آحمد صبحي منصور Ýí 2015-01-02
كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .
الباب الثانى : تقديس الولي الصوفي في مصر المملوكية
الفصل الأول :. ولي الله في الإسلام من خلال آيات القرآن الكريم : ( معنى ولي الله وصفاته الإجمالية .تحليل صفات الولي في القرآن الكريم. العمومية ـ صفات عرضية تقبل الزيادة والنقص .صفات غيبية لا يعرف حقيقتها إلا الله تعالى .المؤمن لا يدعي الولاية .هل يوجد ولي حي بمفهوم الإسلام ؟ .)
مدخل :
تعرض الباب الأول لعقائد التصوف التي سادت العصر المملوكي على مستوى الفكر والتنظير والتأليف ، ويتعرض هذا الباب للعقيدة الصوفية التي اشترك العوام والخواص في التدين بها ،وهي عن تقديس الولي الصوفي وتأليهه باعتبار أنه ولي الله إذا كان حياً أو إذا كان ميتاً . ويستلزم البحث في هذا الباب أن نبدأ بالتعرف على " ولي الله " من خلال القرآن الكريم ، وهذا موضوع الفصل الأول ، ثم نتعرض فى الفصل الثانى لموضوع التزكية بين الاسلام والتصوف باعتبارها مدخلا لتقديس الولي الصوفي فى العصر المملوكى .وتأتى ملامح هذا التقديس في عقيدة العصر المملوكي واختلاف ذلك مع الإسلام ، فى الفصل الثالث ، أما الفصل الأخير من هذا الباب فقد عرض لملامح وخصوصيات ومهام الولي الصوفي في معتقدات مصر المملوكية .
ونبدأ الفصل الأول من هذا الباب الثاني بتتبع " ولي الله " في الإسلام وتحليل صفاته .
صفات ولي الله في الإسلام من خلال آيات القرآن الكريم :
1 ــ ( الوَلِيّ ) بفتح الواو وكسر اللام ضد العَدِوّ يقال ، ( تولاه ) يعني وكل أمره إليه فدافع عنه فهو ( وَلِيُّه ) أي نصيره . ومنها (الموالاة ) أي المناصرة والمدافعة ومنها (الولاية ) بفتح الواو وبكسرها بمعني النصرة . ونسبة الولي لله تعالى على هذا المعنى تعني أن الله تعالى ناصره وحاميه ، وأن شأن من يدافع الله عنه هو الأمن من الخوف والحزن ، لذا يقول الله تعالى في حق ولي الله (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) يونس 62 ) .
والموالاة من المفاعلة كالمدافعة والمقاتلة أي تفيد الاشتراك في الفعل تقول (قاتل محمد علياً ) فالقتال وقع من الفاعل والمفعول معاً . والموالاة بمعنى المفاعلة تفيد أن الله ينصر وليه والولي ينصر ربه وعلى ذلك النسق جرى حديث القرآن الكريم ، فالمؤمن يوالي ربه أي يتولى الله أي ينصر الله (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ..المائدة56) . والمؤمن يطلب موالاة ربه أي نصرته . فيقول محمد عليه السلام (إنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ... الأعراف196) ، ويقول يوسف عليه السلام (أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ ... يوسف101 ) ويقول موسى عليه السلام ( أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا .. الأعراف155 ) ويقول المؤمنون عامة (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ..البقرة286) فهم من واقع موالاتهم لله يطلبون منه النصرة ، والله سبحانه وتعالى يعلن حمايته لأوليائه المؤمنين ونصرتهم لهم ، بل إنه لا نصير لهم سواه ولا ولي – أي مدافع عنهم غيره (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ البقرة 107 ، التوبة116 ، العنكبوت22 ، الشورى31 ) ويقول لهم على لسان ملائكته ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ... َ فصلت31 ) . ويقول (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ..محمد11 ) أي لا مدافع ولا نصير للكافرين .. ويأمر أتباعه بالاعتصام به فلا نصير سواه تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ..الحج78 ) ، ( بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ..آل عمران150 ) ...
2ـ وشرط من يوالي الله ويواليه الله أن يتصف بالإيمان الكامل والتقوى والصلاح .. وقد وردت تلك الصفات صريحة ومرتبطة بالولاية لله تعالى ..
ا ) يقول تعالى عن المؤمنين (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ... البقرة 257 ) ويقول (... وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ..آل عمران68 ) .
ب ) ويقول عن ارتباط ولايته تعالى بالمتقين ( والله وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ..الجاثية19 ) ، ويذكر ذلك بأسلوب القصر ( إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ..الأنفال34 ) ، يعني لا يوالي الله تعالى إلا من كان تقياً. والتقوى منزلة تعلو على مجرد الإيمان ، لذا قد يضاف شرط التقوى لصفة الإيمان فيقول تعالى ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{62} الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ{63} .. يونس) .
