تعالى، لأنها تؤكد أن ( على ) البشر فريضة يؤدونها لله جل وعلا ، وأنها ( عليهم ) أى أنها ( دين ) عليهم ، وأنهم (مدينون ) لله جل وعلا بهذا ( الدّين ).
(مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) :المؤمن غير المستطيع ليس مطالبا بهذا الأمر ، وتقديرالاستطاعة متروك لقلب المؤمن وحده ، هو الذى يقدّر وهو الذى يقرّر مدى إستطاعته المالية وظروفه الاجتماعية والجسدية ، وإذا كان متقيا فهو يعلم أن الله جلّ وعلا يعلم سريرته وعلانيته ومدى إستطاعته. ولو خدع الناس جميعا فليس بأستطاعته أن يخفى عن رب العالمين سرّه. بعدها يقول جل وعلا فى صيغة إسمية أيضا ولكن صاعقة للقلب المؤمن :( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )،أى إنّ الذى يستطيع ولا يحج يكون كافرا،فيأتي التهديد صاعقا للمستطيع الرافض للحج بعد هذه الصيغة الاسمية بالغة الدلالة .
الحج مدرسة نتزود فيها بالتقوى
قال جل وعلا : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) (البقرة 197 ) ، الحج هو معسكر للتزوّد بالتقوى فى رحلة الحياة هذه. والمؤمن هو الذى يتزوّد فى هذه الرحلة بالتقوى فهى رصيده لليوم الآخر ليفوز بالجنّة . والحج مناسبة فى العمر بمثابة معسكر يتدرب فيه ويتزود فيه بالتقوى .
ومن يفكر مجرد تفكير بالعصيان فان الله تعالى يتولى الانتقام منه لأنه حوّل التقوى فى الحج الى عكس المراد منها .( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ( الحج 25 ). أى إنّ مجرد ( الإرادة القلبية ) بالإلحاد والظلم عقوبتها العذاب الأليم .
دور التقوى فى إتمام فريضة الحج
1 ــ للقرآن الكريم أيضا أسلوب فريد في الحثّ على إتمام فريضة الحج بمراعاة التقوى الى النهاية ، وتصحيح الخطأ الذى يقع فيه الحاج بدفع الفدية ، حتى يرجع من الحج فائزا بالثواب المراد. فقد( يؤدى ) الإنسان مناسك الحج بطريقة سطحية خالية من التقوى ، وقد يقع فى المحرمات المنهى عنها ، ويعود من فريضة الحج وقد إزداد من الله بُعداّ ، بعد ما تكلّفه من مشاق وأموال.!.
2 ــ إنّ الحج فريضة لها موسم سنوى يتكرر كل عام ، هو يشبه معسكرا للتقوى مثل المعسكرات التى تقام لتدريب الرياضيين ونقوية وتحصين أجسادهم . الحج هنا دورة تدريبية للنفس لتتعلم التطهر والسمو والتقوى ، وذلك بأن يعيش الحاج جواً مختلفاً في الزمان والمكان والمشاعر والحلال والحرام . ما يكون حلالاً في الأوقات العادية وفي الأماكن الأخرى ـ مثل الصيد والحلق والرفث مع الزوجة ـ يكون حراماً وقت الاحرام ، وما يكون فيه ذنبا هيّنا مثل نيّة الالحاد والظلم يكون إثما عظيما مستوجبا للعقاب فى الحج . لذا يستلزم الحج استعداداً نفسياً لتقبل مشاق التجربة من بدايتها إلى نهايتها ، ومن فشل فيها لم يتم الحج في ميزان رب العزة .
3 ـ الحج ففيه أوامر ونواهى ، وبينهما حلال مباح، والتقوى تغلّف كل هذا وتصاحب المؤمن فى تأديته المناسك . ونعطى التفاصيل هنا.
أولا : التقوى فى الأوامر والنواهى
1 ــ فى سورة البقرة يقول جلّ وعلا:( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197). أى فالذى فرض على نفسه تأدية فريضة الحج عليه أن يجتنب الرفث ، وهو مجرد الكلام الجنسى مع الزوجة ، وما يوصّل اليه ، والفسوق أى عموم المعاصى ، والجدال . الرفث مع الزوجة مباح فى غير وقت الحج ، والجدال مباح بشروطه خارج وقت الحج ، ولكنهما حرام فى الحج . والفسوق حرام فى كل وقت ، وفى وقت الحج يحرم مجرد النية وإرادة الظلم والإلحاد والفسوق : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ).
وبسبب هذا التشريع الخاص المشدّد يأتى التذكير بالتقوى صراحة فى إعتبار الحج وسيلة للتقوى ، وأنّ التقوى هى خير زاد يتزوّد به المؤمن فى رحلته فى هذه الدنيا قبل أن يموت : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ).
وتأتى الاشارة ضمنيا بالتقوى فى قوله جلّ وعلا :( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) فهنا هى المرة الوحيدة فى القرآن التى يأتى فيها لفظ ( الفرض) منسوبا للبشر وليس للخالق جل وعلا فيما يخص العبادات والتعامل مع رب العزّة ، أى من أوجب على نفسه فريضة الحج إبتغاء مرضاة الله جل وعلا فعليه أن يتقى ربه فلا يرفث ولا يجادل ولا يعصى ولا يفسق . وهنا تعامل قلبى بين المؤمن الذى فرض على نفسه فريضة الحج وربّ العزّة . وهذا التعبير بالفرضية الذاتية أو الإلتزام الذاتى من أبلغ الدلالات الضمنية فى موضوع التقوى . وتتأكّد هذه الإشارة الضمنية بالتقوى فى أن هذا المؤمن التقى الذى فرض على نفسه فريضة الحج لا بد أن يبدأ بالتأكيد على نفسه بأن الله جل وعلا يعلم سريرته ومطلع على أعماله وتصرفاته ، وبالتالى عليه أن يتقى الله ، وهذا هو معنى قوله جل وعلا فى نفس الآية : (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ).
3 ــ ويقول جلّ وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ . أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )( المائدة 94 : 98 ).
النواهى هنا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) والفرض الواجب هو بالفدية الواجبة على من يقتل الصيد فى حالة الإحرام (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً ) . والمباح الحلال هو صيد البحر (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) ومفهوم من قوله جل وعلا (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) أنه مباح وحلال صيد البر فى غير الاحرام .
والتقوى تغلّف هذا التشريع ، تأتى صراحة فى قوله جل وعلا:(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )، وتأتى ضمنا فى صور مختلفة : الاختبار لمدى خشية المؤمن فى الحج بأن يجعل الله حيوانات الصيد تقترب من الحجاج ليتبيّن المتقى من غيره :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ). أن يكون الحاج المؤمن رقيبا على نفسه وحكما على نفسه فى تطبيق التشريع ، فى قوله جلّ وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ )، فموضوع التعمّد يرجع تقديره للشخص نفسه ، فالمؤمن الذى تعمّد قتل الصيد وهو فى حالة الإحرام هو الذى يبادر بنفسه بدفع الفدية خشية من ربه جل وعلا . ليس هنا ضبطية قضائية بشرية ، ولا تستطيع إمكانات السلطة البشرية تحديد هل هو متعمّد أم لا . هذا يرجع للمؤمن ومدى ما فى قلبه من تقوى ، أو بتعبير عصرنا يرجع الى ضمير المؤمن ، ونحن هنا فى تجربة وإختبار للتقوى فى ضمير المؤمن فى فريضة الحج. وتأنى التقوى ضمنا فى أسلوب الترهيب فى قوله جل وعلا : ( فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) .(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).
التقوى وعمومية فريضة الحج على كل البشر
كما إن الأمر بالتقوى يأتى عاما لكل البشر فإن عبادة الحج تأتى أيضا عامة لكل البشر .
يقول جل وعلا :
1 ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) آل عمران). الفاظ : (العالمين) تفيد الشمول العمومية،والقرينة في:(أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) و(وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )،(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) تفيد شمول الأمر كأنه جلّ وعلا قال:(يا أيها الناس). ب ـ يقول تعالى:(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة). فالبيت مثابة للناس ـ كل الناس ـ وأمناً لهم.وما احوج البشر في هذه الغابة إلى مكان يكون لهم جميعاً مثابة وامناً. وأمر الله جلّ وعلا إبراهيم واسماعيل عليهما السلام أن يطهرا بيته لجميع الطائفين والعاكفين والركع السجود لكل الناس
2 ـ ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) (97)المائدة )، فالبيت الحرام جعله الله جلّ وعلا قياماً للناس جميعاً ، وكذلك الشهر الحرام للناس جميعاً ، والزمن عام للناس جميعاً والشهر الحرام يمر على الناس جميعاً وليس على طائفة دون أخرى ، فالحرم الزماني عام ومثله الحرم المكاني .
3 ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) (25) الحج ). فالله تعالى جعل المسجد الحرام لجميع الناس سواءاً، لا فرق بين من يقيم فى مكة أو من يقطع البوادي سفراً إليه .. والذى يصدّ الناس عن القدوم لبيت الله الحرام فقد وقع في جريمة الصّد عن سبيل الله ومسجد الله الحرام .
أخيرا
المحمديون جعلوا فريضة الحج شركا وكفرا وعصيانا . وهذا شرحه يطول .
التعليقات
حمد حمد
أكرمك الله جل وعلا وبارك بعلمك وعمرك دكتور أحمد المحترم.
جزاك الله جل وعلا خير الجزاء دكتور أحمد ، سؤال إن أمكن هل يمنع تقديم القرابين عند الكعبة مثل وضع أصنام ومجسمات تحمل مع الحجيج وهي أحد الطقوس التعبدية لبعض الديانات والفرق.
أحمد صبحى منصور
شكرا جزيلا استاذ حمد ، وجزاك الله جل وعلا خيرا، وأقول:
المرة الوحيدة التى كان البيت الحرام فى حوزة الدولة الاسلامية هى فى عهد النبى محمد قبيل موته حين دخلت مكة فى دولته الاسلامية . فيها تم منع الكافرين المعتدين من الاقتراب من المسجد الحرام ، وتم تنفيذ الأمر بتطهير البيت الحرام من أرجاس الوثنية طبقا لملة ابراهيم . بموت النبى محمد عليه السلام بدأ ابو بكر بالخروج عن الاسلام بحربه الممتنعين عن دفع الاتاوة له كما شرحنا فى كتابنا عن حرب الردة ، ثم تطور الأمر الى شن الحروب العدوانية فى الأشهر الحرم فيما يعرف بالفتوحات وهى أفظع عدوان إذا فعلوا هذا باسم الاسلام ، وتطور الأمر الى حروب أهلية ، ووصل الأمر الى إنتهاك حرمة البيت الحرام وحرق الكعبة فى الصراع بين ابن الزبير والأمويين . ثم بدأ فى العصر العباسى إعتداء الأعراب على قوافل الحج مما إستلزم حصره فى بداية موسم الحج فقط ( الأسبوع الأول من ذى الحجة ) لحماية الحجاج . ثم احتل القرامطة البيت الحرام وسلبوا الحجر الأسود . كل هذا تحت راية الاسلام ومع وجود القرآن . إسمح لى بسؤال : هل هناك أكفر من أولئك الناس ؟ وهل هناك أكفر ممّن يقدس أولئك الأوغاد ؟
الباب السادس : كيف نقيم دولة اسلامية علمانية
الفصل الأول : فى إقامة القسط أساسا للاسلام والدولة الاسلامية
الفصل الثانى : الثقافة الاسلامية للتغيير الاصلاحى : حتى يغيّروا ما بأنفسهم
الفصل الثالث : الثقافة الاسلامية للتغيير الاصلاحى : قهر الخوف بالتقوى
الفصل الرابع : إقتلاع الخوف فى تجربة شخصية ( 1 ) ( 2 )
الفصل الأول : فى إقامة القسط أساسا للاسلام والدولة الاسلامية
أولا :
1 ـ كان التغيير فى كوكب المحمديين يأتى من بريطانيا التى كانت لا تغيب عن أملاكها الشمس . هى التى قضت على الامبراطورية العثمانية وكانت الوريث الأكبر لها ، وهى التى أعادت تشكيل كوكب المحمديين . بعد الحرب العالمية الثانية تراجعت بريطانيا وحلّت محلها أمريكا. وتسلمت مفتاح السيطرة على كوكب المحمديين . مثلا : أمريكا ( جهزت) صدام حسين لحكم العراق ، وأوصلته الى حكم العراق ثم هى التى ( أجهزت ) عليه . ونفس الحال مع القذافى وصولا للحكم ثم قتلا .
2 ـ الاستعمار الحديث لم يعد يحتل الشعوب الأخرى بجنوده ينتشرون فيها يواجهون الشعوب المحتلة ، بل أصبح له مفهوم مختلف ، يكتفى بالقواعد العسكرية ، وتعيين مستبد من نفس الشعب ، ينهب الشعب ويقهره ، ويقوم بتهريب ثروة الشعب الى خزائن الغرب ، وبعد مقتل المستبد تضيع ثروة الشعب المنهوبة ، وبهذا تستولى أمريكا وحلفاؤها على ثروات المحمديين بسهولة . غير هذا تنهب بترولهم لتبيع لهم أسلحة يتقاتلون بها ، ومنها أسلحة انتهى عصرها ، وأسلحة فى طور التجريب والتدريب ، وكلها تحتاج الى حروب تشتعل فوق أجساد المحمديين وبأموالهم . هل هناك خيبة أقسى من هذه ؟
3 ـ أمريكا مطمئنة ، لأن الشعوب مجرد أصفار على الشمال لا وزن لها . تتجرّع الذّل والهوان راضية مستكينة ، والذى يعيش محنى الظهر لا بد أن يركبه راكب ، وهذا الراكب من نفس الشعب ، ولكن يستعين بقوة خارجية ، وبعد ركوبه وإستوائه على ظهر المركوب يستمر فى الاستقواء بمن أركبه ، يستورد منه السلاح وألات التعذيب والتنصت .
4 ـ وقد يصل الشعب الى خطر الجوع فتشتعل ثورة شعبية عاطفية ، وقد ينتج عنها إنفلات أمنى . هنا تسارع القوة الخارجية للتدخل عن طريق الجيش الذى تسيطر علي قادته ، فيقوم الجيش ( الوطنى الذى حتل ويحكم الوطن ) بتغيير رأس السلطة ، وربما يسمح لمعارضة المستبد لأن تحكم ، مدركا أنها لن تنجح لأسباب كثيرة ، منها الجهل والغباء وعدم الخبرة وأن الدولة العميقة ضدها ، فتفشل وتأخذ طريقها الى السجن ، ويعود الجيش للحكم أكثر إنصياعا لأمريكا ، وهذه خُلاصة التجربة المصرية فى الثورة على مبارك ، ووصول الاخوان المسلمين للحكم ، ثم إسقاطهم ليتولى مكانهم السيسى .
5 ـ بعد الحرب العالمية الثانية وبعد إستقلال مزعوم فى بلاد المحمديين إشتعلت المنطقة بانقلابات عسكرية تقوم بها جماعات حزبية أو تنظيمات سرية أو تشكيلات عسكرية. هذه الانقلابات هى الأسوأ ، فهى تحكم بالحديد والنار لأنها تتوقع تآمرا وتتحسّب له ، وتتسع سجونها لكل مشتبه فى ولائه ، ولا بد للمواطن المقهور أن يتفانى فى إعلان ولائه للمستبد ليأمن السجن والتعذيب والقتل . وحتى إذا هرب بحياته فأجهزة المستبد خلفه ، وتتخذ أهله رهائن . والأمثلة كثيرة ومن المعلوم فى تاريخهم وفى دينهم بالضرورة .
5 ـ الذى نتمناه فى أحلام اليقظة أن يقوم الشعب كله عن بكرة أبيه ـ من رجال ونساء ـ بوقفة تطلب القسط للجميع بلا إستثناء ، وتكون لهذا الشعب الواعى رؤية لدولة ديمقراطية حقوقية حُرّة تؤكد حرية الدين والرأى والتعبير ، وتعبر عن كل المواطنين ، تحميهم وتخدمهم . بإيجاز ( دولة إسلامية ) تطبق الاسلام السلوكى ، بما أسلفنا شرحه . هذا يستلزم تغييرا فى عقلية الناس ، يصل الى الجميع ويؤثّر فيهم بما يجعلهم يقومون وينهضون الى تحقيقه مهما إستلزم من تضحيات . هذا هو معنى أن يقوم الناس بالقسط .
