من ف3 : الكتابة عن المزارات:من ج 1 :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية ):
مصر المملوكية فى رحلة ابن بطوطة : ( النّص الرابع )

آحمد صبحي منصور Ýí 2019-10-26


مصر المملوكية فى رحلة ابن بطوطة : ( النّص الرابع )

من ف3 : الكتابة عن المزارات:من ج 1 :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

ذكر يوم المحمل بمصر

( وهو يوم دوران الجمل، يوم مشهود. وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه القضاة الأربعة، ووكيل بيت المال، والمحتسب، وقد ذكرنا جميعهم. ويركب معهم أعلام الفقهاء ، وأمناء الرؤساء ، وأرباب الدولة ،ويقصدون جميعاً باب القلعة دار الملك الناصر ، فيخرج إليهم المحمل على جمل، وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز في تلك السنة ، ومعه عسكره ،والسقاءون على جمالهم . ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء ، ثم يطوفون بالمحمل ( وجميع من ذكرنا معه ) بمدينتي القاهرة ومصر ، والحُداة يحدون أمامهم . ويكون ذلك في رجب . فعند ذلك يهيج العزمات ، وتنبعث الأشواق ، وتتحرك البواعث ، ويلقى الله تعالى العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده ، فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد .

سفره إلى الصعيد

ثم كان سفري من مصر على طريق الصعيد، برسم الحجاز الشريف، فبتُّ ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير الطين. وهو رباط عظيم ، بناه على مفاخر عظيمة، وآثار كريمة أودعها إياه، وهى قطعة من قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والميل الذي كان يكتحل به، والأشفى الذي كان يخصف به نعله ، ومصحف أمير المؤمنين على بن أبى طالب الذي بخط يده رضي الله عنه . ويقال أن الصاحب أشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية ، بمائة ألف درهم . وبني الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر، والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة (نفعه الله تعالى بقصده المبارك ).

ثم خرجت من الرباط المذكور ، ومررت بمنية القائد ، وهى بلدة صغيرة على ساحل النيل ، ثم سرت منها إلى مدينة بوش . وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتاناً ، ومنها يجلب إلى سائر الديار المصرية وإلى أفريقية .

ثم سافرت منها فوصلت إلى مدينة دلاص ، وهذه المدينة كثيرة الكتان أيضاً ، كمثل التي ذكرنا قبلها ، ويحمل أيضاً منها إلى ديار مصر وأفريقية .

ثم سافرت منها إلى مدينة ببا .

ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسا ، وهى مدينة كبيرة ، وبساتينها كثيرة ، وتصنع بهذه المدينة ثياب الصوف الجيدة . وممن لقيته بها قاضيها العالم شرف الدين ، وهو كريم النفس فاضل . ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر العجمي، ونزلت عنده وأضافني.

ثم سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب ، وهى مدينة كبيرة الساحة ، متسعة المساحة ، مبنية على شاطئ النيل ، وحق لها على بلاد الصعيد التفضيل . بها المدارس والمشاهد ، والزوايا والمساجد ، وكانت في القديم منية عامل مصر الخصيب .

حكاية خصيب

يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر ، فآلى أن يولى عليهم أحقر عبيده وأصغرهم شأناً ، قصداً لإذلالهم والتنكيل بهم. وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين الحمام ، فخلع عليه وأمّره على مصر ، وظنه أنه يسير فيهم سيرة سوء ، ويقصدهم بالأذية لما هو المعهود ممن ولى عن غير عهد بالعز. فلما أستقر خصيب بمصر، سار في أهلها أحسن سيرة، وشهر بالكرم والإيثار، فكان أقارب الخلفاء وسواهم يقصدونه فيجزل العطاء لهم ، ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم . وإن الخليفة أفتقد أحد العباسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه ، فسأله عن مغيبة ، فأخبره أنه قصدا خصيبا ، وذكر له ما أعطاه خصيب ( وكان عطاء جزيلاً ) فغضب الخليفة وأمر بثمل عيني خصيب وإخراجه من مصر إلى بغداد ، وأن يطرح في أسواقها . فلما ورد الأمر بالقبض عليه ، حيل بينه وبين دخول منزله ، وكانت بيده ياقوتة عظيمة الشأن ، فخبأها عنده ، وخاطها في ثوب له ليلاً . وسُملت عيناه وطرح في أسواق بغداد ، فمر به بعض الشعراء ، فقال له : يا خصيب ، إني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحاً لك بقصيدة ، فوافقت انصرافك عنها ، وأحب أن تسمعها .

فقال: كيف بسماعها وأنا على ما تراه ؟

فقال: إنما قصدي سماعك لها، وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت، جزاك الله خيراً.

قال : فأفعل .

فأنشده :

أنت الخصيب وهذه مصر       فتدفقا فكلاكما بحر

فلما أتى على أخرها قال له : أفتق هذه الخياطة !

ففعل ذلك ، فقال له : خذ الياقوتة !

