سيبويه: الشاب الفارسي الذي أصبح إماما للنحويين العرب
سيبويه: الشاب الفارسي الذي أصبح إماما للنحويين العرب
إذا قيل "سيبويه" تبادر للذهن علم النحو، فقد ارتبط اسم سيبويه بالنحو ، رغم أن ذلك الاسم فارسي لا صلة له باللغة العربية .. وليس ذلك الشيء الغريب الوحيد في علاقة سيبويه الفارسي بإمامة النحويين العرب ولكن الغريب أيضا أن تكون لسيبويه هذه المنزلة وهو الذي مات شابا في بداية الثلاثينات من عمره. ومع عمره القصير فلا يزال إماما لشيوخ كبار نهلوا من علمه ومن كتابه المشهور . والأغرب من هذا أن تكون العربية ثقيلة علي لسانه أو بتعبيرهم " كان فى لسانه حبسة ، وقلمه أبلغ من لسانه"!!
وسيبويه هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، وهو فارسي الأصل كان له ولاء لآل الربيع بن زياد. وجاءه لقب سيبويه من معناه الفارسي وهو رائحة التفاح ، فيقال إن الصبي عمرو بن عثمان اكتسب هذا اللقب "سيبويه" لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحة ، ويقال إن أم سيبويه كانت تلاعبه وهو طفل بذلك اللقب فارتبط به ، وقالوا إنهم أطلقوا عليه هذا اللقب لأن كل من يلقاه كان يشم منه رائحة الطيب ، وقيل لأنه كان يعتاد شم التفاح ، وقيل لأنه كان لطيفا فأطلقوا عليه سيبويه لأن التفاح ألطف الفواكه . ومهما اختلفت الأقاويل فإن المستفاد منها أن عمرو بن عثمان بن قنبر الشاب الفارسي قد اكتسب لقب سيبويه لصفاته الحسنة ووسامته ، وقد قالوا عنه إنه كان شابا نظيفا جميلا .
نشأته ومدرسته
ينتمي سيبويه لأسرة فارسية من منطقة البيضاء بإيران ، ولكنه نشأ في البصرة وصار إمام المدرسة النحوية فيها ، والتي تنافس المدرسة النحوية في الكوفة. ولأنه نشأ بالبصرة فقد تعلم علي يد عملاق لا نظير له وهو الخليل بن أحمد ، الذي كان يؤثره علي بقية تلاميذه . وكان إذا دخل عليه سيبويه يقول له : أهلا بزائر لا يمل .
ولم يكن الخليل بن أحمد أستاذه الوحيد لأنه تلقي العلم عن يونس وأبي الخطاب الأخفشي وعيسي بن عمر ، ويقولون إنه برز من أصحاب الخليل بن أحمد أربعة : سيبويه والنضر بن شميل وعلي بن نصر ومؤرج السدوسي .
وقد بدأ سيبويه بأخذ من كل علم بطرف دون أن يتخصص ، ولكن حدثت له واقعة جعلته يتجه للنحو ليتخصص فيه ، إذ كان يتلقى العلم علي يد حماد بن سلمه إمام الحديث والعربية في مدينة البصرة ، وحدث أن كان سيبويه يسمع عنه الحديث يوما فقال حديثا نصه : " ما أحد من أصحابي إلا قد أخذت عليه ليس أبا الدرداء" فقال سيبويه " ليس أبو الدرداء " فقال له حماد: لحنت يا سيبويه .. فقال سيبويه : " لا جرم ، لأطلبن علما لا ألحن فيه أبدا . "، ثم لزم الخليل وتعلم علي يديه العربية .
ويبدو أن نشأته الفارسية وثقل لسانه جعلته حساسا لأي نقد أو اتهام باللحن ، وكان ذلك دافعا له ليتفوق في اللغة العربية على أبنائها ، وذلك ما حدث فعلا ، وأصبحت اللغة العربية وقواعدها أكثر ارتباطا بسيبويه الفارسي أكثر من غيره من العلماء النحويين الذين هم من أصل عربي.
ومع تخصصه في النحو وشهرته فيه إلا أنه كان يشارك في كل علم ، ويقول ابن عائشة " كنا نجلس مع سيبويه النحوي في المسجد ، وكان شابا جميلا نظيفا قد تعلق من كل علم بسبب وضرب في كل أدب بسهم ، مع حداثة سنه وبراعته في النحو ".