ج ) والصلاح صفة مرادفة للإيمان والتقوى ، فجاءت مرادفة لصفات الولي في حديثه تعالى عن رسوله الكريم ( إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ..الأعراف196 ) فالرسول عليه السلام خير من يتصف بالإيمان الكامل والتقوى، والصلاح من لوازمها .. وهكذا فإن صفات الولي هي النصرة لله، ومن كان شأنه كذلك ينصره الله ( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ..محمد7 ) . ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ .. الحج40 ) .. أي أن صفات الولي في الإسلام تتجمع في التقوى والإيمان مع العمل الصالح .
تحليل لصفات الولي في القرآن الكريم
بمفهوم الإسلام : هل يوجد في الحياة الواقعية ولي حىٌّ يُرزق ؟؟
( الولي ) أو( الولاية ) صفة كالمتقي والتقوى والمؤمن والإيمان والصالح والصلاح ، وإن كانت التقوى – ومثلها الإيمان - تتضمن داخلها صفات قلبية وسلوكية فإن المولى أو الولاية تستلزم تنوع تلك الصفات في إطارها ، وسنحاول الآن تلمس ملامح الولي وتحليل صفاته لنجيب على السؤال الكبير وهو : هل يوجد في الحياة الواقعية ولي حىُّ بمفهوم الإسلام ؟؟
إن فهمنا لصفات الولي – من إيمان وتقوى – ينبع أساساً من الرؤية الإسلامية كما فصلها القرآن الكريم ، فليس ذلك اجتهاداً شخصياً وإنما هو أخذ مباشر من كتاب الله .. وهناك فرق بين التعلم من كتاب الله والاسترشاد به وبين محاولة إخضاع النص القرآني لفكرة مسبقة ولوي عنق الآية وتأويلها .. لذا أكثرت من الاستشهاد بالآيات القرآنية ، إذ أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ويؤكد بعضه بعضاً ..
والآن إلى سمات الولي في الإسلام :
1 – العمومية : صفات عمومية
ونعني بها أن الولي أو الولاية ليست خاصة بشخص بعينه أو طائفة أو جنس من البشر، أو بزمان أو مكان على التحديد، وإنما هي صفات عامة مطروحة أمام البشر معاً في دنيا التعامل ومطلوب منهم جميعاً أن يتحلوا بها. فالخطاب موجه للبشر جميعاً بأن يبادروا بالإيمان والتقوى وعمل الصالحات في كل عصر وكل زمان ، رجالاً ونساءاً عرباً أو عجماً أغنياءً وفقراء علماء وعامة ، بل مسلمين وأهل كتاب ..
ومعروف أن الله تعالى قال عن أولياءه (..لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ..يونس62 ) ، وهذا وصف لا يتردد في القرآن الكريم إلا لمن سلك طريق الله ووالاه ، واتبع طريقه مؤمناً تقياً وصالحاً من كل الملل والنحل .
· عمومية الإيمان :
أ) وكل البشر مطالب بالإيمان ، منذ هبط آدم إلى الأرض وحتى الآن ، ويقول تعالى مخاطباً عامة البشر من بني آدم منذ تلك اللحظة حتى الآن (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{38} )الأنعام )، فكل من اتبع هدى الله فقد والى الله وصار من أوليائه الذين هم (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
*عمومية الإيمان والعمل الصالح :
ب) وعن الإيمان والعمل الصالح يقول تعالى للبشر جميعاً (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ..الأنعام48).فمن آمن وأصلح فهو من الأولياء ، ويقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ).البقرة277 ) . أي من كان مؤمناً صالحاً مؤدياً للزكاة والفرائض فجزاؤه كجزاء الولي (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ).وذلك في كل عصر وأوان حتى بين أهل الملل الأخرى من أهل الكتاب والصابئة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة62 ). فبغض النظر عن الأسماء فمن آمن بالله إيماناً كاملاً وأصلح أصبح ولياً من الأولياء الذين هم (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) . وتكرر نفس المعنى في سورة المائدة ( ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) ).
والإنفاق في سبيل الله من ضمن الصفات الإسلامية الأساسية للولي المؤمن المتقي ، فقال تعالى بصيغة العموم عن كل من ينفق في سبيل الله (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ..البقرة262 ) ، ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة274 ) . أي أن كل البشر مطالبون بأن يكونوا من (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) حتى يكونوا من الأولياء الذين هم (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ .. ) ..
* عمومية التقوى :
ج) والتقوى مطالب بها البشر جميعاً، ويأتي ذلك باقتران التقوى والصلاح ، كما في قوله تعالى (
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ .. الأعراف35 ) . فبنو آدم مطالبون جميعاً بأتباع الرسل حتى يصيروا أولياء لله متقين صالحين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وأهل الكتاب مطالبون – كسائر البشر – بالإيمان الكامل والتقوى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ..المائدة65 ) .
والتقوى كسلوك عملي يؤيد الإيمان ، طولب به الناس جميعاً ،مؤمنين وغير مؤمنين ، فيقول تعالى للبشر جميعاً (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ... النساء1 ) ، ويقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ..الحج1 ) ، وفي سورة الشعراء كان كل رسول يدعو قومه في كل عصر بكلمة واحدة ({فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ..الشعراء 108، 110 ، 126 ، 131 ، 144 ، 150 ، 163 ، 179 ) وكذلك في سورة آل عمران آية 50 ، وفي سورة نوح (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ .. نوح 3 ) .
والمؤمنون من باب أولى مطالبون بالتقوى ليتحقق لهم سمو الإيمان ويُكفر الله جل وعلا عنهم سيئاتهم فيقول تعالى (...وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ..المائدة57 ) ، (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ..المائدة88 ) (.. اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ..آل عمران102) ، وليس الخطاب خاصاً بالمؤمنين من أهل القرآن فقط بل يشمل من سبقهم من أهل الكتاب ، يقول تعالى (..وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ... النساء131 ) ، وقال تعالى عن الأمم السابقة ممن اهلكوا بالعصيان ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ... الأعراف96 ) بل أن النبي عليه السلام كمؤمن مطالب بالتقوى كقدوة لأتباعه فيقول تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ) الأحزاب1 )،( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) الأحزاب37 ) ...
وهكذا فكل إنسان بإمكانه أن يوالي ربه فيتسلح بالإيمان والتقوى وعمل الصالحات ، فولاية الله ليست حكراً على طائفة أو جماعة ، وكل من دخل الجنة فهو ولي الله بعمله الصالح التقي في الدنيا (لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ..الأنعام127 ) .
2 – صفات عرضية تقبل الزيادة والنقص
هذا يعني أن الولاية – بالإيمان والتقوى - ليست صفات لازمة للمرء طول حياته، بل تتغير زيادة ونقصاً حسب مجاهدة الهوى والنفس الأمارة بالسوء والشيطان ، وقد خلق الله تعالى النفس البشرية وسواها على أساس أن تحتوي على الفجور والتقوى معاً بل وقدم الفجور فيها على التقوى ، إذ أنها أمارة بالسوء (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8}. الشمس ) ، وصراع الشيطان مع عوامل الخير في الإنسان مستمر باستمرار الحياة ، والحياة جولات بين الخير والشر ينتصر فيها الشيطان حيناً وينهزم أحياناً ، وبعض الناس أسلم قيادته للشيطان فأصبح له عليه السلطان والتحكم ، وبعض الناس لم يسلم للشيطان زمامه فهو مستمر في حالة صراع مستمر معه لا يهدأ .. ونفهم ذلك من حكي الله تعالى قصة آدم ورفض الشيطان السجود وطرده : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{39} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{40} قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ{41} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ{42} وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ {43} الحجر) . والمؤمن يستعين في صراعه المستمر مع الشيطان بالاستعاذة بالله ليقوى بالله على الشيطان ( فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ{98} إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ{100} النحل ) .
وعليه فإن حدة الصراع تتجلى أكثر في نفس المؤمن دون الكافر ، فالكافر أسلم نفسه للشيطان ، فخفُت لديه حدة الصراع ، بل ربما يقال عنه أن الصراع نفسه مات . أما المؤمن فالصراع حي قائم مستمر داخله يزكيه الهوى والنفس والشهوات والجسد ومتطلباته ، والشيطان من وراء ذلك كله بالوسوسة والتعمية والتلبيس والتبرير والتهوين والتمني ، وكل ذلك مع محاولات التمسك بالتقوى فيصبح المؤمن قابضاً على الجمر ، ومن الطبيعي أن تنعكس حدة الصراع على صفات الإيمان والتقوى ، فتتأثر زيادةً ونقصاً حسب درجة الاقتراب من الخير أو الشر ، والتمسك بشرع الله أو الانحراف عنه ،والوقوع في المعصية أو التوبة منها . ويزيد من حدة الصراع أن المؤمن مطالب أن يكون في معمعة الحياة ، أي في خضم الصراع ، فلا انعزال ولا رهبنة ولا انقطاع عن التعامل مع المجتمع في مفهوم الإسلام ، فالمسلم متفاعل مع الحياة مطالب ليس فقط بمراعاة التقوى بل وأن يؤثر في مجتمعه بالخير . ومن الطبيعي – وهو بشر غير معصوم – أن تؤثر فيه المحن والفتن وأن يستسلم حيناً للهوى وحظ النفس وحيل الشيطان – وهو في كل ذلك في صراع لا يهدأ بين الخير والشر في نفسه وفي مجتمعه ، صراع لا ينتهي إلا بنهاية حياته ، وحتى الموت فإن إيمانه وتقواه وجهاده في تغير مستمر بالزيادة والنقص .
أ ) الإيمان صفة عرضية متغيرة :
1- ومرجع ذلك التغير في الإيمان لدى المؤمن هو في السلوك والعمل ، وذلك كله متأثر طبعاً بنوازع النفس وحظ الهوى ومكر الشيطان ، فالمؤمن مثلاً إذا ركن إلى المعاصي واعتاد عليها تغير إيمانه وشابت عقيدته الشوائب بتكرار المعاصي ، وفي ذلك يقول جل وعلا عن بعضهم ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ..المطففين14) و( الران ) هو ما يشبه الصدأ الذي يتراكم على الحديد فيحوله إلى طبيعة أخرى .. وهكذا المعصية التي يكسبها الإنسان بعمله ، إذا أدمنها ، تظل تتراكم فيصدأ القلب ( أى النفس ) وتتحول العقيدة إلى رياء لمصانعة الناس وإيهامهم بعكس المعاصي التي ترتكب ، والشرك يبدأ بالرياء ثم ينتهي باتخاذ الوسائط والشفعاء للتخلص من الذنوب والآثام ..
أي أن المعصية والإثم تنقص من الإيمان إذا أُهملت التوبة والاستغفار أو بمعنى أصح إذا أهمل الإنسان المؤمن ( التقوى ) ، فالتقوى صمام الأمن للمؤمن وعلى أساسها يدخل الجنة ، فلا عبرة بإيمان قلبي ينشغل صاحبه بالآثام وينسى عمل الصالحات ..
والقرآن الكريم هو جلاء القلوب التي ران عليها الإثم ، فبالقرآن يعود الإنسان المؤمن لربه ويتوب ، لذا يقول الله سبحانه وتعالى في صفات المؤمنين الذي يزداد إيمانهم بسماع القرآن ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ..الأنفال2 ) فإيمانهم يزيد بتلاوة القرآن ، وروى القرآن الكريم موقفاً للمؤمنين والمنافقين عند سماع القرآن ، فهو يزيد المؤمنين إيماناً ويزيد المشركين غيظاً وكفراً يقول في ذلك تعالى (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ{125}التوبة ) ، أي أن الشرك والكفر يزدادان أيضا ويتناقصان – كالإيمان - باعتبار أن الإيمان عنصر لا يخلو منه قلب أي مشرك .
ويزداد إيمان المؤمن الحقيقي ويتألق حين تشتد الأزمات في الجهاد ، ففي هزيمة أُحد قال تعالى عن طائفة من المؤمنين طاردوا العدو رغم جراحهم ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ..آل عمران173 ) ، وفي حصار الأحزاب قال تعالى عن المؤمنين ورسوله (..وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ..الأحزاب22 ) .
وإذا كان بعض المؤمنين يزداد إيمانه وقت الشدة كما حدث من بعض صحابة الرسول عليه السلام في أُحد والأحزاب فإن البعض الآخر يتناقص إيمانه ويفتن عن دينه ،يقول تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ .. العنكبوت 10 )، فصاحبنا حين واجه الأذى في سبيل عقيدته كبر على نفسه أن يصيبها الأذى واعتبر إيذاء الناس له عظيماً يساوي عذاب الله للعصاة في الآخرة .. فهو لم يصمد في الأذى مع أن الإيمان الحقيقي يسطع في الأزمات ، بل أن الإيمان الحقيقي لا يتجلى إلا في الشدائد ، ونعود إلى صاحبنا الذي خذله إيمانه وقت الشدة والفتنة ، فنجده وقت النصرة يظهر بمظهر آخر ينسب النصرة إليه وإلى جهده (...وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ..العنكبوت10 ) فشأنه أن يعبد الله على حرف أو كما قال الله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ : الحج11 ) .
هذا... والتلازم بين الإيمان والصبر على الشدائد والفتن بدأ به تعالى سورة العنكبوت (الم{1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ{2} العنكبوت ) .
نخلص من ذلك إلى أن الإيمان صفة عرضية متغيرة ، فهو مع قلته في عقيدة المشرك إلا أنه يتعرض للتغير فيصير المشرك أكثر كفراً وطغياناً .. ومع كثرته في عقيدة المؤمن إلا أن الفيصل النهائي هو في السلوك والعمل أي ( التقوى ) في الأحوال العادية.. وفي الصبر على الشدائد والفتن وفي أوقات الأزمات التي تلازم صاحب العقيدة الصحيحة.. والمؤمن إذا ظهر زيف إيمانه في تلك المواقف أشبه الكافر وواجه نفس نهايته... فليس هناك مؤمن ثابت على طول الخط ، وإنما الإيمان يتأرجح حسب المواقف والتجارب ،خصوصاً في الجهاد ، وقد قال تعالى عن المنافقين والقاعدين عن الجهاد ( ..هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ .. آل عمران167 ) أي أن الإيمان والكفر محطات يتأرجح بينها الإنسان في مواقفه حسب درجة التزامه طالما ظل حياً، وهذا ما لا يعلمه إلا علام الغيوب .
ب ) التقوى صفة عرضية متغيرة :
والتقوى أكثر صفات الولي تغيراً، فهي بطبيعتها صفة عرضية، لأنها نتيجة المجاهدة وصراع المؤمن مع نوازع الشر في نفسه، ومن طبيعة هذا الصراع المستمر المحتدم أن تتفاوت النتيجة فتنتصر التقوى حيناً، وتفوز المعصية حيناً آخر..
