آحمد صبحي منصور Ýí 2013-09-02
الدعوة للاسلام هى دعوة أخلاقية إصلاحية سلمية عقلية ، وليست لهدف سياسى أو دنيوى
بخلاف الدعوة الدينية فى أديان المسلمين الأرضية التى هى دعوة جاهلية ذات هدف سياسى.
1- الدعوة للاسلام لها مرحلتان :
1/ 1 : الدعوة العامة العلنية ، وفيها يجب قول الحق كاملا وجهرا مع الاعراض عن المشركين المعارضين وتحمل أذى المشركين المعتدين ، واحترام حق كل انسان فيما يختاره . فى هذا الصدد يقول جل وعلا لخاتم المرسلين ـ عليهم جميعا السلام ـ ولكل من يسير على نهجه وسنته القرآنية : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )( الحجر 94 ).
فى هذه المرحلة يتولى الأعداء المشركون المعتدون المعاندون نشر الدعوة ـ دون أن يدروا . إذ يقومون بالتشنيع على الداعية ودعوته ، فيلفتون له الانتباه ، ويقرنون التشنيع بالأذى والاضطهاد فتصل أنباء الاضطهاد الى الآفاق فيلتفت الناس الى الداعية والى دعوته ، ويدور نقاش وجدل ، يظهر فيه نورالحق ، ويكتسب المزيد من الأنصار مع كل تشنيع ومع كل اضطهاد . أى ما على الداعية فى هذه المرحلة سوى قول الحق والجهر به ، مع الصبر و التحمل والاعراض عن المشركين المعاندين المعتدين .
1 / 2 : وتأتى المرحلة الأخرى وهى بعد الشيوع والانتشار .
هنا يقابل الداعية نوعيتين من الناس:
ـ نوعية تجادل بالباطل لتدحض به الحق ، وهو ـ اى الداعية ـ منهى عن الجدال معهم ومأمور بالاعراض عنهم قائلا ما قاله كل الرسل ( اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ) ، وتحقيقا للقاعدة القرآنية أن من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل على نفسه ، وأن كل نفس بماكسبت رهينة وأن كل إمرىء بما كسب رهين .
ـ نوعية أخرى مؤمنة تبحث عن الحق ، هنا يجب على الداعية أن يقول وان يوضح طالما عرف أن الدعوة ستثمر . فى هذا الصدد يقول جل وعلا لخاتم النبيين ـ عليهم جميعا السلام ـ : (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ) ( طه 1 : 2 )،أى لم ينزل عليه القرآن ليشقى فى الدعوة والتذكير ، بل مجرد تذكير من يتوسم فيه خشية الله جل وعلا . أى أن يدعو لو كانت هناك جدوى فى الذى يدعوه ( فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ) ( الأعلى 9 ) ويحدد له الساعين للهدى فقط لينذرهم ويدعوهم ( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ( يس 11) (إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) ( فاطر 18 )
أما المعاندون المشركون الكافرون فلا أمل فيهم لو أنذرهم أو لو لم ينذرهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( البقرة 6 : 7 ) ( وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ( يس 10 : 11 )، لذا يجب ألا يحزن علي المعاندين فيكفيهم ما ينتظرهم من عذاب أليم .
وتعرض خاتم المرسلين الى عتاب رقيق تكرر فى القرآن بسبب حزنه على المعاندين وخوفه عليهم من عذاب يوم الدين ، قال له ربه جل وعلا : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) ( الكهف 6 )وقال له (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) ( فاطر 8 )ونهاه عن الحزن على من ارتد عن الاسلام : ( وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) ( آل عمران 176 )
2/ 1ـ فقه الدعوة الاسلامية الحقيقية هى الدعوة " للتقوى"فقط . وكل نبى كان يدعو قومه قائلا ( فاتقوا الله وأطيعون ) وعليه فان الدعوة للاسلام ليست بغرض المساندة لسلطان قائم لمشاركته فى السلطة والثروة وليست دعوة الى الخروج عليه وصولا الىالسلطة والثروة .
التقوى هى علاقة مباشرة مع الله تعالى تعنى خشية الله تعالى وحده فى السر والعلن بحيث تنعكس على عقيدتك وسلوكك فلا تقدس مع الله تعالى بشرا او حجرا، وبأن تتعامل مع الناس بأسمى مكارم الخلق مبتغيا وجه الله تعالى وحده آملا فى الفوز فى يوم الحساب.
الدعوة الاسلامية للتقوى هى الدعوة سلميا لاصلاح عقائد الناس وسلوكهم الخلقى ابتغاء وجه الله تعالى فقط دون أن يسأل الداعية الناس أجرا، ودون أن تأخذه فى الحق لومة لائم ، ولكنه وفى نفس الوقت يحترم حق الآخرين فيما يختارونه لأنفسهم من الايمان أوالكفر على اعتبار انها مسئوليتهم هم ومستقبلهم هم عند الله تعالى يوم الدين، وليس عليه سوى التذكير والتحذير بالحكمة والموعظة الحسنة .
2/2 : خصوم الاسلام والمسلمين المسالمين هم الذين تسببوا فى اقامة الدولة الاسلامية فى عهد النبى محمد عليه السلام .
اذ لا مجال فى الدعوة الاسلامية للاكراه فى الدين أو العنف ، بل على العكس فان الداعية مطالب باحتمال الأذى والعفو والصفح والاعراض عن من يؤذيه، فاذا تعدى الأذى الى حد ان يجبره المشركون المعتدون على تغيير دينه وانكار عقيدته والرجوع عنها الى تقديس البشر والحجر وعبادة الأسلاف وما وجدنا عليه آباءنا – هنا تتحتم عليه الهجرة فرارا بدينه ، فاذا تقاعس عن الهجرة مع قدرته عليها خسر الدنيا والآخرة ، أما اذا عجز عن الهجرة فهناك متسع له فى رحمة الله تعالى وغفرانه. ( النساء97- 99).
فاذا استقر المهاجرون بدينهم فى مكان آمن فواصل المعتدون المشركون الكافرون هجومهم عليهم تحتم على أولئك المسالمين الجهاد القتالى ان استطاعوا .الجهاد هنا للدفاع عن النفس ومنع الاكراه فى الدين ورد العدوان بمثله دون أى ظلم أو اعتداء لأن الله تعالى لا يحب المعتدين.( البقرة 190 -194 ) فاذا كان الهجوم المعتدى عاما وجب على المدافعين عن أنفسهم وحريتهم ان يكون دفاعهم عاما بالمثل ( التوبة 36) فاذا انتصروا على العدو المعتدى الظالم فمن حقهم مجازاته على عدوانة بفرض غرامة علية تسمى الجزية – وهى لا تعنى احتلالا لأرضه أو اكراهه على الاسلام ولكن فقط ارغامه أن يدفع ثمن الخسائر التى سببها بعدوانه( التوبة 29) .
هذا هوالتاريخ الحقيقى لخاتم الانبياء فى القرآن الكريم فى الدعوة والاضطهاد والهجرة والجهاد. تغير هذا كله بالفتوحات التى قام بها الصحابة فشوهوا الاسلام وتشريعاته.
تم تقنين هذا التشويه للاسلام فى العصر العباسى فى الفقه والسيرة والسنة.
من هذا التشويه نبت فقه الدعوة الجاهلية فى تاريخ المسلمين باستخدام دين الله تعالى فى سبيل الوصول للسلطة والثروة. استرجعت الدعوة الوهابية السعودية هذا التراث الدامى فى عصرنا الحديث فأصبح الاسلام متهما بالارهاب.
3 ـ فقه الدعوة الجاهلية
الدعوة الجاهلية تستخدم الاسلام أو ( الدين الالهى ) أو إسم رب العزّة فى سبيل تحقيق متاع دنيوى ، وهى عادة انسانية سيئة أكّد القرآن الكريم على ضلالها مسبقا ، بل وجعل القائمين بها خصوما لرب العزة جل وعلا يوم الدين. (البقرة 174 -175" ( آل عمران 77 ).
هذا الصنف يجعل نصب عينه التكسب بالدين وليس طاعة الدين. دين الله تعالى نزل فى كتب سماوية كان خاتمها القرآن، وموجز الدين هو العدل والحرية وفضائل الأخلاق. وليس من العدل أن ينفرد بعض الناس بأنهم المختارون المميزون عن باقى البشر للتحكم فى الناس وعقائدهم باسم الله تعالى ودينه. ولأن كتاب الله تعالى يأبى ذلك ، ولأنهم يهدفون للتكسب بدين الله تعالى وليس طاعة الله تعالى فانهم يتجاهلون ما يعارض دعوتهم من آيات ويكتمونها فى نفس الوقت الذى يحرّفون فيه معانى الآيات الأخرى لتنطبق عليهم ليكونوا هم وحدهم أولياء الله تعالى من دون الناس ، والمتحدثون باسمه والممثلون له على الأرض والمتحكمون بشرعه فى الناس .
انهم كما قال تعالى قد اشتروا بآيات الله تعالى ثمنا قليلا ، وهذا الثمن القليل يتمثل فى جاه دينى أو سياسى يدرّ عليهم مالا من السحت ، وقد يتطور الجاه الدينى والثروة الى حكم سياسى ، وقد يكون الحكم السياسى هو الهدف الأصيل، وفى كل الأحوال فانه متاع قليل زائل بزوال أعمارهم القصيرة فى هذه الدنيا الفانية بطبعها، ويبقى حساب الآخرة وهو الأعظم حيث الخلود فى الجنة أو الخلود فى الجحيم ، ولا توسط بينهما .
فى يوم الحساب يكون القاضى الأعظم هو الله تعالى يحكم بين الناس فيما كانوا فيه فى الدنيا يختلفون ويتصارعون. وفيه ينصف الله تعالى المظلوم ويأخذ حقه من الظالم ، لذلك يسمى يوم الحساب بيوم " التغابن" أى يوم رفع الغبن أى الظلم عن المظلومين.انه اليوم الذى يعلن فيه القاضى الأعظم جل وعلا " لا ظلم اليوم " (غافر 16-17 )
الا أن هذا الصنف من الناس له وضع خاص. انه لم يظلم الناس فحسب ، بل ظلم أيضا رب الناس القاضى الأعظم جل وعلا ذاته اذ افترى على الله تعالى كذبا وكذّب بآياته ، وأدعى كذبا أنه المتحدث باسم الله وقام بتشويه وحى الله تعالى ودينه ، يكتم ما لا يوافقه ويحرّف معانى آيات ليجعلها تشير اليه وتنطبق عليه ، والمحصلة النهائية لما يفعل هو اتهام الله تعالى بالظلم حين اختارهم وحدهم من دون الناس أولياءه له ومتحدثين باسمه بدون معيار أو تكافؤ فرص أمام الخلق جميعا ، وهو – أيضا - اتهام لله تعالى بالجهل حين أوكل لبعض البشر أن يقوموا بتعديل دينه وتفسيره وتوضيحه كما لوكان تعالى عاجزا عن انزال دين كامل واضح .
ظلمهم لله تعالى يتجلى الآن فى نقمة الكثيرين على الله تعالى ودينه ظلما وعدوانا . بعض الناقمين يصف دين الله تعالى بأنه أفيون الشعوب، وبعضهم يكره الاسلام ، وقد وقر فى قلبه أن الاسلام هو ما يقوله أولئك الذين ظلموا الله تعالى واستخدموا دينه – أو عهد الله تعالى - بالتحريف والتأويل فى ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل .
هؤلاء الذين ظلموا رب العزة كيف يكون موقعهم يوم القيامة حين يكون رب العزة جل وعلا ذاته هو الذى يحاسبهم ؟ كيف يتصرف القاضى الأعظم مع أولئك الذين جعلوا أنفسهم خصوما للقاضى الأعظم وذاته العلية ؟ !!
الاجابة فى القرآن الكريم تتحدد فى موقفين : الأول : انه جل وعلا لن يكلمهم عند الحساب ولن ينظر اليهم ولن يزكيهم بمعنى أنه لن تبقى فى صحيفة أعمالهم أى منقبة أو حسنة يستحقون بها التقدير. الموقف الثانى يمكن أن نفهمه حين نتعرف على نوعيات أهل النار . ان أصحاب الجحيم قسمان : قسم ضال مخدوع ، وقسم مضلّ يحترف اضلال الغير وخداعهم . من هذا الصنف الأخير يقع أولئك الذين يشترون بآيات الله تعلى ثمنا قليلا. لذا فالعذاب الذى ينتظرهم هو الموقف الثانى لرب العزة منهم . هو عذاب شديد لا تستطيع لغة البشر وصفه، ولا تستطيع أفئدة البشر أن تتخيله، يفوق كل تخيل ويتجاوز كل تصور، الله تعالى عبّر عن شدة هذا العذاب بجملة قرآنية غاية فى الايجاز وفى الاعجاز :قال تعالى عنهم ": فما أصبرهم على النار؟؟!! " تخيل ان الذى يتعجب من صبرهم على النار هو رب العزة جل وعلا !!.
بالطبع أنت حرّ فى اختيارك العقيدى والدينى ، وأنا كمسلم ملتزم باحترام حقك فى الايمان أو الكفر حيث انه مستقبلك أنت ومشكلتك أنت وقضيتك عند ربك ، ولا شأن لى بها. ولكن أقول أنه ليس الملحد وحده هو الذى ينكر يوم الدين ،بل يسبقه فى انكاره لهذا اليوم العظيم أولئك الذين يتلاعبون بدين الله تعالوا ويستخدمونه لتحقيق منافعهم الدنيوية غافلين أو متجاهلين لما ينتظرهم من عذاب هائل أشار رب العزة جل وعلا لقسوته التى لا يمكن تخيلها.
وهنا أيضا تختلف دعوة الاسلام عن دعوة الجاهلية.
3- داعية الجاهلية مصدره الأساس هو التراث وأكاذيب السّنة البشرية ، ومن خلالها يأخذ من القرآن ما قام التراث بتأويله وتحريف معانيه. الداعية الاسلامى مصدره الوحيد هو القرآن وحده. القرآن هو الحكمة ومنه الموعظة الحسنة .( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )النحل 125) يقول تعالى عن الدعوة بالقرآن ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) ق 45 ) ..( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ) ( 6 / 51 & 70) لاحظ هنا أن الله تعالى وحده هو الولى المقدس وهو الشفيع .
داعية الجاهلية يكتم آيات الله تعالى فيستحق لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين الا اذا تاب واعترف علنا بالتزييف الذى ارتكبه ، يقول تعالى ":إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة 115-116) لاحظ هنا أن الله تعالى يصف كتابه بالبينات ويؤكد انه هو الذى قام بتبيينه أى شرحه ، فشرح القرآن هو فى داخل القرآن لمن أراد الهداية فيه وحده فهو الكتاب المبين وآياته بينات واضحات. والمعنى أنه ما على الداعية الا النطق بالآيات وعدم كتمانها ، فالنطق بالآيات فى الموضوع المراد هو تبيينها أو بيانها ، وهذا معنى البيان فى القرآن . فى الكتب السماوية السابقة قام دعاة الجاهلية بكتمان الآيات أى عدم قراءتها للناس وعدم تقديمها للناس ، فالبيان نقيض الكتمان للآيات البينات ( 3 / 187 )َ.
ومن أمثلة التطبيق العملى للداعية المسلم فى توضيح عقيدة الاسلام أن يعطى أمثلة صريحة واقعية لمخالفة المسلمين لتلك العقيدة حين بدأوا تأليه البشر بتأليه النبى محمد نفسه برفعه فوق مستوى الأنبياء وتفضيله عليهم ، ثم اضافة التقديس بعدها للصحابة وللأئمة والأولياء، وكل ذلك بالمخالفة للقرآن. الاستشهاد بالقرآن فى هذا الموضوع بتفصيلاته هو البيان العملى للقرآن. تجاهل ذلك والاعراض عنه هو الكتمان للآيات ، وهو ما يستحق لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين.
بالطبع فان من يتصدى لمواجهة الناس بتصحيح عقائدهم لا بد أن تتناوله الاتهامات ، ولن يفكر فى ترشيح نفسه للانتخابات ، ولن يفكر فى طلب الأجر منهم. فالذى يطلب الأجر هو الذى يقول للناس ما يحبون وليس الذى يصدمهم بأخطائهم ويصفعهم بخطاياهم طالبا اصلاحها .
لذا فان الداعية المسلم لا يطلب من الناس أجرا – عكس داعية الجاهلية الذى يسعى فى أخذ الأجر، والنفوذ السياسى هو أكبر أجر يتمناه محترفو الدعوة الجاهلية. الداعية المسلم يتبع طريق الانبياء ، فكل نبى كان يعلن لقومه أنه لا يسألهم أجرا لأن أجره على الله. ولأنه ليس نبيا فان الداعية المسلم يكون أول من يطبق الهداية على نفسه ، يقول تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) يس 21 ) يتحاشي الداعية المسلم أن يكون من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أو أن يكون من الذين يقولوم ما لا يفعلون. ( البقرة 44 ) ( الصف 2-3 )
الداعية المسلم يقول الحق كاملا مباشرة فى وضوح وصراحة و بلا دوران أو تلميح ، وفى نفس الوقت فهو يعرض عن الجاهلين تنفيذا لقوله تعالى :( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )الحجر 94 ) : "اصدع" يعنى قل الحق صريحا حتى يصدع الحائط أو يفلق الصخر . وفى المقابل يجب تحاشى المشركين والاعراض عنهم.
4 ــ باعلان حقائق القرآن وتطبيقها على خرافات الدعوة الجاهلية يتحقق مراد الله تعالى فى اظهار دينه طبقا لما جاء فى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) التوبة 33 الصف 9 )، فالمطلوب هو ذلك الاعلان كى يكون شهادة مسجلة بالصوت والصورة وحجة على المعاندين يوم القيامة . لقد كرهوا ذلك فى الدنيا وسيكون عليهم وبالا فى الآخرة . لقد جاء الحق فى القرآن، ولكنهم اتخذوا من القرآن سبيلا للضلال والاضلال بتحريف معانيه وتحكيم أحاديثهم الضالة فيه. فالواقع أن من يرد الهداية بالقرآن يجدها فى القرآن حين يبتغى الحق والهداية مخلصا. ومن يرد الاضلال يستطيع ذلك بالقرآن أيضا حين يكتم الآيات ويحرّف معانيها ويخالف مفاهيم المصطلحات القرآنية . كل ذلك الغش يزول سريعا اذا قام الداعية المسلم بالتوضيح القرآنى. عندها يظهر الحق ويزهق الباطل . فى هذا الموقف يقول تعالى ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) الاسراء 81-82 )
5ـ ما سبق هو الدعوة العامة التى يعلنها الداعية المسلم صريحة ، فتنتشر بحمق المشركين الذين يتنادون من كل حدب وصوب للتآمر على الداعية وتناقل أقاويله يريدون فضحه واشاعة النقمة عليه. الا انهم بهذا الحمق يسهمون فى الدعاية له اذ يتشجع عقلاء الناس على التساؤل عن المسكوت عنه، واذا تحركت عجلة العقل فى السير على الطريق الصحيح أصبح صعبا ايقافها ، وأصبح صعبا اقناع العقلاء بما تعودوا قبلا ابتلاعه بدون مناقشة . بالتدريج يتضح المستور وبالبحث يثبت ان العملية كلها أكاذيب وأن الأئمة المقدسين ليسوا سوى أعداء لله تعالى ورسله ودينه ، وان منع النقاش هو للتمهيد لدولة دينية كافرة تقوم على أساس هذا البهتان .
6 ــ يترتب على هذه الدعوة العامة دعوة خاصة ، اذ يتوافد على الداعية المسلم أصناف شتى من الناس ، منهم المعاند الذى يأتى للجدال فى آيات الله تعالى وللخصام، والله تعالى يأمر بالاعراض عن الجاهلين وعدم مسايرتهم فى الجدال فى آيات الله تعالى ، وهناك من يأتى للداعية المسلم ليناقش ويستعلم ويتعلم فاذا جاءته الآية قال : صدق الله العظيم ، وازداد بالقرآن هداية. مسئولية الداعية هنا ألا يرهق نفسه الا بالتذكرة لمن يخشى فقط أى لمن لديه استعداد ظاهر للهداية. بهذا امر الله تعالى محمدا رسول الله عليه السلام :" مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى .إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) طه 2-3) فليس فى الدعوة بالقرآن أن تتعب نفسك فى الكلام مع من لا يستحق ، ولكن فقط لوعظ من يخشى الله تعالى. وتكرر هذا المعنى فى القرآن ، ومنه قوله تعالى يحصر التوضيح فقط لمن يستحق ومن لديه استعداد ورغبة فى الهداية دون المعاندين الذين لا فائدة فيهم ولا جدوى من النقاش معهم :" وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ .) يس 10 -11 ) .
7ـ داعية الجاهلية يقوم باكراه الآخرين فى دينهم ويتدخل عنوة فى حياتهم وخصوصياتهم زاعما لنفسه سلطة الاهية ما أنزل الله تعالى بها من سلطان .أما الداعية المسلم فعليه فقط أن يعظ من يتوسم فيه القابلية للهداية ، ويرى أن جهده فى التوضيح له سيينفع معه، يقول تعالى : "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ) الأعلى 9 )
الأساس هنا أيضا هو الايمان باليوم الآخر وحرية الانسان فى الاختيار ومسئوليته على اختياره أمام الله تعالى يوم الدين . هذا ما يؤمن به الداعية المسلم لذلك يعتقد انها مسئولية على كل انسان فى البحث عن الهداية والسعى اليها بنفسه اذا تفكر بموضوعية فى سبب الخلق ووجود هذا العالم . أما اذا سيطرت عليه زخارف الدنيا وأنكر حقائق الدين أو اذا اختارالتلاعب بدين الله تعالى ليأكل به ثمنا قليلا فهذا اختياره لمستقبله يوم الحساب ، وتلك مشكلته أمام الخالق جل وعلا ، ويكفيه ما سيلاقيه من عذاب يوم الدين.
كل المطلوب من الداعية المسلم هو اعلان الحق بكل صراحة ووضوح ليكون ذلك حجة عليهم يوم الدين . فى يوم الحساب سيرون شريطا مصورا بالصوت والصورة والألوان الطبيعية قد حفظ كل دقائق اعمالهم الدنيوية ماخفى منها وما ظهر ، وسيتعجبون ويندمون حيث لا ينفع الندم . اقرأ فى ذلك قوله تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ ) الكهف 49 )
هذا هو أساس دعوة الحق فى الاسلام وأساس اختلافه عن دعوة الجاهلية .
9 ـ الأساس فى فقه الدعوة الجاهلية هو استخدام الدين – وهو أعز ما لدى الانسان – فى خداع الناس للحصول على حطام دنيوى زائل قد يكون مالا أو جاها أونفوذا. لكن ذلك كله لا يساوى شيئا بجانب استغلال الدين فى اقامة دولة. فالدولة هنا تجمع فى داخلها المال والقوة والنفوذ والسيطرة والتحكم. واذا تم هذا لك يا صاحبى باسم الدين فلن يملك أحد محاسبتك أو مساءلتك .
لقد نهى الله تعالى عن استغلال اسمه العظيم فى البيع والشراء معتبرا ذلك صدا عن سبيل الله يستحق العذاب العظيم ( النحل 94- 95) وهى عادة سيئة فى أسواق المسلمين حيث يقسم البائع لك باسم الله تعالى كذبا ليخدعك . فاذا كان استغلال الدين فى بيع حزمة بصل فى سوق شعبية يعتبر جريمة بهذا الشكل فما هو حجم الجريمة التى يستخدم فيها اسم الله تعالى ودينه فى خداع الناس واقامة دولة يركب فيها أولئك الملاعين على ظهورنا معتبرين اننا رعية لهم يملكونها باسم الاسلام ؟
13- فقه الدعوة الجاهلية يقوم على افتراء على الله تعالى وخداع الناس.
قد تضطرهم الظروف الى التنافس الديمقراطى ليحتكروا لنفسهم حق الحديث باسم الاسلام فى المعترك الانتخابى ، لكن لا أمل فيهم طالموا لا يزالون فى افترائهم لأن المعنى الوحيد هو اصرارهم على الكذب على الله تعالى واستغلال دينه فى خداع البشر.
لا يمكن هزيمتهم الا بالوعى القائم على فهم صحيح للدين. فليس فى الاسلام وكلاء عن الله جل وعلا. والدعوة الاسلامية تقوم على الايثار والعطاء وليس الانتفاع وأكل أموال الناس بالباطل والسحت .
هناك تناقض هائل بين التنافس الاسلامى - فى الخير بدافع قلبى دون أدنى رياء أو مغنم شخصى طلبا لرضى الله تعالى يوم الدين - وبين دعوى الجاهلية.
وفى الختام نؤكد أن الدعوة للاسلام هى دعوة للتمسك بالأخلاق أو التقوى ولا يطلب صاحبها أجرأ ولا يسعى للعلو فى الأرض باسم الاسلام ، وبالتالى فلا يستخدم فى دعوته الأخلاقية الاصلاحية الا الدعوة السلمية بالحكمة والموعظة الحسنة ويتمسك فى سلوكه بالصبر والتسامح والعفو والمغفرة. وبالتالى لا يمكن أن يأخذ الاسلام مطية لغرضه السياسى ولا يستحل دماء المسالمين باسم الجهاد كى يقفز على السلكطة أو أن يظل فيها,
وعليه فالاخوان المسلمون ومن على شاكلتهم قد تناقضوا مع الاسلام منذ أن حملوا اسمه ليصلوا به الى حكم المسلمين وغير المسلمين. ولهذا فان منهجهم لا تجد فيه مطلقا قيم العدل والتسامح و الاعتراف بحرية الفكر والمعتقد.
وتلك هى مع السلام ـ تمثل القيم الأساسية للمجتمع المسلم والدولة الاسلامية والفرد المسلم.
إضطررت واضطر للتكرار فى هذا الموضوع ، وقد كتبت فيه من قبل خلال سنوات ، املا فى أن تتضح حقيقة الدعوة الى الاسلام ، وأن تتنزه عن إستغلال الاسلام فى مطنع دنيوى .. وأحيانا اشعر بالأسف للإضطرار للتكرار ، ولكن العذر أن إستغلال إسم الاسلام فى طموع الثروة والسلطة إنحدر الى دخول المسلمين الى حروب اهلية ومذهبية ، فى حضيض لا مثيل له .
خالص الامتنان على تعليقك .
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5111 |
اجمالي القراءات | : | 56,690,265 |
تعليقات له | : | 5,445 |
تعليقات عليه | : | 14,818 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
الحكومة المصرية لم تغير من سياستها وهشام برئ
هل ممكن أن يتقدم المحمديون ليكونوا فى مستوى الغرب ؟
Democratization of Moslem Brotherhood
دعوة للتبرع
إتفاق فى الهجص: ما أسباب تطابق بعض الروا يات السني ة ...
التأويل : يقول الله عز وجل .... هل ينظرو ن إلا تأويل ه يوم...
الوشم ليس حراما: السلا م عليكم شيخنا الكري م نرج و ان تكون...
عثمان المستحى .!!: كيف تهاجم سيدنا عثمان وتتهم ه بالفس اد ؟ ألا...
حرق جثة الميت: سلام الله عليك أستاذ نا العزي ر أحمد ، أنا...
more
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿الجاثية: ٦﴾
أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿الأعراف: ١٨٥﴾
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿المرسلات: ٥٠﴾
لقد أعفيتنا من الجدل الذي كان يضيق صدورنا عند الحديث معهم، والحمد لله رب العالمين. وشكرا لك.