وبعد أن تخصص في النحو أتيح له أن يرشد العرب إذا لحنوا أمامه في اللغة العربية ، يقول ابن سلام : " كان سيبويه جالسا في حلقة بالبصرة فتذاكرنا شيئا من حديث قتادة ، فذكر سيبويه حديثا غريبا وقال :" لم يرو هذا غير سعيد بن أبي العروبة " ، فسأله الحاضرون عن سبب قوله " سعيد بن أبي العروبة" واسمه "سعيد بن عروبة " فقال سيبويه : " هكذا يقال لأنه العروبة هو يوم الجمعة فمن قال عروبة فقد أخطأ ."، وذكر الحاضرون ذلك الرأي ليونس الذي كان شيخا لسيبويه فقال :" أصاب في رأيه ، لله دره .."
ويروي ابن عائشة أن سيبويه أنه كان يجلس في مسجد البصرة ذات يوم إذ هبت الريح فأطارت الورق ، فقال سيبويه لبعض الحاضرين : " انظر أي ريح هي ؟" فصعد الرجل إلي سطح المسجد ثم عاد يقول إنه ما رأي شيئا علي السطح بسبب قوة الريح ، فقال سيبويه: " العرب تقول في هذا تذاءبت الريح ، وتذاءبت أي فعلت فعل الذئب أي أن الريح تأتي من هنا ومن هناك ليختل فيتوهم الناظر أنها عدة ذئاب "..!!
كتاب سيبويه
وشهرة سيبويه ترجع في الحقيقة إلي كتابه الفريد في النحو، ذلك الكتاب الذي صيّر ذلك الشاب الفارسي إماما لكل النحويين بعده . ولأهمية كتاب سيبويه في تاريخ علم النحو فإنهم يطلقون عليه اسم ( الكتاب ) فإذا قيل " الكتاب " فإن النحويين يفهمون أن المراد هو كتاب سيبويه ، يقول المؤرخ النحوي أبو سعيد السيرافي " أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب الأخفش وغيره ، وعمل كتابه الذي لم يسبقه أحد إلي مثله ولا لحق به من بعده ، وكان كتابه أشهر عند النحويين علما، فكان يقال بالبصرة قرأ فلان " الكتاب" فيعلمون أنه كتاب سيبويه . وكان المبرد إذا أراد طالب علم أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له : " هل ركبت البحر ؟ " تعظيما له واستصحابا لما فيه".
وقد وضع المبرد عدة كتب في شرح كتاب سيبويه وفي التعليق عليه.
وروي الجاحظ أنه أراد الخروج للقاء الوزير " محمد بن عبد الملك الزيات " ، ففكر في شيء يهديه له فلم يجد كتابا أنسب من كتاب سيبويه ، فأهداه له وقال : " أردت أن أهدي لك شيئا ففكرت فإذا كل شيء عندك فلم أر أهم من هذا الكتاب ، وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء" ( الفراء هو عالم النحو ) ، فقال له الوزير : " والله ما اهديت إلي شيء أحب إلي منه."
وادعي خصوم سيبويه من مدرسة الكوفة النحوية أنه سرق كتابه من علم الخليل بن أحمد أستاذه ، ويقول الجرمي في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتا، سألته عنها فعرف ألفا ولم يعرف خمسين.
وقيل ليونس أستاذ سيبويه بعد موت سيبويه : " إن سيبويه صنف كتابا في ألف ورقة من علم الخليل " ، فقال : "ومتي سمع سيبويه هذا كله من الخليل ؟ جيئوني بكتابه " ، فلما رآه قال : " يجب أن يكون قد صدق فيما حكاه عن الخليل كما صدق فيما حكاه عني " ، ذلك أن سيبويه كان ينقل بعض آراء الخليل ويسندها إليه وفق ما تقتضيه الأمانة العلمية.
وقال الأزهري : " كان سيبويه علامة حسن التصنيف ، جالس الخليل وأخذ عنه وما علمت أحدا سمع منه كتابه هذا لأنه احتضر ، وقد نظرت في كتابه فرأيت فيه علما جما "..
هذا بينما يقول ثعلب إمام المدرسة النحوية في الكوفة إنه اجتمع أربعون شخصا قاموا بتأليف كتاب سيبويه ، وكان سيبويه واحدا منهم ، وهو أصول الخليل إلا أن سيبويه ادعاه ..!!
وإذا عرفنا الخصومة بين مدرستي النحو في الكوفة والبصرة أدركنا السبب الحقيقي في هجوم ثعلب علي سيبويه بعد ذلك لعشرات السنين ، ففي الوقت الذي كان فيه ثعلب الكوفي يتهم سيبويه بسرقة الخليل ، كان المبرد إمام مدرسة البصرة النحوية والخصم المعاصر لثعلب يعكف علي شرح كتاب سيبويه ويشيد به في مجالسه، وربما كان يقصد إنصاف سيبويه والدفاع عنه حين هزمه الكسائي في مناظرتهما المشهورة..
المناظرة المشهورة بين سيبويه والكسائي
كان الكسائي صاحب نفوذ في بغداد ، وكان تلميذه علي بن المبارك الأحمر مؤدبا ومعلما للأمين ابن هارون الرشيد . يروي أبو العباس ثعلب رواية نقلها عن شيخه الفراء أن سيبويه جاء بغداد وقابل يحيي بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ، وقال له " اجمع بيني وبين الكسائي لأناظره وأنت تسمع "، فقال : " الكسائي عندنا رجل عالم لا يمتنع عن مناظرة أحد "، وتحدد وقت المناظرة في الغد ، وجاء مشجعو سيبويه وأنصار الكسائي ، ومنهم الفراء وابن المبارك الأحمر ، وقد سبقا إلي دار يحيي البرمكي ، وبدأ ابن المبارك الأحمر فسأل سيبويه مسألة فأجاب عليها فقال له : أخطأت ، ثم سأله أخري فأجابه ، فقال له أخطأت فغضب سيبويه، فتدخل الفراء وقال لسيبويه عن زميله ابن المبارك : إن فيه عجلة ، وسأله عن جمع كلمة "أب" جمع مذكر سالم كأن يقال " هؤلاء أبويه ، ورأيت أبين ومررت بأبين، وتمثل بقول الشاعر:
وكانوا بنو فزارة شر عم
وكنت لهم كشر بني الأخينا.
أي يقاس أب علي أخ ، وسأل الفراء سيبويه في جواز أن يقال ذلك في تصغير أب أي أويب ، فأجابه سيبويه بجواب ، فعارضه الفراء، فانتقل سيبويه إلي جواب آخر ، فعارضه الفراء بحجة أخري ، فغضب سيبويه وقال : " لن أكلمكما حتي يجيء صاحبكما " ، فجاء الكسائي فجلس بالقرب منه ، وأنصت يحيي البرمكي والناس لما سيقولانه، فقال له الكسائي: " أتسألني أو أسالك ؟ " فقال سيبويه : " لا . بل سلني "، فقال الكسائي: " كيف تقول خرجت فإذا عبد الله قائم ؟ "، فقال سيبويه : "قائم بالرفع "، فقال له الكسائي : " أتجيز قائما بالنصب ؟ " فقال سيبويه : "لا ". فقال له الكسائي : " كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا بالزنبور إياها بعينها "، فقال سيبويه : " لا أجيز هذا بالنصب ولكن أقول : فإذا بالزنبور هو هي " فقال الكسائي : " النصب والرفع جائزان "، فقال سيبويه: : الرفع صواب والنصب لحن "، فارتفعت أصواتهما، فقال يحيي البرمكي: " أنتما عالمان ليس فوقكما أحد يستفتي ولم يبلغ من هذا العلم مبلغكما أحد نحتكم إليه فيكما، فما الذي يفصل( أي يحكم ) بينكما " ؟ ، فقال الكسائي: " العرب الفصحاء المقيمون علي باب أمير المؤمنين الذين نرتضي فصاحتهم يحضرون فنسألهم عما اختلفنا فيه، فإن عرفوا النصب عرفت أن الحق معي، وإن لم يعرفوه علمت أن الحق معه ". فأرسل يحيي البرمكي فاستدعاهم فجاء خلق كثير منهم، فقال لهم يحيي: " كيف تقولون : خرجت فإذا عبد الله قائم "؟ ، فتكلم بعضهم بالنصب وبعضهم بالرفع ، فلما رأي سيبويه كثرة من قال بالنصب أطرق وسكت . فقال الكسائي ليحيي بن خالد : أعز الله الوزير إن سيبويه لم يقصدك من بلدك إلا راجيا فضلك فلو أعطيته من معروفك ، فأعطي الوزير سيبويه بدرة مال ، ويقال إن الكسائي هو الذي أعطاه إياها. وتستمر رواية ثعلب عن الفراء فتقول : " إن بعض الجهال زعم أن الكسائي اتفق مع الأعراب في الليلة حتي تكلموا بالذي أراده وهذا قول لا يؤخذ به ولا يعوّل عليه ، لأن مثل هذا لا يخفي علي الخليفة والوزير وأهل بغداد أجمعين."
ومن حقنا أن نتشكك في تلك الرواية التي يرويها عن سيبويه خصومه ، خصوصا وأنها تتعلق بمناظرة تمت بين سيبويه وشيخهم الكسائي. ولو سلمنا بان الرواية حدثت علي هذا النحو فإننا نتوقع أن يقوم الكسائي بالدفاع عن مكانته في بغداد وفي البلاط العباسي ضد ذلك الشاب العبقري القادم إليه من البصرة . وإذا عرفنا ان التنافس كان علي أشده بين مدرستي البصرة والكوفة علي السيطرة علي بغداد وهي العاصمة ونهاية الأمل أدركنا أهمية أن يحرص الكسائي علي مكانته أكثر وأكثر . ومن هنا فإن تخيل عنصر التآمر يبدو مقبولا، فالكسائي يرسل الفراء وابن المبارك الأحمر مثل كتيبة استطلاع لمناوشة سيبويه وإجهاده ، ثم يأتي الكسائي ، ويقوم هو بتوجيه الأسئلة ، ثم يقوم هو باقتراح استدعاء الأعراب من علي أبواب الخليفة ، إذن هو أمر قد رتبوه قبلها بيوم ، وحتى تمر الأمور في سلامة وسلاسة يقترح الكسائي علي الوزير أن يعطي سيبويه جائزة مالية ليأخذها ويعود إلي موطنه راضيا.
ومن الطبيعي أن يغضب أتباع المدرسة النحوية البصرية في بغداد لهزيمة سيبويه فيتحدثون عن اتفاق الكسائي مع الأعراب ، ويتصدى لهم الرواة من مدرسة الكوفة فيتهمونهم بالجهل ، وربما لم يعرف البصريون أن السلطة العباسية كانت تميل لمدرسة الكوفة لاعتزازهم بمدينة الكوفة نفسها التي كانت أول عاصمة لهم قبل بناء بغداد ، بينما لم تناصر البصرة للدعوة العباسية .
ويروي ثعلب رواية أخري عن مناظرة أخري حدثت بين سيبويه والكسائي ، فيقول إن سيبويه جاء إلي حلقة الكسائي وفيها غلمانه الفراء وهشام، فقال الفراء لشيخه الكسائى : " لا تكلمه ودعنا وإياه فإن العوام لا يعرفون ما يجري بينكما وسيعرفون الغالب بالظاهر" . فلما جلس سيبويه سأل والفراء يجيب ثم قال له الفراء : ما تقول في قول الشاعر :
تمت بقربي الزينبين كلاهما
إليك وقربي خالد وسعيد
فلحق سيبويه حيرة السؤال فقال: أريد امضي لحاجة وأعود ، فما خرج قال الفراء للحاضرين : قد جاء وقت الانصراف فقوموا بنا ، فقاموا ، وتذكر سيبويه علة البيت فرجع فوجدهم قد انصرفوا ، فظهر أنهم أفحموه ، وتغلبوا عليه.
ولقد امتاز الخليل بن أحمد عن تلامذته وعن غيرهم بأنه كان يرضي بالفقر متمسكا بابتعاد عن أولي الجاه ، فعاش غنيا عن الناس راضيا بعقله العبقري، ورفض تلامذته هذا المنهج فسافروا بعلم أستاذهم إلي بغداد وعواصم الأمصار ليستفيدوا بالأموال . وبينما كان حظ الأصمعي وافرا عند الرشيد ، وكذلك كان النضر بن شميل مع المأمون . إلا أن سيبويه كان سيء الحظ إذ رأي أعيان المدرسة النحوية الكوفية في بغداد في سيبويه منافسا خطيرا بسبب شبابه ووسامته وعلمه الغزير ، فعملوا علي أبعاده عن بغداد بكل ما استطاعوا ، وحين يأس سيبويه من بغداد سأل عن الحكام الذين يرغبون في النحو ، فقيل له : " ابن طاهر في خراسان "، فسافر إلي خراسان ، فأدركه الموت في بلدة ساوة ، فتمثل عند الموت بقوله :
يؤمل دنيا لتبقي له
فوافي المنية دون الأمل
حثيثا يروي أصول الغسيل
فعاش الغسيل ومات الرجل
وكان أخوه حاضرا معه لحظة الاحتضار ، وقد وضع رأسه في حجر أخيه فأغمي عليه فدمعت عينا أخيه ، فلما أفاق سيبويه رأي دموعه فقال :
وكنا جميعا فرق الدهر بيننا
إلي الأمد الأقصى فمن يأمن الدهر؟
ومات سيبويه ولم يبلغ الخامسة والثلاثين .. فماذا لو عاش إلي السبعين؟
اجمالي القراءات
4481