فأبى ، فأقسم عليه أن يأخذها ، فأخذها وذهب إلى سوق الجوهريين ، فلما عرضها عليهم قالوا له : إن هذه لا تصلح إلا للخليفة . فرفعوا أمرها إلى الخليفة ، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر ، وأستفهمه عن شأن الياقوتة ، فأخبره بخبرها ، فتأسف على ما فعله بخصيب ، وأمر بمثوله بين يديه ، وأجزل له العطاء ، وحكّمه فيما يريد ، فرغب أن يعطيه هذه المنية ، ففعل ذلك ، وسكنها خصيب إلى أن توفى وورثها عقبه إلى أن انقرضوا .

وكان قاضى هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النويري المالكي ، وواليها شمس الدين ، أمير خيّر كريم . دخلت يوماً الحمام بهذه البلدة ، فرأيت الناس لا يستترون ، فعظم ذلك على ، وأتيته فأعلمته بذلك ، فأمرني ألا أبرح ، وأمر بإحضار المكترين للحمامات ، وكتبت عليهم العقود : أنه متى دخل أحد الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك ، واشتد عليهم أعظم الاشتداد .

منلوي ومنفلوط

ثم انصرفت عنه وسافرت من منية بني خصيب إلى مدينة منلوي ، وهى صغيرة مبنية على مسافة ميلين من النيل ، وقاضيها الفقيه شرف الدين الدميري الشافعي . وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل ، بني أحدهم جامعاً  أنفق فيه صميم ماله . وبهذه المدينة أحدى عشرة معصرة للسكر ، ومن عاداتهم أنهم لا يمنعون فقيراً من دخول معصرة منها ، فيأتي الفقير بالخبزة الحارة فيطرحها في القدر التي يطبخ السكر فيها ثم يخرجها وقد امتلأت سكراً ، فينصرف بها .

وسافرت من منلوي إلى مدينة منفلوط ، وهى مدينة حسن رواؤها ، مؤنق بناؤها على ضفة النيل ، شهيرة البركة .

حكاية

أخبرني أهل هذه المدينة : أن الملك الناصر ، رحمه الله ، أمر بعمل منبر عظيم ، محكم الصنعة ، بديع الإنشاء ، برسم المسجد الحرام زاده الله شرفاً وتعظيماً . فلما تم عمله، أمر أن يُصعد به في النيل، ليجاز إلى بحر جدة ، ثم إلى مكة شرفها الله . فلما وصل المركب الذي أحتمله إلى منفلوط ، وحازى مسجدها الجامع ، وقف وأمتنع من الجري ، مع مساعدة الريح ، فعجب الناس من شأنه أشد العجب ،وأقاموا أياماً لا ينهض بهم المركب ، فكتبوا بخبره إلى الملك الناصر رحمه الله ، فأمر أن يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط ، ففعل ذلك ، وقد عاينته بها . ويصنع بهذه المدينة شبه العسل ، يستخرجونه من القمح ، ويسمونه النيدة ، يباع بأسواق مصر .

مدينة أسيوط

وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط ، وهى مدينة رفيعة ، أسواقها بديعة . وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب ( بحاصل ما ثم ) ( لقب شُهر به ) . أصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل، فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد القاضي بها فيعطيه ما قدر له، فكان هذا القاضي إذا أتاه الفقير يقول له: حاصل ما ثم ! ( أي لم يبقى من المال الحاصل شيء ) فلُقّب بذلك ولزمه . وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين بن الصباغ ، ضافني بزاويته .

مدينة أخميم

وسافرت منها إلى مدينة أخميم ، وهى مدينة عظيمة أصيلة البنيان ، عجيبة الشأن ، بها ( البرابي ) المعروف باسمها . وهو مبنى بالحجارة، في داخله نقوش وكتابة للأوائل، لا تفهم في هذا العهد، وصور الأفلاك والكواكب، ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج العقرب. وبها صور الحيوانات وسواها، وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج عليها. وكان بأخميم رجل يعرف بالخطيب ، أمر بهدم هذه البرابي ، وأبتنى بحجارتها مدرسة ، وهو رجل موسر معروف باليسار ، ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده من المال من ملازمته لهذه البرابي . ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي العباس بن عبد الظاهر، وبها تربة جده عبد الظاهر. وله من الأخوة ناصر الدين ومجد الدين وواحد الدين . ومن عاداتهم أن يجتمعوا جميعاً بعد صلاة الجمعة، ومعهم الخطيب نور الدين المذكور وأولاده وقاضى المدينة الفقيه مخلص، وسائر وجوه أهلها، فيجتمعون للقرآن، ويذكرون الله ، إلى صلاة العصر ، فإذا صلوها قرءوا سورة الكهف ثم انصرفوا .

وسافرت من أخميم إلى مدينة ( هو ) ، مدينة كبيرة بساحل النيل ( وضبطها بضم الهاء) . نزلت منها بمدرسة تقي الدين بن السراج ، ورأيتهم يقرءون بها كل يوم بعد صلاة الصبح حزباً من القرآن ، ثم يقرءون أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي ، وحزب البحر . وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله الحسن ، من كبار الصالحين . 

كرامة له

دخلت إلى هذا الشريف متبركاً برؤيته والسلام عليه، فسألني عن قصدي، فأخبرته أنى أريد حج البيت الحرام على طريق جدة، فقال لي: لا يحصل لك هذا في هذا الوقت فأرجع، وإنما تحج أول حجة على الدرب الشامي. فانصرفت عنه ولم أعمل على كلامه، ومضيت في طريقي حتى وصلت عيذاب، فلم يمكن السفر، فعدت راجعاً إلى مصر، ثم إلى الشام، وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي، على ما أخبرني الشريف نفع الله به .

مدينة قنا

ثم سافرت إلى مدينة قنا ، وهى صغيرة حسنة الأسواق ، وبها قبر الشريف الصالح الولي ، صاحب البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة عبد الحليم القناوي رحمة الله عليه . ورأيت بالمدرسة السيفية منها حفيده شهاب الدين أحمد .

وسافرت من هذا البلد إلى مدينة قوص ، مدينة عظيمة ، لها خيرات عميمة ، بساتينها مورقة ، وأسواقها مؤنقة ، ولها المساجد الكثيرة ، والمدارس الأثيرة . وهى منزل ولاة الصعيد ، وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار ، وزاوية الأفرم ، وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة .ومن علماءها القاضي جمال الدين بن السديد ، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد ، أحد الفصحاء البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك ، لم أر من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري ، وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين الشاطبي ( وسيقع ذكرهم ) .ومنهم الفقيه بهاء الدين بن عبد العزيز ، المدرس بمدرسة المالكية . ومنهم الفقيه برهان الدين إبراهيم الأندلسي ، له زاوية عالية .

ثم سافرت إلى مدينة الأقصر . وهى صغيرة حسنة ، وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري ، وعليه زاوية .

وسافرت منها إلى مدينة أرمنت . وهى صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النيل ، أضافني قاضيها ( وأنسيت اسمه ) .

ثم سافرت منها إلى مدينة إسنا . مدينة عظيمة، متسعة الشوارع، ضخمة المنافع، كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع، لها أسواق حسان، وبساتين ذات أفنان، قاضيها قاضى القضاة شهاب الدين بن مسكين ، أضافني وأكرمني وكتب إلى نوابه بإكرامي ،وبها من الفضلاء الشيخ الصالح نور الدين على، والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي ، وهو على هذا العهد صاحب زاوية بقوص .

ثم سافرت منها إلى مدينة إدفو ، وبينها وبين مدينة إسنا مسيرة يوم وليلة في الصحراء .

ثم جزنا النيل من مدينة إدفو إلى مدينة العطواني ، ومنها اكترينا الجمال ، وسافرنا مع طائفة من العرب تعرف بدغيم ، في صحراء لا عمارة بها ، إلا أنها آمنة السبل . وفى بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي ، وقد ذكرنا كرامته في أخباره إنه يموت بها ، وأرضها كثيرة الضباع . ولم نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع ، ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت عدلاً كان به ، واجترت منه جراب تمر ، وذهبت به . فوجدناه لما أصبحنا ممزقا ، مأكولا معظم ما كان فيه .

ثم لما سرنا خمسة عشر يوماً ، وصلنا إلى مدينة عيذاب ، وهى مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن ، ويحمل إليها الزرع والتمر من صعيد مصر. وأهلها البجاة ، وهم سود الألوان يلتحفون ملاحف صفرا ، ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض العصابة منها أصبعا . وهم لا يورثون البنات ، وطعامهم ألبان الإبل ، ويركبون المهاري ويسمونها الصهب . وثلث المدينة للملك الناصر ، وثلثاها لملك البجاة وهو يعرف بالحدربي . وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني ، شهير البركة ، رأيته وتبركت به. وبها الشيخ الصالح موسى ، والشيخ المسن محمد المراكشي ، زعم أنه ابن المرتضى ملك مراكش ، وأن سنه خمس وتسعون سنة .

ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب الأتراك ، وقد خرق المراكب وهرب الترك أمامه , فتعذر سفرنا في البحر . فبعنا ما كنا أعددناه من الزاد , وعدنا مع العرب الذين اكترين الجمال منهم إلى صعيد مصر فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها .

                      عودته إلى شمال مصر

وانحدرنا منها في النيل , وكان أوان مده , فوصلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر . فبت بمصر ليلة واحدة , وقصدت بلاد الشام , وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين .) إنتهى النقل . وبعده التعليق .

اجمالي القراءات 4422

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5111
اجمالي القراءات : 56,688,792
تعليقات له : 5,445
تعليقات عليه : 14,818
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي