( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) صدق الله العظيم

آحمد صبحي منصور Ýí 2016-11-28


( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) صدق الله العظيم

أولا : الحتميات ( القضاء والقدر ) بين الأمر الالهى وتدخل البشر

1 ـ الأخ ( بهجت ) يتمنى أن يكون فى (وسامة )( عمر الشريف أو براد بيت ) وفى (سطوة ) الرئيس الكورى الشمالى ، وفى (ثروة ) قارون  ، وفى صحة ( هرقل ) فى الحواديت . ولكن الحتميات الأربع حددت أن يكون بهذه الملامح فى وجهه وبهذا الوضع فى مجتمعه وبهذه الثروة فى جيبه وبهذه الصحة فى جسده .

المزيد مثل هذا المقال :

2 ـ الأخ ( بهجت ) لن يسكت على وضعه ، صحيح أنه لا يستطيع أن يغير أباه وأمه وقد يستطيع بعملية تجميل تصغير أنفه وزرع عدسات خضراء اللون فى عينيه ولكنه لا يستطيع أن يغير طول قامته أو مقاييس عظام جسده . هو تحت الحتميات الخاصة بالميلاد .  قد يناضل لكى يصل الى السلطة ويكافح لكى يصبح بيلونيرا ، وسيتنافس مع غيره ، ولن ينال من هذا الا المقدر له سلفا . فى وصوله للسلطة أو الثروة قد يدخل السجن وقد يلقى حتفه وقد يصل للسلطة ثم يدخل السجن أو يلقى حتفه وقد يصبح بليونيرا ثم يخسر كل شىء ، فى كل الأحوال هو سيحاول ولكنه تحت حكم الحتميات الخاصة بالرزق وبالمصائب المكتوبة من خير أو شرّ. والأخ بهجت فى النهاية سيلقى حتفه فى الموعد المحدد وفى المكان المحدد ، إما موتا عاديا ، وإما قتلا .

3 ـ الذى لا يعرفه الأخ ( بهجت ) أن للإنسان  دخلا فى وقوع هذه الحتميات . مثلا : ( الحاج مسعود ) والد الأخ بهجت أعجبته ( نادية ) التى هى ( أم بهجت ) ، ونام معها جنسيا ـ بالحلال أو بالحرام ـ فحملت بالأخ ( بهجت ) . وجاء الأخ (بهجت ) من هذه الأسرة الكريمة يحمل ملامح من والديه وأسرة أبيه وأسرة أمه . ليس للأخ ( بهجت ) دخل فى هذا ، ولم يؤخذ رأى سيادته فى هذا ، ولكن آخرين ساهموا فى مجىء الأخ ( بهجت ) بهذا ولكن تحت حكم حتمية الميلاد . لنفترض أن (الحاج مسعود ) أعجبته (فريدة ) بدلا من ( نادية) ونام مع ( فريدة ) بالحلال أو بالحرام . ولكنها لم تحمل منه ، لأن المقدر سلفا أن تكون ( نادية ) هى الست أم بهجت وليست ( فريدة )، وأن ( الحاج مسعود ) سيختار بمحض إرادته وبشهوته الجنسية العارمة أن ينام بالذات مع ( نادية ) ـ بالحلال أو بالحرام ـ لتحمل بالاستاذ ( بهجت ) . لماذا ؟ لأن حتمية الميلاد الخاصة بالأستاذ ( بهجت ) قد قدّرت سلفا أن يتم نفخ نفسه فى الرحم الخاصة بالبنت ( نادية) فى موعد كذا ، وان يظل فيه الى (قدر معلوم ) يخرج منه فى وقت محدد . وحين يخرج يكون قد إختار له رب العزة جل وعلا ( صورة ) هو جل وعلا الذى ( صوّره ) وهو فى رحم أمه ، وبهذه الصورة سيخرج طفلا ، ثم ستتطور صورته صبيا وشابا وكهلا وشيخا وفق حتمية الميلاد .

4 ـ الأخ ( بهجت ) حين شبّ وبلغ الشباب حدّد لنفسه أن يكون كذا أو كذا ، وكل آمال البشر واحدة ، هى المال والجاه والقوة والتمتع بالحياة الدنيا . ومستحيل أن يكون كل البشر بليونيرات وزعماء ، ومستحيل ألا يوجد فقراء . البشر يتنافسون ويتصارعون ويكون لهم دخل فى تشكيل تلك الحتميات ، ولكنهم تحت حكم تلك الحتميات .

مثلا ، فالأخ (بهجت ) سيسعى فى تحقيق أحلامه بكل ما يستطيع ، وفى كل ما يفعل سيفعله بإرادته الحرة . ولكن الاستاذ بهجت لا يعلم الغيب وما سيحث له فى المستقبل ، لذا سيمضى يكافح ويسعى بيديه واسنانه ، ولن يدرك من الدنيا إلا المقدر له فى الرزق وفى المصائب وفى العُمر المحدد سلفا .

5 ـ لنفترض أن الأخ ( بهجت ) فى صراعه فى سبيل الثروة والسلطة قرّر أن يقتل صديقه الاستاذ ( حسان ) . هذا الأستاذ  ( حسان ) ، مُقدّر سلفا موعد ومكان موته أو مقتله رغم أنف الاستاذ ( بهجت ) لأن الاستاذ بهجت لا يعلم الغيب. الاستاذ ( بهجت )  حدد موعدا سريا مع صديقه الاستاذ ( حسان ) وذهب للموعد وهو مصمم على قتل الاستاذ ( حسان ) أى مع سبق الاصرار والترصد . لنقل أن ( بهجت ) طعن ( حسان ) بالسكين ، أو ضربه بالرصاص . نحن أمام إحتمال واحد من إحتمالين : إما أن يكون الاستاذ ( حسان ) لم يأت موعد أجله بعد ولا يزال له عمر يعيشه ، وبالتالى فسيتم إنقاذه ، ربما يتخيل القاتل أن الضحية لفظت أنفاسها فيهرب ، ويترك الضحية فيه رمق ، فيعيش . وإما أن يكون الاستاذ ( حسان ) قد حلّ موعد أجله وجاء لمكان موته المحدد سلفا ، وبالتالى سينتهى هنا . وفى كل الأحوال فإن القاتل قد تصرف بحريته ومشيئته وبإصرار وترصد ، وهو لايعلم الغيب . وفى كل الأحوال فإن تدخل البشر فى الحتميات واقع ، ولكن فى إطار الحتميات وليس فى تغييرها . القاتل يلقى جزاء جريمته لأنه بإرادته الحرة قرر أن يقتل . والله جل وعلا لا يؤاخذ البشر إلا على أفعالهم الاختيارية . لا يعاقب جل وعلا المضطر ولا المُكره ولا الناسى ولا الذى يخطىء بلا قصد .

ثانيا : :( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ )

 الله جل وعلا غالب على امره.  وأمره جل وعلا هو فيما يخص الحتميات :

1 ـ   الرزق . قال جل وعلا : (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) الرعد ) (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ )(71) النحل ).

2 ـ وفيما يصيب الانسان من خير أو شر، قال جل وعلا : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ) (51) التوبة )،.

3 ـ وفى حتميات الولادة وسنوات العمر فى هذه الدنيا، قال جل وعلا : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ )(6) آل عمران ) (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) الرعد ) (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) فاطر).

4 ـ وفى حتمية الموت فى وقته ومكانه:( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) لقمان  ) . وفى موقعة (أُحُد ) التى إنهزم فيها جيش النبى محمد عليه السلام رآها بعض المنافقين فرصة ، فقالوا عن قتلى المؤمنين : لو أطاعونا ما قُتلوا . ونزل الرد من الله جل وعلا بحتمية الموت فى مكانه وزمانه ، وان الذين قُتلوا فى هذه الموقعة كان لا بد أن يذهبوا الى نفس مكان قتلهم، قال جل وعلا : ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (154) آل عمران ).

5 ـ لذا فالمؤمن عليه أن يتوكل على الله جل وعلا يسعى فى الأرض بالخير مؤمنا بقضائه وقدره ، لا يهتز طربا عند مصيبة الخير ولا يهتز رُعبا عند مصيبة الشر ، لأن كل ما يصيبه قد تحدد سلفا . يقول جل وعلا : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الحديد )

ثالثا : مثال من قصة يوسف عليه السلام :

1 ـ قوله جل وعلا :( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) جاء مرة واحدة فى القرآن الكريم فى سورة ( يوسف ) وفى قصة يوسف عليه السلام ، وهى فى حد ذاتها أعظم دليل على أنه جل وعلا غالب على أمره مع تدخل البشر وبرغم تدخل البشر . أمر الله جل وعلا وقضاؤه وقدره أن يترك بنو يعقوب ( إسرائيل ) بادية الشام ليعيشوا فى مصر . وهذا اساس قصة يوسف وما جرى له .

2 ـ وفى قصة يوسف نرى هذا التداخل البشرى فى القضاء والقدر والحتميات الالهية . أخوة يوسف هم الذين بإختيارهم ألقوا بيوسف فى الجُبّ ، والقافلة التى مرت هى التى بإختيارها حملت يوسف وأوصلته الى مصر ، ثم إستقر طفلا فى بيت عزيز مصر . هنا يأتى التعليق الالهى : ( وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)). أمر الله جل وعلا (الغالب ) أن يؤتى بالطفل يوسف الى هذا المكان بالذات لتنطلق منه فيما بعد أحداث تمكين يوسف فى أرض مصر، من مراودة إمرأة العزيز له ثم دخوله السجن ، ثم رؤيا صاحبى السجن ، ثم رؤيا الملك ، ثم تعيين يوسف عزيزا لمصر ، ثم حيلة يوسف فى إستقدام اخيه ، ثم إستقدام والديه واخوته الى مصر ليعيش أبناء يعقوب أو بنو اسرائيل فى مصر .

3 ـ وبين تفصيلات قصة يوسف نعرف :

3 / 1 : يعقوب عليه السلام من الأنبياء المصطفين الأخيار ( ص 47 ). وقد أعلمه الله جل وعلا مقدما بما سيحدث لابنه يوسف .  وكان يتصرف بعاطفة الأب الحنون . حين اخبره يوسف بالرؤيا خشى عليه من أخوته :( قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) يوسف ).

 وحين القوا بيوسف فى الجُبّ ، اوحى الله جل وعلا ليعقوب بما فعلوا ، ولذا لم يصدق يعقوب دعواهم بأن الذئب قد أكل يوسف ، فصبر لأمر الله جل وعلا : ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)).

وحين ذهبوا الى مصر كان قلقا عليهم ونصحهم ، وهذه النصيحة كانت حاجة مُلحة فى قلب يعقوب الحنون الخائف على أولاده ، ولكنها لا تغنى شيئا فى المنع : ( وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)).

وحين عاد أبناؤه بدون أخيهم عرف يعقوب أن ابنه الغائب هو فى حوزة يوسف أخيه الشقيق ، وهذا ما لا يعلمه أخوة يوسف ، لذا قال لهم : (  قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ (87)). كان يعلم من الله جل وعلا ما لا يعلمون . وكرر قوله لهم هذا حين أنكشفت الحقيقة وجىء له بقميص يوسف : (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96)). كان يعلم من الله جل وعلا ما لا يعلمه ابناؤه . وهذا العلم لم يمنع الحتميات  ، فسارت الأحداث الى نهايتها المقدرة سلفا .

3 / 2 : والتعليقات على الأحداث الرئيسة تؤكد وقوع الحدث كأمر حتمى مع وجود تدخل للبشر فيه . عزيز مصر الذى إشترى بإختياره الطفل يوسف لينشأ فيه يوسف كإبن له ، قال جل وعلا : : ( وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ثم يكون التعليق الالهى : ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)) .  

وفى تعيين يوسف عزيزا لمصر حافظا على خزائنها يأتى التعليق الالهى بتمكينه فى أرض مصر : ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)).

وفى تحايل يوسف لكى يستقدم أخاه يقول جل وعلا : ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ )، ويأتى التعليق الالهى فى التأكيد على حتمية الحدث : ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)) .

وفى النهاية يقول يوسف إن رؤياه تحققت بأمر الله جل وعلا ، برعم دخوله السجن وبرغم تآمر أُخوته عليه : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)). بل كان تآمر أخوته وتآمر الآخرين على إدخاله السجن مما ساعد فى تحقق الحتميات .   

رابعا : مثال من قصة موسى :

1 ـ فى قصة موسى تتحقق حتمية عكسية ، هى خروج بنى اسرائيل من مصر برغم أنف الفرعون المتجبر المتكبر .

2 ـ وفيها يتحقق قاعدة قالها رب العزة جل وعلا : (اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر). سُنّة الله جل وعلا هنا فى تعامله مع المستكبرين المجرمين أن يحيق بهم مكرهم . قال جل وعلا  فى قاعدة قرآنية حاكمة : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الانعام ) .

3 ـ فرعون موسى هو مثال لكل متجبر متكبر سفّاك للدماء لايؤمن بيوم الحساب ، لقد إستعاذ موسى برب العزة من شره فقال:( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) غافر) . فرعون لم يستطع قتل موسى ، وهو الذى كان يذبح الأطفال. كان يريد قتل موسى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ) ، هذا مع خشية موسى وهارون منه من البداية : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)  طه ). كان بإمكان فرعون أن يقتل موسى ، ولكن حتمية موت موسى فى الزمان والمكان منعت فرعون من تنفيذ غرضه ، بل مات فرعون وقومه غرقا وعاش موسى بعده . كل منهما لقى حتفه فى المكان والزمان المقدر سلفا.

4 ـ العجيب فى قصة موسى وفرعون أن فرعون بكل قوته إستخدمه رب العزة لكى يربى موسى ويرعاه ، أى إن التدخل البشرى ممثلا فى سطوة فرعون قد تم إستخدامها ضد فرعون وفى تحقيق الحتمية الخاصة بقتل فرعون نفسه . يقول جل وعلا عن الحتمية الخاصة ببنى اسرائيل:( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص )  

5 ـ وكما إستخدمت الحتميات سطوة فرعون فقد إستخدمت أيضا أم موسى وأخته: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) القصص ) .

6 ـ جاءت تفصيلات نشأة موسى فى سورة القصص ، وألمح اليها رب العزة فى آيات سريعة الوقع ، فى حديث رب العزة جل وعلا مع موسى فى طور سيناء . قال له رب العزة جل وعلا : ( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) طه ). يهمنا هنا قوله جل وعلا : ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ). أى كله بقدر وبقضاء . والقدر والقضاء هو الحتميات . والحتميات تسرى على البشر جميعا من أنبياء وصالحين وكافرين .

أخيرا :

هل تستطيع الخروج عن الحتميات . هل تستطيع تغيير نسبك وأهلك وملامح وجهك وجسدك ؟ هل تستطيع أن تكون أقوى البشر فى الصحة والنفوذ ؟ هل تستطيع أن تكون بليونيرا وتظل بليونيرا حتى الموت ؟ هل تستطيع أن تحفظ نفسك من الحوادث ومن المرض ومن الموت ؟

حاول ..وغيرك سيحاول ..وستتعاركون ولن تنالوا سوى المقدر لكم سلفا . 

اجمالي القراءات 8427

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5111
اجمالي القراءات : 56,687,680
تعليقات له : 5,445
تعليقات عليه : 14,818
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي