كتاب الحج ب 2 ف 3 : الملكية أساس التواتر فى الحج

آحمد صبحي منصور Ýí 2013-02-10


كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل الثالث : الملكية أساس التواتر فى الحج  

مقدمة :  

الشيطان هو المؤسس الحقيقى للتواتر الباطل المناقض للتواتر الحق الذى نزلت به الرسالات السماوية  والتى طبّقها الأنبياء والمؤمنون. يسرى هذا على التواتر الحق فى ملة ابراهيم ، كما يسرى على التواتر الباطل الذى قام بتحريف ملة ابراهيم . وتشريع الحج كان فيه التواتر الحق واختلط به تواتر باطل  أحدثته قريش طبقا لمصالحها . ونبع هذا التحريف وتواتر من بؤرة أنهم ( يملكون ) البيت الحرام. هذا مع إنّ مفهوم ( الاحرام ) فى الحج أن يعايش الانسان الشعور بأنه ( مملوك ) لله جل وعلا ، إختار العبودية الكاملة للخالق جل وعلا فى بيته الحرام فى  آيام الحج فى الأشهر الحرم . وهكذا تكون ( الملكية ) هى الأساس والمنبع للتواتر الحق فى ( الاحرام ) كما تكون الملكية فى زعم بعضهم ملكية البيت الحرام هى اساس التواتر الباطل . وهذا هو موضوعنا . ونبدأ القصة من أولها .

أولا : المُلك الخالد غريزة الانسان وسبب شقائه

1 ـ البداية تأتى ـ كالعادة أيضا ـ من الشيطان . حين كان أبونا آدم فى الجنة يتمتع بها مع زوجه حواء خدعهما الشيطان وجعلهما يأكلان من الشجرة المحرمة . اساس الخداع الشيطانى عنصران ممتزجان هما ( الملكية و الخلود ). وسوس الشيطان لآدم يحثه على الأكل من الشجرة المحرمة ليحصل على الخلود والملك الذى لا يبلى ولا يفنى :( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) طه ) . أكل آدم وحواء منها فهبطا الى الأرض وهبط معهما فى ذريتهما نفس الطمع فى ( الخلد والملك الذى لا يبلى ) . وفى سبيل هذا ( الخلد والملك الذى لا يبلى ) تثور العداوات والحروب بين أبناء آدم لأن حب الخلود والتملك غريزة اساس فينا ، وقد عاش معنا فى الأرض تاريخا من العداء والحروب والدماء:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة) (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) الاعراف ).

2 ـ إنّ كل إنسان يعرف إن مصيره الى الموت شأن كل من سبق من البشر ، وبالتالى فلو عقل لأيقن عبثية التصارع حول ( أشياء ) لا بد أن يتركها بالموت . ولكن غريزة الطمع فى التملك والمّلك الذى لا يفنى يجعله ينسى الموت الذى ينتظره ، فيظل يتصارع من أجل ( ملكية) الأشياء ، الى أن ينتبه عند الاحتضار ويجد أمامه صفرا كبيرا هو حصيلة نضاله الدنيوى ، فلا يأخذ من هذه الدنيا إلا الكفن .!

ومهما قيل فى الوعظ فى المآتم وسرادقات العزاء فإن الشيطان ينجح فى إذكاء غريزة التملك وحب الخلود فى الدنيا فيجعل الانسان ينسى الموت ، بل يضحى بحياته موتا فى سبيل الثروة وهو يعرف أن الثروة لو دامت لغيره ما وصلت اليه . يتصارع فى سبيل السلطة والثروة ويتناسى أن هذا الكرسى لو دام لغيره ما وصل اليه ، هذا التناسى للموت يبدو معه الانسان كما لو اقسم إنه لن يموت ، ولهذا فإن الله جل وعلا سيقول لأصحاب النار يوم القيامة ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) ابراهيم ) . ويقول إنهم سكنوا فى مساكن من سبقهم من الظالمين ، وإنخدعوا مثلهم بنفس الغرور ، غرور التملك والخلود فى السلطة والثروة ، الى أن انتهى بهم الحال للموت مثل السابقين ، ثم ينتظرهم عذاب الجحيم :( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45)( ابراهيم). فى سبيل المُلك الذى لا يفنى ولا يبلى يتصارع الانسان فى سبيل الاستحواذ على الذهب والفضة والأرض والمتاع والرياش ، ويموت فى سبيل هذا التملك وتبقى بعده تلك الأشياء تغرى وتغوى آخرين بالتصارع والموت فى سبيلها. وتخيل قطعة جواهر من العصر الفرعونى وظلت تنتقل من يد الى يد طيلة عشرات القرون ، تبقى وتسيل حولها دماء بنى آدم ، وهنا تواتر بشع وشرير سببه تلك الغريزة الحمقاء التى يستغلها الشيطان فى غواية وإضلال وتدمير بنى آدم ، إنتقاما من أبيهم آدم .

ثانيا : غريزة التملّك أساس التواتر الحق وأساس التواتر الباطل الشرير

1 ـ حضيض غريزة التملك حين ينزع فريق من بنى آدم الى ( تملك بيت الله الحرام ).

2 ـ  إن كل ما فى هذه الأرض مسخّر للإنسان ، وقد وجّه له رب العزة الدعوة ليسعى فى الأرض طلبا للرزق : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)(الملك )، وهذا يعنى التملك الوقتى لأى مكان فى الأرض ، عدا الموضع الوحيد الذى لا مجال فيه لملكية البشر. إنّه مركز هذه الكرة الأرضية ، حيث الحرم المكانى لرب العزة ، وحيث تقام الكعبة بناء يحدد مركز الأرض ، ويحيط بالكعبة بيت الله الحرام الذى جعله للبشر جميعا مثابة وأمنا ، وجعله للبشر جميعا سواء ، العاكف المقيم فيه ، والذى يقطع البوادى سفرا اليه . ولأنه مكان مخصص لملكية لله جل وعلا ، ولأنه ( بيت الله الحرام ) فهو ( محرم ) على أن يملكه شخص أو قبيلة أو جماعة أو دولة.

3 ـ  ولأنه ( بيت الله الحرام ) الذى هو ( محرم ) على أن يملكه شخص أو قبيلة أو جماعة أو دولة فليس فى هذه المنطقة موارد زراعية أو صناعية تغرى بالتملك أو تغرى بالصراع من أجلها ، إنها منطقة جبلية لا زرع فيها ولا ضرع ، وصفها ابراهيم عليه السلام بأنها واد غير ذى زرع وبلا وجود لبشر فيه ، لذا دعا ابراهيم ربه جل وعلا أن يجعل البشر يسكنون هذا المكان ويعمرونه : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ابراهيم )، لذا فإنّ من رحمة الله جل وعلا أن جعل الثمرات تأتى الي هذا الوادى القفر من الخارج ، بأن هدى الناس الى الحج ، فجاءوا ومعهم الثمرات.  

4ـ لقد أجرى رب العزة فى بيته الحرام فى هذا الوادى الصخرى الجبلى عين ماء مستمرة . وجعله مثابة للناس وأمنا . وبعد توفير الماء العذب يبقى الطعام والثمرات ، وهذا يتكفل به  الزوّار أنفسهم ، يأتى بعضهم بالهدى ، حيوانات لاطعام أنفسهم والآخرين ، ويأتى آخرون بحيوانات زيادة لبيعها لمن أراد ان يقدم هديا ، ومعه المال فقط ليشترى به ، ثم يأتى تجّار يبيعون الثمرات والملابس والمصنوعات ، ويقام على هامش فريضة الحج والعمرة ـ طوال العام ـ سوق رائجة ، ويصبح من أنشطة الحج أن يبتغى الناس من فضل الله جل وعلا ، وهذا تكرر فى سياق الحديث عن مناسك الحج :( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198) البقرة ) وتأتى الإشارة الى شهود وحضور الناس منافع لهم من بيع وشراء فى سياق الحديث عن القادمين للحج يركبون الابل ، وعن أنعام الهدى فى الحرم:( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) الحج ). وفى الاشارة القادمين الى الحرم فى الطريق ومعم أنعام الهدى بقلائدها ، وغيرها من أنعام معدة للبيع ، حيث يبتغى أصحابها فضلا من الله جل وعلا ورضوانا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً )(المائدة 2 ).

5 ـ هنا لا مجال لبشر أن يتملك شيئا، فالماء اصل الحياة قد ضمن الله جل وعلا جريانه فى بئر ( زمرم ) ، وهى ملك لله جل وعلا . والأنعام والثمرات يؤتى بها للبيع والشراء والاستهلاك الوقتى المستمر. إذن هى  بضائع ليست للتملك ولكن للإستهلاك السريع والمستمر طيلة العام .

6 ـ ليس المطلوب هنا دولة تزعم ملكية البيت الحرام وتتحكم فيه وفى القادمين اليه ، بل المطلوب إسلاميا هو قيام هيئة متخصصة فى الخدمات للتنظيم والاشراف والتسهيلات وخدمة ضيوف الرحمن تستقبلهم وترعاهم وتقوم بحمايتهم وضمان أمنهم ليستمر أداء مناسك الحج والعمرة فى أمن ، وليستمر التعارف والتبادل التجارى آمنا طيلة العام مع الحج والعمرة ، وليستمر الاحساس لدى ضيوف الرحمن بأنهم ضيوف الرحمن فى بيته الحرام ، وليسوا مالكين للبيت الحرام ـ بل إنهم فى الاحرام ينبغى أن يشعروا بأنهم مملوكون للرحمن .  هذا هو أساس التواتر الحق الصحيح والشريف الذى قام به ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ، ومن تبعهما فى تطبيق ملة ابراهيم فى عبادة الحج .

7ـ ولكن إزدهر التواتر الشرير الباطل بتزعم قريش لمكة وتحكمها فى الحرم . لقد تمتعت قريش بالأمن وبالثمرات معا ،: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)( القصص ). وإنهمرت عليهم خيرات العالم عن طريق قيادتهم لرحلة الشتاء والصيف ، فنعموا بالرخاء والأمن بينما عانى من حولهم من الجوع والخوف :: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش). وكفرت قريش بهذه النعمة ، فتوعدهم رب العزّة ـ هم ومن يسير على طريقهم ـ بالبوار فى الدنيا وبالعذاب فى الآخرة ـ : (أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) ابراهيم ). وجعلهم الله جل وعلا مثلا وعبرة لغيرهم: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)( النحل ).

ولم تتعظ السعودية بهذه العبرة . فقد ابتلاهم الله جل وعلا بنعمة البترول وجعل الثمرات تنهال عليهم من كل الدنيا بلا تعب ، فبدّلوا نعمة الله كفرا ، وتحكموا فى بيته الحرام بأشد مما كانت تفعله قريش . ومصيرهم فى الاهلاك قادم بعونه جلّ وعلا .

8 ـ ووصلت بكفرها الى الحضيض لأنها إعتقدت أنها ( تمتلك ) بيت الله الحرام ،ولذا كانت تتحكّم فى الحجّاج ، وتمنع أعداءها من دخول مكة والحرم ومن تأدية فريضة الحج . وهم بذلك يخالفون ملة أبيهم ابراهيم:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج ).حضيض الفسوق والعصيان والعداء للرحمن أن ينزع فريق من بنى آدم الى ( تملك بيت الله الحرام ).

9 ـ المقابل لذلك هو قمة التقوى فى ( الاحرام ) الذى يعنى أن يختار المؤمن ( الحاج ) وقت الاحرام أن يكون ( مملوكا ) أو ( ملكية ) للرحمن فى البيت الحرام فى الشهر الحرام وقت الحج .

هناك حتميات أربع مكتوبة لا مفر لأى إنسان من مواجهتها فى هذا العالم . ليس له دخل فى إختيارها ، ولن يكون مساءلا عنها يوم الحساب، وهى تخصّ الميلاد والوفاة والمصائب والرزق . المؤمن يتعامل مع هذه الحتميات بالصبر والرضى والحمد والشكر والتسليم بقضاء الله جل وعلا وقدره . وما عدا هذه الحتميات الأربع فكل منّا يتمتع بحريته الكاملة فى الايمان والكفر والطاعة والعصيان . ممكن أن يختار أحطّ درجات العصيان بأن يتحكّم فى بيت الله الحرام وفى ضيوف البيت الحرام ، كما كانت تفعل قريش قديما ، وكما تفعل السعودية حاليا . ومن الممكن أيضا أن يختار الانسان بكامل حريته أن يمارس العبودية التامة لرب العزة  بتطبيق الاحرام فى الحج بحذافيره طاعة لله جل وعلا . التطبيق الحرفى للإحرام هو أن تكون باختيارك الحرّ مملوكا لله جل وعلا. أن تختار بمشيئتك الحرة أن تتنازل عن حريتك طاعة لله جل وعلا ، أن تختار بارادتك الحرة أن تمتنع عن الحلال وهو الرفث مع الزوجة ، وأن تمتنع عن إرادة السوء فى قلبك ، وأن يتطهّر قلبك ويتفرّغ لذكر الله جل وعلا وحده . أن تشعر طيلة الاحرام أنك مملوك لله جل وعلا شأنك شأن البيت الحرام نفسه وفى الشهر الحرام . كونك مملوكا لله جل وعلا بلا إرادة سوى ما يريده الله يعنى أن تكون باختيارك الحرّ مثل الاليكترون الذى يطوف حول نواة الذرة . هذا الاليكترون محايد مطيع لأمر الله جل وعلا بلا إرادة ، أسلم لله كرها بلا إرادة . أما أنت لو كنت محرما فى الحج ، تؤدى الاحرام على حقيقته فأنت باختيارك تطوف حول مركز الأرض مستمتعا بكونك مملوكا لرب العزة . فارق هائل بين شعورك بأنك مملوك لله فى بيت الله الحرام وبين شعورك وأنت تعتقد بملكيتك لبيت الله الحرام وأنت تتحكّم فى ضيوف الرحمن فى بيت الرحمن .

بؤرة الموضوع هنا هو ( الملكية ) وتطبيقها هو فى البيت الحرام والحج للبيت الحرام . ومن هذه البؤرة نبع وينبع التواتر الحق ، كما طرأ وتواتر التواتر البشع .

ثالثا : قريش إختارت حضيض الضلالة  : الزعم بتملّك البيت الحرام

1 ـ الدليل أنها تحكّمت فيه وفى القادمين الحجّاج اليه ، وأنها قاموا بصدّ المؤمنين وخاتم المرسلين عن المسجد الحرام ، فتوعّدهم الله جل وعلا بالعذاب ، فقال:( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ )(34) الانفال). نتوقف هنا مع قوله جلّ وعلا تعقيبا على جريمتهم بالصّد عن المسجد الحرام : (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ). هى المرة الوحيدة فى القرآن أن تأتى الولاية ـ أى الموالاة ـ للمسجد للحرام. العادة أن تنقسم الولاية أوالموالاة الى نوعين فقط : إمّا موالاة المؤمنين لله جل وعلا تقوى وجهادا فى سبيله، وإمّا موالاة وولاء الكفار للشيطان والطاغوت . وبالتالى فهذه الولاية من المؤمنين للمسجد الحرام هى موالاة لمالك البيت الحرام ـ رب العزّة جل وعلا . وبالتالى أيضا فهذه الموالاة لله جل وعلا ولبيته الحرام تعنى أن يختار المؤمنون أن يكونوا بإرادتهم الحرّة ( مماليك ) و ( مملوكين ) لله جل وعلا فيما يخص التعامل مع البيت الحرام.وهذا يعنى ايضا أن من يختار العكس ، وهو ( ملكية البيت الحرام ) يكون أبعد الناس عن ولاية الرحمن وموالاة البيت الحرام ؛ يكون وليا للشيطان . ولقد سارت قريش فى هذا الطريق الشائك الى نهايته ، فواصلت الاعتداء على المسلمين فى المدينة بعد طردهم من مكة ، فقال فيهم رب العزة يؤكّد ولاءهم للشيطان والطاغوت : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76)  النساء )

 2 ـ  ولأن قريش إختارت تملّك البيت الحرام فقد أحدثت تشريعات جديدة ، مالبث أن تحولت بالتواتر والتعود وعدم الاعتراض والنقد والنقاش الى دين أرضى . وأول هذه التشريعات التحكم فيمن يأتى ومن لا يأتى للحج . وحين نزل القرآن الكريم بتصحيح الانحراف عن ملة ابراهيم فقد إعترفوا بأنه ( هدى ) ولكن إتّباعهم لهذا الهدى يجلب لهم الخسائر ، ويثير عليهم القبائل. وجاء الردّ عليهم بقوله جل وعلا :( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)( القصص). وفى سبيل زعمهم بتملك البيت الحرام فقد كفروا بنعمة الله وأعلنوا إيمانهم بالباطل :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) العنكبوت ). ومن أجل تملكهم للبيت الحرام تمسكوا بما وجدوا عليه آباءهم ورفضوا القرآن الكريم .

3 ـ ولكن لماذا إختارت قريش هذه الدرجة المنحطّة من الضلال ( تملك البيت الحرام )؟ والى أى حدّ تأثر التشريع القرشى فى تحريف ملة ابراهيم فى شعائر الحج وفيما يحدث فى بيت الله الحرام ؟

انتظرونا ..

اجمالي القراءات 10341

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الإثنين ٢٧ - مارس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً
[85486]

الشيطان هو المؤسس الحقيقى للتواتر الباطل المناقض للتواتر الحق الذى نزلت به الرسالات السماوية


الشيطان هو المؤسس الحقيقى للتواتر الباطل المناقض للتواتر الحق الذى نزلت به الرسالات السماوية  والتى طبّقها الأنبياء والمؤمنون. يسرى هذا على التواتر الحق فى ملة ابراهيم ، كما يسرى على التواتر الباطل الذى قام بتحريف ملة ابراهيم . وتشريع الحج كان فيه التواتر الحق واختلط به تواتر باطل  أحدثته قريش طبقا لمصالحها . ونبع هذا التحريف وتواتر من بؤرة أنهم ( يملكون ) البيت الحرام. هذا مع إنّ مفهوم ( الاحرام ) فى الحج أن يعايش الانسان الشعور بأنه ( مملوك ) لله جل وعلا ، إختار العبودية الكاملة للخالق جل وعلا فى بيته الحرام فى  آيام الحج فى الأشهر الحرم . وهكذا تكون ( الملكية ) هى الأساس والمنبع للتواتر الحق فى ( الاحرام ) كما تكون الملكية فى زعم بعضهم ملكية البيت الحرام هى اساس التواتر الباطل . وهذا هو موضوعنا . ونبدأ القصة من أولها البداية تأتى ـ كالعادة أيضا ـ من الشيطان . حين كان أبونا آدم فى الجنة يتمتع بها مع زوجه حواء خدعهما الشيطان وجعلهما يأكلان من الشجرة المحرمة . اساس الخداع الشيطانى عنصران ممتزجان هما ( الملكية و الخلود ). وسوس الشيطان لآدم يحثه على الأكل من الشجرة المحرمة ليحصل على الخلود والملك الذى لا يبلى ولا يفنى :( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) طه ) . أكل آدم وحواء منها فهبطا الى الأرض وهبط معهما فى ذريتهما نفس الطمع فى ( الخلد والملك الذى لا يبلى ) . وفى سبيل هذا ( الخلد والملك الذى لا يبلى ) تثور العداوات والحروب بين أبناء آدم لأن حب الخلود والتملك غريزة اساس فينا ، وقد عاش معنا فى الأرض تاريخا من العداء والحروب والدماء:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة) (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) الاعراف ).إنّ كل إنسان يعرف إن مصيره الى الموت شأن كل من سبق من البشر ، وبالتالى فلو عقل لأيقن عبثية التصارع حول ( أشياء ) لا بد أن يتركها بالموت . ولكن غريزة الطمع فى التملك والمّلك الذى لا يفنى يجعله ينسى الموت الذى ينتظره ، فيظل يتصارع من أجل ( ملكية) الأشياء ، الى أن ينتبه عند الاحتضار ويجد أمامه صفرا كبيرا هو حصيلة نضاله الدنيوى ، فلا يأخذ من هذه الدنيا إلا الكفن .! ومهما قيل فى الوعظ فى المآتم وسرادقات العزاء فإن الشيطان ينجح فى إذكاء غريزة التملك وحب الخلود فى الدنيا فيجعل الانسان ينسى الموت ، بل يضحى بحياته موتا فى سبيل الثروة وهو يعرف أن الثروة لو دامت لغيره ما وصلت اليه . يتصارع فى سبيل السلطة والثروة ويتناسى أن هذا الكرسى لو دام لغيره ما وصل اليه ، هذا التناسى للموت يبدو معه الانسان كما لو اقسم إنه لن يموت ، ولهذا فإن الله جل وعلا سيقول لأصحاب النار يوم القيامة ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) ابراهيم ) .



2   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الإثنين ٢٧ - مارس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً
[85487]

غريزة التملّك أساس التواتر الحق وأساس التواتر الباطل الشرير


 . ويقول إنهم سكنوا فى مساكن من سبقهم من الظالمين ، وإنخدعوا مثلهم بنفس الغرور ، غرور التملك والخلود فى السلطة والثروة ، الى أن انتهى بهم الحال للموت مثل السابقين ، ثم ينتظرهم عذاب الجحيم :( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45)( ابراهيم). فى سبيل المُلك الذى لا يفنى ولا يبلى يتصارع الانسان فى سبيل الاستحواذ على الذهب والفضة والأرض والمتاع والرياش ، ويموت فى سبيل هذا التملك وتبقى بعده تلك الأشياء تغرى وتغوى آخرين بالتصارع والموت فى سبيلها. وتخيل قطعة جواهر من العصر الفرعونى وظلت تنتقل من يد الى يد طيلة عشرات القرون ، تبقى وتسيل حولها دماء بنى آدم ، وهنا تواتر بشع وشرير سببه تلك الغريزة الحمقاء التى يستغلها الشيطان فى غواية وإضلال وتدمير بنى آدم ، إنتقاما من أبيهم آدم .ثانيا : غريزة التملّك أساس التواتر الحق وأساس التواتر الباطل الشرير حضيض غريزة التملك حين ينزع فريق من بنى آدم الى ( تملك بيت الله الحرام ). إن كل ما فى هذه الأرض مسخّر للإنسان ، وقد وجّه له رب العزة الدعوة ليسعى فى الأرض طلبا للرزق : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)(الملك )، وهذا يعنى التملك الوقتى لأى مكان فى الأرض ، عدا الموضع الوحيد الذى لا مجال فيه لملكية البشر. إنّه مركز هذه الكرة الأرضية ، حيث الحرم المكانى لرب العزة ، وحيث تقام الكعبة بناء يحدد مركز الأرض ، ويحيط بالكعبة بيت الله الحرام الذى جعله للبشر جميعا مثابة وأمنا ، وجعله للبشر جميعا سواء ، العاكف المقيم فيه ، والذى يقطع البوادى سفرا اليه . ولأنه مكان مخصص لملكية لله جل وعلا ، ولأنه ( بيت الله الحرام ) فهو ( محرم ) على أن يملكه شخص أو قبيلة أو جماعة أو دولة. ولأنه ( بيت الله الحرام ) الذى هو ( محرم ) على أن يملكه شخص أو قبيلة أو جماعة أو دولة فليس فى هذه المنطقة موارد زراعية أو صناعية تغرى بالتملك أو تغرى بالصراع من أجلها ، إنها منطقة جبلية لا زرع فيها ولا ضرع ، وصفها ابراهيم عليه السلام بأنها واد غير ذى زرع وبلا وجود لبشر فيه ، لذا دعا ابراهيم ربه جل وعلا أن يجعل البشر يسكنون هذا المكان ويعمرونه : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ابراهيم )، لذا فإنّ من رحمة الله جل وعلا أن جعل الثمرات تأتى الي هذا الوادى القفر من الخارج ، بأن هدى الناس الى الحج ، فجاءوا ومعهم الثمرات.  



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5111
اجمالي القراءات : 56,689,369
تعليقات له : 5,445
تعليقات عليه : 14,818
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي