كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثانى  :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

مدخل عن أثر التصوف فى الحركة التعليمية :

قاد الصوفية الحركة التعليمية في العصر المملوكي ، وكانت المؤسسات الصوفية مسرح الحركة التعليمية، وقد أقامها المماليك أو الصوفية انفسهم ، مع اجتذاب المؤسسات الصوفية لمشاهير العلماء من غير الصوفية. وهذا ولا شك جهد إيجابي، الا  ان هذا الجهد للأسف ــ لم يجن الثمار المأمولة منه ، وذلك راجع لأن التصوف نفسه هو السبب في تدهور الحياة العلمية. لذا فإن النشاط التعليمي مع اتساعه وسيطرة التقليد ثم الجمود بدأ فى الانحدار شيئا فشيئا . فالتعليم لا يمكن ان يتقدم الا بقيادة حركة علمية متطورة وأساتذة باحثين ، وإلا تحكم في قيادته انصاف المتعلمين ، ولا عبرة حينئذ بالكثرة التي لا تغني . 

(1)  التعليم ومؤسسات الصوفية..

وهي الخوانق والربط والزوايا والترب والقباب والمشاهد والجوامع ، بالإضافة الى المدارس التي أضحت مؤسسات صوفية بانتشار التصوف.

المدارس والتصوف

1 ــ بدأ التصوف والصوفية يزحفون للسيطرة على المدارس التي كان وجودها سابقا للعصر المملوكي ، وظل بعضها يمارس نشاطه التعليمي بلا تصوف فيها وقد ذكر المقريزي كثيرا من هذه المدارس وأغلبها في القرن الثامن  [1].

2ــ ثم بدأ دور الصوفية يتقرر في المدارس بالتدريج وبانتشار التصوف ، وتجلي ذلك فيما عرف في العصر ب(الحضور) ودعاء الصوفية الحاضرين  في المدرسة للواقف ، مع وجود طلبة اخرين غير صوفية يتعلمون بالمدرسة . وكانت المدرسة (الاقبغاوية)  اول مدرسة ورد فيها ذكر متصوفة [2] ، وتم تعيينهم فيها أو (قُرّروا) بها ، ويقال حينئذ عن المدرسة ومن فيها من الصوفية والطلبة : ( رُتّب فيها درس للحنفية ) أى للطلبة الفقهاء من المذهب الحنفى ( وصوفية يحضرون عصر كل يوم .) ، (ورتب فيها حضور  [3]  في كل يوم للصوفية بالإضافة إلى دروس للمذاهب الأربعة).  وقد تنشأ زاوية للصوفية تجاه المدرسة ، ثم يصبح الصوفية هم الطلبة في المدراس ويصبح شيخهم هو الشيخ للمدرسة فتتخذ المدرسة بذلك الصبغة الدينية ، فيقال: ( انشأ مدرسة وبها خطبة وصوفية ) [4]..

3 ـ ثم حدث الخلط بين الخانقاة والمدرسة فقيل عن الخاناقاه الجاولية والمهمنارية وخانقاه جمال الاستادار ومدارس برسباي انها مدراس [5] وكان يقال على ذلك :( ان سنجق من عبد الله التركي أوقف مدرسة ورباطا )[6]  بل وقف بعض الصوفية (مدرسة )[7]

4 ــ وإنقلب الحال ، فكانت المدرسة تنشأ داخل الخانقاه الصوفية ، ويعني بها مكان تلقى العلم فأنشأ الأمير سودون مدرسة بخانقاه سرياقوس وجعل بها  خطبة  [8] . وحكى عن صوفي من خانقاه سعيد السعداء (انه سرق قمحا من حاصل المدرسة، فقام الصوفية عليه) [9] ، أى كانت هناك مدرسة داخل تلك الخانقاة الصوفية المشهورة ، وأن أحد الصوفية سرق قمحا من مخزن تلك المدرسة الملحقة بالخانقاة ، وقال ابن الصيرفي عنهم (ان لهم مباشرة بالمدرسة بالخانقاه المذكورة)[10] ، وهنا ترادف بين المدرسة والخانقاة .

5 ــ وفي عصر المماليك البرجية وجدت المؤسسات الصوفية المكتملة او المدرسة الخانقاه كالظاهرسة وبرقوق والغورية ) [11] . وفي هذا العصر كان الصوفية هم الطلبة والمدرسون والناس جميعا...

6 ــ وما لبث الخلط أن وقع بين المدرسة والزاوية حين أقيمت المدارس في القرافة وبني بها ضريح ويسكنها شيخ .  يقول السخاوى عن مدرسة زين العابدين الدهوطي : بها قبر الشيخ العارف بالله (ودفن بزاويته ) [12]...

7 ــ وحدث خلط آخرين بين المدرسة والجامع ، فقيل عن جامع المؤيد شيخ : ( ذكر نزول السلطان مدرسته.. نزل السلطان الى جامعه الذي بناه بحذاء باب زويلة ) [13] وقيل عن جامع السلطان حسن (هذا الجامع يعرف بمدرسة السلطان حسن ) [14] .

ونتعرض سريعا للتعليم في المؤسسات الصوفية الأصلية ...

التعليم في الخوانق:ـــ

1 ــ ظهرت بعض الخوانق في أوائل القرن الثامن وأضيفت اليها وظيفة التدريس بجانب وظيفتها الأصلية ) [15] وكان ذلك مبررا للخلط بينهما وبين المدرسة . واشتهرت خانقاه جمال الدين الاستادار بالتدريس حتى يقال (أن الأصح أن يقال فيها مدرسة ) [16] وقد قسم الصوفية بها الى المجردين ( المتفرغين ) للعبادة وغير مجردين ، ورتب الطلبة من المجردين ودرسوا الفقه على المذاهب الأربعة كمادة أساسية الى جانب التفسير والحديث والعربية اختيارية  . وكان الاهتمام في تلك الخانقاه بالفقه الشافعي ، وعينت وثيقة الوقف مكان جلوس الشيخ في كل مادة، فشيخ الفقه الشافعي مثلا يجلس في الايوان فيما بين طلوع الشمس على الظهر. وبينت الوثيقة طريق التعليم : ( فهو حل المشكلات وكشف الغامض وتسهيل العسير والإرشاد ) بالنسبة للفقه الشافعي ، وبالنسبة للحديث (يقرأ الطالب ما تيسر من الأحاديث ويفيدهم الشيخ .. ) بل شارك فيها الراغبون من خارج الخانقاة ،  فعن الحديث تقول وثيقة الوقف : ( على ان الشيخ المذكور يتصدر في كل سنة الاستماع للطلبة ومن تيسر حضوره من المسلمين كتب الصحاح السند) وعن القراءات (ويفهمهم القرآن ومن تيسر حضوره من المسلمين من اهل  المذكور ومن غيرهم تجويدا او تجهيرا وتلقينا  ) [17] ولقد كان الفقه على المذاهب الأربعة مع الحديث والتجويد أهم المواد التي درست في الخوانق .

التعليم في الجوامع :ـــ

صار الجامع مؤسسة صوفية في العصر المملوكي ، فكان الصوفية يقررون في الجوامع بعد انشائها . وقد بنى السلطان الناصر محمد بن قلاوون الجامع الجديد (ورتب فيه صوفية يحضرون بعد العصر كما في الخوانق ، وهو من احسن الجوامع ) [18] وقيل عن جامع شيخون (جعل فيه خطبة وعشرين صوفيا  ) [19]

 ونشاط الصوفية والجوامع على نوعين :

1 ـ وظيفة التصوف . وهى حضور الصوفية في مواعيد معينة في الجامع : في الصباح أو بعد العصر ، وتُفرق عليهم أجزاء القرآن الكريم فيقرأ الشيخ ما تيسر وتقرأ الصوفية ويختمون القراءة مع الشيخ ثم يدعون للواقف  ) [20] وتُذكر وظيفة  التصوف في المؤسسات الصوفية الأخرى  [21].

2ــ التعليم : أو ترتيب الدروس في الجوامع ) [22] فقد قرر الشيخ الديري في مشيخة الصوفية وتدريس الحنفية في جامع المؤيد شيخ  [23] . بل ان بعض الصوفية اقام الجوامع مثل ابن المنزلاوي..  [24]  الذي انتمى إليه في جامعة الفقراء والمريدون والطلبة  [25] . ورتبت دروس الفقه على المذاهب الأربعة في الجامع المالكي الذي جدده بيبرس الجاشنكير ت 704 والجامع الأشرفي برسباي الذي قدر المعاليم ( المرتبات ) للطلبة على ان يحضروا وظيفة التصوف ) [26] وفي الجامع الحاكمي رتب إلى جانب الفقه دروس الحديث والقراءات والنحو والقاء العلوم وميعادا للعامة وفقيهين لتعليم الايتام ) [27]

وفي حجة أو وثيقة وقف المؤيد شيخ على جامعه أعدّ مكان الدرس: ( واما الأواوين المشار إليها أعلاه فانه وقفها وجعلها معدة لإقامة الصلوات الخمسة فيها ولجلوس المدرسين وطلبتهم والصوفية فيها على العادة ) وكان مدرس الحنفية من بين الصوفية والطلبة من الصوفية : ( فيرتب من أرباب الوظائف بالجامع المذكور الآتي ذكرهم رجلا من اهل الصلاح والعلم حنفي المذهب عالما بمذهب الامام ابي حنيفة النعمان ، ويكون شيخا للصوفية ، ويكون له قدم عالى في شروط الصوفية ، ويكون حسن الهيئة حسن الاعتقاد حافظا لنقول الفقهاء واختلاف المذاهب ونصوص الامام ابي حنيفة ، عارفا بحل كتب الحنفية) (ويسهل عسيرها...) ( ويكون الرجل المذكور الموصوف بما ذكر والقائم بتدريس الحنيفية بالجامع الكبير .... ويحضر وظيفة التصوف بعد الصلاة للعصر... على العادة في الخوانق والجوامع بالديار المصرية ... ويحضر معه جماعة الصوفية .... وطلبة العلم وغيرهم المرتبون  بالجامع المذكور وظيفة التصوف ) [28] وقد واردنا ما سبق للتدليل على أن نشاط الصوفية في الجوامع سار في اتجاهي التصوف والتدريس معا...

التعليم للصوفية في الجامع الأزهر :ـــ

1 ــ قام صلاح الدين الأيوبى بتعطيل الجامع الأزهر ( الشيعى ) وأقام  خانقاة سعيد السعداء الصوفية السنية لتنشر التصوف السنى بدلا من التشيع ، واستمر الأزهر معطلا طيلة العصر الأيوبى ، ثم عاد للعمل فى العصر المملوكى لينشر التصوف السنى الدين الواقعى للدولة المملوكية . بلغت عدة الفقراء الصوفية فى الأزهر  سنة 818 سبعمائة وخمسون ، بين عجم وزيالعة ( من الصومال ) ومن اهل ريف مصر ومغاربة ، ولكل طائفة رواق يعرف بهم، يقول المقريزى  ( ولا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته والاشتغال بأنواع العلوم والفقه والحديث والتفسير والنحو ومجالس الوعظ وحلق الذكر. وصار أرباب الأموال يقصدون الفقراء في الأزهر بأنواع البر . وقد امر الأمير سودون القاضي بإخراجهم من الجامع وإخراج ما كان لهم من خزائن وكراسي و مصاحف ) [29]  .

2 ــ ومع ذلك استمر المماليك في اكرام المجاورين بالأزهر ، فكان الغوري ينفق فيهم في شهر رمضان الدنانير والعسل والقمح ) [30] وأوقف بشيك على الفقراء في الأزهر أراضي بالوجه البحري والقبلي . وأوقف اخر مكتبة على الفقراء في الأزهر . ورتب الأمير قرماس صوفية بالجامع (يحضرون كل يوم مع الشيخ ، بالجامع داخل المقصورة بعد صلاة العصر) [31] .

3 ــ ومن الطبيعي ان يتميز المجاورون في الأزهر بين صوفية فقراء مجردين متفرغين للعبادة وطلبة صوفية ، يقول ابن الصيرفي عن الشيخ المجذوب صالح الأزهرى (المشهور بالأزهري لكثرة إقامته بجامع الأزهر ومخالطة اهله من الفقراء والطلبة ) [32] .

4 ــ وكان بعض الصوفية معلمين في الأزهر، فالدميرى اشتغل بالعلم وانقطع بالجامع الأزهر وكان يقرىء الناس تبرعا ) [33] وكان فخر الدين البلبيسي امام الجامع الازهر ومعلما صوفيا ) [34] ودرّس زروق الفاسى في الأزهر، وكان يحضر درسه زهاء ستة آلاف نفس من القاهرة ومصر وأجوارها ) [35] وقد سمع المقريزي ميعاد الشاب التائب بالجامع الأزهر )[36]

 الزوايا

 وجدت زوايا التعليم في الجوامع القديمة مثل الخشابية والمجدية والصاجية والكمالية والتاجية والعلانية في الجامع العتيق ) [37] وقد درس ابن المرحل بزاوية بجامع عمرو ) [38] وكان للخاذندار وقف بالجامع الازهر  وزاوية لمن يشتغل بمذهب الشافعي ) [39] ..

وفي الزوايا الصوفية وجد القراء ومؤدبو الأطفال وخزائن كتب لأن الزوايا كانت معاهد للعلم النافع في هذا العصر ) [40] ويقول السبكي : ( على شيخ الزاوية ان يسمع ما يقرأونه عليه ) ) [41] واتخذ إبراهيم الأبناسي الصوفى له زاوية في المقس، وجمع فيها الطلبة على التفقه وسعى لهم في الرزق ) [42] ونفس الحال في زاوية ابي عبد الله الكتاني ) [43] وافتخر الشعراني بمواصلة الذكر وقراءة القرآن والحديث والفقه والتصوف في زاويته ) [44]..

الرباط :ــ

قرر السلطان الأشرف شعبان في رباط الأثار درسا للفقهاء الشافعية بمدرس وعدة من الطلبة ،  وأوقف عليها . وكان الفقهاء يحضرون في الرباط العلائي يوما في الأسبوع ) [45] وقد تولى مشيخة الناصري ابن الشربيني وهو احد المشتغلين بالعلم ) [46] وفي رباط ابن نصر  الفقيه درس ابن عيسى القوصى ) [47]..

التعليم في المشاهد والترب والقباب ( الأضرحة ):ــ

1 ـ وكان هناك درس علم في مشهد الحسين تولاه بعض المشهورين من العلماء مثل ابن حمويه ) [48] والعلامة شمس الدين الأصبهاني الذي تخرج به خلق كثير  ) [49] وشرف الدين الأرموي ) [50] .

2 ــ وقد أثار التعليم في القرافة اهتمام ابن بطوطة الرحالة ، فقال :( ومنهم من بنى الزاوية والمدرسة في جانب التربة ) ( رحلة ابن بطوطة : 1 / 21 ) . وقرر برسباي مدرسا وخطيباً بتربته التي انشاها بالصحراء ) [51] وفي وثيقة برسباي عن الترب (يصرف لأربعة نفر من الحنفية المشتغلين بالعلم المشهورين بالخير ...على أن يحضروا صحبة الدرس المذكورين كل يوم بالمدرسة ، ليلقي عليهم المدرس المذكور من العلوم الشريفة من السنن او الحديث الشريف او الفقه او النحو او مجموع ذلك . على أن يسكن المدرس بالمسكن المقرر له وتسكن الطلبة بالتربة ...بحيث لا ينقطع أحد منهم إلا لمرض يعرض له أو ضرورة شرعية ) [52] ..

3 ــ وسارت الحركة التعليمية في القباب أو الأضرحة . ففي القبة الركنية بيبرس درس الحديث بمدرس وعدة من المحدثين  ) [53] وتخرج فيها الشهاب الحجازي على الكمال الدميرى ) [54] وأقام الناصر محمد (القبة الناصرية) وجلس بها شيخ الحديث عند افتتاحها سنة 703 ) [55] وتابع مشايخ القبة بعده.  ولقد رتب الناصر القرّاء وشيخ الحديث للاشتغال به ولإسماعه ) [56]

 وأعد المنصور قلاوون القبة المنصورية ورتب فيها درس حديث بمدرس وعددا من الطلبة وقارئا يقرأ الحديث ، ويأتي المدرس في أوقات الدروس، ويقرأ ميعادا للعوام بين يديه في صبيحة كل يوم أربعاء، ورتب درسا بمدرس وطلبة [57] . وممن تولى درس التفسير في القبة المنصورية النمراوي وابن لاجين الرشيدي وابن المنفلوطى ) [58] والعلم العراقى الفقيه ) [59]  وسراج الدين القرمي )[60]ومن مدرسى الحديث ابن الكتاني والعسجدي) [61] ....