والمتقي الذي يخشى الله ليس هو المعصوم الذي لا يقترف المعصية وإنما هو الذي يتوب إذا وقع في المعصية ، فهو بين حالين : عاص مقترف للمعصية .. وحينئذ ليس متقياً وليس ولياً ، ثم هو تائب عازم على عدم العودة للمعصية .. مصمم على أن يكون بعد ذلك أكثر حزماً في مواجهة الشيطان نفسه ، وحينئذ يحقق تقواه حين يفلح في السيطرة على جوارحه فيبتعد عن فعل الإثم حين يهم بالوقوع فيه ، وليس معنى ذلك أن التقوى ستلزمه بالمعصية ، فالصراع مستمر محتدم ولابد للشيطان أن يفوز في بعض الجولات ، ولكن النتيجة النهائية هي في المحاولة المستمرة للحد من المعاصي وفعل الصالحات وكثرة التوبة والاستغفار وحصر الذنوب في مجرد الصغائر دون الكبائر. وتظل حياة المؤمن نهباً لتلك الصراعات حتى ينتصر فيها ويفوز في نهايتها بمجموع الدرجات أي بمجموع حسناته وسيئاته .. وإلى أن تنتهي حياة المؤمن تظل تقواه حالة عرضية وقتية . يقول تعالى في صفات المتقين ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ..الأعراف 201 ) , و" المس " يزيد عن " اللمس " فالمس هو ما على الجلد والجسد . أي أن الشيطان يمس ( نفس أو قلب ) المتقي أي يصل إلى ما هو أكثر من اللمس السطحى . وذلك تعبير قرآني بليغ يصور مبلغ تمكن الذنب والشيطان في نفس الإنسان المتقي.. ومع أن المتقي يمسه طائف الشيطان بالذنب إلا أنه يبادر بالتوبة والاستغفار لذا كان تعبير القرآن هو العطف بالفاء .. والفاء كحرف عطف يفيد التتابع السريع تقول ( جاء محمد فعلي ) أي أن محمد جاء فتبعه علي في المجئ مباشرة ، فالمتقي قد يقع في الذنب فيسارع بالتذكر أي فيستغفر ويتوب ويبصر ما حاول الشيطان أن يعميه ويوقعه في الذنب ، لذلك يقول تعالى في معرض صفات المتقين (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ. وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ){136} آل عمران)
وفي الآيتين تفصيل وتصريح . فالمتقي ليس هو المعصوم الذي لا يقع في المعصية وإنما هو الذي إذا فعل فاحشة أو ظلم نفسه بادر بذكر الله تعالى وأسرع بالاستغفار لذنبه ولم يقع عنده إصرار على المُضي في فعل الإثم وهو عالم بجرمه وحرمة ما يفعله.وجزاؤه وهو الغفران والجنة..
ونلاحظ في الآيتين السابقتين أن المتقي كثير الذكر لله، وذكر الله يجعله على حذر من فعل المعصية ، وحتى إذا فعلها فإنه حين يبادر بذكر الله يتوب . فذكر الله يجعل المتقي قريباً دائماً من ربه ، وبعيداً بنفس القدر عن الشيطان، فيحقق معنى الموالاة لله، حينئذٌ وبقدر الإمكان .
وصرحت الآية الأخيرة بالغفران للمتقي فيما وقع فيه من ذنوب طالما يتوب . والغفران يعني تكفير الذنوب المُسَتغْفر عنها ، ويقع الغفران يوم القيامة. فيقول تعالى عن المتقين من الأنبياء ومن البشر:( وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{33} لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ{34} لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {35} الزمر) . فالله تعالى الغفور الرحيم يكفر عن المتقين يوم الدين أسوأ الذي عملوا ويدخلهم جنته . ويقول تعالى في موضع آخر ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً )الطلاق5) .
وفى النهاية يكون أولئك المتقون صحبة واحدة تضم النبيين وسائر المتقين (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً(69) النساء )
وهكذا .فالتقوى لا تعني العصمة من الذنب، وإنما هي محاولة التقليل من الوقوع في الذنب . والاستغفار بسبب الوقوع في ذلك الذنب .. كل ذلك في إطار جهاد النفس الأمارة بالسوء والشيطان الذي يزين ويغوي . والصراع قائم مستمر باستمرار الحياة في نفس المؤمن وجسده ودمه ، وعند الموت يعرف الإنسان نتيجته النهائية إذا كان ممن اتقى أو ممن عصى .. وحتى هذا الوقت فطالما ظل المؤمن حياً يرزق فتقواه صفة عرضية فيه ، ولا يمكن أن يوصف بها وهو يقترف الإثم ويفعله ، أو حين يحتمل أنه سيقع في الإثم ، أو حين يكون مصمماً على الإثم ، ولا يخلو إنسان مهما بلغ صلاحه وإيمانه من ذلك.
ج) الصلاح كصفة متغيرة عرضية :
1- والأعمال الصالحة تقابلها الأعمال السيئة ، والأعمال الإنسانية مزيج من الصالحات والسيئات . والمؤمن المتقي هو من تزيد أعماله الصالحة وتغلب على أعماله السيئة أو يغلب عليها فعل الصالحات . ومن لطف الله جل وعلا بعباده الصالحين أنه يوم الدين يكفر عنهم ذنوبهم السيئة بتوبتهم الصادقة فلا يبقى لهم إلا أعمالهم الصالحة وهي كثيرة فيدخلهم الجنة . ومن ذلك أنه تعالى جعل الحسنة بعشرة أمثالها وجعل السيئة بمثلها لكي ينعم المؤمنون المتقون برحمة ربهم الغفور الرحيم . ومنه أنه جعل الحسنات مكفرات للذنوب إذا زادت وربت فأصبحت شيمة المؤمن يقول تعالى ( إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) هود114 ) بل أن فضله تعالى على عباده المؤمنون الصالحين بلغ إلى درجة أنهم إذا تركوا فعل الكبائر من الذنوب كفر الله تعالى عنهم ما ارتكبوه من الذنوب الصغائر وأدخلهم الجنة ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً : النساء31 ) .
إن النفس البشرية قد خلقت على أساس الفجور والتقوى ، والإنسان لا يخلو من الوقوع في الإثم ، ولابد للمتقي من التوبة والاستغفار . فأعمال الإنسان المتقي المؤمن مزيج من الخير والشر إلا أن الخير فيه أغلب ، لذا جعل الله سبحانه وتعالى تلك المزايا التي أوردناها فرصة للمتقين لكي يفوزوا برحمة الله وغفرانه وجنته . ومعنى ذلك أن الصلاح ـــ إذا غلب على امرئ – لا يعني نقاءه كلية من الإثم . بل يعني أنه حالة متغيرة لازمة .. بل يقال أنها تغلب عليه بكثرة حسناته وفعله للصالحات .
2 – وقد ورد في القرآن الكريم أن الله تعالى يغفر للمؤمنين الكبائر من الذنوب إذا تابوا وعملوا الصالحات ، فيقول تعالى من صفات عباد الرحمن (.. وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً{68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً{69} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{70} وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً :الفرقان 68 : 71 ) فالزاني جزاؤه كالكافر يضاعف له العذاب ويخلد في النار . أما إذا تاب الزاني من جريمة الزنا وصحح إيمانه وغلب عليه فعل الصالحات فإن الله يبدل سيئاته ويجعلها حسنات ، ويغفر له لأن من تاب وأقلع وغلب عليه عمل الصالح فإن توبته مقبولة من الله (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً : الفرقان 71 ) ويصبح تائباً وليس زانياً. ويقول تعالى عن جريمة قذف المحصنات البريئات العفيفات (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{4} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{5} النور ) . فرمي المحصنات عقابه الجلد ثمانون جلدة ، والقاذف للمحصنات فاسق لا تقبل شهادته ، ومع ذلك فإن تاب بعدها وأصلح فإن الله يغفر له ويرحمه .
ونفس الحال مع اليهود والنصارى وكل البشر ، فمجال التوبة والرجوع إلى الله مفتوح أمامهم إذا آمنوا وأصلحوا مهما بلغ عظم ما اقترفوه من ذنوب . يقول تعالى عن الذين جاءوا بعد الرسل (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً{59} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً. {60}مريم ) . فأولئك تنكبوا الطريق وتركوا الصلاة وركنوا للشهوات ومع ذلك فمن تاب منهم وآمن وعمل وأصلح فإن ذنبه مغفور . بل إن المسلم إذا ارتد ثم تاب وآمن وعمل صالحاً فالله يغفر ذنبه ..يقول تعالى (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{85} كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{86} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{87} خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ{88} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ{89}آل عمران ).
فمن كفر بعد إيمان وشهادة ويقين بالله ورسوله فجزاؤه اللعنة والخلود في النار ، إلا من تاب بعد تلك الردة واقترنت توبته بعمل الصالحات فإن الله غفور رحيم . أي أن المؤمن الصالح قد يقع في الكفر ويستحق اللعن والخلود في النار ثم يتوب ويرجع لحظيرة الإيمان فيتوب الله عليه ويغفر له ويكفر عن سيئاته .أي أن الصلاح حالة نسبية متغيرة لكل البشر مهما أتوا من عظيم الذنوب مسلمين كانوا أو يهوداً مرتدين أو نصارى في كل وقت وفي كل حين .. المهم أن يتوبوا ويعودوا إلى طريق الله وموالاته تعالى .
3 – وهكذا يتبين أن الإيمان والتقوى والصلاح صفات عرضية متغيرة تزيد وتنقص لدى كل شخص بل وفي الشخص الواحد في حياته العادية بل اليومية.. وإذا سرنا مع أحد الأشخاص في حياته اليومية لوجدنا في يومه ألف احتمال واحتمال بين أن يكون تقياً نقياً أو وسطاً أو عاصياً.. ونبدأ معه يومه ، فهو يفتح عينيه وهو نائم على آذان الفجر ( وهنا احتمال لأن ينهض ليصلي الفجر في الجامع ، واحتمال لأن ينهض ليصليه في بيته ، واحتمال أن يتكاسل ويكتفي بصلاة الفجر قبل تطلع الشمس ، واحتمال أن تفوته الصلاة الحاضرة ويستغرق في النوم ) ، وفي كل احتمال تتغير منزلته في الإيمان والتقوى والصلاح . وبعد صلاة الفجر أو الصبح يتناول إفطاره ( ناهيك عن مكسبه وعيشه ومدى نسبية الحلال والحرام فيه ) ، ويذهب لعمله فيركب الأتوبيس وقد يجبره الزحام على أن يلتصق بفتاة أو تلتصق به فتاة ( وهنا احتمال أن ينأي بنفسه بقدر الإمكان عن الالتصاق بها ، واحتمال أن يصبر ويصابر ويشغل فكره بأشياء تبعده عن تلك الفتاة ، واحتمال أن يسعد بذلك الالتصاق الذي لا يد له فيه ، واحتمال أن يتمادى فيه ، ثم هناك درجات متنوعة في ذلك كله ، كونه متزوجاُ محصناً أو كونه عزباً ، أو مراهقاً ، ولذلك أثره في تلك الاحتمالات ). ثم قيامه بعمله فيه أكثر من احتمال بعد استبعاد منزلة العمل نفسه من الحلال والحرام : (فهناك احتمال أن يخلص في العمل بهدف إرضاء الله تعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، واحتمال أن يجِّد في عمله ليرضي رؤساءه فيترقى ، واحتمال أن يجِّد في عمله لكسب المزيد من المال ، واحتمال أن يجِّد في عمله لشخص دون آخر نظير مال أو رشوة ، واحتمال أن يتوسط في تأدية العمل أو يتكاسل أو يتهاون ، مع احتمال تغير النية في التكاسل والتوسط في الأداء ) . و نفس الحال في علاقاته الأسرية مع زوجته وأولاده وأبيه وأمه وإخوانه، ومحيط العمل والحي والمجتمع.. فيه أكثر من احتمال واحتمال في القلة والكثرة وحقيقة النية في ذلك كله.. وعلاقته بذكر الله تعالى هل يواظب على تذكر الله تعالى في سره وجهره ، في عمله وراحته ، في يقظته ومنامه ، وقراءته للقرآن هل يقرؤه بتدبر أو بإعراض وانشغال ثم مقصده من أعماله الصالحة كلها ، هل يقصد به وجه الله خالصاً أم يرائي الناس ويستجدي رضاهم عنه ، ثم أثر ذلك كله في تعرضه للإثم ووقوعه فيه . كلها احتمالات ، وكلها متشابكة ، وكلها تدور مع الإنسان في كل وقته وفي كل صغيرة وكبيرة ومن كل حركة من حركاته . والإنسان بينها متأرجح دائما بين قوة الإيمان وضعفه، وكثرة التقوى وقلتها والعمل الصالح والعمل والسيئ.. وكل هذه الاحتمالات لا يعرف حقيقتها وظروفها وتقديرها إلا الله تعالى .
3- صفات غيبية لا يعرف حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى
1 ـ اختص الله تعالى نفسه بعلم الغيب إجمالاً وتفصيلاً . والإيمان والتقوى والصلاح صفات قلبية وسبحان من يعلم (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ : غافر19 ) . والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه أعلن أنه لا يعلم الغيب (..وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ... الأعراف 188 ). وكان يكفي أن نقرر تلك الحقائق القرآنية العقلية لنتبين أن إيمان شخص ما و تقواه جزء من سريرته ولا يطلع على السرائر إلا علام الغيوب . ولا عبرة بمظهر الأعمال الصالحة أو السيئة أيضاً. فقد تصدر عن رياء وتظاهر أو عن خوف ومداراة ، أقول كان يكفي تقرير ذلك لولا أن القرآن الكريم فصّل في تلك الناحية بما يغري بالاستزادة في عرض الموضوع .
ومما لا شك فيه أن الإيمان القلبي هو الأساس الذي تصدر عنه التقوى والبعد عن المعصية وإتيان الصالح من الأعمال .. فإذا ضعف الإيمان قلت التقوى والعمل الصالح وزاد الرياء والتظاهر ، وإذا زاد الإيمان في قلب امرئ زادت تقواه وأعماله الصالحة ، وربما أخفى عمله الصالح خوف الرياء وطلباً للإخلاص مع الله ، وربما أظهر عمله الصالح ليكون قدوة يقتدي بها الآخرون ، وهو واثق من نفسه أنه لا يأبه برأي الناس فيه ومدحهم له ، لذا فإن الله تعالى – مثلاً – في حديثه عن الصدقات صرح ببطلان صدقة من يتصدق بالمنّ والأذى والرياء ، وجعل الرياء في الصدقة مساوياً للأذى والكفر يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ..البقرة264 ) ويقول (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً ..النساء38 ) . وفي نفس الوقت أجاز الله سبحانه وتعالى للمؤمنين – إذا وثق أحدهم في إيمانه – أن يظهر الصدقة أو أن يخفيها طالما قصد بها وجه الله تعالى وحده ، يقول تعالى (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ..البقرة271 ) ، فالله سبحانه وتعالى خبير بعمل عباده ، خبير بقلوبهم وإيمانهم ، عالم بدوافعهم حين يظهرون الخير وحين يخفونه . والمنافقون كانوا يصلون رياء ومداهنة فقال تعالى فيهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً )النساء142) . وقرر سبحانه وتعالى الويل للمرائي في صلاته ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ{4} الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ{5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ{6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ{7} الماعون) .
2- وبعض المنافقين فضحتهم تصرفاتهم في النهاية ، وبعضهم أظهروا الصلاح والإيمان حتى خدعوا بمظهرهم رسول الله عليه الصلاة والسلام نفسه ، أو بتعبير القرآن الكريم ( مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ) ، يقول تعالى في نوعي المنافقين (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ... التوبة101 ). أي أن بعضهم تغلب عليه حقده فتصرف وتكلم بحقيقة مشاعره ، أما الذين مردوا على النفاق فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يتعرف على حقيقة إيمانهم ولم يدرك غيب سرائرهم وظل أمرهم مكتوماً عليه لم يخبره ربه بهم ، لأن أولئك المنافقين مردوا أو تعودوا على النفاق ، فلم يقوموا بعداء أو ما من شأنه الإضرار بالمسلمين ، فقنعوا بتأييد المؤمنين والمبالغة في ذلك حتى لا يكشفوا سريرتهم .وهناك فريق آخر من المنافقين تسرع فأظهر ما يبطن من الكفر ، وحزن الرسول لأنه كان يظن فيهم الإسلام والخير ، ويقول تعالى فيهم (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ... المائدة41 ) ونفر منهم ظل محتفظاً بنفاقه متكاسلاً عما يفرضه عليه إيمانه الظاهري من جهاد ،ومع ذلك فإن الرسول كان يعاملهم حسب ظواهرهم فعاتبه الله تعالى (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ{42} عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ{43}التوبة ) .فأولئك تكاسلوا عن نصرة الدين الذي لا يؤمنون به وركنوا إلى الأيمان الكاذبة يعتذرون بها ففضحهم الله ..
والمؤمنون كانوا يصدقون أولئك المنافقين الذين يحلفون لهم مع أن الحقد ظاهر في تصرفاتهم فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ{118} هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ){119}آل عمران ). وهذا تصوير بديع لحقيقة مشاعر المنافقين أوضحه سبحانه وتعالى علام الغيوب المطلع على السرائر . واليهود شاركوا في لعبة النفاق فقال فيهم القرآن الكريم ( وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ..المائدة61) ..فهم أعلنوا إيمانهم كذبّاً بينما هم كفرة ولا يعلم كفرهم الذي يكتمونه إلا الله تعالى عالم الغيب والشهادة ..
3-وآيات كثيرة تصرح بأن معرفة أسرار القلوب قد اختص الله تعالى نفسه أو بالتعبير القرآني هو( أعلم ) بها من سواه ، يقول تعالى ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ : النحل125 ) ، ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ : القلم7 ) .و ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً : الإسراء84) ، و ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ .. النجم32 ) .وإذا كان ذلك حديثاً عن البشر عامة فإن آيات أخرى تحدثت عن علمه تعالى بقلوب المؤمنين ومدى إيمانهم يقول تعالى ( وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ..النساء25) ، ويقول تعالى عن المؤمنات المهاجرات (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ..الممتحنة10 ). ويقول جل وعلا عن المهتدين (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )( القصص56 ) (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ..النجم30 ) ويقول عن المتقين ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى .. النجم32). ويقول عن الصالحين (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ..الإسراء25 ).
4 – وهكذا .. فالإيمان والتقوى والصلاح صفات قلبية اختص الله تعالى بمعرفتها ولم يطلع عليها أحداً من البشر ، حتى الرسل المكرمين. وما سبق من أمثلة قرآنية تظهر كيف أن الرسول عليه السلام والمؤمنون معه خدعوا بإيمان بعض المنافقين ، وكان من الممكن أن تظل سريرة المنافقين غيباً عنهم لولا أن الله فضحهم وكشف عن كفرهم ، وخداعهم ، ونحن لا نستطيع أن نحكم على إيمان شخص من الأشخاص ولا نستطيع تبين درجة صلاحه وحقيقة تقواه .. فكل ذلك غيب عنا ، وأعمال أي إنسان ترجع إلى ضميره وإيمانه وقلبه ، وسبحان علام الغيوب .
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5111 |
اجمالي القراءات | : | 56,687,762 |
تعليقات له | : | 5,445 |
تعليقات عليه | : | 14,818 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
دعوة للتبرع
أهلا بك فى الموقع: السلا م عليكم انا من السود ان وحالي آ في...
حقه عند حصاده: والدت ي أعطتن ي مبلغ من المال لتأمي ن ...
هو كاذب .!: السلا م عليكم و رحمه الله . أريد معرفه رأيكم...
زانى مريض : اذا كان المست حق لعقوب ة الزنا مريضا لا...
نعم ..بشرط: السل ام عليكم ,عندي سؤال وارجو ا ...
more