ثانيا : بحث للراحل د . يونان لبيب رزق عن المحمل منشور فى جريدة الأهرام
|
|
|
|
|
طالع قارئ الأهرام صباح يوم الخميس24 يونيو عام1926 خبرا أزعجه كثيرا, فتحت عنوان معركة في الحجاز بين قوة المحمل والنجديين- جرح ضابط وثلاثة من الجنود المصريين- قتل25 من النجديين, نشرت الجريدة برقية بعث بها أمير الحج اللواء محمود عزمي باشا إلي وزارة الداخلية, كما نشرت في نفس الوقت بلاغا من مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها.
نص البرقية التي أرسلها أمير الحج بالشفرة: اعتدي جمع من البدو مساء أول أمس( أي مساء21 الجاري وهو يوم العيد) علي ركب المحمل برمي الأحجار والرصاص بجوار( مني) وقد رددت علي الاعتداء بإطلاق بعض طلقات من المدافع والبنادق تسبب منها بعض الخسائر في أرواح المعتدين بعد ما ذهبت مساعي ابن سعود سدي وجرح الضابط علي أفندي موسي وثلاثة من العساكر جروحا بسيطة من رمي الأحجار وقتل بعض الجمال من الرصاص, وقد تبادلنا رسائل رسمية مع ابن سعود نرجو تبليغ وزارة الحربية بما يخصها.
أما نص البلاغ: جاء المحمل المصري من جدة وخيم في مكانه المعتاد من ضاحية مكة ثم انتقل منها يوم التروية إلي( مني) حيث بلغ آخرها بسلام, وهناك ارتفعت أصوات أبواق حرس المحمل فاستنكرها العرب من النجديين وغيرهم الذين يعتقدون حرمة جميع المزامير ولا سيما في هذه المشاعر العظام. فاجتمع بعض الغوغاء المجهولين منهم إلي مصدر الصوت وكثر اللغط في ذلك وكان مع المحمل بعض الحامية النجدية فأخذوا يردون الغوغاء بالضرب والتهديد, وقد وصل الخبر لجلالة الملك فأرسل في الحال نجله سمو الأمير فيصل بقوة فذهب لمكان الحادثة وطلب من رجال المحمل أن يقفوا في أماكنهم وأخذ يقاوم الغوغاء وطلب زيادة قوة من أبيه فأمده بأخيه سمو الأمير سعود مع قوة معه, وبينما جند الحكومة تدافع الغوغاء وإذا برجال المحمل يطلقون المدافع والأسلحة التي معهم بغير حساب علي الأماكن التي يخيم فيها الحجاج النجديون فقتل من الأبرياء الذين هم في أماكنهم خمسة وعشرين بين رجل وامرأة وطفل وقتل أربعون بعيرا. ولما وصل الأمر لهذا الحد خرج جلالة الملك بنفسه يحف به جميع أولاده وأفراد عائلته وحاشيته, وكان أهل نجد في أشد ما يكون من الحنق ولكنه خاطبهم وقال( أذكركم بالله في هذا المقام ثم أذكركم بشرفكم وحجتكم وأخبركم بأن هذا المحمل لا يمكن أن يتجاوز عليه أحد وبأحد ممن معي بقية من حياة), ولما سمع بذلك أهل نجد ورغما عما أصابهم من بلاء لم يستوجبوه رجع عاقلهم علي سفيههم حتي ارتدت جميع تلك النفوس ببضع دقائق إلي أماكنهم وطفئت الفتنة ثم سار المحمل محفوفا بقوة من جند الحكومة ولم يصب منهم أحد بأذي وساد السكون والأمان, ولم يحصل ما يكدر بعد ذلك.
ونترك الخلاف بين الروايتين.. الرواية المصرية بأن رجال المحمل كانوا في حالة دفاع عن النفس, ورواية ملك الحجاز وسلطان نجد بأن القوة المصرية قد أطلقت نيرانها بغير حساب ودون مبرر(!), نتركهما لنروي طرفا من تاريخ المحمل, هذا من جانب, والظروف السياسية التي أحاطت بتلك المعركة من جانب آخر.
أما عن التاريخ فقد أمدنا الدكتور فؤاد الماوي في كتابه: العلاقات الاقتصادية والمالية بين مصر والحجاز بتفاصيل كثيرة عن الأعباء المالية التي تحملتها مصر خلال العصر العثماني تجاه الحجاز, وكان المحمل أحدها; أولا: مصروفات حماية قافلة الحج التي تراوحت بين نفقات القوة العسكرية التي تصاحبها, والتي كان يقل عددها إلي خمسمائة جندي في سنوات الاستقرار ويزيد ليصل إلي ألفين في أعوام القلاقل, ومصروفات القلاع المنتشرة بطول درب الحجيج, وعوايد العربان القاطنين علي جانبي هذا الدرب.
ثانيا: الكسوة التي كانت تعلق علي الكعبة الشريفة, وهي غطاء مطرز بالذهب, ونهاية حوافه مطرزة بالفضة وملبسة بقشرة من الجواهر, وكانت يشرع في صنعها في شهر ربيع الثاني لتصبح جاهزة خلال ستة أشهر, وكان الوالي يفتش عليها بين الحين والآخر, ويقوم بوزنها الذي كان يصل عادة إلي سبعة عشر قنطارا من الحرير, وثلاثة قناطير من الفضة الخالصة.
ثالثا: الغلال المرسلة للحرمين إذ كان علي الخزينة المصرية أن ترسل40 ألف أردبا من الغلال كل عام لإطعام أهالي مكة والمدينة, وكان يتم نقلها بالطريق البحري من السويس إلي جدة, ومعها تعيينات أشراف الحرمين التي كانت ترسل للأشراف, وغالبا ما كانت تقدم علي شكل نقدي, وهي تورث من الأب للابن مثلما يورث مركز الشريف نفسه.
وكان المسئول عن حماية القافلة وحمل الكسوة شخصية عسكرية كبيرة هو الذي لقب بأمير الحج, وبلغ من الأهمية إلي حد أنه وضع في المرتبة الثالثة بعد كل من الباشا والدفتردار, وكان يخرج في كل عام في موكب كبير وسط احتفالات شعبية عارمة..
قدمت لنا الدكتورة ليلي عبد اللطيف صورة لتلك الاحتفالات في كتابها عن المجتمع المصري في العصر العثماني كان مما جاء فيه أنها تقام في منتصف شهر شوال, فيدور المحمل في احتفال كبير بعد أن يقوم أرباب الحوانيت التي سيمر بها بتزيينها وكان يحتشد الكثيرون من سكان القاهرة لمشاهدة الركب الذي توضع فيه الكسوة الثمينة علي جمل مزين يشق طريقه وسط زغاريد النساء ودعاء العامة وتهليلهم, متقدما إلي قراميدان بالقلعة, وأمام الموكب يسير فرسان الأوجاقات وتصطحبه فرق الموسيقي حتي يصل إلي القلعة فينزل الباشا لتسليم الكسوة الشريفة إلي( أمير الحج), يلي ذلك احتفال آخر يقام بخيمة في البركة لتسليم( الصرة الإرسالية) المرسلة لأهالي الحرمين الشريفين.
ومن التاريخ إلي السياسة, فبعد مرور أكثر من قرن وربع علي نهاية العصر العثماني, وفي عام حدوث واقعة المحمل علي وجه التحديد, وبعد تطورات تاريخية عميقة عرفها المصريون إبان تلك الفترة, قدمت الأهرام صورة للمتغيرات التي حدثت علي موكب الحج من حيث التركيب والاحتفالات والالتزامات, ولم تكن كبيرة..
أمير الحج أصبح يعين بأمر ملكي جاء فيه نظرا لقرب أداء فريضة الحج هذا العام ولما نعهده في اللواء محمود عزمي باشا من الجدارة والاستقامة, أمرنا بما هو آت: عين اللواء محمود عزمي باشا وزير الحربية والبحرية سابقا أميرا للحج في طلعة سنة1344.
أما عن القوة العسكرية المصاحبة للحملة فقد قدمت الأهرام في عددها الصادر يوم السبت5 يونيو إحصاء لها جاء فيه أنها تتشكل من عشرين ضابطا علي رأسهم القائمقام جلال منير بك,422 صف ضابط وعسكري; وهم300 من رجال أورطة المشاة التاسعة,6 من الخيالة,89 من المدفعية,5 من القسم الطبي,2 من القسم البيطري,20 من الهجانة, وأخيرا10 من المستخدمين الملكيين.
وأما عن الاحتفالات فقد بدأت بنقل الكسوة من محل صنعها بالخرنفش إلي ميدان محمد علي فسار أمامها بلوكان من أورطة المشاة التاسعة بموسيقاها وعلمها وتبعت الجماهير هذا الموكب الفخم حتي الميدان, وفي المساء عرضت الكسوة في المصطبة وتوافد الناس زرافات لرؤيتها ولما انتظم عقد الحضور من الأمراء والأعيان أديرت عليهم المرطبات والحلوي وكان الشيخ أحمد ندا والشيخ علي محمود يرتلان آي القرآن الكريم حتي مضي الهزيع الأول من الليل.
في اليوم التالي أجريت مراسم احتفال تشييع المحمل والتي رأسها الملك وحضرها الوزراء وكبار موظفي القصر وغيرهم من كبار العلماء والموظفين والتجار والأعيان, والكل بكساوي التشريفة الكبري والنيشانات, وتم استعراض الحامية المصرية وأسلحتها أمام الملك وأطلق21 مدفعا عند تشريف جلالته ميدان محمد علي و21 مدفعا مثلها عند انصرافه منها.
أكثر من ذلك أن الملك بنفسه اعتمد برنامج الرحلة أو ما أسمته الأهرام مواعيد أسفار المحمل.. السفر من محطة مصر في الثامنة وخمس دقائق من صباح يوم الاثنين7 يونيو, الوصول إلي السويس في الثانية بعد الظهر, والسفر في اليوم التالي إلي جدة ليكون الوصول إليها بعد يومين, يتوجه منها إلي مكة المكرمة ويبقي فيها حتي يوم25 يونيو ليسافر إلي المدينة المنورة ليصلها يوم7 من الشهر التالي, حيث يبقي لمدة أسبوع يتوجه بعدها يوم14 يوليو إلي ينبع بعد ستة أيام, ليقلع بعدها متوجها إلي الطور, غير أنه لم يقدر لهذا البرنامج الملكي أن ينفذ, فلم يكن رجال قصر عابدين ولا دوائر الحكومة المصرية قد وضعت حساباتها في ضوء التغييرات السياسية الكبيرة التي حدثت في الأراضي المقدسة!
فقبل نحو ستة أشهر, وبعد هزيمة حسين ملك الحجاز علي أيدي قوات سلطان نجد عبد العزيز بن سعود, الذي دعمه الجيش شبه النظامي من أبناء القبائل النجدية المعروف بالإخوان, وفي يوم8 يناير عام1926 علي وجه التحديد نادي أعيان جدة ومكة بالقائد المنتصر ملكا علي الحجاز, وما ترتب علي ذلك من وقوع الأماكن المقدسة تحت حكم الوهابيين المعروفين بتشددهم الديني, وهو الأمر الذي تخوف منه المصريون وغيرهم.
غير أن نظام الحكم الجديد قد سعي إلي تهدئة مخاوف المسلمين في شتي أنحاء المعمورة مما نتبينه من البرقية التي نشرتها الأهرام يوم27 إبريل عام1926 وكان نصها: لقد أصبحت جميع الأراضي الحجازية بنعمة الله مملكة هادئة وكل الناس أحرار أن يقيموا فيه تقاليدهم الإسلامية وأن يزوروا جامع نبي الله وإننا نضمن بعون الله طمأنينة ورفاهية الحجاج أثناء إقامتهم وتنقلهم في الأمكنة المقدسة في الحجاز. وكل ما يقوله أعداء العدالة غير صحيح فإن غايتهم هدم الديانة الإسلامية بغية إرضاء مصالحهم الشخصية وإيقاع الضرر بشعب الأراضي المقدسة- ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها- الختم: عبد العزيز بن سعود.
وفي اعتقادنا أن الملك عبد العزيز كان مخلصا في نواياه بتأمين شعائر الحج; رغبة منه في تهدئة مواقف الشعوب الإسلامي, غير أنه- في ظننا- لم يكن سعيدا بقدوم المحمل المصري, ولأكثر من سبب; ذلك أن قدوم أي موكب حج في ظل الحماية العسكرية للدولة التي يتبعها يحمل معني الانتقاص من سلطة الملك الجديد, ثم أن الحجاج المصريين كانوا يصلون إلي الأراضي المقدسة ومعهم كثير من العادات التي تتعارض مع تعاليم الوهابية, أولها تدخين النارجيلة, فضلا عما كان يحصل عليه أشراف مكة, خصومه التقليديين, من معونات يحملها لهم أمير الحج, ومن ثم لم يكن غريبا ما حدث!
|
|
|
في يوم11 يونيو عام1926 احتفل بوصول المحمل إلي جدة في استقبال خاص في دار القنصلية المصرية بالمدينة حيث اجتمع حاكم المدينة وأعيان وقناصل الدول وممثلوها والجالية المصرية وحيا الجنود العلم المصري وهتف الجميع لجلالة الملك.. وبدأ البحث عن الجمال اللازمة للسفر إلي المدينة بعد الحج عن طريق ينبع لأنها الأصلح والأوفق, وبدا مع ذلك وكأن كل شيء يسير في طريقه المرسوم, غير أنه لم يمض وقت طويل حتي حدثت الواقعة بكل مضاعفاتها, والتي دخل معها تاريخ المحمل المصري أيامه الأخيرة!
أولي هذه المضاعفات بدت في ردود الفعل التي نتجت عن الحادثة, فقد احتجت الحكومة المصرية لدي وكالة نجد والحجاز بالقاهرة علي العبارات التي وردت في البلاغ الذي كان قد أصدره ملك الحجاز وسلطان نجد, والذي يفهم منه أن الجيش فعل ما فعل عن رعونة وبشكل غير مبرر, وأن المجاملات السياسية بين الدول تقضي أن يتشاور الممثلون السياسيون مع الدولة المضيفة في حالة إصدار مثل هذه البلاغات التي تتصل بالعلاقة بين الطرفين.
بيد أنه تم تسوية الأزمة سريعا بعد أن قدم ممثل الملك عبد العزيز اعتذاره, وأنه قبل بنشر البلاغ تحت إلحاح الصحفيين المصريين وانه يعمل دائما علي زيادة العلاقات الودية بين حكومته والحكومة المصرية, وأنه واثق بأن الحجاج المصريين سيلقون كل حفاوة وتسهيل من جانب الملك ابن السعود وحكومته.
غير أن الجانب الديبلوماسي لم يكن الوحيد في الأزمة, فقد كان هناك الرأي العام المصري, والذي مثلته الصحف من مختلف الاتجاهات, ففضلا عن الأهرام كان هناك البلاغ وكوكب الشرق الناطقتين بلسان الوفد, والسياسة الناطقة بلسان الأحرار الدستوريين, فضلا عن الاتحاد الناطقة بلسان الحزب الموالي للملك.
البلاغ وصفت الحادث بأنه مؤسف ولا يحسن موقعه في نفس أي مصري ولا نجدي ممن يحرصون علي السلم والوفاء, وسخرت الجريدة مما قيل عن أن سبب اعتداء النجديين علي موكب الحجيج المصري أن أصواتا ارتفعت من أبواق حرس المحمل, فلو أن ذلك الحرس كان يعزف بأنغام الموسيقي وألحان اللهو والتطريب لفهمنا العذر, أما وهي أصوات عسكرية نظامية, أو( نفير حرب) مباح في كل مكان كالذي يسمع في كل معسكر- وفي معسكرات بن سعود أيضا- فلا نفهم عذرا ما لتلك الحركة الحمقاء.
كوكب الشرق كانت أكثر حدة حين ذكرت بأن الأماكن المقدسة ملك لكل من يدين بهذا الدين الحنيف.. وبذلك فإن أقل حادث يحدث في هذه البلاد- مهما كان طفيفا- يؤلم نفس كل مسلم ويهز عاطفته حزنا وأسفا.. وإذن فليعلم الوهابيون أنهم إن أرادوا أن يميتوا الحجاز جوعا وعطشا- لا قدر الله- فليمضوا في غوايتهم, وليسيروا في هذا التصلب الشاذ.
أما جريدة السياسة فقد استخدمت نغمة معتدلة في التعليق علي الواقعة, غير أنها كشفت لنا عن حقيقة هامة وهي أن حكومة بن سعود كانت قد أرسلت إلي الحكومة المصرية تنصحها بعدم إرسال المحمل خلال ذلك العام, وأثارت مع ذلك بعض الشكوك أن يكون أتباع الملك عبد العزيز وراء الواقعة!
بقيت الاتحاد صحيفة الحزب الموالي للقصر, وكانت الأكثر اعتدالا فيما نتبينه من مطلع تعليقها عن الحادث, والذي جاء فيه: النجديون إخواننا في الدين, ويفرحنا كثيرا أن يكون هناك فريق من المسلمين يتمسك بمذهب السلف الصالح, كما يفرحنا أكثر وأكثر أن يكون لهذا الفريق سلطان علي البيت الحرام مصدر هذه الشريعة الطاهرة, ولكن لكل شيء نهاية وحد, وكل ما تجاوز حده استحال إلي ضده, وخير الأمور أوساطها كما أن شر البدع مستحدثاتها.
وعلي غير عادة الأهرام, فقد اكتفت في هذه المناسبة بنشر آراء الآخرين واحتفظت برأيها, ويمكن أن يعزي ذلك إلي أن القضية ذات طابع ديني, وأن المسئولين عن الجريدة من المسيحيين الشوام كانوا حريصين دائما في تلك المناسبات علي النأي بصحيفتهم عن إبداء الرأي فيها, منعا من إثارة أية حساسيات, وهي لم تنفرد بهذا الموقف فقد جارتها فيه الصحف المشابهة مثل المقطم والمجلات الصادرة عن دار الهلال!
وبعيدا عما كان يحدث في القاهرة واجه محمود عزمي باشا بعد الواقعة موقفا حرجا ربما لم يواجهه أحد من أسلافه القريبين حين كانت مهمتهم ذات طابع احتفالي, وقد انبعثت مخاوف الباشا المصري مما هو معلوم عن أخلاق البدو من تقديس للثأر, وكما كتب أحد قراء جريدتنا أنهم يضعونه في حياتهم في المنزلة الأولي بعد الدين, فهم قد يطيعون ملكهم أو الإخوان ولكنهم لا يطيعونه في التقاليد الدينية أو ما يظنونه من الدين, ولا في الثأر المتأصلة جذوره في نفوسهم!
انعكست هذه المخاوف في أنه قد ارتأي تجنبا للمخاطر ألا يكمل رحلته إلي المدينة برا, وفضل العودة إلي جدة من حيث يستقل باخرة تنقله مع رجال المحمل إلي ينبع, ويتجه من هناك إلي المدينة, وقد حصل علي موافقة جميع الأطراف علي هذه الفكرة, الحكومة المصرية التي أبرق لها بها, وحكومة نجد والحجاز التي شجعته علي تنفيذها, يدفعها إلي ذلك الرغبة في التخلص من مسئولية ما إذا تعرض الموكب للخطر, خاصة وأنه كان سيتوجه إلي المدينة علي ظهور الجمال في رحلة تستغرق أكثر من عشرة أيام, كما كان يدفعها أيضا الرغبة أن يفهم المسئولون المصريون أن الزمن لم يعد نفس الزمن!
يؤكد ذلك ما تعرض له موكب الحج المصري من مضايقات لم يعتدها خلال السنوات السابقة, والتي تعددت مظاهرها, فيما تضمنه تقرير طويل رفعه عزمي باشا إلي الحكومة المصرية بعد عودته; منها: أن العادة كانت أن تطلق طوبجية المحمل المدافع في أوقات الصلاة يوم الوقفة وأيام العيد وقد أطلقت الطوبجية المدافع فعلا يوم الوقفة فجاء رسول يبلغ عزمي باشا اعتراض ابن سعود علي إطلاقها, فأصر الباشا علي إطلاقها إلا إذا جاء كتاب من الملك ابن سعود بذلك وقد جاء هذا الكتاب!
ومنها أيضا أن الأمير فيصل طالب عزمي باشا أن يمنع استعمال الأبواق لأن النجديين يستنكرونها أشد الاستنكار ويسمونها مزامير الشيطان, ولما لم تستجب قوات المحمل لهذا المطلب تعرضت للهجوم من هؤلاء.
ومنها ثالثا أن المحمل كان قد أخذ معه سيارتين ولوري للنقل وطلمبة مياه, وما كادت تسير في مكة حتي صدر أمر بمنع ركوب السيارات بدعوي أنها تخيف الجمال, وقيل أن الملك نفسه وأهل بيته سيمتنعون عن ركوب السيارات ويعقب عزمي باشا علي ذلك بالقول أنه رأي بعدئذ سيارات الملك وأفراد أسرته تسير في المدينة كعادتها فلم أجد بدا من العودة لاستخدام السيارات لنقل المرضي وغير ذلك من الشئون.
ومنها أخيرا أن العادة كانت قد جرت من قبل علي وضع المحمل في الحرم الشريف بعد العودة من مني مباشرة ويبقي به لحين السفر, غير أن ابن سعود ورجاله أظهروا عدم رضائهم عن ذلك, وعندما طلب الشيخ حافظ وهبة مستشار بن سعود من أمير الحج المصري إخراج رجاله رفض عزمي باشا مما دعا إلي إبلاغه بأنه إذا لم يخرج بالحسني فسوف يخرج بالقوة فطلب أمير الحج أمرا كتابيا بذلك فأطلعه علي الأمر الصادر.. وانتهت الأزمة ببقاء المحمل في الحرم إلي يوم السفر فخرج بالاحتفال المعتاد.
وقد عرفت الأيام التالية تحولا جذريا في برنامج المحمل, فبعد أن كانت المشاورات تدور حول أنسب الطرق لاستكمال الرحلة بالذهاب إلي المدينة المنورة, أخذت تدور حول الاكتفاء بزيارة مكة وأن تتم العودة إلي جدة لتقفل منها راجعة إلي أرض الوطن.
وانتهت المشاورات بالموافقة علي هذا الخيار الأخير, فبعد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عدلي يكن باشا يوم الأربعاء30 يونيو لبحث اقتراح وزير الحربية بعدم ذهاب المحمل إلي المدينة وعودته إلي مصر تمت الموافقة عليه متذرعا بوفاة قائد المدفعية المرافقة له, البكباشي محمد توفيق بسكتة قلبية, ومرض قائد حرس المحمل العام وقائد الهجانة, وخشية من زيادة حوادث المرض بين الضباط والجنود والحجاج, ولم يكن قراء الأهرام في حاجة إلي ذكاء كبير ليدركوا أن هذه ليست الحقيقة!
وفي يوم17 يوليو وصل المحمل المصري إلي القاهرة مبكرا عن ميعاده العودة المفترضة بأكثر من عشرة أيام, غير أن ذلك لم يمنع من إقامة الاحتفالات المعتادة إذ خرج في السادسة والنصف من صباح ذلك اليوم من ميدان الحصوة في العباسية إلي ميدان محمد علي أمام القلعة في موكب فخم يتقدمه أرباب الطرق والأشاير فقوة من رجال الجيش فحرس المحمل فموظفوه يتقدمهم حضرة صاحب السعادة محمود عزمي باشا.
وكان أهم ما حدث بعد ذلك ما كشف عنه أمير الحج من بعض جوانب الواقعة في حديث طويل مع محمود أبو الفتح مندوب الأهرام نشرته الجريدة في أول أغسطس, وكان رأيه أنها مدبرة, وأن بعض رجاله سمعوا نفرا من هجانة الملك المرافقين للمحمل يقولون الإخوان متواعدون الليلة هنا, وأن جمعا عظيما من هؤلاء قد أخذوا في رمي المحمل والركب بالحجارة وهم يصيحون يامشركين ياكفرة ياعباد العود!
كشف أيضا عن نية الحكومة المصرية علي التوقف عن دفع الإحسانات والصدقات التي ظلت تدفعها طوال العصر العثماني لأشخاص معينين مدي الحياة من الذين يشغلون وظائف بذاتها في الحرم, خاصة وأن الملك عبد العزيز وقبله الملك حسين قد رفضا أن يتولي أمراء الحج توزيع هذه الصدقات علي الناس مباشرة, وفضلوا القيام هم بتوزيعها مما لم يكن محل رضاء المصريين.
وقد تضمن التقرير الذي قدمه عزمي باشا للحكومة المصرية عشرات الأمثلة علي حصول من لا يستحقون علي تلك الإحسانات والصدقات, لدرجة أن أحدهم كان له رأسمال يزيد عن عشرة آلاف جنيه, وآخر كان يحصل علي أربعة مرتبات بصفات مختلفة, وأنه قد عاد بأغلب المبلغ المخصص لها وقدره31 ألف جنيه بعد أن وزع منه أقل من360 جنيها!
ولا شك أن ما نشرته الأهرام وغيرها من الصحف في هذا الشأن مهد لانتهاء عصر المحمل ليحل محله بعثة الحج التي يترأسها موظف كبير لا يحمل لقب الأمير!
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
مقال تفصيلي رائع لحدث هام له تبعاته السياسية بغلاف مذهبي و أقول : مجرد رأي أن الفكر المترسخ لدى إخوان نجد هو تكفير الجوار الحديث وقتها ( العراق و مصر نموذجا ) عطفا على التقدم و الحداثة في تلك الدول مقارنة بواقع نجد و الجزيرة عموما . لا تستطيع قوة عبد العزيز في ذلك الوقت الصمود أمام القوة المصرية و في ظل الليبرالية المصرية كان من المستحيل الدخول في حرب أساسها إختلاف في الفكر الديني ! هنا تدخلت ظروف خارجية ساعدت الملك سعود على تقويه مملكته أولها ظهور البترول و تصاعد القوة الأميركية في العالم و قبلها أطماع الأنجليز و الكيد للقضاء على التام على الرجل المريض العثماني و الذي كانت له أثار سيطرة ( ناعمة ) على الحرمين و من هنا للقضاء على القوة المصرية كان لا بد من نشر الثقافة الوهابية في مصر بإستخدام نافذين في الحياة الدينية في مصر - رشيد رضا - و كان للعائد البترولي دورا هاما في ذلك .
تأصيليا فالفكر الوهابي هو القاسم المشترك في الحدث فلو فطنت الحكومة المصرية وقتها بمحاربة الفكر بالفكر لما تطورت الأحداث و وصلت لما وصلت إليه .
مجرد رأي .