ثانيا :
1 ـ إن الله جل وعلا أرسل كل الأنبياء وأنزل كل الرسالات الالهية ليقوم الناس بالقسط ، أى إن العدل أو القسط هو فرض الاهى يجب على الناس الجهاد لإقامته بينهم بالسلم أو بالقتال . إن لم تنجح الرسالة الالهية فى جعل الناس يقيمون القسط ، وإن تحكّم الظلم وأضاع القسط فإن الله جل وعلا انزل شيئا آخر من السماء هو الحديد ذو البأس الشديد ، وهو رمز السلاح والقتال . أى أنزل الله تعالى من السماء شيئين: الرسالات الالهية والحديد. الحديد لا ينتمى لكوكب الارض وانما هبط اليها وتركز فيها ليكون العنصر الأساس فى السلاح والقوة. الرسالات الالهية نزلت أيضا من السماء لاصلاح أهل الارض باقامة العدل أو القسط بينهم . وبالقتال بالحديد يكون الجهاد ونصرة العدل والقسط ،أى نصرة الرسالات الالهية ، أى نصرة الله جل وعلا ، وهو جل وعلا الأعلم بأولئك المجاهدين الأبطال الذين ينصرونه بالغيب . هذا هو معنى قوله جل وعلا ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحديد 25 ). هذا هو التنظير الاسلامى لاقامة القسط ، فالرسالات الالهية للبشر جميعا هدفها أن يقوم الناس بالقسط والعدل .فان لم يتحقق العدل والقسط بالطرق السلمية فلا مفر من اللجوء للحديد أى القوة لنصرة الرسالات الالهية وإقامة العدل والقسط.
2 ـ لا يتعارض هذا مع القتال الدفاعى فى الاسلام . إن الله جل وعلا القوى العزيز شرع القتال ليس للاعتداء ولكن لدفع الظلم . ورد الاعتداء يكون بعد استنفاد كل الوسائل السلمية والممكنة لحقن الدماء ، فإذا ظل المعتدى الظالم سادرا فى القتل والتعذيب والسلب والنهب متحديا رب العزة فقد تحتمت مواجهته بالحديد والنار بقدر المستطاع . وعندما يموت المناضلون قتلا يكون ذلك فى سبيل الله جل وعلا.
3 ـ إن ( إقامة القسط ) تمر بمرحلتين :
3 / 1 : المرحلة الأولى : الدعوة السلمية للظالم المستبد لكى يعتدل أو يعتزل ، ولا يستطيع الظالم العريق فى الظلم أن يتراجع عن ظلمه لأنه فى العادة يكون قد تعود على طاعة الناس وخضوعهم له وإستمرأ سفك دمائهم ، وأدمن ترويعهم وتعذيبهم . ثم هو مغرور بقوته ولا يتصور نفسه يعود شخصا عاديا مثل الناس الذين يحتقرهم ويستعبدهم . ولا يستطيع المستبد المفسد أن يقيم إصلاحا فالله جل وعلا لا يصلح عمل المفسدين . والمستبد الفاسد حتى النُّخاع حتى لو أعلن عزمه على الاصلاح فلن يكون سوى التخلص من بعض المغضوب عليهم من حاشيته ، ويبقى هو رأس الفساد ، والذى يجتمع حوله أعوانه المفسدون . الاصلاح الحقيقى يعنى محاصرة وقطع دابر المفسدين ومحاسبتهم ومعاقبتهم ، فكيف يعاقب المفسد نفسه . لذلك فإن الدعوة السلمية لاقامة القسط لا بد أن يقابلها المستبد الظالم بالعنف والقتل والسجن والتعذيب . وهذا يعنى تعرض المسالمين العزّل الى حرب وقتل وقتال ليسوا مؤهلين لمواجهته ، ولو واجهوه فالنتيجة فى كل حال هو القتل .
3 / 2 :
المرحلة التالية : هى الدفاع الشرعى عن النفس لارغام المستبد على الرحيل ، والنتيجة أيضا على كل حال هى القتل من الجانبين ، والقتلى من جانب دعاة الحق والقسط هم فى سبيل الله جل وعلا .
4 ـ نحن هنا نحكم على الظاهر طبقا للاسلام السلوكى ، وهو من يقف داعيا للقسط وإقامة القسط ومواجهة الظلم والاستبداد ، ثم يلقى حتفه بسبب دعوته السلمية أو بسبب وقوفه سلميا فى مظاهرات تدعو للقسط ومواجهة الظلم ، أو أن يقاتل فى سبيل إقامة القسط . أما عقيدته فمرجعها الى الله جل وعلا . ومن الطبيعى ان يظن كل انسان ان عقيدته هى الحق المطلق . ولكن المهم لدينا هنا اننا نتحدث عن داعية او ناشط او مقاتل لا يفرض رأيه على أحد ، بل هو يؤمن بالحرية المطلقة فى الدين للجميع ، أى لا إكراه فى الدين ولا اضطهاد فى الدين. وهو يعتبر الحرية الدينية ضمن العدل والقسط ، لأننا خصوم فى العقائد،ومن الظلم أن يكون الخصم حكما على خصمه ، بل إن العدل أن يؤجل الحكم فى الاختلافات العقيدية بين البشر الى صاحب الشأن ، وهو الله جل وعلا الذى خصّص للدين يوما هو يوم الدين أو يوم الحساب ليحكم فيه وحده بين البشر فيما كانوا فيه يخنلفون فى الدنيا . قال جل وعلا : (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر 46 ). هذا الداعية او الناشط او المقاتل يؤمن بأن العدل ودفع الظلم هو أساس الدين الحق ، وبالتالى لا يبيح لنفسه أن يظلم أحدا أو أن يعتدى ظالما على أحد ، ولا أن يسعى لكى يصل الى السلطة أو أن يعلو فى الأرض ظلما وفسادا واستبدادا . هو يريد العدل لنفسه وللجميع والحرية السياسية والدينية لنفسه وللجميع . يعلن هذا ويتمسك به . ولومات قتيلا بسبب هذا فقد مات قتلا فى سبيل الله حسب الظاهر لدينا.
5 ـ هذا لا يسرى على من يقاتل أو من يسعى للوصول الى السلطة لكى يحلّ محل المستبد الظالم ، أو من يخدع الناس بالشعارات الدينية يستغل إسم الله جل وعلا ودينه يتلاعب بالشعارات البراقة من العدل وتطبيق الشريعة وعينه على العرش والكرسى . أولئك لا يقلون ظلما وحقارة عن المستبد القائم فى السلطة . أولئك إن دخلوا فى الحركة المطالبة بالعدل أفسدوها وجرّوها الى خلافات سياسية وجدالات مذهبية تفسد الحركة وتفشلها، ولو نجحت الحركة المطالبة بالعدل فسرعان ما يركبون موجتها ويصلون بها الى الحكم ، فتستمر بهم مسيرة الاستبداد والفساد أشدّ وأقسى . وبسبب هذا الصنف من البشر يتم إفساد البشر ، وتنتهى الحركات المطالبة بالعدل الى نظم استبدادية ويسكن الثوار الجدد مساكن الذين ظلموا ويحتلون قصور السلاطين ويتشبهون بهم فى الظلم والقهر بحيث يتحسر الناس المظلومون على العهود السابقة ، ويحتاج المظاليم الى ثورة جديدة ..وتتكرر المأساة . والأمثلة كثيرة ، بل هى تشكّل معظم التاريخ (الثورى ) فى العالم شرقا وغربا .
أخيرا
1ـ هى دعوة للفرد المصرى والعربى أن يهب مخلصا لله جل وعلا مطالبا بالعدل والحرية موقنا أنه لو مات قتلا فهو فى سبيل الله جل وعلا. هى أيضا دعوة للاصلاح السلمى قبل ان يغرق العرب والمسلمون فى حمامات دم .
2 ـ نعيش الآن عصر القرية الكونية وثورة الاتصالات والمعلومات حيث يعلم الناس الأخبار العالمية وقت حدوثها ، بهذا ينبغى أن يبدأ عهد الحرية والديمقراطية والعدل وحقوق الانسان ، ويبدأ الفرد العربى يغيّر من نفسه ويطالب بحقه وينزع الخوف من قلبه .
3 ـ ولكن هذا يستلزم تغييرا ثقافيا متعمقا ينبع من الاسلام نفسه .
التعليقات
حمد حمد
جزاك الله جل وعلا خيرا بالدنيا والآخرة دكتورنا المحترم.
كلام كبير ورائع ومن تدبر القرآن العظيم . لدي سؤال دكتور هل الإستعانة بدولة خارجية في دفع الظلم ومساندة ثورة تدعوا إلى الإصلاح وإقامة العدل خاصة عندما تكون هناك ثوره شعبية على مستوى البلد وتستقطب جميع الفئات من المجتمع طالبة العون والنصره،لأن البعض يرى هذه خيانة مع خالص التقدير لكم.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول:
نحن نتكلم عن شعب متنور يريد حريته وتحرره من قبضة مستبد ، وهذا الشعب مستعد لتحمل المسئولية والتضحية ، له حق أن يطلب العون من أى جهة خارجية ، وهو متيقّظ لأن هذه المساعدة لن تكون على حساب إستقلاله وحريته . فى هذه الحالة يمكن أن تكون هى الأمم المتحدة ـ حتى فى وضعها الحالى المحتاج الى إصلاح.
الفصل الثانى : الثقافة الاسلامية للتغيير الاصلاحى : حتى يغيّروا ما بأنفسهم
أولا : نوعا الصبر
1 ـ هناك نوعان من الصبر :
1 / 1 : الصبر السلبى المرتبط بالخضوع والخنوع على أنه قدر محتوم لا فكاك منه ، وهذا الصبر راسخ فى الثقافة المصرية ، وتعبّر عنه الأمثال الشعبية والأغانى ، وهم مغرمون بصبر أيوب ، وجعلوه فولكلورا . هذا الصبر السلبى يشجّع الظالم المستبد على مضاعفة الظلم والتطرّف فى الطغيان ، ويجعل المظلوم ظالما لنفسه ، ويجعل صاحبه المظلوم يخسر الدنيا ويخسر الآخر . منهم المستضعفون رافضو الهجرة مع قدرتهم عليها ، هم يموتون كافرين ، لأنهم ظلموا أنفسهم . قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) النساء )
1 / 2 ـ الصبر الايجابى المرتبط بالنضال بإقتناع حُرّ ، يدرك إن حياتنا تنتهى بموت حتمى ، وأن الكرة الأرضية واسعة لأنها كروية ، أما العُمر فهو قصير ، إنها مثل نملة تسير فوق بطيخة ، مهما سارت النملة فلن تصل الى نهايتها ، ولكن عمرها محدود ومحدد . قال جل وعلا : ( يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) العنكبوت ). أصحاب الصبر الايجابى لا يضيعون حياتهم القصيرة فى مكان يقهرهم فيه طاغية مستبد ، إمّا أن يقاوموه ويموتون بشرف ـ وهم ميتون على أى حال ـ وإما إن يهاجروا ويهجروا وطنا ليس لهم بل يملكه المستبد .
وفى الحالتين يكون الصبر الايجابى :
1 / 2 / 1 : فى الهجرة ، . قال جل وعلا :
1 / 2 / 1 / 1 :( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل) .
1 / 2 / 1 / 2 : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) النحل ) .
1 / 2 / 2 : فى النضال والقتال . قال جل وعلا :
1 / 2 / 2 / 1 :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران ).
1 / 2 / 2 / 2 : وضمن صفات المتقين الصادقين : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة ).
1 / 2 / 3 : ولأصحاب الصبر الايجابى أجر هائل ومنزلة عظيمة فى القرآن الكريم ، يكفى أن الله جل وعلا يحب الصابرين ( آل عمران (146)،وأنه جل وعلا مع الصابرين :( البقرة 249 ) ( الأنفال 46 ، 66)، وقوله جل وعلا عن جزاء الصابرين وأرضه الواسعة : ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) الزمر ).
1 / 3 ـ التحرُّر من الصبر السلبى وتغييره الى صبر إيجابى مرتبط بمشيئة بشرية مثل الهداية
ثانيا :
مشيئة الإنسان هي الأصل في الهداية أو العدل مع الله جل وعلا
1 ـ الدرجة العليا من العدل : العدل مع الخالق جل وعلا : بمعنى الا نظلم الله سبحانه وتعالى في اتخاذ شريك له لأن الشرك ظلم عظيم . قال جل وعلا : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان ) فهو وحده الخالق المسيطر الذي لا يشرك في حكمه احدا. قال جل وعلا :
1 / 1 : ( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) الكهف )
1 / 2 :( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) الفرقان ) .
2 ـ وهذا العدل يستلزم هداية تبدأ باختيار الإنسان ، وبهذا الاختيار الانساني للهداية يرشده الله سبحانه تعالي الي الهداية ،أي تأتي مشيئة الله للهداية تالية ومؤكدة لمشيئة الانسان واختياره طريق الهداية ،وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى :
2 / 1 : ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ):مريم 76)
2 / 2 : (والذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقواهم :محمد 17).
3 ـ والذي يختار الضلال تأتي مشيئة الله جل وعلا تؤكد علي الذي اختاره من ضلال . قال جل وعلا :
3 / 1 : (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا : مريم 75)
3 / 2 : (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا :البقرة 10).
4 ـ وفي الحالتين فان من يشاء الهداية يشاء الله هدايته ، ومن يشاء الضلالة يشاء الله ضلالته ،يقول الله جل وعلا :
4 / 1 : (فان الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء ) فاطر 8)
4 / 1 : (قل ان الله يضل من يشاء ويهدي اليه من اناب :الرعد 27 ).
5 ـ الحساب على الهداية والضلال فى الدين مؤجل ليوم الدين . أما إقامة القسط فى هذه الدنيا فيحوطها الخوف ، وتستلزم تغييرا حقيقيا فى النفس لقهر هذا الخوف .
ثالثا :
مشيئة الإنسان هي الأصل أيضا فى ارادة التغيير أو إقامة العدل بين الناس:
1 ـ كيف يقوم الناس بالقسط دون ارادة ؟ بل لابد للإرادة ان تكون جماعية ،وبقدر تكاتف الجماهير خلف الارادة الجماعية لتحقيق العدل يمكن النجاح في تحقيق العدل بأقل قدر ممكن من الخسائر.
2 ـ ولكن السؤال الهام هنا كيف ينجح الناس علي حمل انفسهم علي المبادرة بالنهوض لتحقيق العدل ضد الظلم السائد ؟ كيف يترك الناس القيم الاجتماعية الهابطة مثل الخنوع والسلبية والتواكل ليستبدلوها بقيم إسلامية سامية هي الايجابية والحرية والشجاعة والحرية والتضحية والفداء وحب الحق والدفاع عن العدل؟
3 ـ ان الاجابة هنا تكمن في تغيير النفسية ،وهذا التغيير يستلزم مشيئة حازمة قادرة فاعلة ، فان شاء الناس تغيير ما بأنفسهم من خنوع وخمول وتواكل وسلبية وقرنوا المشيئة بالعمل نجحوا . وهنا تأتي مشيئة الله تالية لمشيئة الناس وهذا معني قوله سبحانه وتعالى : (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم :الرعد 11)أي هي نفس القاعدة ان اقامة العدل مع الله جل وعلا تستلزم اختيار الانسان للهداية ثم تأتي ارادة الله لتؤكد هذا الاختيار الانساني ، واقامة العدل بين الناس جميعا تستلزم تغييرا في الذهنية يقوم علي اختيار انساني حازم ، وتأتي مشيئة الله مؤكدة وتالية لهذا الاختيار البشرى ..
وعليه فأن حركة الانسان نحو تحقيق العدل هي اختيار بشري يؤكده اختيار الله تعالي ومشيئته.
رابعا :
شرعية الحاكم أو شرعية الثورة عليه مرتبطة بإرادة الناس:
1 ـ طالما ارتضى الناس الخضوع لحاكم ظالم فهذا هو اختيارهم وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا الاختيار الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالي .
2 ـ ان الله سبحانه وتعالي لا يرضي ان يكفر به عباده . قال جل وعلا : (ان تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم ):الزمر 7) ، ولكن يشاء للكافرين ضلالهم طالما ارتضوا لانفسهم الضلال . قال جل وعلا : (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء:المدثر 31).
والله سبحانه وتعالي لا يريد الظلم في الارض . قال جل وعلا : (وما الله يريد ظلما للعالمين ):آل عمران 108)(وما الله يريد ظلما للعباد ):غافر31). ولكن طالما ارتضي الناس تحمل الظلم واعترفوا بشرعية الحاكم الظالم ملكا عليهم فان الله تعالي يعترف به حاكما عليهم .
ومن هنا ارسل الله سبحانه وتعالي موسي وهارون رسولين الي فرعون ، وأوصاهما بأن يقولا له : ( قولا لينا لعله يتذكر او يخشي ) (طه 44) ، ووصف الله سبحانه وتعالي بعض الحكام بأنهم ملوك ، ومنهم ذلك الملك الذي ادعي الالوهية ودخل ابراهيم عليه السلام في جدال معه . قال جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) البقرة ). .هنا مدع للالوهية يصفه الله سبحانه وتعالي بالكفر والظلم .ولكنه يصفه ايضا أنه اتاه الملك. وقد اعطاه الله الملك لأن الشعب رضي به واختاره ،فجاءت مشيئة الله تالية لاختيار الناس.
3 ـ ان هذه الحياة الدنيا قائمة علي اساس الاختيار بين الايمان او الكفر وبين الرضي بالقهر او الثورة عليه . وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي ما يختاره الانسان والناس ،وهنا يكمن الاختبار في ذلك الاختيار .ثم يأتي يوم الحساب ليلقي كل إنسان نتيجة عمله حسب الشريعة الدينية الالهية ،وحيث يتحقق فعلا ما ينبغي ان يكون .
أخيرا :
الأديان الأرضية تعقد المشكلة وهذا يؤكد على اهمية الوعى والعلم
1 ـ الرسالات الألهية هدفها جميعا أن يقوم الناس بالقسط والعدل .فان لم يتحقق العدل والقسط بالطرق السلمية فلا مفر من اللجوء للحديد أى القوة لنصرة الرسالات السماوية وإقامة العدل والقسط.
2 ـ المشكلة هى الاستخدام السىء للرسالات الإلهية والحديد.
2 / 1 : الحديد فى حد ذاته معدن محايد ، لا تقول انه حرام أوحلال ، انما يحرم استعماله فى الظلم ويجوز استعماله فى المباح وقد يجب استعماله فى الفرض. السكين والبندقية قد تستعملها فى الصيد المباح ويكون استعمالها واجبا وضروريا عندما تدافع بها عن نفسك حين يهاجمك مجرم سفاك، ويكون حراما استعمالها فى الاعتداء على المسالمين .
2 / 2 : الرسالات الإلهية تتحول بالافتراء الى أديان أرضية شيطانية يستعبد أربابها البشر . وترى التحالف الشيطانى بين الاستبداد والكهنوت ، أو أن يحكم الكهنوت الدينى بنفسه . ويقنعون الناس بأنه صحيح الدين ، ووجوب طاعتهم . وبهذا يركبون ظهور الشعوب باسم الدين الالهى وهم أعدى اعدائه. وهنا لا بد من مواجهتهم أساسا بالوعى الدينى الصحيح ، أى من خلال الاسلام نفسه. ثم بعدها تتطور الأمور كالعادة الى الدفاع عن النفس ضد أعتداء المستبد الظالم.
3 ـ بالتالى فلا بد من :
3 / 1 : مواجهة الأديان الأرضية للمسلمين بالتوعية بالاسلام نفسه ، وبدولته الاسلامية الحقوقية القائمة على القسط ، وأن الجهاد فى سبيله جل وعلا يكون سلميا ودعويا لتعبئة الناس لكى يقوموا باختيارهم البشرى بالوقوف مع حقوقهم المسلوبة ، عارفين بأن الموت فى سبيلها هو أفضل من الموت البطىء قهرا وذُلّا .
3 / 2 ـ تحديد هدف الجهاد الاسلامى وإنه السعى لاقامة دولة اسلامية حقيقية ، أى بالمفهوم المعاصر دولة مدنية علمانية ديمقراطية تحقق العدل والحرية ، ليس مهمتها ادخال الناس الجنة ، ولكن حماية كل حقوقهم فى هذه الدنيا على أساس المساواة والعدل المطلق بين كل المواطنين. وليس من شعارات الدعاة لهذه الدولة رفع لافتات دينية منعا للخلط بين الدين والسياسة ولكن رفع قيمة العدل والحرية التى لا جدال حولها . وإذا تحقق العدل وتحققت الحرية وتمت سيادة القانون الشرعى العادل على الجميع فان المسلم يرى فى هذه الدولة العادلة دولته الاسلامية ويراها المسيحى دولته المسيحية المثالية ويراها العلمانى الملحد دولته التى يحلم بها. لا بأس من اختلاف التفسيرات ، المهم أقامة القسط بين الناس.
التعليقات
حمد حمد
الهجرة القسرية.
جزاك الله جل وعلا خير الجزاء بالدنيا والآخره دكتور أحمد المحترم شرح وافي وبيان وتدبر (حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، كما نشاهد شبه يومي دكتور أحمد إن أغلب الثورات نتج عنها الكثير من الويلات من قتل وتهجير قسري، رأينا كيف تغرق الأسر بأكملها في البحر طلبا للحرية وكيف يتم إغراق بعضهم عمدا حتى لو كان طفلا ساعات أقول ماذنب هذه الأطفال والأسر أليس هذه الطريقه بالهجرة القسرية فيها إثم لا أعرف ولكن أحتار في إيجاد الإجابة أصبحت الهجرة صعبة جدا في عالم مليء بالشر ونظام عالمي مقيت كأنه يتعمد هذه الجرائم بحق البشرية المستضعفة ، أضف إلى ذلك ضعف المعارضة في ترتيب صفوفها حتى الطبقة المثقفه من الأكاديميين ليس لها دور سوي مصالحهم الشخصيه الشعوب أصبحت لا تثق بأحد شيء غريب ومؤلم.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول :
1ـ أتفق معك ، كوكب المحمديين يعيش أسوأ أيامه ، أصبحت الهجرة للنجاة بالحياة أملا صعب المنال ، فالغرب يغلق أبوابه ، وفى أحيان كثيرة يكون له بعض الحق ، فمن المهاجرين المحمديين من هاجر اليه وهو يحمل أوزار ثقافته كارها للمجتمع الذى إستضافه ، ويريد فرض دينه السنى عليه. وشهدت هذا بنفسى فى أمريكا.
2 ـ هذه المرحلة السيئة فى تاريخ المحمديين المعاصر تستلزم دعوة إصلاحية قوية التأثير ، ونحن نحاول الوصول الى آفاق المحمديين بإمكانات شبه معدومة ، نبحر فى محيط هائج بأذرع عارية وسط غيوم عاتية . أنا وصلت الى نهاية المطاف تقريبا ، وأترك المهمة فى أيديكم . يا ليت جيلكم يحقق الأمل .
3 ـ والله جل وعلا هو المستعان.
الفصل الثالث : الثقافة الاسلامية للتغيير الاصلاحى : قهر الخوف بالتقوى
مقدمة
1 ـ مرحلة الدعوة للتغيير السلمى يجب أن يقودها مجموعة تتقى الله جل وعلا ، لا تخشى غيره ، تعمل على تغيير ما بالأنفس من خضوع وخنوع الى شجاعة وعزة يعنى قهر الخوف .
2 ـ من خلال تجاربنا فى الجهاد السلمى الدعوى بالقرآن فإن الأعداء هم ( أكابر المجرمين ) من المستبدين ورجال الدين الأرضى . المستبد لا بد أن يستند الى الكهنوت ، فالفرعون المصرى يركب شيخ الأزهر والبابا . وهناك من يرفعون شعارات دينية يزايدون بها على الفرعون المتألّه ، ينازعونه سلطانه . وهو الصراع بين العسكر والاخوان من عام 1954 . ومع هذا الصراع فهم سرعان ما يتحدون ضدنا ، الاخوان وتنظيماتهم السرية والعلنية والأزهر يصدرون ضدنا فتاوى التكفير ، والمستبد يسارع بإضطهادنا لارضاء أعوانه وتهدئة خصومه ، ثم هو ضدنا لأننا ضد الاستبداد والفساد وحقوق الانسان . هذا مع إننا لا ننازعهم سلطانهم ، ولا نطلب منهم أجرا . إلا إن وجودنا هو الخطر الأكبر عليهم . وفى تحقيق فى أمن الدولة معى سألت ضابط الأمن : لماذا هذا الاضطهاد وأنا مُسالم وضد الاخوان ؟ فقال ـ وكان صادقا ـ : أنت أخطر علينا من الاخوان .".
3 ـ الفرعون يتهم خصومه بالارهاب ، وهو أكثر من يرهب الناس . إذا كانت التنظيمات السرية الدينية تقتل الآلاف فإن الفرعون يقهر الشعب كله بالسجن والتعذيب والحبس الاحتياطى والاختفاء القسرى والتشريد والقتل ، وإذا كانت إمكانات الجماعات الارهابية بسيطة فالمستبد يحتكر القوة العسكرية والأمنية ما ظهر منها وما بطن ، ومعه القضاء والنيابة وميليشيات البلطجية ، وميليشيات إعلامية ودينية .
4 ـ ومع هذا فهو لا يشعر بالأمن . هنا قضية الخوف الذى يصل به الى الرعب . هو ينتظر القصاص ، ويتحسب له بالخوف والشّكّ من كل الناس ، حتى أقربهم اليه ، وعليه أن يدافع عن وجوده فوق الكرسى ، وهو يعرف أن الطامعين فى الكرسى حوله أكثر من الطامعين فيه البعيدين عنه . من رُعبه لا بد أن يتمادى فى البطش ويتطرف فى الظلم ليخيف الناس جميعا ، وكلما إزداد ظلما إزداد رُعبا . وفى النهاية ينتهى موتا أو قتلا بعد معاناة من الخوف زرعها فى نفسه وفى شعبه .
5 ـ هذا بينما يتصدى للدعوة يتعامل بواقعية مع الخوف . لا ينكره فى داخله ، ولكن يتغلب عليه بالتقوى .
6 ـ ونعطى تفصيلا قرآنيا :
أولا : فى القصص القرآنى
قصص الماضين :
1 ـ لا بد أن تتأكّد أن المستبد و جنوده وقومه هم الأشدّ خوفا ، وهم يعتمدون على تخويف الناس بقوتهم ليداروا خوفهم ، وإنهم يعرفون أنه لو أظهروا شيئا من الرأفة والرحمة ستكون علامة ضعف تشجع الناس على إنتقادهم ، وهذه بداية السقوط . لذا لا بد من الحرص بكل حزم على النظام الاستبدادى القائم ، فهو دين يتزعمه الفرعون المتألّه .
2 ـ فرعون موسى هو المثل الكلاسيكى :
2 / 1: وصل جبروته الى ذبح الأطفال المواليد من بنى إسرائيل ، وتطرّف فى أضطهادهم بعد مجىء موسى الى درجة أرعبت بنى إسرائيل حول موسى فأصبحوا يخافون الاقتراب منه ، قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس )
2 / 2 : وأراد فرعون أن يقتل موسى ، وكان هذا سهلا عليه أن يقتله ولكن منعه الخوف المتأصّل فى قلبه ، فطلب من قومه أن يدعوه ليقتل موسى ، وهو كلام مضحك ، ولكنه يعبر عن خوفه ، فهو يخاف أن تؤدى دعوة موسى للخروج بقومه من مصر الى تبديل دين فرعون وملء مصر بالفساد ، وهذا دليل على أن المستبد يقلب الحقائق ، كان ـ ولا يزال . قال جل وعلا : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر )
2 / 3 : ومع ذلك إشتد فى إضطهاد بنى إسرائيل الى درجة أن إستعان عليه موسى وهارون وقومهما بالصلاة والدعاء على فرعون وقوم ، فجاءت الاستجابة من الرحمن جل وعلا ثم كان غرق فرعون ونظام حكمه : ( يونس 84 : (92).
2 / 4 : تأثير الارهاب الفرعونى يظهر فى الحديث القرآنى عن موسى ، فيتكرر فيه خوف موسى ، وأندفاعه غضبا وردأ للفعل وتوقّعا للشّر لأنه تربى على الخوف .
2 / 5 ـ ظلّ تأثير الارهاب الفرعونى فى قلوب بنى إسرائيل بعد غرق فرعون وجنده ودولته . الله جل وعلا وهو الذى أنجاهم من فرعون ، وأكرمهم بالسقيا والغمام والمنّ والسلوى ، فساروا من مصر الى الأرض التى كتبها الله جل وعلا لهم ، وكان المطلوب منهم فقط أن يدخلوها فرفضوا خوفا ، إلا بعد ان يخرج منها أهلها الجبارون ، وطلبوا من موسى أن يذهب وربه ليقاتلا ( الجبارين ). خوف متطرف يساوى الارهاب الفرعونى المتطرّف الذى عاشوه فى مصر . لذا حكم الله جل وعلا عليهم بالتيه فى الأرض أربعين عاما حتى ينقرض هذا الجيل المرعوب الذى لا خير فيه ( المائدة 20 : 26 ).
2 / 6 : مات موسى عليه السلام وانتهت فترة التيه ، ورجع بنواسرائيل مع نبى لهم الى جنوب الشام فإعتدى عليهم جالوت وطردهم من مساكنهم فطلبوا من النبى أن يعين عليهم ملكا يقودهم ، وكان طالوت ، وبعد رفض رضوا به ، وقادهم طالوت للحرب ، وكان الخوف لا يزال فى قلوب الأغلبية الى درجة ان طالوت عقد لهم إختبارا رسب فيه الأغلبية ، وصمدت أقلية نزعت الخوف واستعانت بالله جل وعلا فانتصرت . ( البقرة 246 : 251 )
فى القصص المعاصر : فى حياة النبى محمد
1 ـ بعض من أسلم فى مكة كان صادق الايمان ، وبعضهم أسلم بالاسلام السلوكى بمعنى السلام ، إذ رأى فى القيم الاسلامية ما يخالف الثقافة القرشية المتعدية الظالمة . ولأنهم يؤثرون السلام سلوكا فقد كانوا يخافون الحرب ويكرهون القتال . تعرض المؤمنون فى أول عهدهم فى المدينة الى غارات هجومية : ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا)(217) البقرة )
، ولم يكونوا قد إستعدوا للحرب ، فكان التشريع هو ( كفُّ اليد ) . أمرهم الله جل وعلا بالاستعداد الحربى (الأنفال 60 )، ثم جاءهم الإذن بالقتال ردا للعدوان وما حدث من قبل ( الحج 39 : 40 ). كرهوا القتال مع إنه الخير لهم ( البقرة 216 ) وطلبوا مُهلة خوف الموت ، وجاءهم الرفض الالهى ( النساء 77 )
2 ـ كان لا بد من كسر حاجز الخوف فى نفوسهم ، ولذلك كانت موقعة الأنفال التى سماها رب العزة جل وعلا : ( يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) (41) الأنفال ). كانوا يتوقعون الهجوم على قافلة ، وكان إستعدادهم مناسبا لهذا ، ففوجئوا بقدوم جيش من قريش يفوقهم عددا ، فانفجر الخوف فى قلوب طائفة منهم ، أخذوا يجادلون النبى محمدا فى الحق الذى تبين ، وأنه لا مفرّ من المواجهة ، فكانت المواجهة وكان النصر ( الأنفال 5 : 8 )
3 ـ إختلف الوضع بعد يوم الفرقان . قبله وفى أول ما نزل فى المدينة جاءهم الوعد الالهى المشروط بأن يبدلهم بعد خوفهم أمنا : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55) النور ). كانوا فى أول عهدهم فى المدينة فى خوف دائم ، كان أصدق تعبير عنه قوله جل وعلا بعد إنتصار بدر : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) الأنفال ).
ثانيا : بين خوف المؤمنين وخوف الكافرين :
1 ـ قوم نوح أخافوه من غضب آلهتهم وشركاءهم ، فتحدّاهم ، قال جل وعلا : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) يونس ).
2 ـ وتكرر نفس الموقف مع خاتم النبيين عليهم السلام ، خوّفوه من آلهتهم وأوليائهم المقدسة ، فقال له ربه جل وعلا : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) (36) الزمر ).
وأمره ربه جل وعلا أن يتحدى أولياءهم المقبورين : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ (195) الأعراف ) تهمنا الآية التالية : ( إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) الأعراف ). فالله جل وعلا وحده هو الولى الذى يتولى ويحمى من يواليه ، أو كما قال جل وعلا : ( ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) ؟
3 ـ حدث جدال بين أبراهيم عليه السلام وقومه ، أخافوه من غضب آلهتهم ، فردّ عليهم بأنه لا يخاف إلا الله جل وعلا ، وتعجب إذ إنهم لا يخافون الله جل وعلا ، وأن الأحق بالأمن هم المؤمنون الصادقون . قال جل وعلا : ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الأنعام ) يهمنا الآية التالية :( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الانعام ). المؤمن التقىّ الذى لا يظلم أحدا ( ولا يظلم نفسه ) هو المستحق للأمن .
4 ـ أحرز الكفار نصرا سريعا فى موقعة ( أُحُد ) بسبب عصيان الرُّماة ، خافوا أن يفقدوا هذا النصر فأسرعوا تاركين موقع الموقعة . طائفة من شجعان المسلمين الجرحى صمّموا على ملاحقتهم ، خوّفهم الآخرون فلم يخافوا معتمدين على الله جل وعلا ، طاردوهم ولم يلحقوا بهم ، فرجعوا وقد قهروا خوفهم ، وهذا إنتصارـ لو تعلمون ـ عظيم . إستحقوا أن يقول عنهم الله جل وعلا : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) آل عمران ). يهمنا ما جاء فى الآية التالية : ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران ).
إنها قاعدة ذهبية :
إذا خفت الله جل وعلا وإتقيته فلا يمكن أن تخاف من مخلوق ، لأنك فى حماية ربك جل وعلا ، وكل المطلوب منه أن تستعين بالصبر والصلاة ، وأن تذكره جل وعلا ، فبذكره تطمئن القلوب .
إذا لم تخف الله جل وعلا أخافك الشيطان من كل شىء ومن لاشىء . بل يصل بك الخوف الى درجة الرعب . قال جل وعلا : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) آل عمران ).
5 ـ خاتم النبيين عليهم جميعا السلام أمره ربه جل وعلا أن يعلن خوفه من ربه إن عصى ربه : ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) الأنعام )( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) يونس ) ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) الزمر ).
أصحاب الجنة موصوفون بأنهم كانوا يخافون عذاب الجحيم : ( وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) الانسان ). والذين يجاهدون سلميا فى الاصلاح وصفهم رب العزة جل وعلا فقال : ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (54) المائدة ).
أخيرا
إنتزاع الخوف من القلب لا يكون إلا بالتقوى ، أو خوف الرحمن جل وعلا . قال جل وعلا : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) الطلاق ) ، ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) الطلاق ).
ودائما : صدق الله العظيم .!
التعليقات
د عثمان محمد على
ما بين تفويض فرعون الماضى والحاضر لقتل الشعب.
ربنا يبارك فى عُمرك وعلمك أستاذى دكتور منصور ويُثيبك خير الجزاء عن جهادك ونضالك السلمى فى إصلاح المسلمين سلميا بالقرءان ..ما أشبه الفراعين وشياطينهم ففرعون موسى رغم تظاهره بالقوة وتركيع الناس لعبادته إلا انه طلب تفويض لقتل موسى عليه السلام ، وفرعون الحاضر رغم تظاهره بإمتلاكه قوة الجيش والشرطة والقضاء والإعلام ،,انه يتباهى بقدرته على إحتلال مصر بالجيش فى 4 ساعات لهدم بيوت الفقراء على رؤسهم إلا انه كثيرا ما يطلب تفويض الشعب لقتل الشعب بحجة محاربة الإرهاب !!فهل يتعلم المصريون ويؤمنوا بأن الحاكم أضعف من جناج بعوضة ،وأن قهر الخوف منه لن يكون إلا بتقوى الله وخوفهم من الله جل جلاله وحده لا شريك له ؟؟؟
أحمد صبحى منصور
شكرا د عثمان ، أكرمك الله جل وعلا ، واقول:
1ـ حسب علمى بالتاريخ المصرى ـ وأحسبه عميقا وشاملا ـ فلا أعرف مثيلا للفرعون الحالى فى وضاعته وحقارته وخيانته وكراهيته لمصر والمصريين . وحسب علمى باللسان العربى ـ وهو عميق وشامل ـ فلا أجد وصفا عربيا لوصفه . عجزت لدى المفردات العربية.!!
2 ـ أدعو الله جل وعلا وأتمنى أن تنتهى حياته بما يستحق.!
التعليقات
حمد حمد
الحاكم المستبد يخاف المصلحين
جزاك الله جل وعلا خير الجزاء بالدنيا والآخره دكتور أحمد المحترم ، لاشك إن خوف المستبد من المصلحين وخاصة القرآنيين أشد خوفا من الحركات والجماعات الأخرى وهذا ما ردده عليك ضابط التحقيق لأنه يعلم إن هدفك الدعوة إلى الإصلاح والعدل والحرية المطلقه في الدين وغيرها من المثل العليا التي يدعوا لها القرآن العظيم ،الخوف أصبح سمة أغلب الشعوب العربية الأغلبية ضعيفي الإيمان بالله واليوم الآخر أصبح تدينهم شكلي هذا صنيعة الديانات الأرضية عقول خاوية والكل يقول نفسي نفسي ، أنا أنظر من جانب آخر إنه لابد من حمل السلاح ضد هؤلاء الحكام المستبدين ومواجهتهم حتى لو كلف ذلك الكثير من الأنفس لأنه الأمر أصبح خارج السيطرة ونحن نرى الموت اليومي للمستضعفين شيء مهول ان استمرّ الأمر على ماهو عليه سيكون مصيرهم جميعا مثل مايحدث حاليا في عزة وسوريا بل وأكثر من ذلك. والله المستعان.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول:
أنا متفق معك تماما . وقد سبق أن قلت قبيل الثورة الشعبية على ( حسنى مبارك ) : ( لا مفرّ من الدم ) . وهو مقال ضمن مقالات أخرى فى التحريض على مبارك بعد أن إستشرى فساده ، وكتبت فيه ( وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى مبارك اللعين ) . ولكن خاب ظنى فى قادة الثورة الشعبية ، إذا إستطاع الاخوان والعسكر خداعهم . وانتهى الأمر بوصول أحقر مستبد ليحكم مصر.
لا زلنا فى نشر مقالات هذا الكتاب وأشرفنا على النهاية.
والله جل وعلا هو المستعان.
الفصل الرابع : إقتلاع الخوف فى تجربة شخصية ( 1 )
مقدمة
1 ـ هناك إتّهام جاهز لمن يعارض السيسى خارج مصر . إنكم فى مأمن وفى رفاهية وتعارضون من بُرج عاجى تسترزقون من هذه المعارضة . لا يمكن توجيه هذا الاتهام لى ، ولذا أضطر للتوضيح لتسجيل تجربة شخصية فى إقتلاع الخوف . هى تجربة ممكنة وناجحة ، وأتمنى لو تمسك بها المصريون ليتخلصوا من ذُلّ حكم العسكر الخائن الذى يحتل مصر من عام 1952 ، وهبط بها الى أسفل السافلين .
2 ـ أستعرض حياتى بإيجاز قدر الإمكان .
أولا :
موجز المعاناة
1 ـ عشتّ مراهقة بائسة . والدى الشيخ ( منصور محمد على ) شقيقه الذى يكبره ب 19 عاما أخرجه من الأزهر ، وأرغمه أن يكون فلاحا . مرض والدى ولم يستطع الاستمرار، فعمل ماذونا شرعيا ، ومعلما للقرآن الكريم ، وتزوج وأنجب ، وكنت أكبر أبنائه . وأنا فى الرابعة عشر من العمر مات والدى ، وأحسّ شقيقه ببعض المسئولية فتعهّد بأن ينفق علىّ ، وعشت سنوات من الذُّل ، ومع ذلك كان ترتيبى الثانى على الجمهورية فى الاعدادية الأزهرية ، وقبض عمى المكافأة ، ثم مات عمى قبيل إمتحان الثانوية الأزهرية بشهرين ، عشتهما فى قلق ، ومع ذلك حصلت على المركز الرابع على مستوى الجمهورية ، وكانت لى مكافأة شهرية ، ممكن أن تستمر لو حافظت على ( جيد جدا ). بهذا تحقق لى إستقلال مالى ، وإلتفتّ الى رعاية إخوتى ، وعملت وأنا طالب مدرسا فى مدرسة خاصة ثم ناظرا فى أول معهد إبتدائى فى بلدنا وقمت بإعطاء دروس خصوصية لعشرات التلاميذ .
2 ـ وتخرجت فى قسم التاريخ بمرتبة الشرف ، وتم تعيينى معيدا ، فانتقلت للعيش فى القاهرة ، لا أعرف أحدا من الأساتذة ولا يعرفوننى . وبدأت المشاكل عند تقديم رسالتى للدكتوراه عن أثر التصوف، إستمر منعها ثلاث سنوات من المناقشة . كنت أتمنى مناقشتها قبل الزواج ، فلما طال الأمر تزوجت وأنجبت محمدا ثم الشريف عام 1979 ، وحضرا مناقشة الرسالة فى اكتوبر عام 1980 . وأنا مدرس فى قسم التاريخ أصدرت مؤلفات أقلقت الشيوخ ، ثم كانت القاصمة عام 1985 بإحالتى الى مجلس التأديب بسبب خمسة كتب أهمها ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) . تم وقفى عن العمل ومصادرة حقوقى المالية ومنعى من الترقية ومن السفر إلا إذا تراجعت عمّا كتبت . رفضت ، واستمر هذا العقاب عامين الى أن أدخلونى السجن فى أواخر عام 1987 . خرجت من السجن لأجد حملة صحفية تستهدف حياتى .
3 ـ كان رشاد خليفة الأمريكى يزورنى ، وعندما علم بما حدث دعانى للقدوم اليه . سافرت اليه فى توسان ولاية أريزونا . وعشت فى مسجده ، وفوجئت به يعلن نفسه رسولا من رب العالمين . رفضت هذا . كان يحتفظ بجواز سفرى وأوراقى ومؤلفاتى ، وكان قد أرسل باسمى خطابات يلعن فيها الأزهر ، ليقطع علىّ خط الرجوع لمصر. عن طريق بعض أعوانه الطيبين نجحت فى الحصول على حقيبتى وأوراقى وتسللت من المسجد وسكنت فى مكان بعيد . وإنقطع الاتصال الاسبوعى بينى وبين زوجتى ، ولم يعرف أحد مكانى ، إذ عشت معزولا خوفا من رشاد خليفة وعصابته . فرغت أموالى القليلة وجاءنى إنذار من البنك بأنى صرفت أكثر من الرصيد . كالعادة صليت وتضرعت وبكيت فى محنتى وعزلتى . وجاءت مفاجأة لم أحتسبها . فى مصر كان يتردد على بيتى الأستاذ محمد صادق المقيم فى كندا . وكان فى مصر عندما كنت فى السجن . ثم عرف إننى هربت الى رشاد خليفة . وكان محمد صادق ومجموعة فى كندا وأمريكا ممّن يعرف رشاد خليفة ثم إختلفوا معه . أخبر محمد صادق صديقه محمد أحمد ، ثم عرفا إن رشاد خليفة سيعقد مؤتمرا فى توسان لتكريس زعمه بأنه الرسول . هو كان يجهز لهذا المؤتمر قبل وصولى اليه ، وكان وجودى معه يدعّم زعمه . سأل محمد أحمد عنّى ، هل سأحضر هذا المؤتمر ، وعرف أننى هربت من مسجده . تساءل عن مكانى وظروفى ، وتوصّل الى مكانى وأرسل لى بأموال ، وصلتنى وأنا فى حالة كرب هائل . طلبت المجموعة التى فى سان فرانسيسكو أن أنتقل لأكون معهم ، رفضت حتى أكتب بالانجليزية بحثا أفضح فيه زعم رشاد خليفة ، وتحريفاته فى ترجمته للقرآن الكريم . وصل البحث الى المشاركين فى المؤتمر وفشل المؤتمر ، وانتقلت الى سان فرانسيسكو ، عشت فيها شهورا من الضياع ، لا أجد عملا ، وتأتى أخبار مقلقة عن أولادى ، وكانوا وقتها خمسة .
4 ـ قررت العودة لمصر ، عالما بأن السجن ينتظرنى ، وفعلا وأمام زوجتى وأولادى إعتقلونى ونقلونى الى حجرة مظلمة تمتلى بالجثث الآدمية الحية فى مبنى أمن الدولة ، قضيت ليلتها واقفا على قدم واحدة أسمع تأوّهات الجرحى والمعذّبين . كانت أقسى ليلة فى حياتى ، فى منتصف الليلة التالية أفرجوا عنى . طلب منى ضابط أمن الدولة أن لا أنكر السنة ولا أهاجم الأزهر فقلت إن هاجمونى سأهاجمهم . بعد عودتى عشت أعواما على حافة الجوع كنت أتمنى فيها لو رجعت للسجن بسبب الفقر. هذا مع أننى كنت أنشر المقالات ، وكنت نشطا حقوقيا فى المؤتمرات . معظم ذلك كان تطوعا . إنتهت هذه الفترة بعملى فى جريدة العالم اليوم ، ثم بعملى مع د سعد الدين ابراهيم فى مركز ابن خلدون ، ومديرا للندوة الاسبوعية فيه ( رواق ابن خلدون ). ضاق مبارك بنا فأغلق مركز ابن خلدون وإعتقل د سعد الدين وآخرين ، وتأجل إعتقالى نحو العام ، كانت ترابط وقتها قوة من الأمن أمام باب العمارة تنتظر أمر القبض علىّ . كان معى تأشيرة لأمريكا غافلتهم وسافرت، فى اكتوبر 2001 . لم أرجع لمصر ، ولا أظن أننى سأراها .!
ثانيا :
التغلب على الخوف بالصبر والصلاة
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة )
الصلاة :
1 ـ لا بد أن تقهر الخوف فى داخلك إذا قررت أن تقف ضد أكابر المجرمين ( العسكر والاخوان والأزهر ). هم خائفون على مكانتهم فإذا خفت أنت فلن تأخذهم بك شفقة، فهم لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة .
2 ـ يبدو أن والدى ( الشيخ منصور ) ـ الذى عاش أواخر حياته يعانى من سرطان المثانة ـ كان قد قرّر أن يعدنى لرعاية أشقائى بعده . علّمنى الصلاة منذ الطفولة ، وكان يلزمنى بها ، وإقتنعت وحافظت عليها مذ كنت دون السابعة . وقام بتحفيظى القرآن فأتممت حفظه وأنا فى الثامنة . ولكن لم أقترب بقلبى من القرآن ولم أعرف أهيمة الصلاة إلا عند المحن . اليتيم البائس فى مثل حالتى يلجأ الى ربه جل وعلا شاكيا متضرعا ، لا معين له غيره جل وعلا ، خصوصا عندما يأتيه الظلم من أقرب الناس اليه .
3 ـ عندما تجمعوا ضدى فى موضوع رسالة الدكتوراة رجعت للقرآن الكريم أتدبره علميا لأول مرة فتأكّدت إنى على الحق . قلت إن ربى لن يضعينى . وسأصبر كما قالت الرسل لأقوامهم الكفرة: ( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) ابراهيم ).
4 ـ كانت ـ ولا تزال ـ الصلاة هى الحصن الأكبر . عند إشتداد الأزمات أتحصّن بها ، أتضرع فى السجود لربى جل وعلا . جربت هذا ولا زلت . فى بعض الأحيان كان التضرع فى السجود يكون بكاءا مسموعا لا أستطيع منعه . بعده أشعر بالراحة والسكينة ، ويطمئن القلب . قال جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) الرعد ).
5 ـ هل جرّبت عند الشّدّة أن تدعو ربك جل وعلا متضرعا باكيا تقول :
( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 5 ) ، ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86))
، ( رَبِّ نَجِّنِى مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )، ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )، ( أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )، ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).
6 ـ حتى الآن أفقد التركيز فى الصلاة ، ولا تكون صلاتى خشوعا مستمرا ، وأعترف بهذا التقصير ، ولكن لا يفارقنى الخشوع والتركيز عندما أصلى متضرعا فى وقت محنة أو أزمة .
7 ـ معظم الناس فى الأزمات يدعو ربه جل وعلا إذا مسّه الضُّرُّ ، فإذا كشف الله جل وعلا عنه الضُّرّ عاد لعصيانه ( الزمر 8 ، 49 ). ولكن الذى يحتاج الى رحمة ربه فى كل وقت يعلم أن الأمر ليس ( تأدية الصلوات ) الخمس ، ولكنها إقامة هذه الصلوات تقوى وإبتعادا عما يُغضب ربه جل وعلا . إذ كيف يستغيث بربه وهو عاص لربه ؟ :كيف يدعو ربه قائلا : ( إهدنا الصراط المستقيم ) ثم يقع بعدها فى معصية ؟ بهذا عرفت مبكرا الفارق بين تأدية الصلاة وإقامة الصلاة والمحافظة عليها بالتقوى فيما بين أوقات الصلاة .
8 ـ هنا يكون خوفك من الله جل وعلا أكبر من خوفك من البشر . طالما أنت فى طاعة الله جل وعلا وتقواه فأنت أقوى شخص فى العالم ، ليس فقط لأنك صابر والله جل وعلا مع الصابرين ، ولكن أيضا لأنك تجاهد مخلصا فى سبيله جل وعلا ، وهو جل وعلا وعد بنصرة من يجاهدون فى سبيله محتسبين صابرين . قال جل وعلا :( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج )، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) محمد )، ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) غافر ).
الصبر
1 ـ كم أثقل الصبر ، خصوصا مع معايشة للإضطهاد من أكابر المجرمين . النبى محمد عليه السلام أمره ربه جل وعلا بالصبر مرات عديدة . فماذا عن شخص عادى مثلى ؟
2 ـ ومن الصبر ما يكون مُرّا ، إذ كيف تتحمّل الاتهامات الظالمة دون أن تدافع عن نفسك ؟ قيل لى لماذا تسكت على هذه الاتهامات ؟ من حقك أن ترفع قضية وستكسبها . قلت له : أخشى أن أذهب اليهم فأجد نفسى فى السجن . !
3 ـ أسهل طريقة هى أن تتجاهل الظلم الذى تتعرض له ، وتنشغل عنه بشىء نافع . وقد وجدته فى التركيز فى التدبر القرآنى وفى البحث التاريخى وفى التراث ، قضيت سنوات فى كتابة مؤلفات من مقالات وأبحاث وكتب ، تم نشر معظمها بعد . وفى كتابة السيناريوهات وجدت مجالا لأن أعايش الأبطال الذين أخترعهم ، ومنها مشروع تحويل التراث الى دراما ، على هامش البحث التاريخى . والنتيجة أنه بهذا الانكباب على التأليف كنت أنظر الى أزماتى فأجدها مثل من ينظر من ناطحة سحاب الى السيارات فى الشارع .
4 ـ حين كنت أتوقع القبض على فيما بين عامى 2000 : 2001 ، وكان أمن الدولة يتصل بى ليتأكد أننى لم أفارق بيتى ، تغلبت على القلق والخوف بأن ألزمت نفسى بكتابة بحث ضخم عن ( المعارضة الوهابية فى الدولة السعودية فى القرن العشرين ). وهو الآن منشور مقالاته هنا .
4 ـ بهذا تهزم الخوف ، وبهذا يتحول الصبر الى نصر .
المقال القادم : تجربتى الشخصية مع الحتميات ..
التعليقات
حمد حمد
هذا هو طريق الجهاد المبارك
أدعوا الله تبارك وتعالى أن يبارك بعمرك وعلمك ، لاشك إن مسيرة حياتك الجهادية في مواجهة الطغاة والظلمة وأعداء الدين من أجل الإصلاح والتنوير فيها الكثير من العبر وخاصة منذ بداية مرحلة المراهقة وما واكبها من مأساة وفاة والدك رحمة الله عليه وصعوبة تكاليف الحياة والدراسة حتى مواجهة الطغاة والظلمة والهجرة القسرية ومآسيها لكن إيمانك بالله جل وعلا وجهادك بقرآنه العظيم لهو أكبر سند في شحذ الهمم والثقة بالنفس والمواجهة دون خوف ، سامحني دكتور أحمد أطلب هذا الطلب أن يكون ما كتبته عن سيرتك يجب أن يكون بكتاب خاص ليستفيد منه الجميع ويكون باكورة لجميع ماكتبته عن مسيرتك الجهادية في موقع أهل القرآن حفظكم الله من كل سوء ونصركم على من يعاديكم.
عثمان محمد على
جزاكم الله خيرا أستاذى دكتور
طبعا بكل تأكيد مسيرة وتاريخ حافل بالشرف والفخر ونسأل الله أن يُجزيكم عنه خير الجزاء فى الدنيا والآخرة .. وحُضن (سليم شريف منصور وأخواته -بارك الله لكم فيهم ) يُزيل كل هموم الماضى والحاضر . انا سأتوقف عند نقطة واحدة وإن كانت مؤلمة لى على المستوى العائلى وهى (كيف قبل جدى ..... أن يأكل أموال أخيه جدى منصور -وميراثه ،ثم أموالكم وميراثكم منه بالباطل وهو ثلاثة أفدنة كاملة مثل ميراث إخوته ومنهم جدى -على -ولا يُعطيكم منهم ولا سهم واحد؟؟؟؟) . فكل واحد من جدودى ال3 الأخرين ورث 3 افدنة وبالتأكيد ورث جدى منصور 3 افدنة مثلهم ،فكيف لجدى أخاهم الأكبرأن يأكلهم عليه ثم عليكم وهو ميراثكم الشرعى من جدى منصور يرحمه الله بالباطل ؟؟؟
ال3 افدنة كانوا وقتها ثروة وريعها وإنتاجها يكفى مصروفات العائلة كلها لمدة سنة ،وكانوا يزوجون الأولاد والبنات من إيراد الأرض .فحتى لو كان يُعاملكم بالمزارعة بالنص مثل كل الناس وقتها كان عائد الأرض وريعها وإنتاجها خفف معاناتكم المالية كثيرا.......
وأين كان جدودى الآخرين ولماذا صمتوا وسكتوا على هذا الظلم الذى وقع عليكم ،وما الذى منعهم من المُطالبة بحقوقكم بعد وفاة جدى منصور يرحمه الله ؟؟؟؟
سعيد على
أسهل طريقة هى أن تتجاهل الظلم الذى تتعرض له ، وتنشغل عنه بشىء نافع.
حفظكم الله جل و علا و جزاكم الخير و بعد الخير جنات النعيم .. دروس مجانية في آلية التغلب على القلق .. القلق مرض العصر و مقدمة للاكتئاب.. و الاكتئاب مرض نفسي قلما يتخلص منه من أصيب به .. عندما تبتعد عن التفكير في أمور تتوهم أنها ستقضي عليك ستتصاغر هذه الأمور و تراها كالسيارات الصغيرة و أنت تنظر اليها من مكان شاهق .. دروس الدكتور أحمد فيها من الحكمة و العبرة ما يجعلك تتخذ منها علاجا للاكتئاب و بلسما للمرض النفسي .. يكفي أن تتدبر قوله جل و علا ( إن الله مع الصابرين ) ، ( إن الله يحب الصابرين ) .. لقد صبرت و تعلمنا منك الصبر .. أنت مدرسة في الصبر.
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول
1 ـ من حق كل انسان أن يكتب سيرته الذاتية . كل انسان يرى نفسه مركز الكون ، ولكن العبرة بما قدمه من خير.
2 ـ التاريخ ينام فى أحضان الطُّغاة ، وأفاضل الناس معظمهم ضحايا القهر والتجاهل والنسيان. بل لو تكرم بعض المؤرخين وذكرهم فبالتحقير والاتهامات الباطلة والمتناقضة ، وأحسب أن باحثا فى الاجيال القادمة يؤرخ لعصرنا ويستقى معلوماته من الاعلام الحكومى والصحف الحكومية سيجد الكثير من إفتراءات عصرنا عنى . لهذا السبب أعرض لمواقف من معاناتى ومواقف خصومى أكابر المجرمين . وكل هذا فى سياق الدعوة الاصلاحية.
3 ـ وهنا مثلا : كيف أتكلم عن القدرة على تغيير النفس دون ذكر تجربة شخصية معظم شهودها أحياء ، وأولهم رفيقة العمر وأبنائى والذين تحملوا معى أثقالا ؟
4ـ إن الحياة قصيرة ، وما بينى وبين آدم كلهم ماتوا ، وسأموت . ويبقى بعدى الفعل ( كان ) . كان كذا أو كان كذا . مصيرنا ( كان ). وهذا لا يقارن بيوم الحساب حيث سنجد ما عملنا حاضرا ـ ولا يظلم ربك أحدا.
5 ـ أكرمك الله جل وعلا استاذ حمد.
أحمد صبحى منصور
شكرا د عثمان ، أكرمك الله جل وعلا ، واقول :
1 ـ قصة حياة جدى ( محمد على ) درامية ، كان الخليفة فى الطريقة الرفاعية الصوفية فى البلد ، وتآمر عليه الصوفية اصحاب النفوذ ، وفى النهاية اضاعوا عليه معظم أطيانه الزراعية ، ومات كمدا . كان قد تزوج أربعة نساء : الكبرى جدتى والتى أنجب منها ابنه الأكبر ثم ست بنات ثم أبى منصور ، وتزوج أرملة شقيقه وأنجب منها جدك ( الحاج على ) وبنتا . وتزوج بنت عمه التى أنجب منها بنتا وابنه ( الشيخ محمد ) أول من تخرج فى كلية اللغةا العربية دفعة الشيخ الباقوى ، وتفوق عليه . وتآمرت عليه نفس العائلة الصوفية ومات شابا مسموما . ثم تزوج الرابعة وأنجب منها التوأم ( رزق وكامل ) وبنتين . تم توزيع التركة على اساس أن الأشقاء مع بعضهم . جدك الحاج على استقل مع شقيقته ، وهكذا الباقون . واصبح أبى مع شقيقه الأكبر الذى هو خليفة البلد ، وكبير العائلة . كنت اسمع أن أبى كان لا يجرؤ أن ينظر لوجه شقيقه مباشرة . كانت ـ ولا تزال ـ عادة سيئة أن يأكل الأخ الأكبر حقوق إخوته خصوصا البنات ، خصوصا فى ميراث الأرض الزراعية.
2 ـ ترك والدى ذكرى عطرة . وأولاده الأيتام منهم استاذ الجامعة والطبيب.
3 ـ تعلمت أن المحن هى أعظم المنن . لمن إقترب بها من ربه متضرعا ، وهو جل وعلا الذى يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
4 ـ يعلم الله جل وعلا كم أحبك يا عثمان . أعتبرك أبنى الذى لم أنجبه ، وأنت شاهد على جزء من هذا التاريخ.
أحمد صبحى منصور
شكرا ابنى الحبيب استاذ سعيد على ، واقول:
1 ـ اشكرك على إشارتك لموضوع الاكتئاب . جاءنى سؤال طويل عنه . أنا لا أعترف بالاكتئاب . ما قاسيته كان يؤهلنى لاكتئاب لا شفاء منه ، لو كان هناك فعلا مرض الإكتئاب . كنت قد أجّلت الاجابة على هذا السؤال ، سأجيب عليه لاحقا.
2 ـ أدعو الله جل وعلا ابنى الحبيب سعيد أن تكون سعيد الدنيا والآخرة.
3 ـ بكم احبتى تحلو الحياة مهما بلغ مُرُها.
إقتلاع الخوف فى تجربة شخصية :
( 2 ): الايمان بحتميات القضاء والقدر
أولا
1 ـ تأهبت للحصول على درجة استاذ مساعد عام 1985 بتأليف خمسة كتب : ( الأنبياء فى القرآن الكريم / حركات إنفصالية فى تاريخ المسلمين / العالم الاسلامى بين عصرى الخلفاء الراشدين والخلفاء العباسيين / غارات المغول والصليبين / تاريخ التربية والفكر فى الحضارة الاسلامية ) ، قررتها على طلبة جامعة الأزهر ، حيث كنت أدرّس فى 11 كلية فى القاهرة والأقاليم ، ولم يكن يبقى لى سوى يوم واحد فى الاسبوع أتابع فيه طبع الكتب الخمسة.
2 ـ فى مارس 1985 كانت الكتب مع الطلاب . وفيها إنكار شفاعة النبى وإنكار عصمته ورفض تفضيله على الأنبياء . إنتشر هذا داخل محيط الطلبة فى الجامعة ، ووصلت أصداؤه الى شيوخ السنيين والصوفية فى القاهرة . كان اشهرهم الشيخ محمد زكى ابراهيم ( قائد العشيرة المحمدية ) الذى أرسل بلاغات الى شيخ الأزهر ورئيس الجامعة يطالبهم بفصلى من الجامعة ، وأرسل الى رئيس الوزراء وقتها كمال حسن على ( تولى الوزارة فى 16 يولية 1984 ) ، يهدد فيها بتسيير مظاهرات عارمة فى القاهرة ، كان كمال حسن على يعانى صعوبات فلم يكن محتاجا للمزيد ، لذا أرسل رسالة حازمة لرئيس الجامعة محمد السعدى فرهود مفادها لماذا تسكتون على هذا الرجل ؟ إن كان ما يقوله صحيحا إعلنوه ، وإن كان باطلا عاقبوه . ( وقد تم عزل كمال حسن على سريعا فى 4 سبتمبر 1985، وعاش مغمورا نسيا منسيا الى أن مات فى 27 مارس 1993 !. )
3 ـ فوجئت فى ليلة 5 مايو 1985 بوفد من أساتذة قسم التاريخ الذى أعمل فيه يطرقون باب شقتى المتواضعة فى حىّ المطرية ، واخبرونى بأن قرار رئيس الجامعة قد صدر باحالتى للتحقيق ووقفى عن العمل ومصادرة مسحقاتى المالية ومنعى من السفر والترقية لأستاذ مساعد . وإن موعد محاكمتى صباح الغد . ولكى أنجو فلا بد أن أعترف بالخطأ وأعتذر عنه ، وينتهى الأمر . رفضت ، قالوا إنك ( صاحب عيال فلا تعرضهم للفقر ، وإنا لم نصل الى هذه المكانة بسهولة ) ، قلت لهم : لو كان رزقى ورزق أولادى فى الأزهر لاتخذته إلاها من دون الله ؟
4 ـ بعدها بدأت المحاكمة ، وأخبرت زوجتى فأيدتنى فى موقفى مستعدة للتضحية . كنا وقتها فى شهر رمضان ، ولم أكن مستعدا لقطع المرتب . كان عندى أربعة أطفال ، وعلىّ إلتزامات عائلية .
5 ـ أيقنت أننى دخلت فى صراع تعدّى الأزهر الى نظام الحكم نفسه ، وتدخلت فيه السعودية خصوصا بعد عودة العلاقات معها ، وقبلها كانت (رابطة العالم الاسلامى ) تؤازر الأزهر ضدى ، وأسّسوا مركز السيرة والسُنّة بميزانية هائلة ، وعقدوا مؤتمرات تدعو لقتلى بتهمة الردة ، منها مؤتمر فى اسلام أباد تحت رعاية الرئيس ضياء الحق ، وقد لقى مصرعه فى 17 أغسطس عام 1988 ، ثم مؤتمر أخر فى جدة بالسعودية . أثناء ذلك كنت أتحدّاهم بالخطب فى المساجد وإذاعة ما جاء فى كتبى ، ثم كان إصدارى كتاب ( المسلم العاصى : هل يخرج من النار ليدخل الجنة ) فأصدر مبارك قرارا بسجنى مع أول مجموعة من أهل القرآن فى نوفمبر 1987 .
6 ـ دخلت فى جدال مع النفس إستمر من وقتها حتى تركت مصر 2001 . كان هذا الجدل يتكرر مع كل إستدعاء لأمن الدولة ، وكل خطبة جمعة فى المساجد السنية المحيطة بالعمارة التى أسكن فيها ، ومع كل تهديد من المتطرفين من حولى . تركز الجدل مع الحتميات والقضاء والقدر، فهم يخيفوننى بالفقر وبالموت وبالسجن والتعذيب وبتضييع أولادى تبعا لذلك . فهل هذا فى يدهم ؟ أم هى أقدار مكتوبة سلفا وحتميات لا مهرب منها ؟ معايشة القرآن الكريم تدبرا وذكرا أراحت القلب ، وأزالت الخوف .
7 ـ ما أذكره هنا هو وعظ لمن يتصدى للتغيير الى الأفضل مقتلعا الخوف فى نفسه .
ثانيا :
الحتميات :
الموت
يتصرف الانسان كأنه لن يموت . فى جنازة الآخرين يبدو متأثرا ، ثم ينسى ، وقد يخطط للزواج بأرملة المتوفى أو أكل ميراثه . عرفت من القرآن الكريم الإيمان أن :
1 ـ لا مهرب من الموت ، فهو يطاردنا . قال جل وعلا : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ )(78) النساء )، وهو يواجهنا . قال جل وعلا : ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) (8) الجمعة ). وأن موعد الموت مكتوب محدد فى أجله ووقته ، وكله بإذن الرحمن جل وعلا . قال جل وعلا : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (145) آل عمران ). ولو كان مقدرا لى القتل فى مكان محدد لذهبت اليه فى نفس الموعد . قال جل وعلا : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (154) آل عمران ).
2 ـ بالتالى :
2 / 1 : لا يمكن لأى بشر أن يميتنى قبل موعد موتى ، ولا أن يؤجّل موعد موتى .
2 / 2 : يسرى هذا علىّ وعلى خصومى . تكرّر قوله جل وعلا : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) آل عمران 185 ) ( الأنبياء 35 ) ( العنكبوت 57 ) .
2 / 3 : أمتاز عن خصومى :
2 / 3 / 1 : بأننى أدافع عن الاسلام والقرآن الكريم متمسكا بقوله جل وعلا : ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(الاعراف 185)( المرسلات 50) ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية ).
2 / 3 / 2 : لو قتلونى سيحققون لى أعظم أمنية ، أكون بفضل الرحمن جل وعلا ممّن قال عنهم رب العزة جل وعلا :
2 / 3 / 2 / 1 : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) البقرة )
2 / 3 / 2 / 2 : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)آل عمران )
المصائب المؤلمة
التعذيب :
لم أتعرض للتعذيب البدنى فى مصر. ولكنه كان إحتمالا قائما فإتّخذت عهدا على نفسى ألّا أستسلم للتعذيب ، سأقاوم حتى الموت ، وإذا قتلونى فقد فُزت . بالاضافة لذلك :
1 ـ هناك حدُّ أقصى من الألم يتحمله الانسان ، بعده يدخل فى الإغماء .
2 ـ كل آلام الدنيا لكل البشر لو إجتمعت على فرد واحد فلن تساوى شيئا فى لحظة عذاب فى جهنم. فكيف بالخلود فيها ؟
المصائب عموما :
1 ـ هى بإذن الله جل وعلا ، ومن يؤمن بهذا يستريح نفسيا . قال جل وعلا : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (11) التغابن ).
2 ـ هى إبتلاء وإختبار يبدو شرا أو خيرا . قال جل وعلا : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) (35) الانبياء ). الخير أو الشّر فيه حسب موقف الفرد ، إذا صبر وشكر فاز ، وإذا كفر وطغى خسر .
3 ـ الايمان مرتبط بهذا الابتلاء ليتبين صدقّ الايمان أو كذبه . قال جل وعلا : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت ).
4 ـ فى النهاية فكلها أقدار مكتوبة سلفا ولا مهرب منها. قال جل وعلا :( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) (23) الحديد ). بهذا تستريح قلب المؤمن ، إذا يتخذ موقفا وسطا من حتميات المصائب .
الرزق :
أنواع الرزق
الرزق الحقيقى المضمون ، ضمنه الله جل وعلا لكل كائن حىّ ، . قال جل وعلا :( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) (6 ) هود ) ، ( وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) ( 60 ) العنكبوت ) .أنه ما يدخل فى جسدك من هواء وطعام وشراب ـ وما يغطى جسدك من ثياب . والمكان الذى يحتله جسدك . هو يقوم على الاحتياج و الضرورة ، ومن رحمة الله جل وعلا أن جعل أشد الضروريات مجانا بلا ثمن ، ثم يوجد ثمن ضئيل لكل نوعية من الضروريات على حسب درجة الضرورة فيها ، ويرتفع الثمن كلما قلّ حتياج لها ، فاذا لم تكن ضمن الاحتياجات أصلا أصبحت باهظة الثمن. أنت لا تستغنى بضع دقائق عن الهواء ( ألاكسجين ) لذا جعله الله تعالى مجانيا و باعد بينه و بين سيطرة الناس عليه. وتخيل مستبدا يتحكم فى الهواء و تنفس الناس .. تخيل هذا وقل : الحمد لله تعالى رب العالمين .!!
بعد الهواء المجانى لا يستطيع الانسان العيش بدون ماء أكثر من يوم أو يومين. ولهذا فالماء ـ تقريبا ، مجانى. وإذا كان عزيز الوجود ـ كالصحراء ـ فان التكلفة فى الحصول عليه قد توازى القدرة على احتمال العطش. ثم يأتى الطعام ثالث الضروريات فتجد أرخصه هو أشده ضروره ؛ ملح الطعام مثلا هو أرخص مواد الطعام لأنه لا يستغنى عنه الجسد البشرى..أغلى أنواع الطعام هى الكماليات الضارة غالبا و التى يستحسن الابتعاد عنها. وهكذا فى اللباس ـ الى أن تصل الى الكماليات الحقيقية كالجواهر والأحجار الكريمة.. هى باهظة الثمن ، ومع ذلك تستطيع العيش بدونها ، بل ربما كنت الحياة أفضل بدونها.
المؤمن بالقرآن الكريم وحده يستريح لقول ربه جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) يونس ).
الأولاد
1 ـ لستّ أنا الذى أرزق أولادى . أنا سبب فى رزقهم كما إنهم سبب فى رزقى . قال جل وعلا : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ (31 ) الاسراء ) ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (151) الأنعام ).
2 ـ وجود الأب فى حياة بنيه لا يعنى فلاحا لهم ، كما أن موته وتركهم أيتاما لا يستلزم ضياعا لهم . هناك أيتام كبروا وسط المحن وصنعوا لأنفسهم مجدا ، وهناك إبناء عاشوا عالة على ذويهم فإزدادوا بهم خمولا . المؤمن بالقرآن الكريم وحده حديثا يدعو ربه : ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) الفرقان )، ويتمنى أن يكونوا معا فى الجنة . قال جل وعلا : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) (23) الرعد )( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور )
أخيرا
هى وصفة قرآنية . قال جل وعلا : (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء ).
ودائما : صدق الله العظيم ، ولو كره الكافرون .!
خاتمة كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية ) : شهادة على مصر فى هذا العصر :
أولا :
1 ـ أكتب هذه الخاتمة منتصف اليوم الأربعاء ( 31 يناير 2024 ) ، لكتاب أراه حُلما أتمنى أن يتحقق ( ماهية الدولة الاسلامية ) ، وفيه كيفية تحقيقه ، ومن أسف أن أرى مصر الآن تتدحرج بسرعة الى الضياع ، بعد ثلاثة أرباع قرن من إحتلال العسكر لها. أعتبر هذه الخاتمة شهادة على مصر فى هذا العصر .
2 ـ جىء بالسيسى حاكما لمصر ليفعل بها ما فعل . السيسى كاذب حتى النُخاع فى ( وعوده ) ، ولا يخجل من الكذب ، وهو مسجل بالصوت والصورة . والسيسى صادق حتى النُّخاع فى ( وعيده ) ، ولايخجل من صدق وعيده ، وهو أيضا مسجل بالصوت والصورة ، وهو يحقق وعيده ، وفى الحالتين لا يرى فى المصريين بشرا ، بل ممتلكات شخصية له ولجيشه وقومه ، لا وزن لهم ولا إعتبار .
3 . قال السيسى :
3 / 1 : ( إمّا أن نحكمكم أو نقتلكم ). وصدق فى وعيده ، فالقتل البطىء ثقافة السجون فى عهده ، والقتل السريع بالتعذيب وغيره عادة لم تعد تستوجب دهشة . وهناك قتل جماعى ( مثل رابعة ) وقتل فردى ، وهذا وذاك مستمر ، لبث الرُّعب فى النفوس .
3 / 2 : ( لو سبناها حنسيبها لا تنفع لنا ولا لغيرنا ) . يعنى تدمير مصر قبل أن يتركها . وهذا هو ما يجرى الآن بالقوانين التى أصدرها له مجلسه النيابى .
3 / 3 : قال مهددا المصريين إنه يستطيع نشر الجيش فى كل مصر فى أربع ساعات .
4 : أصدر قانون "حماية المنشآت الحيوية" الذي يمنح صف الضباط والضباط فى القوات المسلحة صلاحية الضبط القضائي . وقوانين أخرى فى الانتظار تجرّم حيازة النقد الأجنبى ( الدولار ) ، وليس مجرد الإتّجار به، ويضاف لهذا التفتيش على دمغة المشغولات الذهبية ، وعلى أسعار السلع فى المتاجر . التطبيق يعنى:
4 / 1 : إن أى تجمع بجانب كوبرى يعنى التعامل معه بالسلاح ، ولا يحتاج الجيش لأى تبرير .
4 / 2 : حق الضبطية القضائية للضباط وصف الضباط يعنى أن يصادروا الأموال والذهب ، يثبتون فى المحاضر جزءا منها ، وينهبون لأنفسهم الباقى . تخيل صفّ ضابط فى يده هذه الصلاحية يدخل محلا للصاغة أو بيت شخص بزعم أنه تاجر عملة ، أو سوبر ماركت . لا أحد يحاسبه لماذا إختار هذا المكان أو ذلك الشخص ، ولا أحد يسأله عمّا سلب ونهب . وسيدخل المظلومون فى السجن ، ويكون أقصى مرادهم الخروج منه . ولو خرجوا منه فلا يجرؤ أحدهم على المطالبه بما سلبوه منه.
5 ـ بل هناك تمهيد إعلامى لمنع المصريين من حيازة أى أموال نقدية ، أو التعامل بها ، بل يكون التعامل ب ( فيزا ) بنكية ، ومن يتم ضبط أموال نقدية معه ستتم محاكمته ومصادرة معه . ويقولون إن هذا هو ما يجرى فى جزيرة سيريلانكا . أسبحت سيرلانكا ـ التى أفلست ـ هى المثل الأعلى لمصر فى عهد السيسى.
ثانيا
1 ـ عن عمد أسرف السيسى فى بناء المدن والقصور وشراء أسلحة ، وأسرف فى القروض . وهو عاجز عن سداد أصل الديون ، فيكتفى بسداد الفوائد ما إستطاع ، ويقوم بترحيل اصل الديون ليسدها عنه أحفاد المصريين . لتسديد القسط الواجب سداده من الفوائد هذا العام يجمع الدولارات بسلبها من جيوب الناس وبإجبارهم على تحويلها من البنوك ، بسعر زهيد ، فالجنيه تتضاءل قيمته بالتعويم المستمر ، ولا نعرف ماذا سيكون حاله مع التعويم القادم غدا ( الخميس أول فبراير 2024 ) . وأقوال تتردد أن الدولار سيصل الى 100 جنيه عن قريب .
2 ـ سرق السيسى ماضى مصر ( الآثار ) وحاضرها ( منجم السكرى ، وحقوقها فى النيل وفى الغاز ) ويبيعها مؤسساتها أنقاضا وبثمن بخس ، وباع الجزيرتين تيران وصنافير، ويحاول بيع قناة السويس أو رهنها ، ويستدين ليسرق الأجيال القادمة . سلب كل ثروات مصر وذهبها وما يُستطاع سرقته من آثارها ، واستحوذ على كل البلايين التى جاءت من الخليج ، ثم يلتفت الآن الى تحويلات المصريين لأهاليهم الغلابة ، والتى يريد السيسى نهبها بإلزام أصحابها بتحويلها بنكيا بالسعر الزهيد الذى يحدده .
3 ـ يعيش فى مصر أكثر من مائة مليون فقير ، ولا تنتج مصر ما يكفيهم من الغذاء الضرورى ، وتضطر للإستيراد بالدولار كل شىء ، من الأعلاف والحبوب والخامات اللازمة لتشغيل المصانع والورش . مع إرتفاع الدولار المتسارع والمتزايد ترتفع الأسعار يوميا وبصورة أكبر ، من سندوتش الفول والطعمية ( غذاء الفقراء ) والكشرى والبصل الى اللحوم ، الى الموبيليا والذهب والملابس . ويستمر إغلاق الورش والمصانع والمحلات ، وكل يوم يزداد عدد العاطلين ، ولا يجدون ما ينفقون . وكل يوم يزداد الحال سوءا . وسينتقل المصريون الفقراء سريعا الى مرحلة الجوع الحقيقى . تخيل رب أسرة يجلس عاجزا وأطفاله يصرخون من الجوع . لا نتحدث عن مليون شخص بل مائة مليون .!، وكما يقول المثل المصرى ( الجوع كافر ) ، وقد قال أبو حنيفة النعمان : ( عجبت لمن ليس فى بيته دقيق لماذا لا يخرج على الناس بسيفه ).! وإذا خرجوا واجهتهم جيوش السيسى المدربة على قتل الشعب فقط . أى يتعيّن علي المصريين الجوعى الاختيار بين الموت البطىء قهرا وجوعا أو الموت السريع قتلا .
4 ـ السيسى جاهز لهم بقوانينه الجديدة ، وبالمحاكمات العسكرية . الأخطر أنه إستعد مقدما بميشيليات البلطجية التى يقودها نخنوخ ، والذى أطلق السيسى سراحه ، وتم التصريح له رسميا بالعمل فى وكالة رسمية تابعة للجيش أو الشرطة ، لها أن تحمل السلاح وتتجوّل به . ويتردد أن نخنوخ قد إستقدم مساعدا له سودانيا قاتلا محترفا من أتباع حميدتى السودانى ، والذى يغتصب جنوده نساء السودان . ويتردد أن هناك آلاف السودانيين فى مصر قد تم تجنيدهم . يعنى إنه عندما يستشعر السيسى بوادر إنتفاضة سيقوم بحرق مصر وإطلاق ميليشياته على المستضعفين المصريين الجوعى ، ويهرب هو للخارج بطائرته العملاقة المحصّنة الى حيث أودع بلايينه ، ويترك مصر ــ كما توعّد من قبل ــ لا تنفع أحدا بعده .
ثالثا :
1 ـ لا يعلم الغيب إلا الله جل وعلا . وننتظر ما سيجرى غدا . ونقول ما نستشعره ، وهو مؤلم وخطير وليس بعيدا حصوله .
2 ـ ولكنّ الأخطر هو قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) . العادة إننا لا نكمل الآية الكريمة ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) الرعد ) . الجزء الخطير هو قوله جل وعلا ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11 ). أى إذا لم يتغير الناس الى الأفضل فسيحل عليهم الانتقام الالهى الذى لا مردّ له ولا مهرب منه . ويحدث هذا عندما يستكين الناس لتحكم أكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين ، ولا ينهضون لمقاومتهم منعا للفساد وإقامة للإصلاح . إنه المُشار اليه بقوله جل وعلا ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) البقرة ) .
3 ـ أما الفراعنة فمصيرهم الهلاك ، حدث هذا مع فرعون موسى الذى يسير السيسى على دينه وسُنّته ، وهو نفس دين الأمم التى أهلكها الله جل وعلا قبل هذا الفرعون . قال جل وعلا : ( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) الأنفال ). أرجو أن تتدبر الآيات السابقة من سورتى الرعد والأنفال ، وأن تقارن حال اليوم بما حدث من قبل .
أخيرا
1 ـ يعزُّ على النفس فى نهاية العمر وبعد جهاد سلمى استمر أكثر من 40 عاما أن ينتهى الحال بمصر الى ما هى عليه الآن . العزاء أن الله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأرجو أن أكون منهم .
2 ـ اللهم رحمتك بالمستضعفين فى مصر والسودان وفلسطين . اللهم إنتقم من أكابر المجرمين يا رب العالمين .
التعليقات
حمد حمد
اللهم كن بلطفك ورحمتك مع المستضعفين
بارك الله جل وعلا بعمرك وعلمك وجزاك الله خير الجزاء بالدنيا والآخره دكتورنا المحترم ، خاتمة رائعه وفي نفس الوقت مخيفة تحليل رائع للوضع الذي يعيشه المستضعفين في مصر الحبيبة وفلسطين وسوريا والسودان بل في جميع الدول العربية البائسة أكابر المجرمين لاتعنيهم الشعوب أبدا بل يتلذذون بتعذيبهم وإهانتهم وسلب حقوقهم لو يحصل لهم منع الهواء لمنعوه، أما الشعوب فحدث ولاحرج جهل وجوع وخوف وذل وهوان ليس له نهاية المشكلة أي ثورة ستكون مكلفة جدا ومرعبة دمار وقتل وتشرد لايعلم أحد حجمه وزمن نهايته الناس في ضياع دكتور أحمد الكثير يتمنى الخلاص ولكن!! ، الكتاب هذا جوهره في تحفيز الذات وشحذ الهمم أقرأه تقريبا شبه يومي وأتنى الجميع أن يقرأه حفظكم الله جل وعلا وجمعنا معكم في جنات الخلد.( أتمنى أن لاتنسى كتابة او رسم الهيكل التنظيمي للدولة الإسلامية ).
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول:
1 ـ الهيكل التنظيمى للدولة الاسلامية يفرضه نظامها ( الديمقراطية المباشرة ) ومنه ان تكون دولة لا مركزية يتشارك فيها الجميع فى مباشرة السلطة . التفاصيل متروكة لاختياراتهم . وعموما فمعظم ما أكتبه يكون بداية تفتح الطريق لمن يأتى ويضيف.
2 ـ أشكر لك استاذ حمد وللأحبة الذين أثروا هذا الكتاب بتعليقاتهم ، بحيث أعتبركم شركاء فى كتابته.
3 ـ أرجو وقتا وجهدا لتجميع المقالات فى كتاب واحد ، وعندى مقالات كتاب ( تشريعات المرأة ) لا تزال تنتظر التجميع ، وأملى أن يتسع الوقت والجهد لكتاب عن القرآن الكريم وعلم النحو العربى.
4 ـ وما توفيقى إلا بالله جل وعلا عليه توكلت واليه أنيب.
بن ليفانت
المستضعفون
كيف سيكون الله مع المستضعفين إذا كانوا أغبياء؟ لقد فوتوا على أنفسهم أكبر فرصة بعد 2011، والآن يدفعون الثمن .
أحمد صبحى منصور
جزاك الله جل وعلا خيرا اخى بن ليفانت . واقول :
ثورة 2011 كانت إنتفاضة عفوية ساذجة ، بقيادات أكثر سذاجة. والتاريخ الأوربى الحديث حافل بثورات وتغييرات ـ خصوصا فرنسا. والوصول الى الديمقراطية ( الغربية الجزئية ) يستلزم تضحيات وتغييرات جذرية فى ثقافة المجتمع . أرجو فى عصر الانترنت أن يكون الطريق الى الديمقراطية الجزئية فى مصر وكوكب المحمديين أقصر وأسرع .
الملحق الأول :
حق الأقباط فى القتال الدفاعى طبقا للشريعة الاسلامية
مقدمة
1 ـ فى مقال ( الاسلام و السلام : الدولة الاسلامية دولة مسالمة قوية ) نقلت من انجيل متى ( الأصحاح العاشر عدد 34 ــ ) قوله : ( لا تظنوا أنى جئت لألقى سلاما على الأرض ، ما جئت لألقى سلاما ، بل سيفا ، فأنى جئت لأفرق الأنسان ضد أبية والأبنة ضد أمها والكنة عن حماتها وأعداء الأنسان أهل بيته ، من أحب أبا أو أما أكثر منى ، فلا يستحقنى ، ومن أحب أبنا أو أبنة أكثر منى فلا يستحقنى ومن لا يأخذ صليبة ويتبعنى فلا يستحقنى ومن وجد حياته يضيعها ، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها . ) ، ورد متعصب قبطى يقول لى ( أنت مُدلّس ). مع بذاءات أخرى . هذا مع أننى :
1 / 1 : إكتفيت بنقل النّصّ كما هو دون تعليق . وهو لا يستطيع أن ينكر وجوده .
1 / 1 : كان الاستشهاد بهذا النّصّ وما قبله من العهد القديم ضروريا لربط مقدمة المقال بنهايته .
1 / 3 : إنّ دفاعى عن الأقباط لم يقم به شيخ أزهرى من قبل . بدأ فى رسالتى للدكتوراة عام 1977 ، ثم فى أول كتاب لى ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) عام 1982 ، وفيما بعد فى مقالات منها ( بناء الكنائس والدفاع عنها حق مقرر فى الاسلام ) وكتب منها : ( إضطهاد الأقباط فى مصر بعد الفتح ..) ( المقريزى وثقافة الفتوحات فى عصرنا ). هذا عدا : المشاركة فى تأسيس ( الحركة الشعبية لمواجهة الارهاب ) فى أوائل التسعينيات ضد الارهاب ضد الأقباط والكنائس وقتها ، وفى تأسيس مشروع إصلاح التعليم المصرى ليكون أكثر تسامحا مع الأقباط . وهو المشروع الذى تسبب فى قفل مركز ابن خلدون بعدها . ثم مؤتمرات ومظاهرات فى واشنطن وغيرها تضامنا مع الأقباط . وفى إنغماسى فى الدفاع عن الأقباط كنت أنسى أننا نتعرض لاضطهاد أشدّ دون ان يدافع عنا الأقباط ، بل إنّ بعضهم يهاجمنا ظلما وعدوانا .
1 / 4 : أومن بالحرية الدينية المطلقة للجميع على قدم المساواة ، ومنها حرية إنتقاد أى دين ، فمن حق غيرى أن ينتقد دينى كما أنتقد دينه . والأغلبية الساحقة من كتاباتى هى ضد ( المحمديين ) ، وفى النهاية فللدين يوم هو ( يوم الدين ) يحكم فيه مالك يوم الدين فيما نحن فيه مختلفون .!
2 ـ جاء سؤال آخر : هل للأقباط حق مشروع فى الشريعة الاسلامية بالقتال الدفاعى ؟ أبهجنى هذا السؤال ، وأرسل تحية لصاحبه على جرأته ، ويسعدنى أن أجيب عليه بهذا المقال :
أولا : قرآنيا :
1 ـ مدار التطبيق للشريعة الاسلامية هو سلوك البشر الظاهرى ، وليس مجالها على الاطلاق العلاقة بالرحمن جل وعلا وما فى القلوب . وايضا فالكافر المشرك ليس فى علاقته بالله جل وعلا ـ فمرجع ذلك له جل وعلا يوم الدين . الكافر المشرك هو الذى يعتدى على المُسالمين ، ويقاتلهم ويقوم بإكراههم فى الدين . وهناك تشريعات فى مواجهته بالصبر والهجرة والقتال عند تمام الاستعداد ، وكل ذلك حسب حالة من يقع عليه الاعتداء .
2 ـ آيات القتال الدفاعى فى القرآن الكريم تتحدث عن ( الذين ) لتنطبق على كل ( الذين ) يشملهم هذا الوصف وقت نزول القرآن وبعده . ليست خاصة بالنبى محمد وأصحابه . يقول جل وعلا : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الحج ) ، فالذين يقع عليهم القتال ظلما مأذون لهم بالقتال الدفاعى ، لا فارق بين الصحابة والأقباط .
3 ـ بالتالى فإن الأقباط حين رفعوا السلاح ضد ظلم العرب بعد الفتح كانوا يقومون بفريضة إسلامية . وحين رضوا بالذل والاستكانة مع قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم كانوا عُصاة لله جل وعلا . لا ننسى أن الأقباط حين حكم الخلفاء كانوا الأكثر عددا والأقوى وقت أن كانت الأسلحة فردية والغلبة للكثرة العددية .
ثانيا :
الأقباط أطاعوا الله جل وعلا حين قاتلوا العرب فى ثوراتهم ، وننقل بعضها من (الخطط ) للمقريزى :
1 ـ عام 107 فى شرق الدلتا بسبب جشع الوالى عبد الله بن الحبحاب..
2 ـ عام 121 هجرية، فى الصعيد ، ثم انتقلت الثورة إلى سمنود سنة 132 بزعامة البطل المصرى بجنس الذى قُتل فى الحرب ومعه كثيرون ، ومع ذلك انتقلت الثورة إلى رشيد فى نفس العام .
3 ـ شهد عام 132 سقوط الدولة الأموية بعد هزيمة الخليفة مروان بن محمد فى موقعة الزاب ، وقد هرب الى مصر بما تبقى من جيشه ، وطارده الجيش العباسى . وجد الخليفة الهارب ثورات مصريةفقضى عليها . وحين لقى حتفه فى أبو صير كان يحتجز عنده البطرك القبطى ومجموعة من كبار الرهبان وزعماء الأقباط ، فأفرج عنهم الجيش العباسى . يقول المقريزى : ( ثم خالفت القبط ( أى ثار المصريون) برشيد فبعث إليهم مروان بن محمد لما قدم مصر وهزمهم .. وأحرق مصر وغلاتها .. وأسر عدّة من النساء المترهبات ببعض الديارات وراود واحدة منهنّ عن نفسها ، فاحتالت عليه ودفعته عنها ، بأن رغّبته في دهن معها إذا ادّهن به الإنسان لا يعمل فيه السلاح، وأوثقته بأن مكنته من التجربة في نفسها فتمت حيلتها عليه، وأخرجت زيتًا ادهنت به ثم مدّت عنقها فضربها بسيفه فأطار رأسها ، فعلم أنها اختارت الموت على الزنا ).!!.
4 ـ ( خرج القبط بناحية سخا وأخرجوا العمال في سنة خمسين ومائة ، وصاروا في جمع ، فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير مصر عسكرًا ...وهزموا باقيهم فاشتد البلاء على النصارى واحتاجوا إلى أكل الجيف ).
5 ـ ( وفي أيامه خرج القبط ببلهيت سنة ست وخمسين فبعث إليهم موسى بن علي أمير مصر وهزمهم ).
4 ـ ثورة البشمويين فى عصر المأمون سنة 210 . عجز الجند العباسيون عن إخمادها فأرسل لهم المأمون قائده الافشين بجيش جرّار إستطاع هزيمة الثوار، ومن وقع منهم فى الأسر أمر المأمون بقتله وسبى نسائه وأولاده وبيعهم رقيقا. يقوله المقريزى :( انتقض القبط في سنة ست عشرة ومائتين ، فأوقع بهم الإفشين حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد اللّه المأمون ، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية ، فبيعوا،وسبى أكثرهم.).
ثالثا :
الأقباط عصوا الله جل وعلا حين سكتوا عن ظلم العرب ، ومنها :
1 ـ ساعدوا عمرو بن العاص فهزم بهم البيزنطيين بجيشه القليل . وغدر بهم عمرو بن العاص ففرض عليهم الجزية وسبى نساءهم وسلب كنوزهم . وفصّلنا القول فى هذا . لم يثوروا عليه .!
2 ـ فى ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر صودر البطرك مرتين، وأمر الوالى بإحصاء الرهبان وأخذ منهم الجزية، وهى أول جزية أخذت من الرهبان.
3 ـ الوالى عبد الله ابن الخليفة عبد الملك بن مروان ـ إشتد على النصارى، واقتدى به الوالى التالى قرة بن شريك فأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا بمثلها من قبل على حد قول المقريزى.
4 ـ فى خلافة يزيد بن عبد الملك تطرف الوالى أسامة بن زيد التنوخى فى اضطهاد الأقباط، فصادر أموالهم ووسم أيدى الرهبان بحلقة من حديد، وكل من وجده منهم بغير وسم قطع يده، وفرض غرامات على الأقباط، وصادر الأموال من الأديرة، ومن وجده من الرهبان فى تلك الأديرة بلا وسم ضرب عنقه أو عذبه، وهدم الكنائس وكسر الصلبان.
5 ـ وفى خلافة هشام بن عبد الملك تشدد الوالى حنطلة بن صفوان فى زيادة الخراج، وأحصى الأقباط وجعل على كل نصرانى وشماً فيه صورة أسد ومن وجده بلا وشم على يده قطع يده.
6 ـ ويقول المقريزى :( وقبض عبد الملك بن موسى بن نصير أمير مصر على البطرك ميخائيل ، فاعتقله ، وألزمه بمال ، فسار بأساقفته في أعمال مصر يسأل أهلها ، فوجدهم في شدائد ، فعاد إلى الفسطاط ، ودفع إلى عبد الملك ما حصل له ، فأفرج عنه ).!
7 ـ ويقول :( وفي الفتنة بين الأمين والمأمون فانتُهبت النصارى بالإسكندرية وأحرقت لهم مواضع عديدة وأحرقت ديارات وادي هبيب ونهبت فلم يبق بها من رهبانها إلاّ نفر قليل.).
8 ـ فى عصر الخليفة الفاطمى ( الحاكم ) :
8 / 1 : عام ( خمس وتسعين وثلثمائة) : ( قدم اليعاقبة زخريس بطركًا ، فأقام ثماني وعشرين سنة، منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله...تسع سنين اعتقله فيها ثلاثة أشهر، وأمر به فألقي للسباع ، هو وسوسنة النوبي ).
8 / 2 :( نزل بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها .. فقبض على عيسى بن نسطورس النصرانيّ وهو إذ ذاك في رتبة تضاهي رتب الوزراء وضرب عنقه، ثم قبض على فهد بن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان وضرب عنقه ، وتشدد على النصارى وألزمهم بلبس ثياب الغيار وشدّ الزنار في أوساطهم ، ومنعهم من عمل الشعانين وعيد الصليب والتظاهر بما كانت عادتهم فعله في أعيادهم من الاجتماع واللهو، وقبض على جميع ما هو محبس على الكنائس والديارات ( أى أوقاف الكنائس والأديرة ) وأدخله في الديوان وكتب إلى أعماله كلها بذلك ، وأحرق عدّة صلبان كثيرة ، ومنع النصارى من شراء العبيد والإماء ، وهدم الكنائس التي بخط راشدة ظاهر مدينة مصر ، وأخرب كنائس المقس خارج القاهرة ، وأباح ما فيها للناس فانتهبوا منها ما يجلّ وصفه ، وهدم دير القصير وانهب العامة ما فيه ، ومنع النصارى من عمل الغطاس على شاطئ النيل بمصر، وأبطل ما كان يُعمل فيه من الاجتماع للهو ، وألزم رجال النصارى بتعليق الصلبان الخشب التي زنة كل صليب منها خمسة أرطال في أعناقهم، ومنعهم من ركوب الخيل ، وجعل لهم أن يركبوا البغال والحمير بسروج ولجم غير محلاة بالذهب والفضة، بل تكون من جلود سود ، وضرب بالحرس في القاهرة ومصر أن لا يركب أحد من المكارية ذمّيًا ولا يحمل نوتيّ مسلم أحدًا من أهل الذمة ، وأن تكون ثياب النصارى وعمائمهم شديدة السواد ، وركب سروجهم من خشب الجميز ، وأن يُعلق اليهود في أعناقهم خشبًا مدوّرًا زنة الخشبة منها خمسة أرطال وهي ظاهرة فوق ثيابهم . وأخذ في هدم الكنائس كلها ، وأباح ما فيها وما هو محبس عليها للناس نهبًا وإقطاعًا ، فهُدمت بأسرها، ونهب جميع أمتعتها ، وأقطع أحباسها ( أى أوقافها )، وبني في مواضعها المساجد ، وأذّن بالصلاة في كنيسة شنودة بمصر، وأحيط بكنيسة المعلقة في قصر الشمع ، وكثر الناس من رفع القصص ( أى الشكاوى ) بطلب كنائس أعمال مصر ودياراتها ، فلم يردّ قصة منها إلاّ وقد وقع عليها بإجابة رافعها لما سأل، فأخذوا أمتعة الكنائس والديارات وباعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك ، وتصرفوا في أحباسها . ووجد بكنيسة شنودة مال جليل ، ووجد في ( الكنيسة ) المعلقة من المصاغ وثياب الديباج أمر كثير جدًّا إلى الغاية . وكتب إلى ولاة الأعمال بتمكين المسلمين منهدم الكنائس والديارات ، فعمّ الهدم فيها من سنة ثلاث وأربعمائة ، حتَى ذكر من يوثق به في ذلك أن الذي هدم إلى آخر سنة خمس وأربعمائة بمصر والشام وأعمالهما من الهياكل التي بناها الروم نيف وثلاثون ألف بيعة . ونهب ما فيها من آلات الذهب والفضة وقبض على أوقافها وكانت أوقافًا جليلة على مبان عجيبة . وألزم النصارى أن تكون الصلبان في أعناقهم إذا دخلوا الحمام ، وألزم اليهود أن يكون في أعناقهم الأجراس إذا دخلوا الحمام . ثم ألزم اليهود والنصارى بخروجهم كلهم من أرض مصر إلى بلاد الروم ، فاجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة ، واستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أعفوا من النفي . وفي هذه الحوادث أسلم كثير من النصارى.) .أى تنوع هذا الاضطهاد من قتل زعماء الأقباط الى هدم وسلب الكنائس والأديرة ، وتحقير الأقباط واليهود فى موضوع الزى ، ومنعهم من ركوب الخيل ، ومن أن يتاح لهم ركوب الحمير بالأجرة أو ركوب السفن بالأجرة إذا كان صاحب الحمار ( المكارى ) مسلما ، أو كان صاحب المركب مسلما.
أخيرا
1 ـ هل إنتهى إضطهاد الأقباط فى مصر ؟
2 ـ قال الأمير المصرى المؤمن من آل فرعون :( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31 )(غافر).
الملحق الثانى :
مقال سبق نشره فى التسعينيات دفاعا عن الأقباط
( بناء الكنائس والدفاع عنها حق مقرر فى الاسلام )
حين تعرض الأقباط لعمليات إرهابية
أولا :
1 ـ تبدأ المشكلة بالغزو العربى لمصر الذى حمل اسم الاسلام زورا وبهتانا . اعتاد بعض الحكام العرب والمسلمين فى مصر اتخاذ موقف عدائي من حق الأقباط الشرعى فى اقامة كنائس لهم يعبدون فيها الله تعالى حسب معتقداتهم ودينهم.
2 ـ سبب المشكلة ليس الاسلام ، فالغزو العربى لمصر ولغيرها كان خرقا لشريعة الاسلام واعتداءا على شعوب مسالمة لم تعتد على العرب المسلمين ، وهو احتلال لأرضهم وظلم لهم، والله سبحانه وتعالى لا يحب الظالمين ، فهو جل وعلا الذى ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى فى نفس الوقت الذى يأمر فيه بالعدل والاحسان.
3 ـ اذا كان الغزو العربى نفسه خروجا عن الاسلام فمن المنطقى أن تتكاثر نتائجه السيئة الظالمة المخالفة لشريعة الاسلام ، ومنها حرمان المسيحيين من بناء كنائسهم وهدم القائم منها ، وفرض الجزية عليهم اثما وعدوانا ، واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية بينما هم أصحاب الأرض الأصليون .
4 ـ فقهاء السلطة فيما بعد كتبوا فى تبرير هذا الظلم فتاوى سامة ، وأحاديث مفتراة ، وتفسيرات ضالة ، وتغييرات لمصطلحات القرآن الكريم ومفاهيمة ، جعلت من يقرؤه بمصطلحات التراث يقع فى التناقض فى فهم الآيات. كل هذا الجهد الثقافى كان لتأكيد الظلم العربى الذى جاء به الغزو العربى باسم الاسلام زورا وبهتانا.
ثانيا :
بهذا الغزو العربى الظالم وتبريره دينيا بالتزوير تأكد التناقض بين الاسلام وأولئك المسلمين ، خصوصا حين نراجع سريعا بعض حقائق الاسلام فيما يخص موضوعنا :
1 ـ القرآن الكريم يجعل حصانة لكل بيوت العبادة التى يذكر فيها الناس اسم الله تعالى من صوامع وبيع وصلوات ومساجد لليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم ، ويجعل الجهاد مشروعا للدفاع عنها . قال جل وعلا : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج ). الصوامع والبيع لأهل الكتاب ، والصلوات لأى نوع من العبادة ، ثم المساجد ، والوصف لكل بيوت العبادة هو ( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ ) ، لم يقل فيها ( يذكر فيها إسم الله وحده ) حتى لا تكون بيوت العبادة تلك خاصة بمن يؤمن بالله جل وعلا وحده إلاها لا شريك له . ثم يأتى أسلوب التأكيد بأنه جل وعلا لينصرنّ من ينصره قتالا فى الدفاع عن بيوت العبادة وحصانتها .
2 ـ كانت التوراة الحقيقية والانجيل الحقيقى موجودين وقت نزول القرآن الكريم . فى عصر عمر بن الخطاب فى خلافته أجلى أهل الكتاب ، والحرب مشتعلة بين العرب والبيزنطيين ، فاختفت التوراة الحقيقية والانجيل الحقيقى ، وانتشر العهد القديم والعهد الجديد . القرآن الكريم يؤكد على الاختلافات التشريعية بين القرآن والانجيل والتوراة ، ويصفها بالهدى والنور ، ويطلب من أهل الانجيل أن يحتكموا الى ما أنزل الله تعالى لهم فى الانجيل ، ويتعجب من الاسرائيليين كيف يحتكمون للنبى محمد عليه السلام وعندهم التوراة فيها حكم الله ، ويؤكد أنه تعالى أنزل التوراة فيها هدى ونور ، وأنه أنزل الانجيل هدى ونورا ، ويطالب اهل الكتاب باقامة التوراة والانجيل وما انزله الله تعالى اليهم وهو نفس المطلوب من المسلمين، ويطلب من المؤمنين من أهل الكتاب والمسلمين أن يتنافسوا فى الخيرات. قال جل وعلا :
2 / 1 ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( 44 ) المائدة )
2 / 2 : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47) المائدة )
2 / 3 : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة )
2 / 4 : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) المائدة ) .
3 ـ القرآن الكريم يؤكد على أنه لا اكراه فى الدين ويقرر حرية الايمان والكفر وليس مجرد حرية التدين بين المؤمنين من أهل الأديان والمذاهب. وهناك أكثر من الف ( 1000 ) آية قرآنية فى هذا السياق.
4 ـ القرآن الكريم يجعل المقصد الأعلى من القتال فى سبيل الله هو منع الفتنة أى الاضطهاد الدينى ليكون الناس أحرارا فى إخيارهم الدينى من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (29) الكهف )، وتأجيل الحكم فى الاختلافات الدينية الى الله جل وعلا وحده يوم الدين . قال جل وعلا :
4 / 1 : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) (193) البقرة )
4 / 2 : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (39) الأنفال ).
5 ـ قوله سبحانه وتعالى : ( يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ﴾ المائدة51 ) وسائر آيات الموالاة فى القرآن قد تم توظيفها ضد الأبرياء من المصريين الأقباط، وصرخ بها خطباء المساجد فى التحريض ضد الأقباط ، وهم فى ذلك الاستشهاد الخاطئ يتناسون:
5 / 1 : أن الموالاة تعنى التحالف الحربى مع طرف ضد طرف آخر . ولا ينطبق هذا على أقباط مصر المُسالمين .
5 / 2 : سياق الآيات وهى تتحدث عن عصر النبى محمد عليه السلام حين طرأت ظروف حربية خاصة فرضت تحالفات سرية بين المنافقين ـ وهم بعض الصحابة ممن كان يعيش داخل المدينة ـ وبعض أهل الكتاب المعتدين . اذن هو تعليق على أحداث تاريخية ارتبطت بزمانها ومكانها وحكى القرآن الكريم بعض أحداثها وما دار فيها من أقوال جاء ذكرها فى الآية التالية : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) المائدة ) . لا بد من تنفيذ هذا التشريع اذا تكررت ظروفه بحذافيرها ، كأن يهجم علينا عدو معتديا فيتحالف معه فريق من المسلمين ضد بقية المسلمين ، أى يواليه فى عدوانه علي الوطن والشعب ، هنا يستحق اللوم طبقا لهذا التشريع القرآنى ، بل وطبقا لأى تشريع بشرى فى أى زمان ومكان.
6 ـ الا ان المتطرفين الذين يعتدون على الأبرياء ويقتلون المدنيين لهم عقيدة أخرى فى الموالاة يسمونها البراء والولاء، أساسها تقسيم العالم الى قسمين او معسكرين ، دار الاسلام ودار الحرب. وهم يعتقدون أن واجبهم هو الجهاد ضد معسكر الحرب او دار الكفر لارغامهم على دخول الاسلام طبقا للحديث الكاذب الذى رواه البخارى والقائل " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله .. ".وقد جاء اختراع هذا الحديث ليبرر ويسوغ الغزو العربى الذى حمل اسم الاسلام زورا وبهتانا ، واستولى بها الصحابة بعد موت النبى محمد على معظم العالم المعروف وقتها ، ودارت الحرب بينهم وبين الروم ، وانقسم العالم الى معسكرين : عربى يحمل اسم الاسلام ، ورومى غربى يحمل اسم المسيحية. وجرى تقسيم العالم الى دار للحرب ودار للاسلام فى التراث الفقهى . كل هذا تحريف وتخريف وظلم للاسلام قبل ان يكون ظلما لغير المسلمين..
7 ـ تجاهل أئمة التراث الآيات القرآنية التى تتحدث عن المؤمنين المتقين من أهل الكتاب ( آل عمران 113 : 115 ، 199 ) ( النساء 162 )( الإسراء 107 : 109 ) ( الشعراء 197،) القصص 52 : 55 ) .
ثالثا :
1 ـ الاسلام ليس هو السبب فى اضطهاد الأقباط، بل انه هو المظلوم الأول فى هذه القضية ، لأن أولئك الظالمين استخدموا اسمه أولا فى الغزو الظالم لبلاد الآخرين ثم استخدموا اسمه فى اذلال وقهر الشعوب الأخرى. والنتيجة هى انه المتهم الأول فى العالم الآن والمسئول عن التطرف والارهاب .
2 ـ وليس هناك ظلم أبشع من أن ينزل الله تعالى الاسلام دينا للعدل والاحسان ويؤكد على أن رسول هذا الدين جاء رحمة للعالمين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء )، ثم يقوم أتباع هذا الدين بجعله ارهابا للعالمين. هذا ما فعلناه بديننا.
3 ـ واضح أن المتهم الأول هم أولئك المسلمون الغزاة الظالمون ومن عاونهم فى تزييف تعاليم الاسلام بالفقه والحديث والسيرة والتفسير وما يسمى بعلوم القرآن.
4 ـ واذا كان الظالمون السابقون قد هلكوا وماتوا فان هناك تيارا سياسيا يتكلم باسمهم ويعمل لارجاع " مجدهم " ويتحدث عن " فتح مصر للمرة الثانية. أولئك هم الاخوان المسلمون .
5 ـ ثقافة الأخوان المسلمين تم نشرها باستمرار وباضطراد عبر الاعلام الحكومى والمساجد والأزهر طيلة أربعين عاما ، فأنشأت جيلا متعصبا نحتاج الى أربعين عاما أخرى حتى نطهر عقله.
6 ـ أزعم أن الاخوان المسلمين سعداء بهذا المناخ وينتظرون أن تأتى ثماره السامة فى المستقبل القريب فى الحاق المزيد من الاضطهاد للأقباط والشيعة والقرآنيين وكافة المسلمين المعتدلين والعلمانيين ، لكى تمهد لدولتهم القادمة. وأزعم أن الاخوان يؤمنون بالتقية ، فيعلنون شجبهم لما يحدث ، ويتحدثون عن فتح صفحة جديدة مع الأقباط لمجرد الخداع وكسب الوقت. أتمنى أن أكون مخطئا فيما أزعم.
رابعا :
اتمنى مخلصا أن يهب الاخوان لاصلاح ما حدث على المستويات التالية :
1 ـ سياسيا: باعلان التبرؤ من كل اضطهاد وقع فى الماضى أو يقع فى الحاضرعلى الأقباط والشيعة والقرآنيين، وفتح صفحة جديدة من الاخاء والتسامح الدينى نستعيد ما كان سائدا من تسامح مصرى. ويقترن هذا الاعلان بخطوات عملية مثل زيارة لقرية العديسات والوقوف بصرامة مع المظلومين من أهلها والدفاع عنهم، والعمل على اطلاق سراحهم ومعاقبة الجناة الحقيقيين. وفعل نفس الشىء فى قرى أخرى شهد فيها الأقباط المصريون ظلما وبغيا من الخانكة الى الفكرية والكشح وغيرها.
2 ـ ثقافيا: باجراء ندوات وورش عمل تتناول كيفية اصلاح الوعى الشعبى الذى فسد ، وكيفية احلال ثقافة التسامح محل التعصب . واجراء ندوات أخرى تؤكد على حقوق الانسان وحقوق المواطنة والحق المطلق فى التدين والعقيدة واقامة الشعائر لكل من يريد دون تدخل من الدولة أو المجتمع .
3 ـ دينيا: مراجعة علمية للتراث وفتاويه وأحاديثه ومصطلحاته والاحتكام فيها للقرآن ومصطلحاته ومفاهيمه وتشريعاته، ليكون ذلك أساسا لنشر ثقافة التسامح الاسلامى فى المساجد وسائر اجهزة الاعلام.
4 ـ تشريعيا: هناك حديث يدور حول اقتراح جديد يقدم لمجلس الشعب يقضى بتعديل تشريعى لتوحيد اجراءات بناء وتجديد المساجد والكنائس دون تفرقة. لا بد لأعضاء الاخوان فى المجلس تبنى هذا الاقتراح كبداية ، يعقبها تطهير التشريعات المصرية من كل ما يخاف العدل والمساواة وحقوق المواطنة وحقوق الانسان ، وحرية العقيدة والفكر وحرية العبادة.
أخيرا :
1 ـ ما سبق كله هو فى اطار الممكن اذا خلصت النوايا وكان الاخوان صادقين فعلا فيما يرفعونه من شعارات.
2 ـ الاخوان الآن قوة معترف بها سياسيا ودوليا كحقائق فى الواقع السياسى مهما اختلفنا معهم. الفرصة متاحة لهم الآن لكى نغير فكرتنا عنهم . فكرتنا عنهم لم تأت من فراغ وانما من دراسة ومعايشة لتاريخهم السياسى والتراث الذى يؤمنون به ويدافعون عنه. دعوناهم كثيرا لتبنى الاصلاح فلم يلتفتوا . لم نيأس ولا زلنا نصر على دعوتهم ليكونوا جبهة تنصف الاسلام من الظلم الذى ألحقه به المسلمون الغزاة والبغاة.
3 ـ الاسلام أعظم من كل الأشخاص فى أى زمان وأى مكان. وليس فى الاسلام تقديس لبشر ، فكيف نتجاهل انصاف الاسلام بسبب شرور ارتكبها بعض الصحابة فى تاريخ المسلمين وبعض الأئمة فى تراث المسلمين ؟
4 ـ انصاف المظلومين من أقباط وشيعة وقرآنيين هو دفاع حقيقى عن القيم الاسلامية العليا من عدل واحسان وتسامح وانصاف. حين تحمل شعار الاسلام وتتصدى لتطبيق شريعته متجاهلا هذه القيم الاسلامية العليا فأنت بما تفعله أشد الناس عداوة للاسلام.
5 ـ الفرصة الآن متاحة للاخوان لبدء صفحة جديدة فى قرية العديسات والفكرية وابوقرقاص والكشح وكل قرية مصرية عانى فيها الأقباط من ظلم فعله بهم أشقياء ينتمون للاسلام ظلما وعدوانا.
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5111 |
اجمالي القراءات | : | 56,686,052 |
تعليقات له | : | 5,445 |
تعليقات عليه | : | 14,818 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
دعوة للتبرع
الخلفاء الراشدون.!!: استفس اري عن مسمى \"الخل فاء الراش دين\" من...
الوخى لغير الأنبياء: هل يمكن أن يرسل لله لعباد ه غير الأنب ياء و...
أهلا بك قارئا : اعجبن ي موقعك م وقرأت بعض الافك ار حول...
تأثير الدعاء: هل للدعا ء او اللعن او غيرهم ا من الخير...
الاختباروالاختيار: طالما وأن دين الاسل ام (القر ن ) منزل من عند...
more